{ قَالَ } صاحب مدين لموسى { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي } أي تصير أجيرا عندي { ثَمَانِيَ حِجَجٍ } أي : ثماني سنين . { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ } تبرع منك ، لا شيء واجب عليك . { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } فأحتم عشر السنين ، أو ما أريد أن أستأجرك لأكلفك أعمالا شاقة ، وإنما استأجرك لعمل سهل يسير لا مشقة فيه { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } فرغبه في سهولة العمل ، وفي حسن المعاملة ، وهذا يدل على أن الرجل الصالح ، ينبغي له أن يحسن خلقه مهما أمكنه ، وأن الذي يطلب منه ، أبلغ من غيره .
واستجاب الشيخ لاقتراح ابنته . ولعله أحس من نفس الفتاة ونفس موسى ثقة متبادلة ، وميلا فطريا سليما ، صالحا لبناء أسرة . والقوة والأمانة حين تجتمعان في رجل لا شك تهفو إليه طبيعة الفتاة السليمة التي لم تفسد ولم تلوث ولم تنحرف عن فطرة الله . فجمع الرجل بين الغايتين وهو يعرض على موسى أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن يخدمه ويرعى ماشيته ثماني سنين . فإن زادها إلى عشر فهو تفضل منه لا يلزم به .
( قال : إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ، على أن تأجرني ثماني حجج . فإن أتممت عشرا فمن عندك . وما أريد أن أشق عليك . ستجدني إن شاء الله من الصالحين ) .
وهكذا في بساطة وصراحة عرض الرجل إحدى ابنتيه من غير تحديد - ولعله كان يشعر كما أسلفنا - أنها محددة ، وهي التي وقع التجاوب والثقة بين قلبها وقلب الفتى . عرضها في غير تحرج ولا التواء . فهو يعرض نكاحا لا يخجل منه . يعرض بناء أسرة وإقامة بيت وليس في هذا ما يخجل ، ولا ما يدعو إلى التحرج والتردد والإيماء من بعيد ، والتصنع والتكلف مما يشاهد في البيئة التي تنحرف عن سواء الفطرة ، وتخضع لتقاليد مصطنعة باطلة سخيفة ، تمنع الوالد أو ولي الأمر من التقدم لمن يرتضي خلقه ودينه وكفايته لابنته أو أخته أو قريبته ؛ وتحتم أن يكون الزوج أو وليه أو وكيله هو الذي يتقدم ، أو لا يليق أن يجيء العرض من الجانب الذي فيه المرأة ! ومن مفارقات مثل هذه البيئة المنحرفة أن الفتيان والفتيات يلتقون ويتحدثون ويختلطون ويتكشفون بعضهم لبعض في غير ما خطبة ولا نية نكاح . فأما حين تعرض الخطبة أو يذكر النكاح ، فيهبط الخجل المصطنع ، وتقوم الحوائل المتكلفة وتمتنع المصارحة والبساطة والإبانة !
ولقد كان الآباء يعرضون بناتهم على الرجال على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بل كانت النساء تعرض نفسها على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أو من يرغب في تزويجهن منهم . كان يتم هذا في صراحة ونظافة وأدب جميل ، لا تخدش معه كرامة ولا حياء . . عرض عمر - رضي الله عن - ابنته حفصة على أبي بكر فسكت وعلى عثمان فاعتذر ، فلما أخبر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بهذا طيب خاطره ، عسى أن يجعل الله لها نصيبا فيمن هو خير منهما . ثم تزوجها [ صلى الله عليه وسلم ] وعرضت امرأة نفسها على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فاعتذر لها . فألقت إليه ولاية أمرها يزوجها ممن يشاء . فزوجها رجلا لا يملك إلا سورتين من القرآن ، علمها إياهما فكان هذا صداقها .
وبمثل هذه البساطة والوضاءة سار المجتمع الإسلامي يبني بيوته ويقيم كيانه . في غير ما تعلثم ولا جمجمة ولا تصنع ولا التواء .
وهكذا صنع الشيخ الكبير - صاحب موسى - فعرض على موسى ذلك العرض واعدا إياه ألا يشق عليه ولا يتعبه في العمل ؛ راجيا بمشيئة الله أن يجده موسى من الصالحين في معاملته ووفائه . و هو أدب جميل في التحدث عن النفس وفي جانب الله . فهو لا يزكي نفسه ، ولا يجزم بأنه من الصالحين . ولكن يرجو أن يكون كذلك ، ويكل الأمر في هذا لمشيئة الله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.