{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا }
يخبر تعالى أنه لو كتب على عباده الأوامر الشاقة على النفوس من قتل النفوس والخروج من الديار لم يفعله إلا القليل منهم والنادر ، فليحمدوا ربهم وليشكروه على تيسير ما أمرهم به من الأوامر التي تسهل على كل أحد ، ولا يشق فعلها ، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يلحظ العبد ضد ما هو فيه من المكروهات ، لتخف عليه العبادات ، ويزداد حمدًا وشكرًا لربه .
ثم أخبر أنهم لو فعلوا ما يوعظون به أي : ما وُظِّف عليهم في كل وقت بحسبه ، فبذلوا هممهم ، ووفروا نفوسهم للقيام به وتكميله ، ولم تطمح نفوسهم لما لم يصلوا إليه ، ولم يكونوا بصدده ، وهذا هو الذي ينبغي للعبد ، أن ينظر إلى الحالة التي يلزمه القيام بها فيكملها ، ثم يتدرج شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى ما قدر له من العلم والعمل في أمر الدين والدنيا ، وهذا بخلاف من طمحت نفسه إلى أمر لم يصل إليه ولم يؤمر به بعد ، فإنه لا يكاد يصل إلى ذلك بسبب تفريق الهمة ، وحصول الكسل وعدم النشاط .
{ وَلَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوَاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مّا فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيتاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْكُمْ أن اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } : ولو أنا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك المحتكمين إلى الطاغوت أن يقتلوا أنفسهم ، وأمرناهم بذلك ، أو أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين منها إلى دار أخرى سواها ما فعلوه ، يقول : ما قتلوا أنفسهم بأيديهم ، ولا هاجروا من ديارهم فيخرجوا عنها إلى الله ورسوله طاعة لله ولرسوله ، إلا قليل منهم .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : { وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } هم يهود يعني : والعرب كما أمر أصحاب موسى عليه السلام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ } كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضا بالخناجر لم يفعلوا إلا قليل منهم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلَوْ أنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أوِ اخْرُجُوا مِنْ دِياركُمْ ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ } افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من يهود ، فقال اليهودي : والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم ، فقتلنا أنفسنا ! فقال ثابت : والله لو كتب علينا أن اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا ! فأنزل الله في هذا : { وَلَوْ أنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْبِيتا } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن إسماعيل ، عن أبي إسحاق السبيعي ، قال : لما نزلت : { وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ } قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا ! فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «إنّ مِنْ أُمّتِي لَرِجالاً الإيمَانُ أثْبَتُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الجِبالِ الرّوَاسِي » .
واختلف أهل العربية في وجه الرفع في قوله : { إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ } فكان بعض نحويي البصرة يزعم أنه رفع «قليل » لأنه جعل بدلاً من الأسماء المضمرة في قوله : { ما فَعَلُوهُ } لأن الفعل لهم . وقال بعض نحويي الكوفة : إنما رفع على نية التكرير ، كأن معناه : ما فعلوه ما فعله إلا قليل منهم ، كما قال عمرو بن معد يكرب :
وكُلّ أخٍ مُفارِقُهُ أخُوهُ ***لَعَمْرُ أبيكَ إلاّ الفَرْقَدَانَ
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : رفع «القليل » بالمعنى الذي دلّ عليه قوله : { ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ } وذلك أن معنى الكلام : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعله إلا قليل منهم . فقيل : «ما فعلوه » على الخبر عن الذين مضى ذكرهم في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } ، ثم استثنى القليل ، فرُفع بالمعنى الذي ذكرنا ، إذ كان الفعل منفيّا عنه . وهي في مصاحف أهل الشام : «ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ » . وإذا قرىء كذلك ، فلا مردّ به على قارئه في إعرابه ، لأنه المعروف في كلام العرب ، إذ كان الفعل مشغولاً بما فيه كناية من قد جرى ذكره ، ثم استثني منهم القليل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْبِيتا } .
يعني جلّ ثناؤه بذلك : ولو أن هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت ، ويصدّون عنك صدودا ، { فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ } يعني : ما يذكرون به من طاعة الله والانتهاء إلى أمره ، { لَكَانَ خَيْرا لهم } في عاجل دنياهم وآجل معادهم ، { وأشَدّ تَثْبِيتا } وأثبت لهم في أمورهم ، وأقوم لهم عليها . وذلك أن المنافق يعمل على شكّ ، فعمله يذهب باطلاً ، وغناؤه يضمحلّ فيصير هباء ، وهو بشكه يعمل على وناء وضعف ، ولو عمل على بصيرة لاكتسب بعمله أجرا ولكان له عند الله ذخرا وكان على عمله الذي يعمل أقوى لنفسه وأشدّ تثبيتا لإيمانه بوعد الله على طاعته وعمله الذي يعمله . ولذلك قال من قال : معنى قوله : { وأشَدّ تَثْبِيتا } : تصديقا . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْبِيتا } قال : تصديقا ، لأنه إذا كان مصدّقا كان لنفسه أشدّ تثبيتا ولعزمه فيه أشدّ تصحيحا .
وهو نظير قوله جلّ ثناؤه : { وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضَاةِ اللّهِ وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } وقد أتينا على بيان ذلك في موضعه بما فيه كفاية من إعادته .
لم يظهر وجه اتّصاله بما قبله ليعطف عليه ، لأنّ ما ذكر هنا ليس أولى بالحكم من المذكور قبله ، أي ليس أولى بالامتثال حتّى يقال : لو أنّا كلّفناهم بالرضا بما هو دون قطع الحقوق لما رضوا ، بل المفروض هنا أشدّ على النفوس ممّا عصوا فيه . فقال جماعة من المفسّرين : وجه اتّصالها أنّ المنافق لمّا لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم وأراد التحاكم إلى الطاغوت ، وقالت اليهود : ما أسخف هؤلاء يؤمنون بمحمّد ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمَرنَا نبيئُنا بقتل أنفسنا ففعلنْا وبلغت القتلى منّا سبعين ألفاً ؛ فقال ثابت بن قيس بن شماس : لو كتب ذلك علينا لفعلنا ، فنزلت هذه الآية تصديقاً لثابت بن قيس ، ولا يخفى بعده عن السياق لأنّه لو كان كذلك لما قيل { ما فعلوه إلاّ قليل منهم } بل قيل : لفعله فريق منهم . وقال الفخر : هي توبيخ للمنافقين ، أي لو شدّدنا عليهم التكليف لما كان من العجب ظهور عنادهم ، ولكنّا رحمناهم بتكليفهم اليسر فليْتركوا العناد . وهي على هذا الوجه تصلح لأن تكون تحريضاً للمؤمنين على امتثال الرسول وانتفاء الحرج عنهم من أحكامه ، فإنّه لم يكلّفهم إلاّ اليسر ، كلّ هذا محمول على أنّ المراد بقتل النفوس أن يقتل أحد نفسه بنفسه .
وعندي أنّ ذكر ذلك هنا من براعة المقطع تهيئة لانتقال الكلام إلى التحريض على الجهاد الآتي في قوله : { يأيّها الذين آمنوا خذوا حذركم } [ النساء : 71 ] وأنّ المراد ب { اقتلوا أنفسكم } : ليقتل بعضكم بعضاً فإنّ المؤمنين يقاتلون قومهم وأقاربهم من المشركين في الجهاد المأمور به بدليل قوله : { ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به } الآية . والمراد بالخروج من الديار الهجرة ، أي كتبنا عليهم هجرة من المدينة ، وفي هذا تنويه بالمهاجرين والمجاهدين .
وقرأ الجمهور { إلاّ قليل } بالرفع على البدل من الواو في { ما فعلوه } على الاستثناء . وقرأه ابن عامر بالنصب على أحد وجهي الاستثناء من الكلام المنفي .
ومعنى { ما يوعظون به } علم من قوله : { فأعرض عنهم وعظهم } [ النساء : 63 ] ، أي ما يؤمرون به أمر تحذير وترقيق ، أي مضمون ما يوعظون لأنّ الوعظ هو الكلام والأمر ، والمفعول هو المأمور به ، أي لو فعلوا كلّ ما يبلّغهم الرسول ، ومن ذلك الجهاد والهجرة . وكونُه خيراً أنّ فيه خير الدنيا لأنّ الله يعلم وهم لا يعلمون .
ومعنى كونه { أشدّ تثبيتاً } يحتمل أنّه التثبيت على الإيمان وبذلك فسّروه ويحتمل عندي أنّه أشدّ تثبيتاً لهم ، أي لبقائهم بين أعدائهم ولعزّتهم وحياتهم الحقيقية فإنّهم إنّما يكرهون القتال استبقاء لأنفسهم ، ويكرهون المهاجرة حبّاً لأوطانهم ، فعلّمهم الله أنّ الجهاد والتغرب فيه أو في غيره أشدّ تثبيتاً لهم ، لأنّه يذود عنهم أعداءهم ، كما قال الحصين بن الحُمَام :
تأخَّرْتُ أسْتَبْقِي الحياة فلم أجد *** لنفسي حياةً مثلَ أن أتقدّما
وممّا دلّ على أنّ المراد بالخير خير الدنيا ، وبالتثبيت التثبيت فيها ، قوله عاطفاً عليه { وإذن لآتيناهُم من لَدُنَّا أجراً عظيماً } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولو أنا كتبنا}: لو أنا فرضنا {عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم}.
{ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به} من القرآن، {لكان خيرا لهم} في دينهم، {وأشد تثبيتا} يعني تصديقا في أمر الله عز وجل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْكُمْ أن اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ}: ولو أنا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك المحتكمين إلى الطاغوت أن يقتلوا أنفسهم، وأمرناهم بذلك، أو أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين منها إلى دار أخرى سواها ما فعلوه، يقول: ما قتلوا أنفسهم بأيديهم، ولا هاجروا من ديارهم فيخرجوا عنها إلى الله ورسوله طاعة لله ولرسوله، إلا قليل منهم.
{وَلَوْ أنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْبِيتا}: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدّون عنك صدودا، {فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ}: ما يذكرون به من طاعة الله والانتهاء إلى أمره، {لَكَانَ خَيْرا لهم} في عاجل دنياهم وآجل معادهم، {وأشَدّ تَثْبِيتا} وأثبت لهم في أمورهم، وأقوم لهم عليها. وذلك أن المنافق يعمل على شكّ، فعمله يذهب باطلاً، وغناؤه يضمحلّ فيصير هباء، وهو بشكه يعمل على وناء وضعف، ولو عمل على بصيرة لاكتسب بعمله أجرا ولكان له عند الله ذخرا وكان على عمله الذي يعمل أقوى لنفسه وأشدّ تثبيتا لإيمانه بوعد الله على طاعته وعمله الذي يعمله. ولذلك قال من قال: معنى قوله: {وأشَدّ تَثْبِيتا}: تصديقا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قال البلخي: معنى الآية أنه لو فرض الله عليهم قتل أنفسهم كما فرض على قوم موسى عندما التمسوا أن يتوب عليهم أو الخروج من ديارهم ما فعلوه. فإذا لم يفرض عليهم ذلك، فليفعلوا ما أمروا به مما هو أسهل عليهم منه، فإن ذلك خير لهم وأشد تثبيتا لهم على الإيمان.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ} أي لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ} ناس {قَلِيلٌ مّنْهُمْ} وهذا توبيخ عظيم...
اعلم أن هذه الآية متصلة بما تقدم من أمر المنافقين وترغيبهم في الإخلاص وترك النفاق، والمعنى أنا لو شددنا التكليف على الناس، نحو أن نأمرهم بالقتل والخروج عن الأوطان لصعب ذلك عليهم ولما فعله إلا الأقلون، وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم، فلما لم نفعل ذلك رحمة منا على عبادنا بل اكتفينا بتكليفهم في الأمور السهلة، فليقبلوها بالإخلاص وليتركوا التمرد والعناد حتى ينالوا خير الدارين،... اعلم أن المراد من قوله: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به} أنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا به، وإنما سمي هذا التكليف والأمر وعظا لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، والثواب والعقاب، وما كان كذلك فإنه يسمى وعظا...
ثم إنه تعالى بين أنهم لو التزموا هذه التكاليف لحصلت لهم أنواع من المنافع: فالنوع الأول: قوله: {لكان خيرا لهم} فيحتمل أن يكون المعنى أنه يحصل لهم خير الدنيا والآخرة، ويحتمل أن يكون المعنى المبالغة والترجيح، وهو أن ذلك أنفع لهم وأفضل من غيره، لأن قولنا: «خير» يستعمل على الوجهين جميعا.
النوع الثاني: قوله: {وأشد تثبيتا} وفيه وجوه:
الأول: أن المراد أن هذا أقرب إلى ثباتهم عليه واستمرارهم، لأن الطاعة تدعو إلى أمثالها، والواقع منها في وقت يدعو إلى المواظبة عليه.
الثاني: أن يكون أثبت وأبقى لأنه حق والحق ثابت باق، والباطل زائل.
الثالث: أن الإنسان يطلب أولا تحصيل الخير، فإذا حصله فإنه يطلب أن يصير ذلك الحاصل باقيا ثابتا، فقوله: {لكان خيرا لهم} إشارة إلى الحالة الأولى، وقوله: {وأشد تثبيتا} إشارة إلى الحالة الثانية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: فقد كتبنا عليهم طاعتك والتسيم لك في هذه الحنيفية السمحة التي دعوتهم إليها وحملتهم عليها، عطف عليه قوله: {ولو أنا كتبنا عليهم} أي هذا المخاصم للزبير رضي الله تعالى عنه وأشباه هذا المخاصم ممن ضعف إيمانه كتابة مفروضة {إن اقتلوا أنفسكم} أي كما كان في التوراة في كفارة بعض الذنوب مباشرة حقيقة، وكما فعل المهاجرون بتعريض أنفسهم لذلك ثلاث عشرة سنة، هم فيها عند أعداء الله مضغة لحم بين يدي نسور يتخاطفونها {أو اخرجوا} كما فعل المهاجرون -رضي الله تعالى عنهم- الذين الزبير من رؤوسهم {من دياركم} أي التي هي لأشباحكم كأشباحكم لأرواحكم -توبة لربكم {ما فعلوه} أي لقصور إيمانهم وضعف إيقانهم، ولو كتبناه عليهم ولم يرضوا به كفروا، فاستحقوا القتل.
ولما كان كل كدر لا يخلو عن خلاصه، قال: {إلا قليل منهم} أي وهم العالمون بأن الله سبحانه وتعالى خير لهم من أنفسهم، وأن حياتهم إنما هي في طاعته؛ روي أن من هؤلاء ثابت بن قيس بن شماس رضي الله تعالى عنه، قال: أما والله! إن الله ليعلم مني الصدق، لو أمرني محمد أن أقتل نفسي لقتلها! وكذا قال ابن مسعود وعمار ابن ياسر رضي الله عنهما، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: والله لو أمرنا ربنا لفعلنا! والحمد الله الذي لم يفعل بنا ذلك. ولا ريب في أن التقدير: ولكنا لم نكتب عليهم فليشكروا لنا ويستمسكوا بهذه الحنيفية السمحة.
ولما كان مبنى السورة على الائتلاف وكان السياق للاستعطاف، قال مرغباً: {ولو أنهم} أي هؤلاء المنافقين {فعلوا ما يوعظون} أي يجدد لهم الوعظ في كل حين {به لكان} أي فعلهم ذلك {خيراً لهم} أي مما اختاروه لأنفسهم {وأشد تثبيتاً} أي مما ثبتوا به أنفسهم بالأيمان الحانثة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الكلام متصل بما سبق والسياق لم ينته، والمروي عن ابن عباس ومجاهد أن قوله تعالى: {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم} عائد للمنافقين الذين سبق القول فيهم ومن كان مثلهم فله حكمهم، إذ الأحكام ليست منوطة بذوات المكلفين وشخوصهم بل بصفاتهم وأعمالهم، أي لو أمرناهم بقتل أنفسهم أي بتعريضها للقتل المحقق أو المظنون ظنا راجحا، وقيل قتلها هو الانتحار كما قيل مثل هذا في أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم توبة إلى ربهم من عبادة العجل. أو قلنا لهم اخرجوا من دياركم أي أوطانكم وهاجروا إلى بلاد أخرى {ما فعلوه} أي المأمور به من القتل والهجرة من الوطن {إلا قليل منهم}... بين الله تعالى لنا أن المؤمن الصادق هو من يطيع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره والسهل والشاق، ولو قتل النفس والخروج من الدار، وهما متقاربان لأن الجسم دار الروح والوطن دار الجسم، وأن المنافق هو من يعبد الله على حرف واحد وهو ما يوافق هواه وغرضه فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، وأنه قلما يوجد في أولئك المنافقين من يصبر على نار الفتنة رياء وتقية فيطيع فيما يكتب عليه ولو كان التعرض للقتل، والجلاء عن الوطن والأهل...
والوطن دار الجسم، وأن المنافق هو من يعبد الله على حرف واحد وهو ما يوافق هواه وغرضه فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، وأنه قلما يوجد في أولئك المنافقين من يصبر على نار الفتنة رياء وتقية فيطيع فيما يكتب عليه ولو كان التعرض للقتل، والجلاء عن الوطن والأهل. وقيل إن الكلام في جملة المكلفين من الناس، والمعنى أن الإنسان خلق ضعيفا كما تقدم في آية (27) من هذه السورة، فلو كتبنا عليهم ما يشق احتماله كقتل الأنفس والخروج من الوطن لعصى الكثير منهم، ولم يطع إلا القليل وهم أصحاب العزائم القوية الذين يؤثرون رضوان الله على حظوظهم وشهواتهم، ولكننا لم نكتب عليهم ذلك كما كتبناه على بني إسرائيل من قبلهم، بل أرسلنا خاتم رسلنا بالحنيفية السمحة، التي تجمع لهم بين حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، فلا عذر لهم بالضعف البشري إن عصوا الرسول، واتبعوا الطاغوت، وإنما ظلموا بذلك أنفسهم.
{ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به} من الأوامر والنواهي المقرونة بحكمها وبيان فائدتها، والوعد والوعيد لمن عمل بها ومن صد عنها، {لكان خيرا لهم} في حفظ مصالحهم، واعتزاز أنفسهم بارتقاء أمتهم، وفي عاقبة أمرهم وآخرتهم، {وأشد تثبيتا} لهم في أمر دينهم. التثبيت: التقوية بجعل الشيء ثابتا راسخا، وإنما كان العمل وإتيان الأمور الموعوظ بها في الدين يزيد العامل قوة وثباتا لأن الأعمال هي التي يكون بها العلم الإجمالي المبهم تفصيليا جليا، وهي التي تطبع الأخلاق والملكات في نفس العامل، وتبدد المخاوف والأوهام من نفسه، مثال ذلك: أن بذل المال في سبيل الله تعالى بأعمال البر آية من أقوى آيات الإيمان، وقربة من أكبر أسباب السعادة والرضوان، فمن آمن بذلك ولم يعمل به لا يكون علمه بمنافعه وفوائده له وللأمة والملة إلا ناقصا، وكلما اعتنّ له سبب من أسباب البذل، تحداه في نفسه طائفة من أسباب الإمساك والبخل، كالخوف من الفقر والإملاق، أو نقصان ماله عن مال بعض الأقران، أو تعليل النفس بادخار ما احتيج إلى بذله الآن، ليوضع فيما هو خير وأنفع في مستقبل الزمان، فإذا هو اعتاد البذل صار السخاء خلقا له، لا يثنيه عنه وسواس ولا خوف، واتسعت معرفته بطرق منافعه، ووضع المال في خير مواضعه...
وقيل إن الكلام في جملة المكلفين من الناس، والمعنى أن الإنسان خلق ضعيفا كما تقدم في آية (27) من هذه السورة، فلو كتبنا عليهم ما يشق احتماله كقتل الأنفس والخروج من الوطن لعصى الكثير منهم، ولم يطع إلا القليل وهم أصحاب العزائم القوية الذين يؤثرون رضوان الله على حظوظهم وشهواتهم، ولكننا لم نكتب عليهم ذلك كما كتبناه على بني إسرائيل من قبلهم، بل أرسلنا خاتم رسلنا بالحنيفية السمحة، التي تجمع لهم بين حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، فلا عذر لهم بالضعف البشري إن عصوا الرسول، واتبعوا الطاغوت، وإنما ظلموا بذلك أنفسهم...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى أنه لو كتب على عباده الأوامر الشاقة على النفوس من قتل النفوس والخروج من الديار لم يفعله إلا القليل منهم والنادر، فليحمدوا ربهم وليشكروه على تيسير ما أمرهم به من الأوامر التي تسهل على كل أحد، ولا يشق فعلها، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يلحظ العبد ضد ما هو فيه من المكروهات، لتخف عليه العبادات، ويزداد حمدًا وشكرًا لربه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد أن يقرر أن لا إيمان قبل تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل الرضى والتسليم بقضائه، يعود ليقول: إن هذا المنهج الذي يدعون إليه؛ وهذه الشريعة التي يقال لهم: تحاكموا إليها -لا لسواها- وهذا القضاء الذي يتحتم عليهم قبوله والرضاء به... إنه منهج ميسر، وشريعة سمحة، وقضاء رحيم.. إنه لا يكلفهم شيئا فوق طاقتهم؛ ولا يكلفهم عنتا يشق عليهم؛ ولا يكلفهم التضحية بعزيز عليهم.. فالله يعلم ضعف الإنسان؛ ويرحم هذا الضعف. والله يعلم أنهم لو كلفوا تكاليف شاقة، ما أداها إلا قليل منهم.. وهو لا يريد لهم العنت، ولا يريد لهم أن يقعوا في المعصية.. ومن ثم لم يكتب عليهم ما يشق، وما يدعو الكثيرين منهم للتقصير والمعصية. ولو أنهم استجابوا للتكاليف اليسيرة التي كتبها الله عليهم؛ واستمعوا للموعظة التي يعظهم الله بها؛ لنالوا خيرا عظيما في الدنيا والآخرة؛ ولأعانهم الله بالهدى، كما يعين كل من يجاهد للهدى بالعزم والقصد والعمل والإرادة، في حدود الطاقة: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم، أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه -إلا قليل منهم- ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به، لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا؛ وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما؛ ولهديناهم صراطا مستقيمًا)...