أي : وإذا كان بينك وبين قوم عهد وميثاق على ترك القتال فخفت منهم خيانة ، بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة .
{ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ ْ } عهدهم ، أي : ارمه عليهم ، وأخبرهم أنه لا عهد بينك وبينهم . { عَلَى سَوَاءٍ ْ } أي : حتى يستوي علمك وعلمهم بذلك ، ولا يحل لك أن تغدرهم ، أو تسعى في شيء مما منعه موجب العهد ، حتى تخبرهم بذلك .
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ْ } بل يبغضهم أشد البغض ، فلا بد من أمر بيِّنٍ يبرئكم من الخيانة .
ودلت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة{[352]} منهم لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم ، لأنه لم يخف منهم ، بل علم ذلك ، ولعدم الفائدة ولقوله : { عَلَى سَوَاءٍ ْ } وهنا قد كان معلوما عند الجميع غدرهم .
ودل مفهومها أيضا أنه إذا لم يُخَفْ منهم خيانة ، بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك ، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم ، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِمّا تَخَافَنّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىَ سَوَآءٍ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الخَائِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وإمّا تخافنّ يا محمد من عدوّ لك بينك وبينه عهد وعقد أن ينكث عهده وينقض عقده ويغدر بك ، وذلك هو الخيانة والغدر . فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ يقول : فناجزهم بالحرب ، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم بما كان منهم من ظهور آثار الغدر والخيانة منهم حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب ، فيأخذوا للحرب آلتها ، وتبرأ من الغدر . إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الخائِنِينَ الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به ، فيحاربه قبل إعلامه إياه أنه له حرب وأنه قد فاسخه العقد .
فإن قال قائل : وكيف يجوز نقض العهد بخوف الخيانة والخوف ظنّ لا يقين ؟ قيل : إن الأمر بخلاف ما إليه ذهبتَ ، وإنما معناه : إذا ظهرت آثار الخيانة من عدوّك وخفت وقوعهم بك ، فألق إليهم مقاليد السلم وآذنهم بالحرب . وذلك كالذين كان من بني قريظة ، إذ أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربتهم معه بعد العهد الذي كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسالمة ، ولن يقاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكانت إجابتهم إياه إلى ذلك موجبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه منهم ، فكذلك حكم كل قوم أهل موادعة للمؤمنين ظهر لإمام المسلمين منهم من دلائل الغدر مثل الذي ظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريظة منها ، فحُقّ على إمام المسلمين أن ينبذ إليهم على سواء ويؤذنهم بالحرب .
ومعنى قوله : عَلى سَوَاءٍ : أي حتى يستوي علمك وعلمهم بأن كل فريق منكم حرب لصاحبه لا سلم . وقيل : نزلت الاَية في قريظة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ قال قريظة .
وقد قال بعضهم : السواء في هذا الموضع : المَهَل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : إنه مما تبين لنا أن قوله : فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ أنه على مهل . كما حدثنا بكير عن مقاتل بن حيان في قول الله : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ .
وأما أهل العلم بكلام العرب ، فإنهم في معناه مختلفون ، فكان بعضهم يقول : معناه : فانبذ إليهم على عَدْل يعني حتى يعتدل علمك وعلمهم بما عليه بعضكم لبعض من المحاربة . واستشهدوا لقولهم ذلك بقول الراجز :
وَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدّرِ الأعْدَاء ***حتى يُجِيبُوكَ إلى السّوَاءِ
يعني إلى العدل . وكان آخرون يقولون : معناه الوسط ، من قول حسان :
يا وَيْحَ أنْصَارِ الرّسُولِ وَرَهْطِهِ ***بَعْدَ المُغَيّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ
بمعنى في وسط اللحد . وكذلك هذه المعاني متقاربة ، لأن العدل وسط لا يعلو فوق الحقّ ولا يقصر عنه ، وكذلك الوسط عدل ، واستواء الفريقين فيما عليه بعضهم لبعض بعض المهادنة عدل من الفعل ووسط . وأما الذي قاله الوليد بن مسلم من أن معناه المهل ، فما لا أعلم له وجها في كلام العرب .
عطف حكم عام لمعاملة جميع الأقوام الخائنين بعد الحكم الخاصّ بقوم معينين الذين تلوح منهم بوارق الغدر والخيانة ، بحيث يبدو من أعمالهم ما فيه مخيلة بعدم وفائهم ، فأمَره الله أن يردّ إليهم عهدهم ، إذ لا فائدة فيه وإذ هم ينتفعون من مسالمة المؤمنين لهم ، ولا ينتفع المؤمنون من مسالمتهم عند الحاجة .
والخوف توقع ضر من شيء ، وهو الخوف الحقّ المحمود . وأمّا تخيل الضرّ بدون أمارة فليس من الخوف وإنّما هو الهَوس والتوهّم . وخوف الخيانة ظهور بوارقها . وبلوغُ إضمارهم إيّاها ، بما يتّصل بالمسلمين من أخبار أولئك وما يأتي به تجسّس أحوالهم كقوله تعالى : { فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } [ البقرة : 229 ] وقوله : { فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة } [ النساء : 3 ] .
وقد تقدم عند قوله تعالى : { فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله } في سورة [ البقرة : 229 ] .
وقوم } نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم ، أي كلّ قوم تخاف منهم خيانة .
والخيانة : ضد الأمانة ، وهي هنا : نقض العهد ، لأنّ الوفاء من الأمانة . وقد تقدّم معنى الخيانة عند قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول } في هذه السورة [ 27 ] .
والنبذ : الطرح وإلقاء الشيء . وقد مضى عند قوله تعالى : { أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم } في سورة [ البقرة : 100 ] .
وإنّما رتّب نبذ العهد على خوف الخيانة ، دون وقوعها ، لأن شؤون المعاملات السياسية والحربية تجري على حسب الظنون ومخائل الأحوال ولا ينتظر تحقّق وقوع الأمر المظنون لأنّه إذا تريَّث وُلاة الأمور في ذلك يكونون قد عرضوا الأمة للخطر ، أو للتورّط في غفلة وضياع مصلحة ، ولا تُدار سياسة الأمّة بما يدار به القضاء في الحقوق ، لأنّ الحقوق إذا فاتت كانت بليّتها على واحد ، وأمكن تدارك فائتها . ومصالح الأمّة إذا فاتت تمكّن منها عدوّها ، فلذلك علّق نبذ العهد بتوقّع خيانة المعاهدين من الأعداء ، ومن أمثال العرب : خُذ اللص قبل يَأخُذَك ، أي وقد علمت أنّه لص .
{ وعلى سواء } صفة لمصدر محذوف ، أي نبذاً على سواء ، أو حال من الضمير في ( انبذ ) أي حالة كونك على سواء .
و { على } فيه للاستعلاء المجازي فهي تؤذن بأنّ مدخولها ممّا شأنه أن يعتلى عليه . و { سواء } وصف بمعنى مستو ، كما تقدم في قوله تعالى : { سواء عليهم أأنذرتهم } في سورة [ البقرة : 6 ] . وإنما يصلح للاستواء مع معنى ( على ) الطريق ، فعلم أن سواء } وصف لموصوف محذوف يدلّ عليه وصفه ، كما في قوله تعالى : { على ذات ألواح } [ القمر : 13 ] ، أي سفينة ذات ألواح . وقوله النابغة :
كما لقيت ذاتُ الصَّفا من حليفها
ووصف النبذ أو النابذ بأنّه على سواء ، تمثيل بحال الماشي على طريق جادّة لا التواء فيها ، فلا مخاتلة لصاحبها كقوله تعالى : { فقل آذنتكم على سواء } [ الأنبياء : 109 ] وهذا كما يقال ، في ضدّه : هو يتبعُ بنيات الطريق ، أي يراوغ ويخاتل .
والمعنى : فانبذ إليهم نبذاً واضحاً علناً مكشوفاً .
ومفَعول ( انبذ ) محذوف بقرينة ما تقدّم من قوله : { ثم ينقضون عهدهم } [ الأنفال : 56 ] وقوله : { وإما تخافنّ من قوم خيانة } أي انبذ عهدهم .
وعُدّي « انبِذْ » ب ( إلى ) لتضمينه معنى اردد إليهم عهدهم ، وقد فهم من ذلك لا يستمرّ على عهدهم لئلا يقع في كيدهم وأنّه لا يخونهم لأنّ أمره ينبذ عهده معهم ليستلزم أنّه لا يخونهم .
وجملة : { إن الله لا يحب الخائنين } تذييل لما اقتضته جملة : { وإما تخافن من قوم خيانة } إلخ تصريحاً واستلزاماً . والمعنى : لأنّ الله لا يحبّهم ، لأنّهم متّصفون بالخيانة فلا تستمرَّ على عهدهم فتكون معاهداً لمن لا يحبّهم الله ؛ ولأنّ الله لا يحبّ أن تكون أنت من الخائنين كما قال تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيما } في سورة [ النساء : 107 ] . وذكر القرطبي عن النحّاس أنّه قال : هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه .
قلت : وموقع ( إنّ ) فيه موقع التعليل للأمر برد عهدهم ونبذه إليهم فهي مغنية غناء فاء التفريع كما قال عبد القاهر ، وتقدّم في غير موضع وهذا من نكت الإعجاز .