القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنّ الْمَسَاجِدَ لِلّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللّهِ أَحَداً * وَأَنّهُ لّمَا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجنّ وَأنّ المَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا أيها الناس مَعَ اللّهِ أحَدا ولا تشركوا به فيها شيئا ، ولكن أفردوا له التوحيد ، وأخلصوا له العبادة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأنّ المَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أحَدا كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعهم أشركوا بالله ، فأمر الله نبيه أن يوحّد الله وحده .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن محمود ، عن سعيد بن جُبير وأنّ المَساجِدَ لِلّهِ قال : قالت الجنّ لنبيّ الله : كيف لنا نأتي المسجد ، ونحن ناؤون عنك ، وكيف نشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك ؟ فنزلت : وأنّ المَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أحَدا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وأنّ المَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أحَدا قال : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعهم أشركوا بالله ، فأمر الله نبيه أن يخلص له الدعوة إذا دخل المسجد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن خَصِيف ، عن عكرِمة وأنّ المَساجِدَ لِلّهِ قال : المساجد كلها .
ومن فتح الألف من { أن المساجد لله } جعلها عطفاً على قوله { قل أوحي إلي أنه } [ الجن : 1 ] ، ذكره سيبويه ، و { المساجد } قيل أراد بها البيوت التي هي للعبادة والصلاة في كل ملة .
وقال الحسن : أراد كل موضع سجد فيه كان مخصوصاً لذلك أو لم يكن ، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة . وروي أن هذه الآية نزلت بسبب تغلب قريش على الكعبة ، حينئذ فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم : المواضع كلها لله فاعبده حيث كان وقال ابن عطاء : { المساجد } : الآراب{[11376]} التي يسجد عليها ، واحدها مسجد بفتح الجيم ، وقال سعيد بن جبير : نزلت الآية لأن الجن قالت يا رسول الله : كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك : فنزلت الآية يخاطبهم بها على معنى أن عبادتكم حيث كنتم مقبولة .
وقال الخليل بن أحمد : معنى الآية ، ولأن { المساجد لله فلا تدعوا } أي لهذا السبب ، وكذلك عنده { لإيلاف قريش } [ قريش : 1 ] { فليعبدوا }{[11377]} [ قريش : 3 ] وكذلك عنده { وأن هذه أمتكم أمة واحدة{[11378]} } [ الأنبياء : 92 ، المؤمنون : 52 ] . و { المساجد } المخصوصة بينة التمكن في كونها لله تعالى فيصح أن تفرد للصلاة والدعاء وقراءة العلم ، وكل ما هو خالص لله تعالى ، وأن لا يتحدث بها في أمور الدنيا . ولا يتخذ طريقاً ، ولا يجعل فيها لغير الله نصيب ، ولقد قعدت للقضاء بين المسلمين في المسجد الجامع بالمرية مدة ، ثم رأيت فيه من سوء المتخاصمين وأيمانهم وفجور الخصام وعائلته ودخول النسوان ما رأيت تنزيه البيت عنه فقطعت القعود للأحكام فيه .
اتفق القراء العشرة على فتح الهمزة في { وأن المساجد لله } فهي معطوفة على مرفوع { أوحي إليَّ أنه استمع نفر من الجن } [ الجن : 1 ] ، ومضمونها مما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأُمر بأن يقوله . والمعنى : قل أوحي إلي أن المساجد لله ، فالمصدر المنسبك مع { أنَّ } واسمها وخبرها نائب فاعل { أُوحي } [ الجن : 1 ] .
والتقدير : أوحي إلي اختصاص المساجد بالله ، أي بعبادته لأن بناءها إنما كان ليعبد الله فيها ، وهي معالم التوحيد .
وعلى هذا الوجه حمل سيبويه الآية وتبعه أبو علي في « الحُجة » .
وذهب الخليل أن الكلام على حذف لام جر قبل { أنّ } ، فالمجرور مقدم على متعلَّقه للاهتمام . والتقدير : ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً .
واللام في قوله { لله } للاستحقاق ، أي الله مستحقها دون الأصنام والأوثان فمن وضع الأصنام في مساجد الله فقد اعتدى على الله .
والمقصود هنا هو المسجد الحرام لأن المشركين كانوا وضعوا فيه الأصنام والأنصاب وجعلوا الصنم ( هُبَل ) على سطح الكعبة ، قال تعالى : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها } [ البقرة : 114 ] يعني بذلك المشركين من قريش .
وهذا توبيخ للمشركين على اعتدائهم على حق الله وتصرفهم فيما ليس لهم أن يغيروه قال تعالى : { وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه } [ الأنفال : 34 ] ، وإنما عبر في هذه الآية وفي آية { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } [ البقرة : 114 ] بلفظ { مساجد } ليدخل الذين يفعلون مثل فعلهم معهم في هذا الوعيد ممن شاكلهم ممن غيّروا المساجد ، أو لتعظيم المسجد الحرام ، كما جُمع { رسلي } في قوله : { فكذبوا رسلي فكيف كان نكير } [ سبأ : 45 ] ، على تقدير أن يكون ضمير { كذبوا عائداً إلى الذين كفروا في قوله : { وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلاّ سحر مبين } [ سبأ : 43 ] أي كذبوا رسولي .
ومنه قوله تعالى : { وقوم نوح لما كذَّبوا الرسل أغرقناهم } [ الفرقان : 37 ] يريد نوحاً ، وهو أول رسول فهو المقصود بالجمع .
وفرع على اختصاص كون المساجد بالله النهي عن أن يدعوا مع الله أحداً ، وهذا إلزام لهم بالتوحيد بطريق القول بالموجَب لأنهم كانوا يزعمون أنهم أهل بيت الله فعبادتهم غير الله منافية لزعمهم ذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأن المساجد لله} يعني الكنائس والبيع والمساجد لله.
{فلا تدعوا مع الله أحدا} وذلك أن اليهود والنصارى يشركون في صلاتهم في البيع والكنائس، فأمر الله المؤمنين أن يوحدوه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجنّ...وَأنّ المَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا "أيها الناس "مَعَ اللّهِ أحَدا" ولا تشركوا به فيها شيئا، ولكن أفردوا له التوحيد، وأخلصوا له العبادة...
عن عكرِمة: "وأنّ المَساجِدَ لِلّهِ" قال: المساجد كلها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي ما يسجد فيه وما يسجد به: فما يسجد فيه، هي البقاع، وما يسجد به، هي الجوارح؛ فكأنه يقول: إن البقاع التي يسجد فيها، والأعضاء التي يسجد بها، لله تعالى لأنه، هو الذي خلقها، وأنشأها، والمساجد التي بنيت فإنما تبنى لعبادة الله تعالى وليدعى فيها، فلا تشركوا غيره في العبادة والدعاء...
وقال بعضهم: المساجد ههنا البيع والكنائس لأن البيع والكنائس بنيت ليعبد الله تعالى فيها، فنهاهم أن يعبدوا فيها غير الله، فيخرج هذا مخرج الاحتجاج: أنكم قد علمتم أن المساجد بنيت لتعبدوا الله فيها، فلا تعبدوا فيها غيره. وإذا كان الله منشئها وخالقها دون غيره، فكيف تشركون معه غيره في العبادة والدعاء، وليس هو بمنشئ لها؟.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قال الحسن: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} يعني الصلوات.
وقيل: معناه فردّوها لذكر الله وعبادته؛ فلا تتخذوها متجراً ولا مجلساً ولا طرقاً ولا تجعلوا فيها لغير الله نصيباً.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فلا تدعوا {مَعَ الله أَحَداً} في المساجد، لأنها لله خاصة ولعبادته.
وعن الحسن: يعني الأرض كلها؛ لأنها جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم مسجداً. وقيل: هي جمع مسجد وهو السجود.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{المساجد} قيل أراد بها البيوت التي هي للعبادة والصلاة في كل ملة.
وقال الحسن: أراد كل موضع سجد فيه كان مخصوصاً لذلك أو لم يكن، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة.
وروي أن هذه الآية نزلت بسبب تغلب قريش على الكعبة، حينئذ فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: المواضع كلها لله، فاعبده حيث كان.
وقال الخليل بن أحمد: معنى الآية، ولأن {المساجد لله فلا تدعوا} أي لهذا السبب، وكذلك عنده {لإيلاف قريش} [قريش: 1] {فليعبدوا} 22 [قريش: 3] وكذلك عنده {وأن هذه أمتكم أمة واحدة 23} [الأنبياء: 92، المؤمنون: 52]. و {المساجد} المخصوصة بينة التمكن في كونها لله تعالى؛ فيصح أن تفرد للصلاة والدعاء وقراءة العلم، وكل ما هو خالص لله تعالى، وأن لا يتحدث بها في أمور الدنيا. ولا يتخذ طريقاً، ولا يجعل فيها لغير الله نصيب، ولقد قعدت للقضاء بين المسلمين في المسجد الجامع بالمرية مدة، ثم رأيت فيه من سوء المتخاصمين وأيمانهم وفجور الخصام وغائلته ودخول النسوان ما رأيت تنزيه البيت عنه فقطعت القعود للأحكام فيه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ودعاء غير الله قد يكون بعبادة غيره؛ وقد يكون بالالتجاء إلى سواه؛ وقد يكون باستحضار القلب لأحد غير الله.
... فإذا دخلتَ المسجد للعبادة فإنَّ لحظة دخولك المسجد هي لحظة جئت فيها لتقترب من ربك وتناجيه وتعيش في حضن عنايته، فلا تأت بالدنيا معك.
وقد كان أحدُ الصحابة يقول: كنا نخلع أمر الدنيا مع نعالنا.
المسجد لن يأخذ منك إلا الوقت القليل فضع قدرك مع نعلك خارج المسجد، وادخل بلا قدر إلا قدر إيمانك بالله، ادخل بعبوديتك لله، ولا تلحظ قدرا إلا قدرك عند الله.
واجلس حيث ينتهي بك المجس ولا تتخط الرقاب وانْوِ الاعتكاف ولا تتكلم في أي أمر من أمور الدنيا.
فالمساجد هي فيوضات الحق النورانية على خلقه، فالذي يريد فيض الحق بنوره، فليذهب إلى المسجد، فالمسجد هو مكان لا يزاول فيه إلا لقاء الله.
فليخصِّص الإنسان المؤمن ساعة لله وحده في اليوم، وليخلع كل أغراض الحياة الدنيا كما يخلع النعال على باب المسجد، فليس من حسن الأدب واللياقة أن ينشغل الانسان بأي شيء غير لقاء الله في الوقت المخصص للقاء الله، وفي المكان المخصص لهذا اللقاء.
ومع أن الأرض كلها تصلح للصلاة لكنك حين تأتي إلى المسجد اصحب معك أخلاق التعبُّد، ويجب أن يكون الانفعال والتفاعل والحركة والنشاط كله في الله.