اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا} (18)

قوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } . قد تقدم أن السبعة أجمعت على الفتح ، بتقدير : وأوحي إليَّ أن المساجد للَّهِ .

وقال الخليل : أي ولأن المساجد ، فحذف الجارُّ ، ويتعلق بقوله «فلا تدعُوا » .

وجعلوه كقوله تعالى :{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } [ قريش : 1 ] فإنه متعلق بقوله { فَلْيَعْبُدُواْ } كقوله : { إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ } [ الأنبياء : 92 ] .

وقرأ طلحة{[58177]} وابن هرمز : «وإنَّ المسَاجِدَ » - بالكسر . . ، وهو يحتمل الاستئناف والتعليل ، فيكون في المعنى كتقدير الخليل

فصل في المراد ب «المساجد »

المساجدُ : قيل هي جمع «مسجد » - بالكسر - وهو موضع السجود ، وقد تقدم أن قياسه الفتح .

وقيل : هو «مسجد » - بالفتح - مراداً بها الأعضاء الواردة في الحديثِ : «الجبهة والأنف والركبتان واليدان والقدمان » ، وهو قول سعيد بن المسيب .

والمعنى : إن هذه الأعضاء أنعم الله بها عليكم فلا تسجد لغيره فتجحد نعمة الله ، وقال عطاء : مساجدك أعضاؤك التي أمرت بالسجود عليها لا تذللها لغير خالقها .

قال - عليه الصلاة والسلام - «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم » وذكر الحديث ، وقال عليه الصلاة والسلام : «إذَا سَجَدَ العَبْدُ سَجَدَ مَعهُ سَبعةُ أعْضَاءٍ »{[58178]} وقيل : بل جمع مسجد ، وهو مصدر بمعنى السجودِ ، ويكون الجمع لاختلاف الأنواع .

وقال القرطبي{[58179]} : «المراد بها البيوت التي تبنيها أهل المللِ للعبادة » .

قال سعيد بن جبير رضي الله عنه : قالت الجن : كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك ؟ فنزلت : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } ، أي : بنيت لذكر الله ولطاعته{[58180]} .

وقال ابن عبَّاسٍ : المساجد هنا مكة التي هي القبلة ، وسميت مكة مساجد ، لأن كلَّ أحد يسجد إليها{[58181]} .

قال القرطبيُّ{[58182]} : «والقول بأنها البيوت المبنية للعبادة ، وهذا أظهر الأقوال ، وهو مروي عن ابن عباس » .

قال ابن الخطيب{[58183]} : «قال الواحديُّ : وواحد المساجد - على الأقوال كلِّها – " مسجد " - بفتح الجيم - إلا على قول من يقول : إنها المواضع التي بنيت للصلاةِ ، فإنَّ واحدها " مسجد " - بكسر الجيم - لأن المواضع ، والمصادر كلَّها من هذا الباب - بفتح العين - إلا في أحرف معدودة وهي : المسجد ، والمطلِع ، والمنسِك ، والمسكِن ، والمنبِت ، والمفرِق ، والمسقِط ، والمجزِر ، والمحشِر ، والمشرِق ، والمغرِب وقد جاء في بعضها الفتح ، وهي : المنسك والمطلع والمسكن والمفرق ، وهو جائز في كلِّها وإن لم يسمع » .

قوله : «للَّهِ » . إضافة تشريف وتكريم ، ثم خص بالذِّكر منها البيت العتيق ، فقال تعالى : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ }[ الحج : 26 ] وقال - عليه الصلاة والسلام - : «لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلاَّ إلى ثلاثةِ مساجدَ »{[58184]}

وقال - عليه الصلاة والسلام - : «صَلاةٌ فِي مَسْجدِي هذا خَيْرٌ مِنْ ألْفِ صلاةٍ فيما سواهُ إلاَّ المَسجد الحَرامَ »{[58185]}

وقد روي من طريق آخر لا بأس بها «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " صَلاةٌ في مَسْجدِي هذا خَيْرٌ من ألفِ صلاةٍ فِيمَا سِواهُ إلاَّ فِي المسْجِد الحَرامِ ، فإنَّ صلاةٌ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ مائةِ ألفِ صلاةٍ في مَسْجديْ هَذَا " {[58186]} .

قال القرطبي{[58187]} : " وهذا حديث صحيح " .

فصل في نسبة المساجد إلى غير الله

فإن قيل : المساجد وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً فإنَّها قد تنسب إلى غيره تعالى تعريفاً كما قيل في الحديث :«سابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق » .

ويقال : مسجد فلان ، لأنه حبسه ، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجدِ والقناطرِ والمقابرِ ، وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك .

فصل في معنى الآية

معنى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } لا يذكرُ فيها إلا اللَّهُ تعالى فإنَّه يجوز قسمةُ الأموالِ فيها ، ويجوز وضعُ الصدقات فيها ، على رسم الاشتراك بين المساكين ، والأكل فيها ، ويجوز حبسُ الغريمِ فيها والنوم ، وسكن المريضِ فيه ، وفتح الباب للجار إليها وإنشاد الشعر فيه إذا عري عن الباطل .

قوله : { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } . وهذا توبيخٌ للمشركين ، في دعواهم مع الله غيره في المسجد الحرام .

وقال مجاهد : كانت اليهودُ ، والنصارى إذا دخلوا كنائسهم ، وبيعهم أشركوا بالله تعالى ، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة الحق إذا دخلوا المساجد كلها ، فلا تشركوا فيها صنماً وغيره مما يعبد{[58188]} .

وقيل : المعنى أفردوا المساجدَ لذكر الله ، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيباً ، وفي الحديث : «مَنْ نَشدَ ضالَّةً في المسجد فقولوا : لا ردَّها اللَّه عليكَ ، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا » .

وقال الحسن : من السنة إذا دخل رجل المسجد أن يقول : لا إله إلا الله ، لأن قوله تعالى { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } في ضمنه أمر بذكر الله ودعائه .

وروى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنه - «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قدَّم رجله اليمنى وقال : " وأنَّ المسَاجِدَ لِلَّهِ فلا تَدْعُوا مع اللَّهِ أحداً ، اللَّهُمَّ إني عبدُكَ وزائِرُكَ وعلى كُلِّ مزُورٍ حقٌّ لزائره ، وأنْتَ خَيْرُ مزُورٍ ، فأسْألُكَ بِرحْمتكَ أنْ تَفُكَّ رقَبَتِي من النَّارِ " فإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى وقال : " اللَّهُمْ صُبَّ عليَّ الخَيْرَ صباً ولا تَنزِعْ عنِّي صالحَ ما أعْطَيْتنِي أبداً ، ولا تَجْعَلْ معِيْشتِي كدّاً ، واجعل لِي في الأرضِ جداً " {[58189]} .


[58177]:ينظر: البحر المحيط 8/345، والدر المصون 6/396.
[58178]:أخرجه البخاري (2/297) كتاب الأذان، باب: السجود على الأنف حديث (812) ومسلم (1/354) كتاب الصلاة، باب: أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر (230/490) من حديث ابن عباس.
[58179]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 19/14.
[58180]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/271) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/436).
[58181]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (6/119) والقرطبي (19/15).
[58182]:الجامع لأحكام القرآن 19/14.
[58183]:ينظر الرازي 30/144.
[58184]:تقدم.
[58185]:أخرجه البخاري 3/63 كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة: (1190) ومسلم (2/1012) كتاب الحج باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (505/1394) ومالك في الموطأ 1/196 في كتاب القبلة، باب: ما جاء في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
[58186]:هذا الحديث ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/15) وقال: لو صح ولم يصححه كما قال المؤلف عقب الحديث.
[58187]:الجامع لأحكام القرآن 19/15.
[58188]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/15) عن مجاهد.
[58189]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (6/120) والقرطبي (19/15).