تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُوٗاۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡحِكۡمَةِ يَعِظُكُم بِهِۦۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (231)

ثم قال تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } أي : طلاقا رجعيا بواحدة أو ثنتين .

{ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي : قاربن انقضاء عدتهن .

{ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي : إما أن تراجعوهن ، ونيتكم القيام بحقوقهن ، أو تتركوهن بلا رجعة ولا إضرار ، ولهذا قال : { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } أي : مضارة بهن { لِتَعْتَدُوا } في فعلكم هذا الحلال ، إلى الحرام ، فالحلال : الإمساك بمعروف{[145]}  والحرام : المضارة ، { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } ولو كان الحق يعود للمخلوق فالضرر عائد إلى من أراد الضرار .

{ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } لما بين تعالى حدوده غاية التبيين ، وكان المقصود ، العلم بها والعمل ، والوقوف معها ، وعدم مجاوزتها ، لأنه تعالى لم ينزلها عبثا ، بل أنزلها بالحق والصدق والجد ، نهى عن اتخاذها هزوا ، أي : لعبا بها ، وهو التجرؤ عليها ، وعدم الامتثال لواجبها ، مثل استعمال المضارة في الإمساك ، أو الفراق ، أو كثرة الطلاق ، أو جمع الثلات ، والله من رحمته جعل له واحدة بعد واحدة ، رفقا به وسعيا في مصلحته .

{ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } عموما باللسان ثناء وحمدا ، وبالقلب اعترافا وإقرارا ، وبالأركان بصرفها في طاعة الله ، { وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ } أي : السنة اللذين بيّن لكم بهما طرق الخير ورغبكم فيها ، وطرق الشر وحذركم إياها ، وعرفكم نفسه ووقائعه في أوليائه وأعدائه ، وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون .

وقيل : المراد بالحكمة أسرار الشريعة ، فالكتاب فيه ، الحكم ، والحكمة فيها ، بيان حكمة الله في أوامره ونواهيه ، وكلا المعنيين صحيح ، ولهذا قال { يَعِظُكُمْ بِهِ } أي : بما أنزل عليكم ، وهذا مما يقوي أن المراد بالحكمة ، أسرار الشريعة ، لأن الموعظة ببيان الحكم والحكمة ، والترغيب ، أو الترهيب ، فالحكم به ، يزول الجهل ، والحكمة مع الترغيب ، يوجب الرغبة ، والحكمة مع الترهيب يوجب الرهبة .

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } في جميع أموركم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فلهذا بيّن لكم هذه الأحكام بغاية الإحكام والإتقان التي هي جارية مع المصالح في كل زمان ومكان ، [ فله الحمد والمنة ] .


[145]:- في ب: بالمعروف.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُوٗاۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡحِكۡمَةِ يَعِظُكُم بِهِۦۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (231)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنّ ضِرَاراً لّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

يعني تعالى ذكره بذلك : وإذا طلقتم أيها الرجال نساءكم فبلغن أجلهن ، يعني ميقاتهن الذي وقته لهن من انقضاء الأقراء الثلاثة إن كانت من أهل الأقراء وانقضاء الأشهر ، إن كانت من أهل الشهور ، فأَمْسِكُوهُنّ يقول : فراجعوهن إن أردتم رجعتهن في الطلقة التي فيها رجعة ، وذلك إما في التطليقة الواحدة أو التطليقتين كما قال تعالى ذكره : الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ .

وأما قوله : بِمَعْرُوفٍ فإنه عنى بما أذن به من الرجعة من الإشهاد على الرجعة قبل انقضاء العدة دون الرجعة بالوطء والجماع ، لأن ذلك إنما يجوز للرجل بعد الرجعة ، وعلى الصحبة مع ذلك والعشرة بما أمر الله به وبينه لكم أيها الناس . أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ يقول : أو خلّوهن يقضين تمام عدتهنّ وينقضي بقية أجلهنّ الذي أجلته لهنّ لعددهن بمعروف ، يقول : بإيفائهن تمام حقوقهن عليكم على ما ألزمتكم لهن من مهر ومتعة ونفقة وغير ذلك من حقوقهن قبلكم . وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا يقول : ولا تراجعوهنّ إن راجعتموهنّ في عددهنّ مضارة لهنّ لتطوّلوا عليهنّ مدة انقضاء عددهنّ ، أو لتأخذوا منهنّ بعض ما آتيتموهنّ بطلبهنّ الخلع منكم لمضارّتكم إياهنّ بإمساككم إياهنّ ، ومراجعتكموهنّ ضرارا واعتداء .

وقوله : لِتَعْتَدُوا يقول : لتظلموهنّ بمجاوزتكم في أمرهنّ حدودي التي بينتها لكم .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق : وَلا تُمْسِكوهُن ضِرَارا قال : يطلقها حتى إذا كادت تنقضي راجعها ، ثم يطلقها ، فيدعها ، حتى إذا كادت تنقضي عدتها راجعها ، ولا يريد إمساكها ، فذلك الذي يضارّ ويتخذ آيات الله هزوا .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سئل الحسن عن قوله تعالى : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال : كان الرجل يطلق المرأة ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها ، ثم يراجعها يضارّها فنهاهم الله عن ذلك .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ قال نهى الله عن الضرار ضرارا أن يطلق الرجل امرأته ، ثم يراجعها عند آخر يوم يبقى من الأجل حتى يفي لها تسعة أشهر ليضارّها به .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه ، إلا أنه قال : نهى عن الضرار ، والضرارُ في الطلاق : أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها . وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ، ثم يطلقها ، يفعل ذلك يضارّها ويعضلها ، فأنزل الله هذه الآية .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال : كان الرجل يطلق امرأته تطليقة واحدة ثم يدعها ، حتى إذا ما تكاد تخلو عدتها راجعها ، ثم يطلقها ، حتى إذا ما كاد تخلو عدتها راجعها ، ولا حاجة له فيها ، إنما يريد أن يضارّها بذلك ، فنهى الله عن ذلك وتقدم فيه ، وقال : وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه .

3حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، قال : قال الله تعالى ذكره : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا فإذا طلق الرجل المرأة وبلغت أجلها فليراجعها بمعروف أو ليسرحها بإحسان ، ولا يحلّ له أن يراجعها ضرارا ، وليست له فيها رغبة إلا أن يضارّها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال : هو في الرجل يحلف بطلاق امرأته ، فإذا بقي من عدتها شيء راجعها يضارّها بذلك ، ويطوّل عليها فنهاهم الله عن ذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، عن مالك بن أنس ، عن ثور بن زيد الديلي : أن رجلاً كان يطلق امرأته ثم يراجعها ، ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها ، كيما يطوّل عليها بذلك العدّة ليضارّها فأنزل الله تعالى ذكره : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ يعظّم ذلك .

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ولا تُمْسِكُوهُنّ ضِرارا : هو الرجل يطلق امرأته واحدة ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها ليضارّها بذلك لتختلع منه .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا قال : نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها ، ففعل ذلك بها ، حتى مضت لها تسعة أشهر مضارّة يضارّها ، فأنزل الله تعالى ذكره : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا .

حدثني العباس بن الوليد ، قال : أخبرني أبي ، قال : سمعت عبد العزيز يسأل عن طلاق الضرار ، فقال : يطلق ثم يراجع ، ثم يطلق ، ثم يراجع ، فهذا الضرار الذي قال الله : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال : الرجل يطلق امرأته تطليقة ، ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها تطليقة ، ثم يمسك عنها حتى تحيض ثلاث حيض ، ثم يراجعها لتعتدوا قال : لا يطاول عليهن .

وأصل التسريح من سَرْحِ القوم ، وهو ما أطلق من نعمهم للرعي ، يقال للمواشي المرسلة للرعي : هذا سَرْح القوم ، يراد به مواشيهم المرسلة للرعي ، ومنه قول الله تعالى ذكره : والأنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَناِفعُ وَمِنْهَا تَأكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون يعني بقوله حين تسرحون : حين ترسلونها للرعي فقيل للمرأة إذا خلاها زوجها فأبانها منه : سَرّحها ، تمثيلاً لذلك بتسريح المسرّح ماشيته للرعي وتشبيها به .

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ .

يعني تعالى ذكره بذلك : ومن يراجع امرأته بعد طلاقه إياها في الطلاق الذي له فيه عليها الرجعة ضرارا بها ليعتدي حدّ الله في أمرها ، فقد ظلم نفسه ، يعني فأكسبها بذلك إثما ، وأوجب لها من الله عقوبة بذلك .

وقد بينا معنى الظلم فيما مضى ، وأنه وضع الشيء في غير موضعه وفعل ما ليس للفاعل فعله .

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا .

يعني تعالى ذكره : ولا تتخذوا أعلام الله وفصوله بين حلاله وحرامه وأمره ونهيه في وحيه وتنزيله استهزاءً ولعبا ، فإنه قد بين لكم في تنزيله وآي كتابه ما لكم من الرجعة على نسائكم في الطلاق الذي جعل لكم عليهن فيه الرجعة ، وما ليس لكم منها ، وما الوجه الجائز لكم منها وما الذي لا يجوز ، وما الطلاق الذي لكم عليهن فيه الرجعة وما ليس لكم ذلك فيه ، وكيف وجوه ذلك رحمة منه بكم ونعمة منه عليكم ، ليجعل بذلك لبعضكم من مكروه إن كان فيه من صاحبه مما هو فيه المخرج والمخلص بالطلاق والفراق ، وجعل ما جعل لكم عليهنّ من الرجعة سبيلاً لكم إلى الوصول إلى ما نازعه إليه ودعاه إليه هواه بعد فراقه إياهن منهن ، لتدركوا بذلك قضاء أوطاركم منهن ، إنعاما منه بذلك عليكم ، لا لتتخذوا ما بينت لكم من ذلك في آي كتابي وتنزيلي تفضلاً مني ببيانه عليكم ، وإنعاما ورحمة مني بكم لعبا وسخريا .

وبمعنى ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عبد الله بن أحمد بن شبّوبَةَ ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أيوب بن سليمان ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن أرقم ، أن الحسن حدثهم : أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطّلق الرجل أو يعتق ، فيقال : ما صنعت ؟ فيقول : إنما كنت لاعبا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ طَلّق لاعِبا أوْ أعْتَق لاعِبا فَقَدْ جاز عَلَيْهِ » قال الحسن : وفيه نزلت : وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا .

3حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا قال : كان الرجل يطلق امرأته ، فيقول : إنما طلقت لاعبا ، ويتزوّج أو يعتق أو يتصدّق فيقول : إنما فعلت لاعبا ، فنهوا عن ذلك ، فقال تعالى ذكره : وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا .

3حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن عبد السلام بن حرب ، عن يزيد بن عبد الرحمن ، عن أبي العلاء ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي موسى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب على الأشعريين فأتاه أبو موسى ، فقال : يا رسول الله غضبت على الأشعريين فقال : «يَقُولُ أحَدُكُمْ قَدْ طَلّقْتُ قَد راجَعْتُ لَيْسَ هَذا طَلاقَ المُسْلِمِين ، طَلّقُوا المَرأةَ في قُبْلِ عِدّتِها » .

حدثنا أبو زيد ، عن ابن شبة ، قال : حدثنا أبو غسان النهدي ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن يزيد بن أبي خالد ، يعني الدالاني ، عن أبي العلاء الأودي ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم : «يَقُولُ أحَدُكُمْ لاِمْرأتِهِ : قَدْ طَلّقْتُكِ ، قَدْ راجَعْتُكِ لَيْس هَذَا بِطَلاق المُسْلِمِين ، طَلّقُوا المَرأةَ في قُبْلِ عِدّتِها » .

القول في تأويل قوله تعالى : واذْكُرُوا نِعْمَة اللّهِ عَلَيْكُمْ وَما أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الكِتابِ والحِكْمَةِ .

يعني تعالى ذكره بذلك : واذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام ، الذي أنعم عليكم به ، فهداكم له ، وسائر نعمه التي خصكم بها دون غيركم من سائر خلقه ، فاشكروه على ذلك بطاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه ، واذكروا أيضا مع ذلك ، ما أنزل عليكم من كتابه ذلك ، القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، واذكروا ذلك فاعلموا به ، واحفظوا حدوده فيه . والحكمة : يعني : وما أنزل عليكم من الحكمة ، وهي السنن التي علمكموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنها لكم . وقد ذكرت اختلاف المختلفين في معنى الحكمة فيما مضى قبل في قوله : ويُعَلّمُهُمُ الكِتابَ وَالحَكْمَةَ فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .

القول في تأويل قوله تعالى : يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .

يعني تعالى ذكره بقوله : يَعِظُكُمْ بِهِ يعظكم بالكتاب الذي أنزل عليكم . والهاء التي في قوله «به » عائدة على الكتاب . وَاتّقُوا اللّهَ يقول : وخافوا الله فيما أمركم به ، وفيما نهاكم عنه في كتابه الذي أنزله عليكم ، وفيما أنزله فبينه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم أن تضيعوه وتتعدوا حدوده ، فتستوجبوا ما لا قبل لكم به من أليم عقابه ، ونكال عذابه . وقوله : وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول : واعلموا أيها الناس أن ربكم الذي حدّ لكم هذه الحدود ، وشرع لكم هذه الشرائع ، وفرَض عليكم هذه الفرائض في كتابه وفي تنزيله ، على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما أنتم عاملوه من خير وشرّ ، وحسن وسيىء ، وطاعة ومعصية ، عالم لا يخفى عليه من ظاهر ذلك وخفيه وسره وجهره شيء ، وهو مجازيكم بالإحسان إحسانا ، وبالسيىء سيئا ، إلا أن يعفو ويصفح فلا تتعرّضوا لعقابه ، ولا تظلموا أنفسكم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُوٗاۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡحِكۡمَةِ يَعِظُكُم بِهِۦۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (231)

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 231 )

وقوله تعالى : { وإذا طلقتم النساء } الآية خطاب للرجال لا يختص بحكمه إلا الأزواج ، وذلك نهي للرجل أن يطول العدة على المرأة مضارّة منه لها ، بأن يرتجع قرب انقضائها ثم تطلق بعد ذلك ، قاله الضحاك وغيره ، ولا خلاف فيه ، ومعنى { بلغن أجلهن } قاربن ، لأن المعنى يضطر إلى ذلك ، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك ، ومعنى { أمسكوهن } راجعوهن ، و { بمعروف } قيل هو الإشهاد ، و { لا تمسكوهن } أي لا تراجعوهن ضراراً ، وباقي الآية بيِّن .

( وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )

المراد آياته النازلة في الأوامر والنواهي( {[2198]} ) ، وقال الحسن : «نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعباً أو هازلاً أو راجع كذلك » ، وقالته عائشة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة »( {[2199]} ) . ووقع هذا الحديث في المدونة من كلام ابن المسيب ، النكاح والطلاق والعتق ، ثم ذكر الله عباده بإنعامه عليهم بالقرآن والسنة ، و { الحكمة } هي السنة المبينة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم : مراد الله فيما لم ينص عليه في الكتاب : والوصف ب { عليم } يقتضيه ما تقدم من الأفعال التي ظاهرها خلاف النية فيها ، كالمحلل والمرتجع مضارة .


[2198]:- أي: لا تأخذوا أحكام الله على طريقة الهزء فإنها جد كلها، فمن هزل فقد لزمته. قال الإمام القرطبي: ولا خلاف أن من طلق هازلا أن الطلاق يلزمه، ولقد كان الرجل في الجاهلية يطلق أو يعتق أو ينكح، ثم يقول: كنت لاعباً ويرجع، فأنزل الله الآية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جد إلى آخره) إبطالا لأمر الجاهلية، وإقراراً للأحكام الشرعية.
[2199]:- رواه أصحاب السنن: أو داود، والترمذي وحسّنه، وابن ماجه، والحاكم وصحّحه عن أبي هريرة. والجِدُّ بالكسرة: اسم جَدَّ في الأمر جِدّا ضد هزل.