{ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ } أي : ولتميل إلى ذلك الكلام المزخرف { أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ } لأن عدم إيمانهم باليوم الآخر وعدم عقولهم النافعة ، يحملهم على ذلك ، { وَلِيَرْضَوْهُ } بعد أن يصغوا إليه ، فيصغون إليه أولا ، فإذا مالوا إليه ورأوا تلك العبارات المستحسنة ، رضوه ، وزين في قلوبهم ، وصار عقيدة راسخة ، وصفة لازمة ، ثم ينتج من ذلك ، أن يقترفوا من الأعمال والأقوال ما هم مقترفون ، أي : يأتون من الكذب بالقول والفعل ، ما هو من لوازم تلك العقائد القبيحة ، فهذه حال المغترين بشياطين الإنس والجن ، المستجيبين لدعوتهم ، وأما أهل الإيمان بالآخرة ، وأولو العقول الوافية والألباب الرزينة ، فإنهم لا يغترون بتلك العبارات ، ولا تخلبهم تلك التمويهات ، بل همتهم مصروفة إلى معرفة الحقائق ، فينظرون إلى المعاني التي يدعو إليها الدعاة ، فإن كانت حقا قبلوها ، وانقادوا لها ، ولو كسيت عبارات ردية ، وألفاظا غير وافية ، وإن كانت باطلا ردوها على من قالها ، كائنا من كان ، ولو ألبست من العبارات المستحسنة ، ما هو أرق من الحرير .
ومن حكمة الله تعالى ، في جعله للأنبياء أعداء ، وللباطل أنصارا قائمين بالدعوة إليه ، أن يحصل لعباده الابتلاء والامتحان ، ليتميز الصادق من الكاذب ، والعاقل من الجاهل ، والبصير من الأعمى .
ومن حكمته أن في ذلك بيانا للحق ، وتوضيحا له ، فإن الحق يستنير ويتضح إذا قام الباطل يصارعه ويقاومه . فإنه -حينئذ- يتبين من أدلة الحق ، وشواهده الدالة على صدقه وحقيقته ، ومن فساد الباطل وبطلانه ، ما هو من أكبر المطالب ، التي يتنافس فيها المتنافسون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِتَصْغَىَ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مّقْتَرِفُونَ } .
يقول تعالى ذكره : { وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا وَلِتَصْغَى إلَيْهِ } .
يقول جلّ ثناؤه : يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المزيّن من القول بالباطل ، ليغرّوا به المؤمنين من أتباع الأنبياء ، فيفتنوهم عن دينهم وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفْئِدَةُ الّذِين لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ . يقول : ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالاَخرة .
وهو من صغوتَ تَصْغَى وتَصْغُو ، والتنزيل جاء بتَصْغَى صَغْوا وصُغُوّا ، وبعض العرب يقول صَغَيْت بالياء حُكي عن بعض بني أسد : صَغَيْتُ إلى حديثه ، فأنا أصْغَى صُغِيّا بالياء ، وذلك إذا ملت ، يقال : صَغْوي معك : إذا كان هواك معه وميلك ، مثل قولهم : ضِلَعي معك ، ويقال : أصغيت الإناء : إذا أملته ليجتمع ما فيه ومنه قول الشاعر :
تَرَى السّفِيهَ بِهِ عَنْ كُلّ مُحْكَمَةٍ ***زَيْغٌ وَفِيهِ إلى التّشْبِيهِ إصْغاءُ
ويقال للقمر إذا مال للغيوب : صَغَا وأصْغَى .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفْئِدَةُ يقول : تزيغ إليه أفئدة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : وَلِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدَةُ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ قال : لتميل .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفْئِدَةُ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ يقول : تميل إليه قلوب الكفار ويحبونه ويرضون به .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفْئِدَةُ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ قال : ولتصغى : وليهووا ذلك وليرضوه ، قال : يقول الرجل للمرأة : صَغَيْتُ إليها : هوِيتها .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرفُونَ .
يقول تعالى ذكره : وليكتسبوا من الأعمال ما هم مكتسبون .
حُكي عن العرب سماعا منها : خرج يقترف لأهله ، بمعنى يكسب لهم ، ومنه قيل : قارف فلان هذا الأمر : إذا واقعه وعمله . وكان بعضهم يقول : هو التهمة والادّعاء ، يقال للرجل : أنت قرفتني : أي اتهمتني ، ويقال : بئسما اقترفت لنفسك . وقال رؤبة :
أعْيا اقْتِرَافُ الكَذِبِ المَقْرُوفِ ***تَقْوَى التّقِيّ وَعِفّةَ العَفِيفِ
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : وَلِيَقْتَرِفُوا قال أهل التأويل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ وليكتسبوا ما هم مكتسبون .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ قال : ليعملوا ما هم عاملون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ قال : ليعملوا ما هم عاملون .
{ ولتصغى إليه } معناه لتميل يقال صغى يصغى وأصلها يصغي بكسر الغين لكن رده حرف الحلق إلى الفتح ويقال صغى يصغو وأصغى يصغي ويصغى و { أفئدة } جمع فؤاد و «يقترفون » معناه يواقعون ويجترحون ، وهي مستعملة أكثر ذلك في الشر والذنوب ونحوه ، والقراء على كسر اللام في الثلاثة الأفعال على أنها لام كي ، فإما أن تكون معطوفة على { غروراً } [ الأنعام : 112 ] ، وإما أن تكون متعلقة بفعل مؤخر تقديره فعلوا ذلك أو جعلنا ذلك ، فهي لام صيرورة قاله الزجّاج ، ولا يحتمل أن تكون هذه اللامات على هذه القراءة لام الأمر وضمنها الوعيد ، وتبقى في «لتصغى » على نحو ما جاء من ذلك في قول الشاعر :
ألم يأتيك الخ . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5066]} ؟
إلى غير ذلك مما قد قرىء به ، قال أبو الفتح قرأها الحسن بالتسكين في الثلاثة وهي لام كي وهي معطوفة على قوله { غروراً } [ الأنعام : 112 ] التقدير لأجل الغرور «ولْتصغى » وإسكان هذه اللام شاذ في الاستعمال قوي في القياس .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر أن تحمل قراءة الحسن بسكون اللامات الثلاثة على أنها لام الأمر المضمن الوعيد والتهديد ، والخط على هذه القراءة «ولتصغ » ذكر أبو عمر الداني أن تسكينه في اللامات الثلاثة وكذلك قال أبو الفتح وذكر أن الحسن إنما يسكن اللامين الثانية والثالثة .
قال القاضي أبو محمد : وذلك يخالفه خط المصحف في «ولتصغى » .
قال القاضي أبو محمد : ويتحصل أن يسكن اللام في { ولتصغى } على ما ذكرناه في قراءة الجماعة ، قال أبو عمرو : وقراءة الحسن إنما هي «لتصغي » بكسر الغين ، وقراءة إبراهيم النخعي «لتُصغي » بضم التاء وكسر الغين من أصغى يصغي ، وكذلك قرأ الجراح بن عبد الله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.