{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب في الوفاء والخيانة في الأموال ، لما ذكر خيانتهم في الدين ومكرهم وكتمهم الحق ، فأخبر أن منهم الخائن والأمين ، وأن منهم { من إن تأمنه بقنطار } وهو المال الكثير { يؤده } وهو على أداء ما دونه من باب أولى ، ومنهم { من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } وهو على عدم أداء ما فوقه من باب أولى وأحرى ، والذي أوجب لهم الخيانة وعدم الوفاء إليكم بأنهم زعموا أنه { ليس } عليهم { في الأميين سبيل } أي : ليس عليهم إثم في عدم أداء أموالهم إليهم ، لأنهم بزعمهم الفاسد ورأيهم الكاسد قد احتقروهم غاية الاحتقار ، ورأوا أنفسهم في غاية العظمة ، وهم الأذلاء الأحقرون ، فلم يجعلوا للأميين حرمة ، وأجازوا ذلك ، فجمعوا بين أكل الحرام واعتقاد حله وكان هذا كذبا على الله ، لأن العالم الذي يحلل الأشياء المحرمة قد كان عند الناس معلوم أنه يخبر عن حكم الله ليس يخبر عن نفسه ، وذلك هو الكذب ، فلهذا قال
{ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } وهذا أعظم إثما من القول على الله بلا علم .
{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاّ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ إِلاّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
وهذا الخبر من الله عزّ وجلّ أن من أهل الكتاب ، وهم اليهود من بني إسرائيل أهل أمانة يؤدونها ولا يخونونها ، ومنهم الخائن أمانته ، الفاجر في يمينه المستحلّ .
فإن قال قائل : وما وجه إخبار الله عزّ وجلّ بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم ، وقد علمت أن الناس لم يزالوا كذلك منهم المؤدّي أمانته والخائنها ؟ قيل : إنما أراد جلّ وعزّ بإخباره المؤمنين خبرهم على ما بينه في كتابه بهذه الاَيات تحذيرهم أن يأتمنوهم على أموالهم ، وتخويفهم الاغترار بهم ، لاستحلال كثير منهم أموال المؤمنين . فتأويل الكلام : ومن أهل الكتاب الذي إن تأمنه يا محمد على عظيم من المال كثير ، يؤدّه إليك ، ولا يخنك فيه¹ ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنك فيه ، فلا يؤدّه إليك إلا أن تلحّ عليه بالتقاضي والمطالبة . والباء في قوله : { بِدِينارٍ } وعلى يتعاقبان في هذا الموضع ، كما يقال : مررت به ، ومررت عليه .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائما } فقال بعضهم : إلا ما دمت له متقاضيا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائما } : إلا ما طلبته واتبعته .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائما } قال : تقتضيه إياه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قَائما } قال : مواظبا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : معنى ذلك : إلا ما دمت عليه قائما على رأسه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : { إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائما } يقول : يعترف بأمانته ما دمت قائما على رأسه ، فإذا قمت ثم جئت تطلبه كافَرَك الذي يؤدي ، والذي يجحد .
وأولى القولين بتأويل الآية قول من قال : معنى ذلك : إلا ما دمت عليه قائما بالمطالبة والاقتضاء ، من قولهم : قام فلان بحقي على فلان حتى استخرجه لي ، أي عمل في تخليصه ، وسعى في استخراجه منه حتى استخرجه ، لأن الله عزّ وجلّ إنما وصفهم باستحلالهم أموال الأميين ، وأن منهم من لا يقضي ما عليه إلا بالاقتضاء الشديد والمطالبة ، وليس القيام على رأس الذي عليه الدين ، بموجب له النقلة عما هو عليه من استحلال ما هو له مستحلّ ، ولكن قد يكون مع استحلاله الذهاب بما عليه لربّ الحق إلى استخراجه السبيلُ بالاقتضاء والمحاكمة والمخاصمة ، فذلك الاقتضاء : هو قيام ربّ المال باستخراج حقه ممن هو عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : أن من استحلّ الخيانة من اليهود وجحود حقوق العربي التي هي له عليه ، فلم يؤدّ ما ائتمنه العربي عليه إليه إلا ما دام له متقاضيا مطلبا¹ من أجل أنه يقول : لا حرج علينا فيما أصبنا من أموال العرب ، ولا إثم ، لأنهم على غير الحقّ ، وأنهم مشركون .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو قولنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } . . . الاَية ، قالت اليهود : ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } قال ليس علينا في المشركين سبيل ، يعنون : من ليس من أهل الكتاب .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } قال : يقال له : ما بالك لا تؤدّي أمانتك ؟ فيقول : ليس علينا حرج في أموال العرب ، قد أحلها الله لنا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، لما نزلت : { وَمِنْ أهْلِ الكِتابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدّهِ إلَيْكَ إلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائما ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «كَذَبَ أعْدَاءُ اللّهِ ما مِنْ شَيْءٍ كانَ فِي الجَاهِليةِ إلاّ وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ ، إلاّ الأمانَةَ فإنّهَا مُؤَدّاة إلى البَرّ والفاجِرِ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام بن عبيد الله ، عن يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما قالت اليهود : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } يعنون أخذ أموالهم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال : «إلاّ وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ ، إلاّ الأمانَةَ فَإنّها مُؤَدّاة » ولم يزد على ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون : ليس علينا جناح فيما أصبنا من هؤلاء ، لأنهم أميون ، فذلك قوله : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } . . . إلى آخر الآية .
حدثنا به القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } قال : بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم ثمن بيوعهم ، فقالوا : ليس لكم علينا أمانة ، ولا قضاء لكم عندنا ، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه ، وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم ، فقال الله عزّ وجلّ : { وَيَقُولُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن صعصعة ، قال : قلت لابن عباس : إنا نغزو أهل الكتاب ، فنصيب من ثمارهم ؟ قال : وتقولون كما قال أهل الكتاب : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن صعصعة : أن رجلاً سأل ابن عباس فقال : إنا نصيب في الغزو أو العذق ، الشكّ من الحسن من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ، فقال ابن عباس : فتقولون ماذا ؟ قال نقول : ليس علينا بذلك بأس . قال : هذا كما قال أهل الكتاب : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن القائلين منهم ليس علينا في أموال الأميين من العرب حرج أن نختانهم إياه ، يقولون بقيلهم : إن الله أحلّ لنا ذلك ، فلا حرج علينا في خيانتهم إياه ، وترك قضائهم الكذبَ على الله عامدين الإثم بقيل الكذب على الله أنه أحلّ ذلك لهم ، وذلك قوله عزّ وجلّ : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فيقول على الله الكذب ، وهو يعلم ، يعني الذي يقول منهم إذا قيل له : ما لك لا تؤدّي أمانتك ؟ ليس علينا حرج في أموال العرب ، قد أحلها الله لنا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَيَقُولُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } : يعني ادّعاءهم أنهم وجدوا في كتابهم قولهم : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمّيّينَ سَبِيلٌ } .
{ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك } كعبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه { ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } كفنحاص بن عازوراء استودعه قرشي آخر دينارا فجحده . وقيل المأمونون على الكثير النصارى إذ الغالب فيهم الأمانة ، والخائنون في القليل اليهود إذ الغالب عليهم الخيانة . وقرأ حمزة وأبو بكر وأبو عمرو { يؤده إليك } و{ لا يؤده إليك } بإسكان الهاء وقالوا باختلاس كسرة الهاء وكذا روي عن حفص والباقون بإشباع الكسرة . { إلا ما دمت عليه قائما } إلا مدة دوامك قائما على رأسه مبالغا في مطالبته بالتقاضي والترافع وإقامة البينة . { ذلك } إشارة إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله { لا يؤده } . { بأنهم قالوا } بسبب قولهم { ليس علينا في الأميين سبيل } أي ليس علينا في شأن من ليسوا من أهل الكتاب -ولم يكونوا على ديننا- عتاب وذم . { ويقولون على الله الكذب } بادعائهم ذلك { وهم يعلمون } أنهم كاذبون ، وذلك لأنهم استحلوا ظلم من خالفهم وقالوا : لم يجعل لهم في التوراة حرمة . وقيل عامل اليهود رجالا من قريش فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا سقط حقكم حيث تركتم دينكم وزعموا أنه كذلك في كتابهم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزولها " كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر " .
عطف على قوله : { وقالت طائفة من أهل الكتاب } [ آل عمران : 72 ] أو على قوله : { ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم } [ آل عمران : 69 ] عطف القصة على القصة والمناسبة بيان دخائل أحوال اليهود في معاملة المسلمين الناشئة عن حسدهم وفي انحرافهم عن ملة إبراهيم مع ادّعائهم أنهم أولَى الناس به ، فقد حكى في هذه الآية خيانة فريق منهم .
وقد ذكر الله هنا أنّ في أهل الكتاب فريقين : فريقاً يؤدّي الأمانة تعففاً عن الخيانة وفريقاً لا يؤدّي الأمانة متعلّلين لإباحة الخيانة في دينهم ، قيل : ومن الفريق الأول عبد الله بن سلام ، ومن الفريق الثاني فِنْحَاص بن عازوراء وكلاهما من يهود يثرب والمقصود من الآية ذمّ الفريق الثاني إذ كان من دينهم في زعمهم إباحة الخَون قال : { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل } فلذلك كان المقصود هو قوله : { ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } إلخ ولذلك طُوِّل الكلام فيه .
وإنما قدّم عليه قوله : { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار } إنصافاً لحقّ هذا الفريق ، لأنّ الإنصاف مما اشتهر به الإسلام ، وإذ كان في زعمهم أنّ دينهم يبيح لهم خيانة غيرهم ، فقد صار النعيُ عليهم ، والتعبيرُ بهذا القول لازماً لجميعهم أمينهم وخائنهم ، لأنّ الأمين حينئذ لا مزية له إلاّ في أنّه ترك حقاً يبيح له دينُه أخذه ، فترفّع عن ذلك كما يترفع المتغالي في المروءة عن بعض المباحات .
وتقديم المسند في قوله : { ومن أهل الكتاب } في الموضعين للتعجيب من مضمون صلة المسند إليهما : ففي الأول للتعجيب من قوة الأمانة ، مع إمكان الخيانة ووجود العذر له في عادة أهل دينه ، وفي الثاني للتعجيب من أن يكون الخوْن خُلْقاً لمتبع كتاب من كتب الله ، ثم يزيد التعجيبُ عند قوله : { ذلك بأنهم قالوا } فيكسب المسند إليهما زيادة عجَب حالٍ .
وعُدّي { تأمنه } بالباء مع أنّ مثله يتعدّى بعلي كقوله : { هل آمنكم عليه } [ يوسف : 64 ] ، لتضمينه معنى تُعامله بقنطار ليشمل الأمانة بالوديعة ، والأمانةَ بالمعاملة على الاستيمان ، وقيل الباء فيه بمعنى على كقول أبي ذرّ أو عباسسٍ بن مِرداس :
* أربٌّ يَبولُ الثعْلُبَان بِرَأسه *
وهو محمل بعيد ، لأنّ الباء في البيت للظرفية كقوله تعالى : { ببطن مكة } [ الفتح : 24 ] .
وقرأ الجمهور { يؤدّهِ } إليك بكسر الهاء من يؤدّهِ على الأصل في الضمائر .
وقرأه أبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبُو جعفر : بإسكان هاء الضمير في يؤدّه ، فقال الزجاج : هذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بيِّن لأنّ الهاء لا ينبغي أن تجزم وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تكسر في الوصل ( هكذا نقله ابن عطية ومعناه أنّ جزم الجواب لا يظهر على هاء الضمير بل على آخر حرف من الفعل ولا يجوز تسكينها في الوصل كما في أكثر الآيات التي سكنوا فيها الهاء ) .
وقيل هو إجرَاء للوصل مُجرى الوقف وهو قليل ، قال الزجاج : وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسر فغلط عليه من نقله وكلام الزجاج مردود لأنه راعى فيه المشهور من الاستعمال المقيس ، واللغة أوسع من ذلك ، والقراءة حجة . وقرأه هشام عن ابن عامر ، ويعقوب باختلاس الكسر .
وحكى القرطبي عن الفرّاء : أنّ مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرّك ما قبلها يقولون ضربته كما يسكنون ميم أنتم وقمتم وأصله الرفع وهذا كما قال الراجز :
لَما رَأى ألاّ دَعَهْ ولاَ شِبَع *** مَالَ إلى أرْطَاةِ حقف فاضطجع
والقِنطار تقدم آنفاً في قوله تعالى : { والقَناطير المقنطرة من الذهب والفضة } [ آل عمران : 14 ]
والدينار اسم للمسكوك من الذهب الذي وزنه اثنتان وسبعون حبة من الشعير المتوسط وهو معرّب دِنَّار من الرومية .
وقد جعل القنطار والدينار مَثَلين للكثرة والقلة ، والمقصود ما يفيده الفحوى من أداء الأمانة فيما هو دون القنطار ، ووقوع الخيانة فيما هو فوق الدينار .
وقوله : { إلا ما دمت عليه قائماً } أطلق القيام هنا على الحرص والمواظبة : كقوله : { قائماً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] أي لا يفعل إلاّ العدل .
وعديّ « قائماً » بحرف ( على ) لأنّ القيام مجاز على الإلحاح والترداد فتعديته بحرف الاستعلاء قرينة وتجريد للاستعارة .
و ( ما ) من قوله : { إلا ما دمت عليه قائماً } حرف مصدري يصير الفعل بعده في تأويل مصدر ، ويكثر أن يقدر معها اسم زمان ملتزَمٌ حذفه يدل عليه سياق الكلام فحينئذ يقال ما ظرفية مصدرية . وليست الظرفية مدلولها بالأصالة ولا هي نائبة عن الظرف ، ولكنها مستفادة من موقع ( مَا ) في سياق كلام يؤذن بالزمان ، ويكثر ذلك في دخول ( ما ) على الفعل المتصرّف من مادة دَام ومرادفها .
و ( ما ) في هذه الآية كذلك فالمعنى : لا يؤدّه إليك إلاّ في مدة دوام قيامك عليه أي إلحاحك عليه . والدوام حقيقته استمرار الفعل وهو هنا مجاز في طول المدة ، لتعذر المعنى الحقيقي مع وجود أداة الاستثناء ، لأنه إذا انتهى العمر لم يحصل الإلحاح بعدَ الموت .
والاستثناء من قوله : { إلا ما دمت عليه قائماً } يجوز أن يكون استثناء مفرّغاً من أوقات يدل عليها موقع ( مَا ) والتقدير لا يؤدّه إليك في جميع الأزمان إلاّ زماناً تدوم عليه فيه قائماً فيكون ما بعد ( إلاّ ) نصباً على الظرفِ ، ويجوز أن يكون مفرّغاً من مصادر يَدل عليها معنى ( ما ) المصدرية ، فيكون ما بعده منصوباً على الحال لأنّ المصدر يقع حالاً .
وقدّم المجرور على متعلقه في قوله : { عليه قائماً } للاهتمام بمعنى المجرور ، ففي تقديمه معنى الإلحاح ، أي إذا لم يكن قيامُك عليه لا يُرجعُ لك أمانتك .
والإشارة في قوله : { ذلك بأنهم قالوا } إلى الحكم المذكور وهو { إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } وإنما أشير إليه لكمال العناية بتمييزه لاختصاصه بهذا الشأن العجيب .
والباء للسبب أي ذلك مُسَببٌ عن أقوال اختلقوها ، وعبّر عن ذلك بالقول ، لأنّ القول يصدر عن الاعتقاد ، فلذا ناب منابه فأطلق على الظنّ في مواضع من كلام العرب .
وأرادوا بالأميين من ليسوا من أهل الكتاب في القديم ، وقد تقدم بيان معنى الأمي في سورة البقرة .
وحرف ( في ) هنا للتعليل . وإذ قد كان التعليل لا يتعلق بالذوات ، تعيَّن تقدير مضاف مجرور بحرف ( في ) والتقدير في معاملة الأمّيّين .
ومعنى ليس علينا في الأميين سبيل ليس علينا في أكل حقوقهم حرج ولا إثم ، فتعليق الحكم بالأميين أي ذواتِهم مراد منه أعلق أحوالهم بالغرض الذي سبق له الكلام .
فالسبيل هنا طريق المؤاخذة ، ثم أطلق السبيل في كلام العرب مجازاً مشهوراً على المؤاخذة قال تعالى : { مَا على المحسنين من سبيل } [ التوبة : 91 ] وقال : { إنما السبيل على الذين يستأذنوك } [ التوبة : 93 ] وربما عبّر عنه العرب بالطريق قال حُميد بن ثور :
وهل أنا إن علّلتُ نفسي بسَرحة *** من السرْح موجود عليَّ طريق
وقصدهم بذلك أن يحقروا المسلمين ، ويتطاولوا بما أوتوه من معرفة القراءة والكتابة مِنْ قبلهم . أو أرادوا الأميين بمعرفة التوراة ، أي الجاهلين : كناية عن كونهم ليسوا من أتباع دِين موسى عليه السلام .
وأيَّاماً كان فقد أنْبَأ هذا عن خلق عجيب فيهم ، وهو استخفافهم بحقوق المخالفين لهم في الدين ، واستباحةُ ظلمهم مع اعتقادهم أنّ الجاهل أو الأمّي جدير بأن يدحَضُ حقُه . والظاهر أنّ الذي جرّأهم علَى هذا سوء فهمهم في التوراة ، فإنّ التوراة ذكرت أحكاماً فرّقت فيها بين الإسرائيلي وغيره في الحقوق ، غير أنّ ذلك فيما يرجع إلى المؤاساة والمخالطة بين الأمة ، فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح الخامس عشر : « في آخر سبع سنين تعمل إبراء يبرىء كلُ صاحب دين يدَه ممّا أقرض صاحبه . الأجنبيَّ تُطالِب ، وأما ما كان لك عند أخيك فتبرئة » وجاء في « الإصحاح » 23 منه : « لا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام وللأجنبي تُقرض بربا » ولكن شَتان بين الحقوق وبين المؤاساة فإنّ تحريم الربا إنما كان لقصد المؤاساة ، والمؤاساة غير مفروضة مع غير أهل الملّة الواحدة . وعن ابن الكلبي قالت اليهود : الأموال كلّها كانت لنا ، فما في أيدي العرب منها فهو لنا ، وإنهم ظلمونا وغصَبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم . وهذان الخلقان الذميمان اللذان حكاهما الله عن اليهود قد اتصف بهما كثير من المسلمين ، فاستحلّ بعضهم حقوق أهل الذمة ، وتأوّلوها بأنهم صاروا أهل حرب ، في حين لا حرب ولا ضرب .
وقد كذّبهم الله تعالى في هذا الزعم فقال : { ويقولون على الله الكذب } قال المفسرون : إنهم ادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم . وروى عن سعيد بن جبير أنه لما نزل قوله تعالى : { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه } إلى قوله { وهم يعلمون } قال النبي صلى الله عليه وسلم « كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلاّ وهو تحت قدميّ هاتين إلاّ الأمانة فإنها مؤدّاة إلى البرّ والفاجر .
وقوله وهم يعلمون حال أي يعتمدون الكذب : إما لأنهم علموا أنّ ما قاسوه على ما في كتابهم ليس القياس فيه بصحيح ، وإما لأنّ التأويل الباطل بمنزلة العلم بالكذب ، إذ الشبهة الضعيفة كالعهد .