تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا فَكُلُوهُ هَنِيٓـٔٗا مَّرِيٓـٔٗا} (4)

ولما كان كثير من الناس يظلمون النساء ويهضمونهن حقوقهن ، خصوصا الصداق الذي يكون شيئا كثيرًا ، ودفعة واحدة ، يشق دفعه للزوجة ، أمرهم وحثهم على إيتاء النساء { صَدُقَاتِهِنَّ } أي : مهورهن { نِحْلَةً } أي : عن طيب نفس ، وحال طمأنينة ، فلا تمطلوهن أو تبخسوا منه شيئا . وفيه : أن المهر يدفع إلى المرأة إذا كانت مكلفة ، وأنها تملكه بالعقد ، لأنه أضافه إليها ، والإضافة تقتضي التمليك .

{ فَإِنْ طِبْنَ لَكُم عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ } أي : من الصداق { نَفْسًا } بأن سمحن لكم عن رضا واختيار بإسقاط شيء منه ، أو تأخيره أو المعاوضة عنه . { فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } أي : لا حرج عليكم في ذلك ولا تبعة .

وفيه دليل على أن للمرأة التصرف في مالها -ولو بالتبرع- إذا كانت رشيدة ، فإن لم تكن كذلك فليس لعطيتها حكم ، وأنه ليس لوليها من الصداق شيء ، غير ما طابت به .

وفي قوله : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء } دليل على أن نكاح الخبيثة غير مأمور به ، بل منهي عنه كالمشركة ، وكالفاجرة ، كما قال تعالى : { وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } وقال : { وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا فَكُلُوهُ هَنِيٓـٔٗا مَّرِيٓـٔٗا} (4)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَآتُواْ النّسَآءَ صَدُقَاتِهِنّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مّرِيئاً } .

قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : وأعطوا النساء مهورهنّ عطية واجبة ، وفريضة لازمة¹ يقال منه : نحل فلان فلانا كذا ، فهو يَنْحَلُه نِحْلَةً ونُحْلاً . كما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نحْلَةً } يقول : فريضة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : أخبرني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نحْلَةً } يعني بالنحلة : المهر .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نحْلَةً } قال : فريضة مسماة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نحْلَةً } قال : النحلة في كلام العرب : الواجب ، يقول : لا ينكحها إلا بشيء واجب لها صدقة ، يسميها لها واجبة ، وليس ينبغي لأحد أن ينكح امرأة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا بصداق واجب ، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبا بغير حقّ .

وقال آخرون : بل عنى بقوله : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نحْلَةً } أولياء النساء ، وذلك أنهم كانوا يأخذون صدقاتهن . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن سيار ، عن أبي صالح ، قال : كان الرجل إذا زوّج أيمة أخذ صداقها دونها ، فنهاهم الله تبارك وتعالى عن ذلك ، وَنزلت : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نِحْلَةً } .

وقال آخرون : بل كان ذلك من أولياء النساء ، بأن يعطي الرجل أخته الرجل ، على أن يعطيه الاَخر أخته ، على أن لا كثير مهر بينهما ، فنهوا عن ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم حضرميّ أن أناسا كانوا يعطي هذا الرجل أخته ويأخذ أخت الرجل ، ولا يأخذون كثير مهر ، فقال الله تبارك وتعالى : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نِحْلَةً } .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك التأويل الذي قلناه ، وذلك أن الله تبارك وتعالى ابتدأ ذكر هذه الاَية بخطاب الناكحين النساء ، ونهاهم عن ظلمهنّ والجور عليهنّ ، وعرفهم سبيل النجاة من ظلمهنّ¹ ولا دلالة في الاَية على أن الخطاب قد صرف عنهم إلى غيرهم . فإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الذين قيل لهم : { فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ } هم الذين قيل لهم : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ } وأن معناه : وآتوا من نكحتم من النساء صدقاتهنّ نحلة ، لأنه قال في الأوّل : { فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } ولم يقل : فانكحوا ، فيكون قوله : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ } مصروفا إلى أنه معنيّ به أولياء النساء دون أزواجهنّ ، وهذا أمر من الله أزواج النساء المدخول بهنّ والمسمى لهنّ الصداق أن يؤتوهنّ صدقاتهنّ دون المطلقات قبل الدخول ممن لم يسمّ لها في عقد النكاح صداق .

القول في تأويل قوله تعالى : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : فإن وهب لكم أيها الرجال نساؤكم شيئا من صدقاتهنّ ، طيبة بذلك أنفسهنّ ، فكلوه هنيئا مريئا . كما :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا عمارة ، عن عكرمة : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا } قال : المهر .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثني حرمي بن عمارة ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمارة ، عن عكرمة ، عن عمارة في قول الله تبارك وتعالى : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا } قال : الصدقات .

حدثني المثنى ، قال : ثني الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا } قال : الأزواج .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عبيدة ، قال : قال لي إبراهيم : أكلتَ من الهنيء المريء ! قلت : ما ذاك ؟ قال : امرأتك أعطتك من صداقها .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : دخل رجل على علقمة وهو يأكل من طعام بين يديه ، من شيء أعطته امرأته من صداقها أو غيره ، فقال له علقمة : ادْنُ ، فكل من الهنيء المريء !

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا } يقول : إذا كان غير إضرار ولا خديعة ، فهو هنيء مريء كما قال الله جلّ ثناؤه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا } قال : الصداق ، { فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا } .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا } .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : زعم حضرميّ أن أناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساق إلى امرأته ، فقال الله تبارك وتعالى : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا } .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا } يقول : ما طابت به نفسا في غير كره أو هوان ، فقد أحلّ الله لك ذلك أن تأكله هنيئا مريئا .

وقال آخرون : بل عُني بهذا القول : أولياء النساء ، فقيل لهم : إن طابت أنفس النساء اللواتي إليكم عصمة نكاحهنّ بصدقاتهنّ نفسا ، فكلوه هنيئا مريئا . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا سيار ، عن أبي صالح في قوله : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا } قال : كان الرجل إذا زوّج ابنته عمد إلى صداقها فأخذه ، قال : فنزلت هذه الاَية في الأولياء : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا } .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بالصواب ، التأويل الذي قلنا وأن الاَية مخاطب بها الأزواج¹ لأن افتتاح الاَية مبتدأ بذكرهم ، وقوله : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا } في سياقه .

وإن قال قائل : فكيف قيل : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ، وقد علمت أن معنى الكلام : فإن طابت لكم أنفسهن بشيء ؟ وكيف وحدت النفس والمعنى للجميع ، وذلك أنه تعالى ذكره قال : { وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نحْلَةً } ؟ قيل : أما نقل فعل النفوس إلى أصحاب النفوس ، فإن ذلك المستفيض في كلام العرب من كلامها المعروف : ضِقْتُ بهذا الأمر ذراعا وذرعا ، وَقَرِرْت بهذا الأمر عينا ، والمعنى : ضاق به ذرعي ، وقرّت به عيني ، كما قال الشاعر :

إذا التّيازُ ذُو العَضَلاتِ قُلْنا *** إليكَ إليكَ ضَاقَ بِها ذِرَاعا

فنقل صفة الذراع إلى ربّ الذراع ، ثم أخرج الذراع مفسرة لموقع الفعل . وكذلك وحد النفس في قوله : { فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا } إذ كانت النفس مفسرة لموقع الخبر . وأما توحيد النفس من النفوس ، لأنه إنما أراد الهوى ، والهوى يكون جماعة ، كما قال الشاعر :

بِها جِيَفُ الحَسْرَى فَأمّا عِظامُها *** فبِيضٌ وأمّا جلدُها فَصَلِيبُ

وكما قال الاَخر :

*** فِي حَلْقِكمْ عَظْمٌ وقد شجِينَا ***

وقال بعض نحويي الكوفة : جائز في النفس في هذا الموضع الجمع والتوحيد¹ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا وأنفسا ، وضقت به ذراعا وذرعا وأذرعا ، لأنه منسوب إليك ، وإلى من تخبر عنه ، فاكتفى بالواحد عن الجمع لذلك ، ولم يذهب الوهم إلى أنه ليس بمعنى جمع لأن قبله جمعا .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن النفس وقع موقع الأسماء التي تأتي بلفظ الواحد مؤدّية معناه إذا ذكر بلفظ الواحد ، وأنه بمعنى الجمع عن الجمع . وأما قوله : { هَنِيئا } فإنه مأخوذ من هنأت البعير بالقطران : إذا جرب فعولج به ، كما قال الشاعر :

مُتَبَذّلاً تَبْدُو مَحَاسِنُهُ *** يَضَعُ الهِنَاءَ مَوَاضِعَ النّقْبِ

فكان معنى قوله : { فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئا } : فكلوه دواء شافيا ، يقال منه : هنأني الطعام ومرأني : أي صار لي دواء وعلاجا شافيا ، وهنئني ومرئني بالكسر ، وهي قليلة ، والذين يقولون هذا القول يقولون يهنأني ويمرأني ، والذين يقولون هنأني ، يقولون : يهنئني ويمرئني ، فإذا أفردوا ، قالوا : قد أمرأني هذا الطعام إمراء ، ويقال : هنأت القوم : إذا عُلتهم ، سمع من العرب من يقول : إنما سميت هانئا لتهنأ ، بمعنى : لتعول وتكفى .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا فَكُلُوهُ هَنِيٓـٔٗا مَّرِيٓـٔٗا} (4)

{ وآتوا النساء صدقاتهن } مهورهن . وقرئ بفتح الصاد وسكون الدال على التخفيف ، وبضم الصاد وسكون الدال ، جمع صدقة كغرفة ، وبضمهما على التوحيد وهو تثقيل صدقة كظلمة في ظلمة . { نحلة } أي عطية يقال نحلة كذا نحلة ونحلا إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض ومن فسرها بالفريضة ونحوها نظر إلى مفهوم الآية لا إلى موضوع اللفظ ، ونصبها على المصدر لأنها في معنى الإيتاء أو الحال من الواو ، أو الصدقات أي آتوهن صدقاتهن ناحلين أو منحولة . وقيل المعنى نحلة من الله وتفضلا منه عليهن فتكون حالا من الصدقات . وقيل ديانة من قولهم انتحل فلان كذا إذا دان به على أنه مفعول له ، أو حال من الصدقات أي دينا من الله تعالى شرعه ، والخطاب للأزواج ، وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور مولياتهم . { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا } للصداق حملا على المعنى أو جرى مجرى اسم الإشارة كقول رؤبة :

كأنه في الجلد *** توليع البهق

إذ سئل فقال : أردت كأن ذاك . وقيل للإيتاء ، ونفسا تمييز لبيان الجنس ولذلك وحد ، والمعنى فإن وهبن لكم شيئا من الصداق عن طيب نفس ، لكن جعل العمدة طيب النفس للمبالغة وعداه بعن لتضمن معنى التجافي والتجاوز ، وقال منه بعثا لهن على تقليل الموهوب { فكلوه هنيئا مريئا } فخذوه وأنفقوه حلالا بلا تبعة . والهنيء والمريء صفتان من هنأ الطعام ومرأ إذا ساغ من غير غصص ، أقيمتا مقام مصدريهما أو وصف بهما المصدر أو جعلتا حالا من الضمير وقيل الهنيء ما يلذه الإنسان ، والمريء ما تحمد عاقبته .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا فَكُلُوهُ هَنِيٓـٔٗا مَّرِيٓـٔٗا} (4)

جانبان مُسْتَضْعَفَان في الجاهلية : اليتيم ، والمرأة . وحقّان مغبون فيهما أصحابهما : مال الأيتام ، ومال النساء ، فلذلك حرسهما القرآن أشدّ الحراسة فابتدأ بالوصاية بحق مال اليتيم ، وثنّى بالوصاية بحقّ المرأة في مال ينجرّ إليها لا محالة ، وكان توسّط حكم النكاح بين الوصايتين أحسن مناسبة تهَيّىء لعطف هذا الكلام .

فقوله : { وآتوا النساء } عطف على قوله : { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] والقول في معنى الإيتاء فيه سواء . وزاده اتّصالاً بالكلام السابق أنّ ما قبله جرى على وجوب القسط في يتامى النساء ، فكان ذلك مناسبة الانتقال . والمخاطَب بالأمر في أمثال هذا كلّ من له نصيب في العمل بذلك ، فهو خطاب لعموم الأمّة على معنى تناوله لكلّ من له فيه يد من الأزواج والأولياء ثم ولاة الأمور الذين إليهم المرجع في الضرب على أيدي ظلمة الحقوق أربابَها . والمقصود بالخطاب ابتداء هم الأزواج ، لكيلا يتذرّعوا بحياء النساء وضعفهنّ وطلبهنّ مرضاتَهم إلى غمص حقوقهنّ في أكل مهورهنّ ، أو يجعلوا حاجتهنّ للتزوّج لأجل إيجاد كافل لهنّ ذريعة لإسقاط المهر في النكاح ، فهذا ما يمكن في أكل مهورهنّ ، وإلاّ فلهنّ أولياء يطالبون الأزواج بتعيين المهور ، ولكن دون الوصول إلى ولاة الأمور متاعب وكلف قد يملّها صاحب الحقّ فيترك طلبه ، وخاصّة النساء ذوات الأزواج . وإلى كون الخطاب للأزواج ذهب ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وابن جريج ، فالآية على هذا قرّرت دفع المهور وجعلته شرعاً ، فصار المهر ركناً من أركان النكاح في الإسلام ، وقد تقرّر في عدّة آيات كقوله : { فآتوهن أجورهن فريضة وغير ذلك } [ النساء : 24 ] .

والمهر علامة معروفة للتفرقة بين النكاح وبين المخادنة ، لكنّهم في الجاهلية كان الزوج يعطي مالاً لولي المرأة ويسمّونه حلواناً بضم الحاء ولا تأخذ المرأة شيئاً ، فأبطل الله ذلك في الإسلام بأن جعل المال للمرأة بقوله : { وآتوا النساء صداقتهن } .

وقال جماعة : الخطاب للأولياء ، ونقل ذلك عن أبي صالح قال : لأنّ عادة بعض العرب أن يأكل وليّ المرأة مهرها فرفع الله ذلك بالإسلام . وعن الحضرمي : خاطبتْ الآية المتشاغرين الذين كانوا يتزوّجون امرأة بأخرى ، ولعلّ هذا أخذ بدلالة الإشارة وليس صريحَ اللفظ ، وكل ذلك ممّا يحتمله عموم النساء وعموم الصدقات .

والصدُقات جمع صدُقة بضمّ الدال والصدُقة : مهر المرأة ، مشتقّة من الصدق لأنّها عطية يسبقها الوعد بها فيصدقه المعطي .

والنِّحلة بكسر النون العطيّة بلا قصد عوض ، ويقال : نُحْل بضم فسكون . وانتصب نحلة على الحال من « صدقاتهنّ » ، وإنّما صحّ مجيء الحال مفردة وصاحبها جمع لأنّ المراد بهذا المفرد الجنس الصالح للأفراد كلّها ، ويجوز أن يكون نِحلة منصوباً على المصدرية لآتوا لبيان النوع من الإيتاء أي إعطاءَ كرامة .

وسمّيت الصدُقات نحلة إبعاداً للصدقات عن أنواع الأعواض ، وتقريباً بها إلى الهدية ، إذ ليس الصداق عوضاً عن منافع المرأة عند التحقيق ، فإنّ النكاح عقد بين الرجل والمرأة قصد منه المعاشرة ، وإيجاد آصرة عظيمة ، وتبادل حقوق بين الزوجين ، وتلك أغلى من أن يكون لها عوض مالي ، ولو جعل لكان عوضُها جزيلاً ومتجدّداً بتجدّد المنافع ، وامتداد أزمانها ، شأن الأعواض كلّها ، ولكنّ الله جعله هدية واجبة على الأزواج إكراماً لزوجاتهم ، وإنّما أوجبه الله لأنّه تقرّر أنّه الفارق بين النكاح وبين المخادنة والسفاح ، إذ كان أصل النكاح في البشر اختصاص الرجل بامرأة تكون له دون غيره ، فكان هذا الاختصاص يُنال بالقُوّة ، ثمّ اعتاض الناس عن القوّة بذْل الأثمان لأولياء النساء ببيعهم بناتهم ومَوْلَيَاتِهم ، ثمّ ارتقى التشريع وكمُل عقد النكاح ، وصارت المرأة حليلة الرجل شريكته في شؤونه وبقيت الصدُقات أمارات على ذلك الاختصاص القديم تميّز عقد النكاح عن بقية أنواع المعاشرة المذمومة شرعاً وعادة ، وكانت المعاشرة على غير وجه النكاح خالية عن بذل المال للأولياء إذ كانت تنشأ عن الحبّ أو الشهوة من الرجل للمرأة على انفراد وخفية من أهلها ، فمن ذلك الزنى الموقّت ، ومنه المخادنة ، فهي زنا مستمرّ ، وأشار إليها القرآن في قوله : { محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } [ النساء : 25 ] ودون ذلك البغاء وهو الزنا بالإماء بأجور معيّنة ، وهو الذي ذكر الله النهي عنه بقوله : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } [ النور : 33 ] وهنالك معاشرات أخرى ، مثل الضماد وهو أن تتّخذ ذات الزوج رجلاً خليلاً لها في سنة القحط لينفق عليها مع نفقة زوجها . فلأجل ذلك سمّى الله الصداق نِحلة ، فأبعد الذين فسّروها بلازم معناها فجعلوها كناية عن طيب نفس الأزواج أو الأولياء بإيتاء الصدقات ، والذين فسروها بأنّها عطية من الله للنساء فرضها لهنّ ، والذين فسّروها بمعنى الشرع الذي يُنتحل أي يُتَّبع .

وقوله : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً } الآية أي فإن طابت أنفسهنّ لكم بشيء منه أي المذكور . وأفرد ضمير « منه » لتأويله بالمذكور حملاً على اسم الإشارة كما قال رؤبة :

فيها خُطوط من سواد وبلَق *** كأنَّه في الجِلد توليع البَهَق

فقال له أبو عبيدة : إمّا أن تقول : كأنّها إن أردت الخطوط ، وإما أن تقول : كأنّهما إن أردت السواد والبلَق فقال : أردْتُ كأنّ ذلك ، ويْلَك أي أجرى الضمير كما يُجرى اسم الإشارة . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { عوان بين ذلك } في سورة البقرة ( 68 ) . وسيأتي الكلام على ضمير ( مثله ) عند قوله تعالى : { ومثله معه ليفتدوا به } في سورة العقود ( 36 ) .

وجيء بلفظ نفساً مفرداً مع أنّه تمييز نسبة { طبن } إلى ضمير جماعة النساء لأنّ التمييز اسم جنس نكرة يستوي فيه المفرد والجمع . وأسند الطيب إلى ذوات النساء ابتداء ثم جيء بالتمييز للدلالة على قوّة هذا الطيب على ما هو مقرّر في علم المعاني : من الفرق بين واشتعل الرأس شيباً وبين اشتعل شيب رأسي ، ليعلم أنه طيب نفس لا يشوبه شيء من الضغط والإلجاء .

وحقيقة فعل ( طاب ) اتّصاف الشيء بالملاءمة للنفس ، وأصله طيب الرائحة لحسن مشمومها ، وطيب الريح موافقتها للسائر في البحر : { وجرين بهم بريح طيّبة } [ يونس : 22 ] ، ومنه أيضاً ما ترضى به النفس كما تقدّم في قوله تعالى : { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } [ البقرة : 168 ] ثم استعير لما يزكو بين جنسه كقوله : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } [ النساء : 2 ] ومنه فعل { طبن لكم عن شيء منه نفساً } هنا أي رضين بإعطائه دون حرج ولا عسف ، فهو استعارة .

وقوله : { فكلوه } استعمل الأكل هنا في معنى الانتفاع الذي لا رجوع فيه لصاحب الشيء المنتفع به ، أي في معنى تمام التملّك . وأصل الأكل في كلامهم يستعار للاستيلاء على مال الغير استيلاء لا رجوع فيه ، لأنّ الأكل أشدّ أنواع الانتفاع حائلاً بين الشيء وبين رجوعه إلى مستحقّه . ولكنّه أطلق هنا على الانتفاع لأجل المشاكلة مع قوله السابق : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] فتلك محسّن الاستعارة .

و { هنيئاً مريئاً } حالان من الضمير المنصوب وهما صفتان مشبّهتان من هنَا وهَنِيء بفتح النون وكسرها بمعنى ساغ ولم يعقب نغصاً . والمريء من مُرو الطعام مثلث الراء بمعنى هنىء ، فهو تأكيد يُشبه الاتباع . وقيل : الهنيء الذي يلذّه الآكل والمريء ما تحمد عاقبته . وهذان الوصفان يجوز كونهما ترشيحاً لاستعارة { كلوه } بمعنى خذوه أخذ ملك ، ويجوز كونهما مستعملين في انتفاء التبعة عن الأزواج في أخذ ما طابت لهم به نفوس أزواجهم ، أي حلالاً مباحاً ، أو حلالاً لا غرم فيه . وإنّما قال : { عن شيء منه } فجيء بحرف التبعيض إشارة إلى أن الشأن أنّ لا يَعرى العقد عن الصداق ، فلا تسقطه كلّه إلاّ ؛ أنّ الفقهاء لمّا تأوّلوا ظاهر الآية من التبعيض ، وجعلوا هبة جميع الصداق كهبته كلّه أخذاً بأصل العطايا ، لأنّها لمّا قبضته فقد تقرّر ملكها إيّاه ، ولم يأخذ علماء المالكية في هذا بالتهمة لأنّ مبنى النكاح على المكارمة ، وإلاّ فإنّهم قالوا في مسائل البيع : إنّ الخارج من اليد ثم الراجع إليها يعتبر كأنّه لم يخرج ، وهذا عندنا في المالكات أمر أنفسهنّ دون المحجورات تخصيصاً للآية بغيرها من أدلّة الحجر فإنّ الصغيرات غير داخلات هنا بالإجماع . فدخل التخصيص للآية . وقال جمهور الفقهاء : ذلك للثيّب والبكر ، تمسّكاً بالعموم . وهو ضعيف في حمل الآدلّة بعضها على بعض .

واختلف الفقهاء في رجوع المرأة في هبتها بعضَ صداقها : فقال الجمهور : لا رجوع لها ، وقال شريح ، وعبد الملك بن مروان : لها الرجوع ، لأنّها لو طابت نفسها لما رجعت . ورووا أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى قضاته « إنّ النساء يعطين رغبة ورهبة فأيّما امرأة أعطته ، ثمّ أرادت أن ترجع فذلك لها » وهذا يظهر إذا كان ما بين العطيّة وبين الرجوع قريباً ، وحدث من معاملة الزوج بعد العطيّة خلاف ما يؤذن حسن المعاشرة السابق للعطيّة .

وحكم هذه الآية ممّا أشار إليه قوله تعالى : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } [ النساء : 1 ] .