ومع هذا إن وجد منهم بعض الإيمان فلا { يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } فهم وإن أقروا بربوبية الله تعالى ، وأنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور ، فإنهم يشركون في ألوهية الله وتوحيده ، فهؤلاء الذين وصلوا إلى هذه الحال لم يبق عليهم إلا أن يحل بهم العذاب ، ويفجأهم العقاب وهم آمنون ، ولهذا قال : { أَفَأَمِنُوا }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَهُمْ مّشْرِكُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وما يقر أكثر هؤلاء الذين وصف عزّ وجلّ صفتهم بقوله : وكأيّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السّمَواتِ والأرْضِ يَمْرّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ بالله ، أنه خالقه ورازقه وخالق كلّ شيء ، إلا وهم به مشركون في عبادتهم الأوثان والأصنام ، واتخاذهم من دونه أربابا ، وزعمهم أنه له ولدا ، تعالى الله عما يقولون .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ باللّهِ . . . الآية ، قال : من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء ، ومن خلق الأرض ، ومن خلق الجبال ؟ قالوا : الله . وهم مشركون .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سمالك ، عن عكرمة ، في قوله : وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ باللّهِ إلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال : تسألهم من خلقهم ومن خلق السموات والأرض ، فيقولون : الله . فذلك إيمانهم بالله ، وهم يعبدون غيره .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر وعكرمة : وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ باللّهِ . . . الآية ، قالا : يعلمون أنه ربهم ، وأنه خلقهم ، وهم مشركون به .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر وعكرمة بنحوه .
قال : حدثنا ابن نمير ، عن نصر ، عن عكرمة : وَما يُؤْمِنُ أكْثُرُهُمْ باللّهِ إلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال : من إيمانهم إذا قيل لهم : من خلق السموات ؟ قالوا : الله وإذا سئلوا : من خلقهم ؟ قالوا : الله وهم يشركون به بعد .
قال : حدثنا أبو نعيم ، عن الفضل بن يزيد الثمالي ، عن عكرمة ، قال : هو قول الله : وَلَئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ لَيَقُولُنّ اللّهُ فإذا سئلوا عن الله وعن صفته ، وصفوه بغير صفته وجعلوا له ولدا وأشركوا به .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَمَا يُؤْمِنُ أكْثُرُهُمْ باللّهِ إلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ إيمانهم قولهم : الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ باللّهِ إلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ إيمانهم قولهم : الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ باللّهِ إلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ إيمانهم قولهم : الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا ، فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ باللّهِ إلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال : إيمانهم قولهم : الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا هانىء بن سعيد وأبو معاوية ، عن حجاج ، عن القاسم ، عن مجاهد ، قال : يقولون : الله ربنا ، وهو يرزقنا وهم يشركون به بعد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : إيمانهم قولهم : الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا .
قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد وعامر ، أنهم قالوا في هذه الآية : وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ باللّهِ إلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال : ليس أحد إلا وهو يعلم أن الله خلقه وخلق السموات والأرض ، فهذا إيمانهم ، ويكفرون بما سوى ذلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما يُؤمِنُ أكْثَرُهُمْ باللّهِ إلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ في إيمانهم هذا ، إنك لست تلقى أحدا منهم إلا أنبأك أن الله ربه وهو الذي خلقه ورزقه ، وهو مشترك في عبادته .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وما يُؤْمِنُ أكْثَرهُمْ باللّهِ . . . الآية ، قال : لا تسأل أحدا من المشركين من ربك إلا قال : ربي الله ، وهو يشرك في ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ باللّهِ إلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ يعني النصارى . يقول : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأَرْضَ لَيَقُولُنّ الله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقُهُمْ لَيَقُولُنّ الله ولئن سألتهم من يرزقكم من السماء والأرض ؟ ليقولنّ الله . وهم من ذلك يشركون به ويعبدون غيره ويسجدون للأنداد دونه .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : كانوا يشركون به في تلبيتهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن عبد الملك ، عن عطاء : وَما يُؤْمِنُ أكْثرُهُمْ باللّهِ . . . الآية ، قال : يعلمون أن الله ربهم ، وهم يشركون به بعد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، في قوله : وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ باللّهِ إلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال : يعلمون أن الله خالقهم ورازقهم ، وهم يشركون به .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال : سمعت ابن زيد يقول : وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ باللّهِ . . . الآية ، قال : ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله ، ويعرف أن الله ربه ، وأن الله خالقه ورازقه ، وهو يشرك به ألا ترى كيف قال إبراهيم : أفَرأيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أنْتُمْ وآباؤُكُمُ الأقْدَمُونَ فإنّهُمْ عَدُوّ لي إلاّ رَبّ العَالَمِينَ قد عرف أنهم يعبدون ربّ العالمين مع ما يعبدون . قال : فليس أحد يشرك به إلا وهو مؤمن به ، ألا ترى كيف كانت العرب تلبي ، تقول : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك ، إلا شريك هو لك ، تملكه وما ملك ؟ المشركون كانوا يقولون هذا .
وقوله : { وما يؤمن أكثرهم } الآية ، قال ابن عباس : هي في أهل الكتاب الذين يؤمنون بالله ثم يشركون من حيث كفروا بنبيه ، أو من حيث قالوا عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله . وقال عكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد هي في كفار العرب ، وإيمانهم هو إقرارهم بالخالق والرازق والمميت ، فسماه إيماناً وإن أعقبه إشراكهم بالأوثان والأصنام -فهذا الإيمان لغوي فقط من حيث هو تصديقها . وقيل : هذه الآية نزلت بسبب قول قريش في الطواف والتلبية : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع أحدهم يقول : لبيك لا شريك لك ، يقول له : قط قط ، أي قف هنا ولا تزد : إلا شريك هو لك .
جملة { وما يؤمن أكثرهم بالله } في موضع الحال من ضمير { يمرون } أي وما يؤمن أكثر الناس إلا وهم مشركون ، والمراد ب { أكثر الناس } أهل الشرك من العرب . وهذا إبطال لما يزعمونه من الاعتراف بأن الله خالقهم كما في قوله تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } ، وبأن إيمانهم بالله كالعدم لأنهم لا يؤمنون بوجود الله إلا في تشريكهم معه غيره في الإلهية .
والاستثناء من عموم الأحوال ، فجملة { وهم مشركون } حال من { أكثرهم } . والمقصود من هذا تشنيع حالهم . والأظهر أن يكون هذا من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده على وجه التهكم . وإسناد هذا الحكم إلى { أكثرهم } باعتبار أكثر أحْوالهم وأقوالهم لأنهم قد تصدر عنهم أقوال خلية عن ذكر الشريك . وليس المراد أن بعضاً منهم يؤمن بالله غير مشرك معه إلها آخر .