{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق النبيين وعهدهم المؤكد بسبب ما أعطاهم من كتاب الله المنزل ، والحكمة الفاصلة بين الحق والباطل والهدى والضلال ، إنه إن بعث الله رسولا مصدقا لما معهم أن يؤمنوا به ويصدقوه ويأخذوا ذلك على أممهم ، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أوجب الله عليهم أن يؤمن بعضهم ببعض ، ويصدق بعضهم بعضا لأن جميع ما عندهم هو من عند الله ، وكل ما من عند الله يجب التصديق به والإيمان ، فهم كالشيء الواحد ، فعلى هذا قد علم أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتمهم ، فكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لو أدركوه لوجب عليهم الإيمان به واتباعه ونصرته ، وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم ، فهذه الآية الكريمة من أعظم الدلائل على علو مرتبته وجلالة قدره ، وأنه أفضل الأنبياء وسيدهم صلى الله عليه وسلم لما قررهم تعالى { قالوا أقررنا } أي : قبلنا ما أمرتنا به على الرأس والعين { قال } الله لهم : { فاشهدوا } على أنفسكم وعلى أممكم بذلك ، قال { وأنا معكم من الشاهدين } .
{ وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوَاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبيين ، يعني حين أخذ الله ميثاق النبيين ، وميثاقهم : ما وثقوا به على أنفسهم طاعة الله فيما أمرهم ونهاهم . وقد بينا أصل الميثاق باختلاف أهل التأويل فيه بما فيه الكفاية . { لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ } اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق¹ { لَمَا آتَيْتُكُمْ } بفتح اللام من
«لما » ، إلا أنهم اختلفوا في قراءة آتيتكم ، فقرأه بعضهم { آتَيْتُكُمْ } على التوحيد ، وقرأه آخرون : «آتيناكم » ، على الجمع .
ثم اختلف أهل العربية إذا قرىء ذلك كذلك ، فقال بعض نحويي البصرة : اللام التي مع «ما » في أوّل الكلام لام الابتداء ، نحو قول القائل : لزيد أفضل منك ، لأن «ما » اسم ، والذي بعدها صلة لها ، واللام التي في : { لَتُوءْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ } لام القسم ، كأنه قال : والله لتؤمننّ به ، يؤكد في أول الكلام وفي آخره ، كما يقال : أما والله أن لو جئتني لكان كذا وكذا ، وقد يستغنى عنها فيؤكد في لتؤمننّ به باللام في آخر الكلام ، وقد يستغنى عنها ، ويجعل خبر «ما آتيتكم من كتاب وحكمة » ، «لتؤمننّ به » ، مثل : «لعبدالله والله لا آتينه » ، قال : وإن شئت جعلت خبر «ما » «من كتاب » يريد : لما آتيتكم كتابٌ وحكمة ، وتكون «من » زائدة . وخطّأ بعض نحويي الكوفيين ذلك كله ، وقال : اللام التي تدخل في أوائل الجزاء لا تجاب بما ولا «لا » فلا يقال لمن قام : لا تتبعه ، ولا لمن قام : ما أحسن ، فإذا وقع في جوابها «ما » و«لا » علم أن اللام ليست بتوكيد للأولى ، لأنه يوضع موضعها «ما » و«لا » ، فتكون كالأولى ، وهي جواب للأولى . قال : وأما قوله : { لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ } بمعنى إسقاط «من » غلط ، لأن «من » التي تدخل وتخرج لا تقع مواقع الأسماء ، قال : ولا تقع في الخبر أيضا ، إنما تقع في الجحد والاستفهام والجزاء .
وأولى الأقوال في تأويل هذه الآية على قراءة من قرأ ذلك بفتح اللام بالصواب أن يكون قوله : { لَمَا } بمعنى : لمهما ، وأن تكون «ما » حرف جزاء أدخلت عليها اللام ، وصير الفعل معها على فَعَل ، ثم أجيبت بما تجاب به الأيمان ، فصارت اللام الأولى يمينا إذ تلقيت بجواب اليمين .
وقرأ ذلك آخرون : «لِما آتَيْتُكُمْ » بكسر اللام من «لما » ، وذلك قراءة جماعة من أهل الكوفة .
ثم اختلف قارئوا ذلك كذلك في تأويله ، فقال بعضهم : معناه إذا قرىء كذلك : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين للذي آتيتكم ، فما على هذه القراءة بمعنى : الذي عندهم . وكان تأويل الكلام : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين من أجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول : يعني : ثم إن جاءكم رسول ، يعني ذكر محمد في التوراة ، لتؤمنن به ، أي ليكونن إيمانكم به للذي عندكم في التوراة من ذكره .
وقال آخرون منهم : تأويل ذلك إذا قرىء بكسر اللام من «لِما » . وإذ أخذ الله ميثاق النبيين للذي آتاهم من الحكمة ، ثم جعل قوله : لتؤمنن به من الأخذ ، أخذ الميثاق ، كما يقال في الكلام : أخذت ميثاقك لتفعلن لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف . فكان تأويل الكلام عند قائل هذا القول : وإذا استحلف الله النبيين للذي آتاهم من كتاب وحكمة ، متى جاءهم رسول مصدق لما معهم ليؤمننّ به ولينصرنه .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ : { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ } بفتح اللام ، لأن الله عز وجلّ أخذ ميثاق جميع الأنبياء بتصديق كل رسول له ابتعثه إلى خلقه فيما ابتعثه به إليهم ، كان ممن آتاه كتابا ، أو من لم يؤته كتابا . وذلك أنه غير جائز وصف أحد من أنبياء الله عزّ وجلّ ورسله ، بأنه كان ممن أبيح له التكذيب بأحد من رسله . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان معلوما أن منهم من أنزل عليه الكتاب ، وأن منهم من لم ينزل عليه الكتاب ، كان بيّنا أن قراءة من قرأ ذلك : «لِمَا آتَيْتُكُمْ » بكسر اللام ، بمعنى : من أجل الذي آتيتكم من كتاب ، لا وجه له مفهوم إلا على تأويل بعيد ، وانتزاع عميق .
ثم اختلف أهل التأويل فيمن أخذ ميثاقه بالإيمان بمن جاءه من رسل الله مصدّقا لما معه ، فقال بعضهم : إنما أخذ الله بذلك ميثاق أهل الكتاب ، دون أنبيائهم ، واستشهدوا لصحة قولهم بذلك بقوله : { لَتُؤْمِنَنّ بِه وَلتَنْصُرَنّهُ } قالوا : فإنما أمر الذين أرسلت إليهم الرسل من الأمم بالإيمان برسل الله ، ونصرتها على من خالفها . وأما الرسل فإنه لا وجه لأمرها بنصرة أحد ، لأنها المحتاجة إلى المعونة على من خالفها من كفرة بني آدم ، فأما هي فإنها لا تعين الكفرة على كفرها ولا تنصرها . قالوا : وإذا لم يكن غيرها وغير الأمم الكافرة ، فمن الذي ينصر النبيّ ، فيؤخذ ميثاقه بنصرته ؟ ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ } قال : هي خطأ من الكاتب ، وهي في قراءة ابن مسعود : «وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ } يقول : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، وكذلك كان يقرؤها الربيع : «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب » ، إنما هي أهل الكتاب ، قال : وكذلك كان يقرؤها أبيّ بن كعب ، قال الربيع : ألا ترى أنه يقول : { ثُمّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّق لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنَنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ } يقول : لتؤمننّ بمحمد صلى الله عليه وسلم ولتنصرنه ، قال : هم أهل الكتاب .
وقال آخرون : بل الذين أخذ ميثاقهم بذلك الأنبياء دون أممها . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى وأحمد بن حازم قالا : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ } أن يصدّق بعضهم بعضا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ } . . . الآية ، قال : أخذ الله ميثاق الأول من الأنبياء ليصدقنّ وليؤمننّ بما جاء به الآخِر منهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : لم يبعث الله عزّ وجلّ نبيا ، آدم فمن بعده ، إلا أخذ عليه العهد في محمد : لئن بعث وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنه ، ويأمره فيأخذ العهد على قومه ، فقال : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ } . . . الآية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ } . . . الآية ، هذا ميثاق أخذه الله على النبيين أن يصدّق بعضهم بعضا ، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته . فبلغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم ، وأخذ عليهم فيما بلغتهم رسلهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويصدّقوه وينصروه .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ } . . . الآية . قال : لم يبعث الله عزّ وجلّ نبيا قط من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه : ليؤمننّ بمحمد ، ولينصرنه إن خرج وهو حيّ ، وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به ، ولينصرنه إن خرج وهم أحياء .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد بن منصور قال : سألت الحسن ، عن قوله : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِن كِتابٍ وَحِكْمَةٍ } . . . الآية كلها ، قال : أخذ الله ميثاق النبيين : ليبلغنّ آخركم أولكم ولا تختلفوا .
وقال آخرون : معنى ذلك : أنه ميثاق النبيين وأممهم ، فاجتزأ بذكر الأنبياء عن ذكر أممها ، لأن في ذكر أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على التباع ، لأن الأمم هم تبّاع الأنبياء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ثم ذكر ما أخذ عليهم ، يعني على أهل الكتاب ، وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه ، يعني بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم إذا جاءهم ، وإقرارهم به على أنفسهم ، فقال : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ } . . . إلى آخر الآية .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .
وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : الخبر عن أخذ الله الميثاق من أنبيائه بتصديق بعضهم بعضا ، وأخذ الأنبياء على أممها ، وتباعها الميثاق بنحو الذي أخذ عليها ربها ، من تصديق أنبياء الله ورسله بما جاءتها به ، لأن الأنبياء عليهم السلام بذلك أرسلت إلى أممها ، ولم يدّع أحد ممن صدق المرسلين أن نبيا أرسل إلى أمة بتكذيب أحد من أنبياء الله عزّ وجلّ ، وحججه في عباده ، بل كلها ، وإن كذّب بعض الأمم بعض أنبياء الله بجحودها نبوّته ، مقرّ بأن من ثبتت صحة نبوّته ، فعليها الدينونة بتصديقه فذلك ميثاق مقرّ به جميعهم . ولا معنى لقول من زعم أن الميثاق إنما أخذ على الأمم دون الأنبياء ، لأن الله عزّ وجلّ ، قد أخبر أنه أخذ ذلك من النبيين ، فسواء قال قائل : لم يأخذ ذلك منها ربها ، أو قال : لم يأمرها ببلاغ ما أرسلت ، وقد نصّ الله عزّ وجلّ أنه أمرها بتبليغه ، لأنهما جميعا خبران من الله عنها ، أحدهما أنه أخذ منها ، والاَخر منهما أنه أمرها ، فإن جاز الشكّ في أحدهما جاز في الاَخر . وأما ما استشهد به الربيع بن أنس على أن المعنيّ بذلك أهل الكتاب من قوله : { لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرنّهُ } فإن ذلك غير شاهد على صحة ما قال ، لأن الأنبياء قد أمر بعضها بتصديق بعض ، وتصديق بعضها بعضا ، نصرة من بعضها بعضا .
ثم اختلفوا في الذين عنوا بقوله : { ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُوءْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ } فقال بعضهم : الذين عنوا بذلك هم الأنبياء ، أخذت مواثيقهم أن يصدّق بعضهم بعضا ، وأن ينصروه ، وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله .
وقال آخرون : هم أهل الكتاب أمروا بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعثه الله وبنصرته ، وأخذ ميثاقهم في كتبهم بذلك ، وقد ذكرنا الرواية بذلك أيضا عمن قاله .
وقال آخرون ممن قال الذين عنوا بأخذ الله ميثاقهم منهم في هذه الاَية هم الأنبياء ، قوله : { ثُمّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ } معنيّ به أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر . قال : أخبرنا ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ لِمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ } قال : أخذ الله ميثاق النبيين : أن يصدّق بعضهم بعضا ، ثم قال : { ثُمّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُوءْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ } قال : فهذه الآية لأهل الكتاب أخذ الله ميثاقهم أن يؤمنوا بمحمد ويصدّقوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : ثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال : قال قتادة : أخذ الله على النبيين ميثاقهم أن يصدّق بعضهم بعضا ، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالته إلى عباده ، فبلّغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم ، وأخذوا مواثيق أهل الكتاب في كتابهم ، فيما بلغتهم رسلهم ، أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويصدّقوه وينصروه .
وأولى الأقوال بالصواب عندنا في تأويل هذه الآية : أن جميع ذلك خبر من الله عزّ وجلّ عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم به ، وألزمهم دعاء أممهم إليه والإقرار به ، لأن ابتداء الآية خبر من الله عزّ وجلّ عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم ، ثم وصف الذي أخذ به ميثاقهم ، فقال : هو كذا وهو كذا .
وإنما قلنا إن ما أخبر الله أنه أخذ به مواثيق أنبيائه من ذلك ، قد أخذت الأنبياء مواثيق أممها به ، لأنها أرسلت لتدعو عباد الله إلى الدينونة ، بما أمرت بالدينونة به في أنفسها من تصديق رسل الله على ما قدمنا البيان قبل . فتأويل الآية : واذكروا يا معشر أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبيين لمهما آتيتكم أيها النبيون من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول من عندي مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ، يقول : لتصدقنه ولتنصرنه . وقد قال السديّ في ذلك بما :
حدثنا به محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ قوله : { لَمَا آتَيْتُكُمْ } يقول لليهود : أخذت ميثاق النبيين بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي ذكر في الكتاب عندكم .
فتأويل ذلك على قول السديّ الذي ذكرناه : واذكروا يا معشر أهل الكتاب ، إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم أيها اليهود من كتاب وحكمة . وهذا الذي قاله السديّ كان تأويلاً لا وجه غيره لو كان التنزيل «بما آتيتكم » ، ولكن التنزيل باللام لما آتيتكم ، وغير جائز في لغة أحد من العرب أن يقال : أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم ، بمعنى : بما آتيتكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أأقْرَرْتُمْ وأخَذْتُمْ على ذَلِكُمْ إِصْرِي ؟ قَالُوا أقْرَرْنا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين بما ذكر ، فقال لهم تعالى ذكره : أأقررتم بالميثاق الذي واثقتموني عليه من أنكم مهما أتاكم رسول من عندي ، مصدّق لما معكم ، لتؤمننّ به ولتنصرنه ، { وأخَذْتُمْ على ذَلِكُمْ إِصْرِي } يقول : وأخذتم على ما واثقتموني عليه من الإيمان بالرسل التي تأتيكم بتصديق ما معكم من عندي ، والقيام بنصرتهم إصري ، يعني عهدي ووصيتي ، وقبلتم في ذلك مني ورضيتموه . والأخذ : هو القبول في هذا الموضع ، والرضا من قولهم : أخذ الوالي عليه البيعة ، بمعنى : بايعه ، وقبل ولايته ، ورضي بها . وقد بينا معنى الإصر باختلاف المختلفين فيه ، والصحيح من القول في ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وحذفت الفاء من قوله : { قَالَ أأقْرَرْتُمْ } لأنه ابتداء كلام على نحو ما قد بينا في نظائره فيما مضى . وأما قوله : { قَالُوا أقْرَرْنا } فإنه يعني به : قال النبييون الذين أخذ الله ميثاقهم بما ذكر في هذه الآية : أقررنا بما ألزمتنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدّقين لما معنا من كتبك وبنصرتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَاشْهَدُوا وأنا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه ، قال الله : فاشهدوا أيها النبييون بما أخذت به ميثاقكم من الإيمان بتصديق رسلي التي تأتيكم بتصديق ما معكم من الكتاب والحكمة ، ونصرتهم على أنفسكم ، وعلى أتباعكم من الأمم إذ أنتم أخذتم ميثاقهم على ذلك ، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم بذلك . كما :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { قَالَ فَاشْهَدُوا } يقول : فاشهدوا على أممكم بذلك ، { وأنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ } عليكم وعليهم .
{ وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه } قيل إنه على ظاهره ، وإذا كان هذا حكم الأنبياء كان الأمم به أولى . وقيل معناه أنه تعالى أخذ الميثاق من النبيين وأممهم واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم . وقيل إضافة الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الفاعل ، والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم . وقيل المراد أولاد النبيين على حذف المضاف ، وهم بنو إسرائيل ، أو سماهم نبيين تهكما لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون كانوا منا ، واللام في { لما } موطئه للقسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف ، وما تحتمل الشرطية ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط وتحتمل الخبرية . وقرأ حمزة { لما } بالكسر على أن ما مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب ، ثم مجيء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه ، أو موصولة والمعنى أخذه للذي آتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له . وقرئ { لما } بمعنى حين آتيتكم ، أو لمن أجل ما آتيتكم على أن أصله لمن ما بالإدغام فحذف إحدى الميمات الثلاث استثقالا . وقرأ نافع " آتيناكم " بالنون والألف جميعا . { قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري } أي عهدي ، سمي به لأنه يؤصر أي يشد . وقرئ بالضم وهو إما لغة فيه كعبر وعبر أو جمع إصار وهو ما يشد به . { قالوا أقررنا قال فاشهدوا } أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار . وقيل الخطاب فيه للملائكة . { وأنا معكم من الشاهدين } وأنا أيضا على إقراركم وتشاهدكم شاهد ، وهو توكيد وتحذير عظيم .
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنَصُرُنَّهُ }
وقوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } الآية ، المعنى واذكر يا محمد «إذ » ويحتمل أن يكون «أخذ » هذا الميثاق حين أخرج بني آدم من ظهر آدم نسماً ، ويحتمل أن يكون هذا الأخذ على كل نبي في زمنه ووقت بعثه ، ثم جمع اللفظ ، في حكاية الحال في هذه الآية ، والمعنى : أن الله تعالى أخذ ميثاق كل نبي بأنه يلتزم هو ومن آمن به ، الإيمان بمن أوتي بعده من الرسل ، الظاهرة براهينهم والنصرة له ، واختلف المفسرون في العبارة عن مقتضى ألفاظ هذه الآية ، فقال مجاهد والربيع : إنما أخذ ميثاق أهل الكتاب ، لا ميثاق النبيين ، وفي مصحف أبي بن كعب وابن مسعود : «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب » ، قال مجاهد : هكذا هو القرآن ، وإثبات «النبيين » خطأ من الكتاب .
قال الفقيه الإمام : وهذا لفظ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان رضي الله عنه ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : إنما { أخذالله ميثاق النبيين } على قومهم ، فهو أخذ لميثاق الجميع ، وقال طاوس : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما بعث الله نبياً ، آدم فمن بعده ، إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره بأخذه على قومه ، ثم تلا هذه الآية ، وقاله السدي : وروي عن طاوس أنه قال : صدر الآية أخذ الميثاق على النبيين وقوله : { ثم جاءكم } مخاطبة لأهل الكتاب بأخذ الميثاق عليهم .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : حكاه الطبري وهو قول يفسده إعراب الآية{[3289]} ، وهذه الأقوال كلها ترجع إلى ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ، لأن الأخذ على الأنبياء أخذ على الأمم . وقرأ حمزة وغيره سوى السبعة : «لما » بكسر اللام ، وهي لام الجر ، والتقدير لأجل ما أتيناكم ، إذ أنتم القادة الرؤوس ، ومن كان بهذه الحال فهو الذي يؤخذ ميثاقه ، و «ما » في هذه القراءة بمعنى الذي الموصولة ، والعائد إليها من الصلة تقديره آتيناكموه ، و «من » لبيان الجنس ، وقوله ، { ثم جاءكم } الآية ، جملة معطوفة على الصلة ، ولا بد في هذه الجملة من ضمير يعود على الموصول ، فتقديره عند سيبويه : رسول به مصدق لما معكم ، وحذف تخفيفاً كما حذف الذي في الصلة بعينها لطول الكلام ، كما قال تعالى :
{ أهذا الذي بعث الله رسولاً }{[3290]} [ الفرقان : 41 ] والحذف من الصلات كثير جميل ، وأما أبو الحسن الأخفش ، فقال قوله تعالى : { لما معكم } هو العائد عنده على الموصول ، إذ هو في المعنى بمنزلة الضمير الذي قدر سيبويه ، وكذلك قال الأخفش في قوله تعالى : { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين }{[3291]} لأن المعنى لا يضيع أجرهم ، إذ المحسنون هم من يتقي ويصبر ، وكذلك قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملاً }{[3292]} وكذلك ما ضارع هذه الآيات ، وسيبويه رحمه الله لا يرى أن يضع المظهر موقع المضمر ، كما يراه أبو الحسن ، واللام في { لتؤمِننَّ } ، هي اللام المتعلقة للقسم الذي تضمنه أخذ الميثاق وفصل بين القسم والمقسم عليه بالجار والمجرور وذلك جائز .
وقرأ سائر السبعة : «لَما » بفتح اللام ، وذلك يتخرج على وجهين ، أحدهما أن تكون «ما » موصولة في موضع رفع بالابتداء ، واللام لام الابتداء ، وهي متلقية لما أجري مجرى القسم من قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق } وخبر الابتداء قوله { لتؤمنن } ، و { لتؤمنن } متعلق بقسم محذوف ، والمعنى والله لتؤمنن ، هكذا قال أبو علي الفارسي ، وفيه من جهة المعنى نظر ، إذا تأملت على أي شيء وقع التحليف لكنه متوجه بأن الحلف يقع مرتين تأكيداً فتأمل ، والعائد الذي في الصلة ، والعائد الذي في الجملة المعطوفة على الصلة هنا في هذه القراءة هما على حد ما ذكرناهما في قراءة حمزة ، أما أن هذا التأويل يقتضي عائداً من الخبر الذي هو { لتؤمنن } فهو قوله تعالى : { به } فالهاء من { به } عائدة على «ما » ، ولا يجوز أن تعود على { رسول } فيبقى الموصول حينئذ غير عائد عليه من خبره ذكر ، والوجه الثاني الذي تتخرج عليه قراءة القراء «لما » بفتح اللام ، هو أن تكون «ما » للجزاء شرطاً ، فتكون في موضع نصب بالفعل الذي بعدها وهو مجزوم و{ جاءكم } معطوف في موضع جزم ، واللام الداخلة على «ما » ليست المتلقية للقسم ، ولكنها الموطئة المؤذنة بمجيء لام القسم ، فهي بمنزلة اللام في قوله تعالى :
{ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض }{[3293]} لانها مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله ، لنغرينك بهم وكذلك هذه مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله : { لتؤمِننَّ } وهذه اللام الداخلة على «أن » لا يعتمد القسم عليها ، فلذلك جاز حذفها تارة وإثباتها تارة ، كما قال تعالى : { وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم }{[3294]} . قال الزجاج : لأن قولك ، والله لئن جئتني لأكرمنك ، إنما حلف على فعلك{[3295]} ، لأن الشرط معلق به ، فلذلك دخلت اللام على الشرط ، وما في هذا الوجه من كونها جزاء لا تحتاج إلى عائد لأنها مفعولة والمفعول لا يحتاج إلى ذكر عائد .
والضمير في قوله تعالى : { لتؤمِننَّ به } عائد على { رسول } ، وكذلك هو على قراءة من كسر اللام ، وأما الضمير في قوله { ولَتنصرنَه } فلا يحتمل بوجه إلا العود على رسول ، قال أبو علي في الإغفال : وجزاء الشرط محذوف{[3296]} بدلالة قوله { لتؤمنن } عليه ، قال سيبويه : سألته ، يعني الخليل عن قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم } فقال : «ما » هنا بمنزلة الذي ودخلتها اللام كما دخلت على إن ، حين قلت : لئن فعلت لأفعلن ، ثم استمر يفسر وجه الجزاء قال أبو علي : أرد الخليل بقوله : هي بمنزلة الذي ، أنها اسم كما أن الذي اسم ولَم يرد أنها موصولة كالذي ، وإنما فرّ من أن تكون «ما » حرفاً كما جاءت حرفاً في قوله تعالى : { وإن كلاًّ لما ليوفينهم ربك أعمالهم }{[3297]} وفي قوله { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا }{[3298]} ، والله المستعان ، وحكى المهدوي ومكي عن سيبويه والخليل ، : أن خبر الابتداء فيمن جعل «ما » ابتداء على قراءة من فتح اللام هو في قوله : { من كتاب وحكمة } ولا أعرف من أين حكياه لأنه مفسد لمعنى الآية لا يليق بسيبويه ، والخليل ، وإنما الخبر في قوله ، { لتؤمنن } كما قال أبو علي الفارسي ومن جرى مجراه كالزجاج وغيره ، وقرأ الحسن : «لمّا آتيناكم » بفتح اللام وشدها قال أبو إسحاق : أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق ، وتكون اللام تؤول إلى الجزاء ، كما تقول لما جئتني أكرمتك .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويظهر أن «لما » هذه هي الظرفية أي لما كنتم بهذه الحال ، رؤساء الناس وأماثلهم ، أخذ عليكم الميثاق ، إذ على القادة يؤخذ ، فيجيء هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة ، وذهب ابن جني{[3299]} في «لما » في هذه الآية إلى أن أصلها «لمن ما » ، وزيدت «من » في الواجب على مذهب الأخفش ، ثم أدغمت ، كما يجب في مثل هذا ، فجاء لهما ، فثقل اجتماع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى فبقي «لما » ، وتتفسر هذه القراءة على هذا التوجيه المحلق تفسر «لما » بفتح الميم مخففة ، وقد تقدم ، وقرأ نافع وحده ، «آتيناكم » بالنون ، وقرأ الباقون ، «آتيتكم » بالتاء ، و{ رسول } في هذه الآية اسم جنس ، وقال كثير من المفسرين : الإشارة بذلك إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي مصحف ابن مسعود : «مصدقاً » بالنصب على الحال .
{ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ }
هذه الآية هي وصف توقيف الأنبياء على إقرارهم بهذا الميثاق والتزامهم له وأخذ عهد الله فيه ، وذلك يحتمل موطن القسم ، ويحتمل أن يراد بهذه العبارة الجامعة وصف ما فعل مع كل نبي في زمنه ، { وأخذتم } في هذه الآية عبارة عما تحصل لهم من إيتاء الكتاب والحكمة فمن حيث أخذ عليهم أخذوا هم ايضاً وقال الطبري : { أخذتم } في هذه الآية معناه : قبلتم ، و«الإصر » ، العهد ، لا تفسير له في هذا الموضع إلا لذلك ، وقوله تعالى { فاشهدوا } يحتمل معنيين : أحدهما فاشهدوا على أممكم المؤمنين بكم ، وعلى أنفسكم بالتزام هذا العهد ، هذا قول الطبري وجماعة ، والمعنى الثاني ، بثوا الأمر عند أممكم واشهدوا به ، وشهادة الله تعالى هذا التأويل ، وهي التي في قوله { وأنا معكم من الشاهدين } هي إعطاء المعجزات وإقرار نبوءاتهم ، هذا قول الزجّاج وغيره .
قال القاضي أبو محمد : فتأمل أن القول الأول هو إيداع الشهادة واستحفاظها ، والقول الثاني هو الأمر بأدائها .