تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُۖ وَإِنَّآ أَوۡ إِيَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (24)

24 - 27 } { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

يأمر تعالى ، نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، أن يقول لمن أشرك باللّه ويسأله عن حجة شركه : { مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } فإنهم لا بد أن يقروا أنه اللّه ، ولئن لم يقروا ف { قُلِ اللَّهُ } فإنك لا تجد من يدفع هذا القول ، فإذا تبين أن اللّه وحده الذي يرزقكم من السماوات والأرض ، وينزل [ لكم ] المطر ، وينبت لكم النبات ، ويفجر لكم الأنهار ، ويطلع لكم من ثمار الأشجار ، وجعل لكم الحيوانات جميعها ، لنفعكم ورزقكم ، فلم تعبدون معه من لا يرزقكم شيئا ، ولا يفيدكم نفعا ؟ .

وقوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي : إحدى الطائفتين منا ومنكم ، على الهدى ، مستعلية عليه ، أو في ضلال مبين ، منغمرة فيه ، وهذا الكلام يقوله من تبين له الحق ، واتضح له الصواب ، وجزم بالحق الذي هو عليه ، وبطلان ما عليه خصمه .

أي : قد شرحنا من الأدلة الواضحة عندنا وعندكم ، ما به يعلم علما يقينا لا شك فيه ، من المحق منا ، ومن المبطل ، ومن المهتدي ومن الضال ؟ حتى إنه يصير التعيين بعد ذلك ، لا فائدة فيه ، فإنك{[736]}  إذا وازنت بين من يدعو إلى عبادة الخالق ، لسائر المخلوقات المتصرف فيها ، بجميع أنواع التصرفات ، المسدي جميع النعم ، الذي رزقهم وأوصل إليهم كل نعمة ، ودفع عنهم كل نقمة ، الذي له الحمد كله ، والملك كله ، وكل أحد من الملائكة فما دونهم ، خاضعون لهيبته ، متذللون لعظمته ، وكل الشفعاء تخافه ، لا يشفع أحد منهم عنده إلا بإذنه العلي الكبير ، في ذاته ، وأوصافه ، وأفعاله ، الذي له كل كمال ، وكل جلال ، وكل جمال ، وكل حمد وثناء ومجد ، يدعو إلى التقرب لمن هذا شأنه ، وإخلاص العمل له ، وينهى عن عبادة من سواه ، وبين من يتقرب إلى أوثان ، وأصنام ، وقبور ، لا تخلق ، ولا ترزق ، ولا تملك لأنفسها ، ولا لمن عبدها ، نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ، ولا نشورا ، بل هي جمادات ، لا تعقل ، ولا تسمع دعاء عابديها ، ولو سمعته ما استجابت لهم ، ويوم القيامة يكفرون بشركهم ، ويتبرأون منهم ، ويتلاعنون بينهم ، ليس لهم قسط من الملك ، ولا شركة فيه ، ولا إعانة فيه ، ولا لهم شفاعة يستقلون بها دون اللّه ، فهو يدعو مَنْ هذا وصفه ، ويتقرب إليه مهما أمكنه ، ويعادي من أخلص الدين للّه ، ويحاربه ، ويكذب رسل اللّه ، الذين جاءوا بالإخلاص للّه وحده ، تبين{[737]}  لك أي الفريقين ، المهتدي من الضال ، والشقي من السعيد ؟ ولم يحتج إلى أن يعين لك ذلك ، لأن وصف الحال ، أوضح من لسان المقال .


[736]:- ورد في الهامش هنا: فعل الشرط.
[737]:- ورد في الهامش هنا: جواب الشرط.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُۖ وَإِنَّآ أَوۡ إِيَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ وَإِنّآ أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَىَ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم الأوثان والأصنام : من يرزقكم من السموات والأرض بإنزاله الغيث عليكم منها حياة لحروثكم ، وصلاحا لمعايشكم ، وتسخيره الشمس والقمر والنجوم لمنافعكم ، ومنافع أقواتكم ، والأرض بإخراجه منها أقواتكم وأقوات أنعامكم ؟ وترك الخبر عن جواب القوم استغناء بدلالة الكلام عليه ، ثم ذكره ، وهو : فإن قالوا : لا ندري ، فقل : الذي يرزقكم ذلك الله ، وإنا أو إياكم أيها القوم لعلى هُدًى أو في ضلال مبين يقول : قل لهم : إنا لعلى هدى أو في ضلال ، أو إنكم على ضلال أو هُدًى . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ وإنّا أوْ إيّاكُمْ لعَلى هُدًى أوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قال : قد قال ذلك أصحاب محمد للمشركين ، والله ما أنا وأنتم على أمر واحد ، إنّ أحد الفريقين لمهتد .

وقد قال قوم : معنى ذلك : وإنا لعلى هدى ، وإنكم لفي ضلال مبين . ذكر من قال ذلك :

حدثني إسحاق بن إبراهيم الشهيديّ ، قال : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف عن عكرمة وزياد ، في قوله : وَإنّا أوْ إيّاكُمْ لَعَلى هَدًى أوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قال : إنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين .

واختلف أهل العربية في وجه دخول «أو » في هذا الموضع ، فقال بعض نحوييّ البصرة : ليس ذلك لأنه شك ، ولكن هذا في كلام العرب على أنه هو المهتدِي ، قال : وقد يقول الرجل لعبده : أحدنا ضارب صاحبه ، ولا يكون فيه إشكال على السامع أن المولى هو الضارب .

وقال آخر منهم : معنى ذلك : إنا لعلى هدى ، وإنكم إياكم في ضلال مبين ، لأن العرب تضع «أو » في موضع واو الموالاة ، قال جرير :

أثَعْلَبَةَ الفَوَارِسِ أوْ رِياحا *** عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيّةَ والخِشابا

قال : يعني ثعلبة ورياحا ، قال : وقد تكلم بهذا من لا يشكّ في دينه ، وقد علموا أنهم على هدى ، وأولئك في ضلال ، فيقال : هذا وإن كان كلاما واحدا على جهة الاستهزاء ، فقال : هذا لهم ، وقال :

فإنْ يَكُ حُبّهُمْ رُشْدا أُصِبْهُ *** وَلسْتُ بِمُخْطىءٍ إنْ كانَ غَيّا

وقال بعض نحويي الكوفة : معنى «أو » ومعنى الواو في هذا الموضع في المعنى ، غير أن القرينة على غير ذلك لا تكون «أو » بمنزلة الواو ، ولكنها تكون في الأمر المفوّض ، كما تقول : إن شئت فخذ درهما أو اثنين ، فله أن يأخذ اثنين أو واحدا ، وليس له أن يأخذ ثلاثة . قال : وهو في قول من لا يبصر العربية ، ويجعل «أو » بمنزلة الواو ، ويجوز له أن يأخذ ثلاثة ، لأنه في قولهم بمنزلة قولك : خذ درهما أو اثنين قال : والمعنى في إنّا أو إياكُمْ إنا لضالون أو مهتدون ، وإنكم أيضا لضالون ، وهو يعلم أن رسوله المهتدي ، وأن غيره الضالّ . قال : وأنت تقول في الكلام للرجل يكذّبك . واللّهِ إن أحدنا لكاذب ، وأنت تعنيه ، وكذّبته تكذيبا غير مكشوف ، وهو في القرآن وكلام العرب كثير ، أن يوجّه الكلام إلى أحسن مذاهبه ، إذا عرف ، كقول القائل لمن قال : والله لقد قدم فلان ، وهو كاذب فيقول : قل : إن شاء الله ، أو قل : فيما أظنّ ، فيكذّبه بأحسن تصريح التكذيب . قال : ومن كلام العرب أن يقولوا : قاتله الله ، ثم يستقبح فيقولون : قاتله الله ، وكاتعه الله . قال : ومن ذلك : ويحَك ، وويسَك ، إنما هي في معنى : ويْلَك ، إلا أنها دونها .

والصواب من القول في ذلك عندي أن ذلك أمر من الله لنبيه بتكذيب من أمره بخطابه بهذا القول بأجمل التكذيب ، كما يقول الرجل لصاحب له يخاطبه ، وهو يريد تكذيبه في خبر له : أحدنا كاذب ، وقائل ذلك يعني صاحبه ، لا نفسه فلهذا المعنى صير الكلام بأو .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُۖ وَإِنَّآ أَوۡ إِيَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (24)

{ قل من يرزقكم من السماوات والأرض } يريد به تقرير قوله { لا يملكون } . { قل الله } إذ لا جواب سواه ، وفي إشعار بأنهم سكتوا أو تلعثموا في الجواب مخافة الإلزام فهم مقرون به بقلوبهم . { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } أي وإن أحد الفريقين من الموحدين المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية بالعبادة ، والمشركين به الجماد النازل في أدنى المراتب الإمكانية لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال المبينين ، وهو بعد ما تقدم من التقرير البليغ الدال على من هو على الهدى ومن هو في الضلال أبلغ من التصريح لأنه في صورة الانصاف المسكت للخصم المشاغب ، ونظيره قول حسان :

أتهجوه ولست له بكفء *** فشركما لخيركما الفداء

وقيل إنه على اللف والنشر وفيه نظر ، واختلاف الحرفين لان الهادي كمن صعد منارا ينظر الأشياء ويتطلع عليها أو ركب جوادا يركضه حيث يشاء ، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك لا يرى شيئا أو محبوس في مطمورة لا يستطيع أن يتفصى منها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُۖ وَإِنَّآ أَوۡ إِيَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (24)

أمر الله تعالى نبيه على جهة الاحتجاج وإقامة الدليل على أن الرزاق لهم من السماوات والأرض-[ أن يسألهم ]{[9662]} : من هو ؟

ثم أمره أن يقتضب الاحتجاج بأن يأتي جواب السؤال إذ هم في بهتة ووجمة من السؤال ، وإذ لا جواب لهم ولا لمفطور إلا بأن يقول هو الله ، وهذه السبيل في كل سؤال جوابه في غاية الوضوح ، لأن المحتج يريد أن يقتضب ويتجاوز إلى حجة أخرى يوردها ، ونظائر هذا في القرآن كثير وقوله تعالى : { وإنا أو إياكم } تلطف في الدعوة والمحاورة ، والمعنى كما تقول لمن خالفك في مسألة أحدنا يخطىء ، أي تثبت وتنبه ، والمفهوم من كلامك أن مخالفك هو المخطىء ، وكذلك هذا معناه { لعلى هدى أو في ضلال مبين } فلينتبه ، والمقصد أن الضلال في حيز المخاطبين وحذف أحد الخبرين لدلالة الباقي عليه{[9663]} ، وقال أبو عبيدة { أو } في الآية بمعنى واو النسق ، والتقدير «وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين » وهما خبران غير مبتدأين .

قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا القول غير متجه واللفظ لا يساعده وإن كان المعنى على كل قول يقتضي أن الهدى في حيز المؤمنين والضلال في حيز الكافرين .


[9662]:ما بين العلامتين زيادة يحتاج إليها المعنى.
[9663]:هذا الأسلوب يسمى في علم البيان: استدراج المخاطب، يذكر المتكلم له أمرا يسلمه وإن كان هو على خلاف ما ذكر حتى يصغي إليه، ولا يزال ينقله من حال إلى حال حتى يتبين له الحق ويقبله، ومثاله من الشعر العربي قول حسان: أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء والآية الكريمة فوق ما فيها من التلطف في الدعوة والمحاورة فإنها تتضمن الإنصاف، وتحمل معنى التورية والتعريض، والرد بهما أبلغ من الرد بالتصريح، ومن ذلك قول العرب:أخزى الله الكاذب مني ومنك، يقول ذلك من يتيقن أن صاحبه هو الكاذب، ولكنه يوبخه بلفظ غير مكشوف. و[أو] هنا على موضوعها لكونها لأحد الشيئين أو الأشياء، وخبر{إنا أو إياكم} هو قوله تعالى:{لعلى هدى أو في ضلال مبين}، ولا يحتاج إلى تقدير حذف؛ إذ المعنى: إن أحدنا لفي أحد هذين، كقولك: زيد أو عمرو في المسجد أو في البيت، والمعنى: أحد هذين في أحد هذين.