لما أمر المؤمنين بغض الأبصار وحفظ الفروج ، أمر المؤمنات بذلك ، فقال : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } عن النظر إلى العورات والرجال ، بشهوة ونحو ذلك من النظر الممنوع ، { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } من التمكين من جماعها ، أو مسها ، أو النظر المحرم إليها . { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } كالثياب الجميلة والحلي ، وجميع البدن كله من الزينة ، ولما كانت الثياب الظاهرة ، لا بد لها منها ، قال : { إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي : الثياب الظاهرة ، التي جرت العادة بلبسها إذا لم يكن في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها ، { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } وهذا لكمال الاستتار ، ويدل ذلك على أن الزينة التي يحرم إبداؤها ، يدخل فيها جميع البدن ، كما ذكرنا . ثم كرر النهي عن إبداء زينتهن ، ليستثني منه قوله : { إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } أي : أزواجهن { أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ } يشمل الأب بنفسه ، والجد وإن علا ، { أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن } ويدخل فيه الأبناء وأبناء البعولة مهما نزلوا { أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ } أشقاء ، أو لأب ، أو لأم . { أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ } أي : يجوز للنساء أن ينظر بعضهن إلى بعض مطلقا ، ويحتمل أن الإضافة تقتضي الجنسية ، أي : النساء المسلمات ، اللاتي من جنسكم ، ففيه دليل لمن قال : إن المسلمة لا يجوز أن تنظر إليها الذمية .
{ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } فيجوز للمملوك إذا كان كله للأنثى ، أن ينظر لسيدته ، ما دامت مالكة له كله ، فإن زال الملك أو بعضه ، لم يجز النظر . { أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ } أي : أو الذين يتبعونكم ، ويتعلقون بكم ، من الرجال الذين لا إربة لهم في هذه الشهوة ، كالمعتوه الذي لا يدري ما هنالك ، وكالعنين الذي لم يبق له شهوة ، لا في فرجه ، ولا في قلبه ، فإن هذا لا محذور من نظره .
{ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } أي : الأطفال الذين دون التمييز ، فإنه يجوز نظرهم للنساء الأجانب ، وعلل تعالى ذلك ، بأنهم لم يظهروا على عورات النساء ، أي : ليس لهم علم بذلك ، ولا وجدت فيهم الشهوة بعد ودل هذا ، أن المميز تستتر منه المرأة ، لأنه يظهر على عورات النساء .
{ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } أي : لا يضربن الأرض بأرجلهن ، ليصوت ما عليهن من حلي ، كخلاخل وغيرها ، فتعلم زينتها بسببه ، فيكون وسيلة إلى الفتنة .
ويؤخذ من هذا ونحوه ، قاعدة سد الوسائل ، وأن الأمر إذا كان مباحا ، ولكنه يفضي إلى محرم ، أو يخاف من وقوعه ، فإنه يمنع منه ، فالضرب بالرجل في الأرض ، الأصل أنه مباح ، ولكن لما كان وسيلة لعلم الزينة ، منع منه .
ولما أمر تعالى بهذه الأوامر الحسنة ، ووصى بالوصايا المستحسنة ، وكان لا بد من وقوع تقصير من المؤمن بذلك ، أمر الله تعالى بالتوبة ، فقال : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ } لأن المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة ثم علق على ذلك الفلاح ، فقال : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة ، وهي الرجوع مما يكرهه الله ، ظاهرا وباطنا ، إلى : ما يحبه ظاهرا وباطنا ، ودل هذا ، أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة ، لأن الله خاطب المؤمنين جميعا ، وفيه الحث على الإخلاص بالتوبة في قوله : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ } أي : لا لمقصد غير وجهه ، من سلامة من آفات الدنيا ، أو رياء وسمعة ، أو نحو ذلك من المقاصد الفاسدة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَىَ جُيُوبِهِنّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنّ أَوْ آبَآئِهِنّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ أَبْنَآئِهِنّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِيَ إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنّ أَوْ نِسَآئِهِنّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىَ عَوْرَاتِ النّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنّ وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَقُلْ يا محمد للْمُؤْمِناتِ من أمتك يَغْضُضْنَ مِنْ أبْصَارِهِنّ عما يكره الله النظر إليه مما نهاكم عن النظر إليه وَيحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ يقول : ويحفظن فروجهنّ على أن يراها من لا يحلّ له رؤيتها ، بلبس ما يسترها عن أبصارهم .
وقوله : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ يقول تعالى ذكره : ولا يُظْهرن للناس الذين ليسوا لهنّ بمحرم زينتهنّ ، وهما زينتان : إحداهما : ما خفي ، وذلك كالخَلْخال والسّوارين والقُرْطَين والقلائد . والأخرى : ما ظهر منها ، وذلك مختلف في المعنىّ منه بهذه الآية ، فكان بعضهم يقول : زينة الثياب الظاهرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن الحجاج ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود ، قال : الزينة زينتان : فالظاهرة منها الثياب ، وما خفي : الخلخالان والقُرطان والسّواران .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني الثوريّ ، عن أبي إسحاق الهمدانيّ ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، أنه قال : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها : قال : هي الثياب .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها قال : الثياب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، مثله .
قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن زيد ، عن عبد الله ، مثله .
قال : حدثنا سفيان ، عن علقمة ، عن إبراهيم ، في قوله : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها : قال : الثياب .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا بعض أصحابنا إما يونس ، إوما غيره عن الحسن ، في قوله : إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها قال : الثياب .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله : إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها قال : الثياب .
قال أبو إسحاق : ألا ترى أنه قال : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ ؟ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : حدثنا محمد بن الفضل ، عن الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن زيد ، عن ابن مسعود : إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها قال : هو الرداء .
وقال آخرون : الظاهر من الزينة التي أبيح لها أن تبديه : الكحل ، والخاتم ، والسواران ، والوجه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مروان ، قال : حدثنا مسلم المَلائي ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها قال : الكحل والخاتم .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الأمُليّ ، قال : حدثنا مروان ، عن مسلم المَلائيّ ، عن سعيد بن جُبير ، مثله ، ولم يذكر ابن عباس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن أبي عبد الله نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الظاهر منها : الكحل والخَدّان .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن مسلم بن هُرْمز ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : وَلايُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها قال : الوجه والكفّ .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن عبد الله بن مسلم بن هُرمز المكيّ ، عن سعيد بن جُبير ، مثله .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا أبو عمرو ، عن عطاء في قول الله : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها قال : الكفّان والوجه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ عن سعيد ، عن قَتادة قال : الكحل ، والسوران والخاتم .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها قال : والزينة الظاهرة : الوجه ، وكُحل العين ، وخِضاب الكفّ ، والخاتم فهذه تظهر في بيتها لمن دخل من الناس عليها .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها قال : المسكتان والخاتم والكحل . قال قتادة : وبلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «لا يحِلّ لاِمْرأةٍ تُوْمِنُ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ أنْ تُخْرِجَ يَدَها إلاّ إلى هَا هُنا » . وقبض نصف الذراع .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، عن رجل ، عن المِسْورَ بن مخرمة ، في قوله : إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها قال : القلبين ، والخاتم ، والكحل : يعني السوار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها قال : الخاتم والمَسَكة . قال ابن جُرَيج ، وقالت عائشة : القُلْب والفَتْخَة ، قالت عائشة : دخلت عليّ ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينّة ، فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأعرض ، فقالت عائشة : يا رسول الله إنها ابنة أخي وجارية . فقال : «إذا عَرَكَت المرأة لم يحلّ لها أن تظهر إلا وَجْهها ، وإلاّ ما دون هذا » ، وقبض على ذراع نفسه ، فترك بين قبضته وبين الكفّ مثل قبضة أخرى . وأشار به أبو علي قال ابن جُرَيج ، وقال مجاهد : قوله : إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها قال : الكحل والخضاب والخاتم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن عامر : إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها قال : الكحل ، والخضاب ، والثياب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها من الزينة : الكحل ، والخضاب والخاتم هكذا كانوا يقولون وهذا يراه الناس .
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : حدثنا عمر بن أبي سلمة ، قال : سئل الأوزاعي عن : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها قال : الكفّين والوجه .
حدثنا عمرو بن بندق ، قال : حدثنا مروان ، عن جُويبر ، عن الضحاك في قوله : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ قال : الكفّ والوجه .
وقال آخرون : عَنَى به الوجه والثياب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : قال يونس : وَلا يُبْدِينَ زِينِتَهُنّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها قال الحسن : الوجه والثياب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، وعبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قَتادة ، عن الحسن ، في قوله : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها قال : الوجه والثياب .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : قول من قال : عُنِي بذلك الوجهُ والكفان ، يدخل في ذلك إذا كان كذلك : الكحل ، والخاتم ، والسّوار ، والخِضاب .
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل ، لإجماع الجميع على أن على كلّ مصلّ أن يستر عورته في صلاته ، وأن المرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها ، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها إلا ما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أباح لها أن تبديَه من ذراعها إلى قدر النصف . فإذ كان ذلك من جميعهم إجماعا ، كان معلوما بذلك أن لها أن تبدي من بدنها ما لم يكن عورة كما ذلك للرجال لأن ما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره . وإذا كان لها إظهار ذلك ، كان معلوما أنه مما استثناه الله تعالى ذكره بقوله : إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها ، لأن كل ذلك ظاهر منها .
وقوله : وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ على جُيُوبِهِنّ يقول تعالى ذكره : وليلقين خُمُرَهنّ ، وهي جمع خمار ، على جيوبهنّ ، ليسترن بذلك شعورهنّ وأعناقهن وقُرْطَهُنّ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، عن إبراهيم بن نافع ، قال : حدثنا الحسن بن مسلم بن يناق ، عن صفية بنت شيبة ، عن عائشة ، قالت : لما نزلت هذه الآية : وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ على جُيوبِهِنّ قال : شققن البُرْدَ مما يلي الحواشي ، فاختمرن به .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أن قرة بن عبد الرحمن ، أخبره ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها قالت : يرحم الله النساء المهاجرات الأول لما أنزل الله : وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرُهِنّ على جُيُوبِهِنّ شققن أكثف مروطهنّ ، فاختمرن به .
وقوله : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ لِبُعُولَتِهِنّ يقول تعالى ذكره : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ التي هي غير ظاهرة بل الخفية منها ، وذلك الخَلخال والقُرط والدّمْلُج ، وما أُمرت بتغطيته بخمارها من فوق الجيب ، وما وراء ما أبيح لها كشفه وإبرازه في الصلاة وللأجنبيين من الناس ، والذراعين إلى فوق ذلك ، إلاّ لبعولتهنّ .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ) ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن طلحة بن مُصَرّف ، عن إبراهيم : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ لِبُعُولَتِهِنّ أوْ آبائِهِنّ قال : هذه ما فوق الذراع .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، قال : سمعت رجلاً يحدّث عن طلحة ، عن إبراهيم ، قال في هذه الآية : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ لِبُعُولَتِهِنّ أوْ آبائِهِنّ أو آباء بُعُولَتِهِنّ قال : ما فوق الجيب . قال شعبة : كتب به منصور إليّ ، وقرأته عليه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قَتادة ، في قوله : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ لِبُعُولَتِهِنّ قال : تبدي لهؤلاء الرأس .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ لِبُعُولَتِهِنّ . . . إلى قوله : عَوْرَاتِ النّساءِ قال : الزينة التي يبدينها لهؤلاء : قرطاها وقلادتها وسِوارها ، فأما خلخالاها ومِعْضدَاها ونحرها وشعرها فإنه لا تبديه إلا لزوجها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قال ابن مسعود ، في قوله : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ لِبُعُولَتِهِنّ قال : الطوق والقُرْطين ، يقول الله تعالى ذكره : قل للمؤمنات الحرائر لا يظهرن هذه الزينة الخفية التي ليست بالظاهرة إلا لبعولتهنّ ، وهم أزواجهن ، واحدهم : بعل ، أو لاَبائهنّ ، أو لأبناء بعولتهن ، أو لإخوانهن ، أو لبني إخوانهن .
ويعني بقوله : أوْ لإخْوَانِهِنّ أو لإخْوَاتِهِنّ ، أو لبني إخوانهن ، أو بني أخواتهن ، أو نسائهم . قيل : عُني بذلك نساء المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : أوْ نِسائِهِنّ قال : بلغني أنهنّ نساء المسلمين ، لا يحلّ لمسلمة أن ترى مشركة عُرْيتها إلا أن تكون أمة لها ، فذلك قوله : أوْ ما مَلَكَتْ أيمانُهُنّ .
قال : ثني الحسين ، قال : ثني عيسى بن يونس ، عن هشام بن الغازي ، عن عبادة بن نسيّ ، أنه كره أن تقبل النصرانية المسلمة ، أو ترى عَوْرتها ، ويتأوّل : أو نسائهنّ .
قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن هشام ، عن عبادة ، قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عُبيدة بن الجرّاح رحمة الله عليهما : أما بعد ، فقد بلغني أن نساء يدخلن الحمامات ومعهنّ نساء أهل الكتاب ، فامنع ذلك وْحُلْ دونه قال : ثم إن أبا عُبيدة قام في ذلك المقام مبتهلاً : اللهمّ أيما امرأة تدخل الحمام من غير علة ولا سقم تريد البياض لوجهها ، فسوّد وجهها يوم تبيضّ الوجوه .
وقوله : أوْ ما مَلَكَتْ أيمانُهُنّ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : أو مماليكهنّ ، فإنه لا بأس عليها أن تظهر لهم من زينتها ما تظهره لهؤلاء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار ، عن مخلد التميميّ ، أنه قال ، في قوله : أوْ ما مَلَكَتْ أيمْانُهُنّ قال : في القراءة الأولى : «أيمانكم » .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أو ما ملكت أيمانهنّ من إماء المشركين ، كما قد ذكرنا عن ابن جُرَيج قبل من أنه لما قال : أوْ نِسائهنّ عَنَى بهنّ النساء المسلمات دون المشركات ، ثم قال : أو ما ملكت أيمانهنّ من الإماء المشركات .
يقول تعالى ذكره : والذين يَتْبَعونكم لطعام يأكلونه عندكم ، ممن لا أرب له في النساء من الرجال ، ولا حاجة إليهنّ ، ولا يريدهنّ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أوِ التّابِعِينَ غيرِ أُولى الإرْبَةِ مِنَ الرّجالِ قال : كان الرجل يتبع الرجل في الزمان الأوّل لا يغار عليه ولا ترهب المرأة أن تضع خمارها عنده ، وهو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أَوِ التّابِعِينَ غيرِ أُولى الإرْبَةِ مِنَ الرّجالِ فهذا الرجل يتبع القوم ، وهو مُغَفّل في عقله ، لا يكترث للنساء ولا يشتهيهنّ ، فالزينة التي تبديها لهؤلاء : قرطاها وقلادتها وسِواراها وأما خَلْخالاها ومِعْضداها ونحرها وشعرها ، فإنها لا تبديه إلا لزوجها .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : أوِ التّابِعِينَ قال : هو التابع يتبعك يصيب من طعامك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا إسماعيل بن عُلَيّة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أوِ التّابِعِينَ غيرِ أُولى الإرْبَةِ مِنَ الرّجالِ قال : الذي يريد الطعام ولا يريد النساء .
قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أوِ التّابِعِينَ غيرِ أُولى الإرْبَةِ مِنَ الرّجالِ الذين لا يهمهم إلا بطونهم ، ولا يُخافون على النساء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا إسماعيل بن موسى السّديّ ، قال : حدثنا شريك ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : غيرِ أُولى الإِرْبَةِ قال : الأَبْلَه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد ، قوله : غيرِ أُولي الإِرْبَةِ قال : هو الأبلَه ، الذي لا يعرف شيئا من النساء .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : غيرِ أُولى الإرْبَةِ مِنَ الرّجالِ الذي لا أرب له بالنساء مثل فلان .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق عمن حدثه ، عن ابن عباس : غير أُولى الإرْبَةِ قال : هو الذي لا تستحي منه النساء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مُغَيرة ، عن الشعبيّ : غيرِ أُولى الإرْبَةِ قال : من تَبَع الرجل وحشمه الذي لم يبلغ أَرَبه أن يطلع على عَورة النساء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن المغيرة ، عن الشعبيّ : غيرِ أُولى الإرْبَةِ قال : الذي لا أرب له في النساء .
قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا حماد بن سَلَمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير ، قال : المعتوه .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهريّ في قوله : أوِ التّابِعِينَ غَيرِ أُولى الإرْبَةِ مِنَ الرّجالِ قال : هو الأحمق ، الذي لا همّة له بالنساء ولا أرب .
وبه عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، في قوله : غيرِ أُولى الإرْبَةِ مِنَ الرّجالِ يقول : الأحمق ، الذي ليست له همة في النساء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : الذي لا حاجة له في النساء .
حدثني يونس ، اقل : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أوَ التّابِعِينَ غيرِ أُولى الإرْبَةِ مِنَ الرجالِ قال : هو الذي يَتْبَع القوم ، حتى كأنه كان منهم ونشأ فيهم ، وليس يتبعهم لإربة نسائهم ، وليس له في نسائهم إِربة ، وإنما يتبعهم لإرفاقهم إياه .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم مُخَنّث ، فكانوا يعدّونه من غير أولي الإِربة ، فدخل عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة ، فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لا أرَى هَذَا يَعْلَمُ ما هَا هُنا ، لا يَدْخُلَنّ هَذَا عَلَيْكُمْ »فحَجَبُوه .
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكَم المِصريّ ، قال : حدثنا حفص بن عمر العَدَنيّ ، قال : حدثنا الحكم ابن أبان ، عن عكرمة في قوله : أوِ التّابِعِينَ غيرِ أُولى الإرْبَةِ قال : هو المُخَنّث الذي لا يقوم زُبّه .
واختلف القرّاء في قوله : غير أُولي الإرْبَةِ فقرأ ذلك بعض أهل الشام وبعض أهل المدينة والكوفة : «غيرَ أُولى الإرْبَةِ » بنصب «غير » ولنصب «غير » ها هنا وجهان : أحدهما على القطع من «التابعين » ، لأن «التابعين » معرفة وغير نكرة ، والاَخر على الاستثناء ، وتوجيه «غير » إلى معنى «إلا » ، فكأنه قيل : إلاّ . وقرأ غير من ذكرت بخفض غَيرِ على أنها نعت للتابعين ، وجاز نعت «التابعين » ب«غير » و«التابعون » معرفة وغيرُ نكرة ، لأن «التابعين » معرفة غير مؤقتة . فتأويل الكلام على هذه القراءة : أو الذين هذه صفتهم .
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان متقاربتا المعنى مستفيضةٌ القراءة بهما في الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، غير أن الخفض في «غير » أقوى في العربية ، فالقراءة به أعجب إليّ . والإربة : الفِعْلة من الأَرَب ، المثل الجِلسة من الجُلوس ، والمِشية من المَشْي ، وهي الحاجة يقال : لا أرب لي فيك : لا حاجة لي فيك وكذا أَرِبْتُ لكذا وكذا : إذا احتجت إليه ، فأنا آرب له أَرَبا . فأما الأُرْبة ، بضم الألف : فالعُقْدة .
وقوله : أوِ الطّفْلِ الّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا على عَوْرَاتِ النّساءِ يقول تعالى ذكره : أو الطفل الذين لم يكشفوا عن عورات النساء بجماعهنّ فيظهروا عليهن لصغرهنّ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : على عَوْرَاتِ النّساءِ قال : لم يَدْروا ما ثَمّ ، من الصّغَر قبل الحُلُم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
وقوله : ولا يَضْرِبْنَ بأرْجُلِهِنّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنّ يقول تعالى ذكره : ولا يجعلن في أرجلهنّ من الحُلِيّ ما إذا مَشَيْن أو حرّكنهنّ علم الناس الذين مشين بينهم ما يخفين من ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : زعم حَضْرِميّ أن امرأة اتخذت بُرَتَيْن من فضة ، واتخذت جَزْعا ، فمرّت على قوم ، فضربت برجلها ، فوقع الخلخال على الجَزْع ، فصوّت فأنزل الله : وَلا يَضْرِبْنَ بأرْجُلِهِنّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنّ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن السديّ ، عن أبي مالك : وَلا يَضْرِبْنَ بأرْجُلِهِنّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنّ قال : كان في أرجلهم خَرَز ، فكنّ إذا مررن بالمجالس حرّكن أرجلهنّ ليعلم ما يُخْفين من زينتهنّ .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَلا يَضْرِبنَ بأرْجُلِهِنّ فهو أن تَقَرَع الخَلْخال بالاَخر عند الرجال ، ويكون في رجليها خلاخل فتحرّكهنّ عند الرجال ، فنهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك لأنه من عمل الشيطان .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : وَلا يَضْرِبْنَ بأرْجُلِهِنّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنّ قال : هو الخَلْخال ، لا تضرب امرأة برجلها ليسمع صوت خَلْخالها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا يَضْرِبْنَ بأرْجُلِهِنّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنّ قال : الأجراس من حُلِيهّنّ يجعلنها في أرجلهنّ في مكان الخلاخل ، فنهاهنّ الله أن يضربن بأرجلهنّ لتسمع تلك الأجراس .
وقوله : وَتُوبُوا إلى الله جَمِيعا أيّها المُؤْمِنُونَ يقول تعالى ذكره : وارجعوا أيها المؤمنون إلى طاعة الله فيما أمركم ونهاكم ، من غَضّ البَصر وحفظ الفرج وتَرْك دخول بيوت غير بيوتكم من غير استئذان ولا تسليم ، وغير ذلك من أمره ونهيه . لَعّلَكُمْ تُفْلِحُونَ يقول : لتفلحوا وتدركوا طَلِباتكم لديه ، إذا أنتم أطعتموه فيما أمركم ونهاكم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وَقُلْ" يا محمد "للْمُؤْمِناتِ "من أمتك "يَغْضُضْنَ مِنْ أبْصَارِهِنّ" عما يكره الله النظر إليه مما نهاكم عن النظر إليه "وَيحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ" يقول: ويحفظن فروجهنّ على أن يراها من لا يحلّ له رؤيتها، بلبس ما يسترها عن أبصارهم.
وقوله: "وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ" يقول تعالى ذكره: ولا يُظْهرن للناس الذين ليسوا لهنّ بمحرم زينتهنّ، وهما زينتان: إحداهما: ما خفي، وذلك كالخَلْخال والسّوارين والقُرْطَين والقلائد. والأخرى: ما ظهر منها، وذلك مختلف في المعنىّ منه بهذه الآية؛ فكان بعضهم يقول: زينة الثياب الظاهرة... عن ابن مسعود، قال: الزينة زينتان: فالظاهرة منها الثياب، وما خفي: الخلخالان والقُرطان والسّواران...
وقال آخرون: الظاهر من الزينة التي أبيح لها أن تبديه: الكحل، والخاتم، والسواران، والوجه...والكفان...
وقال آخرون: عَنَى به الوجه والثياب...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال: عُنِي بذلك الوجهُ والكفان، يدخل في ذلك إذا كان كذلك: الكحل، والخاتم، والسّوار، والخِضاب.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل، لإجماع الجميع على أن على كلّ مصلّ أن يستر عورته في صلاته، وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها إلا ما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أباح لها أن تبديَه من ذراعها إلى قدر النصف، فإذ كان ذلك من جميعهم إجماعا، كان معلوما بذلك أن لها أن تبدي من بدنها ما لم يكن عورة كما ذلك للرجال لأن ما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره، وإذا كان لها إظهار ذلك، كان معلوما أنه مما استثناه الله تعالى ذكره بقوله: إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها، لأن كل ذلك ظاهر منها.
وقوله: "وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ على جُيُوبِهِنّ" يقول تعالى ذكره: وليلقين خُمُرَهنّ، وهي جمع خمار، على جيوبهنّ، ليسترن بذلك شعورهنّ وأعناقهن وقُرْطَهُنّ...
وقوله: "وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إلاّ لِبُعُولَتِهِنّ" يقول تعالى ذكره: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ التي هي غير ظاهرة بل الخفية منها، وذلك الخَلخال والقُرط والدّمْلُج، وما أُمرت بتغطيته بخمارها من فوق الجيب، وما وراء ما أبيح لها كشفه وإبرازه في الصلاة وللأجنبيين من الناس، والذراعين إلى فوق ذلك، إلاّ لبعولتهنّ...
عن ابن عباس، قال "وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ"... إلى قوله: "عَوْرَاتِ النِّسَاءِ" قال: الزينة التي يبدينها لهؤلاء: قرطاها، وقلادتها، وسوارها، فأما خلخالاها ومعضداها ونحرها وشعرها، فإنه لا تبديه إلا لزوجها...
قال ابن جُرَيج، قال: ابن مسعود، في قوله: "وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ" قال: الطوق والقرطين، يقول الله تعالى ذكره: قل للمؤمنات الحرائر: لا يظهرن هذه الزينَة الخفية التي ليست بالظاهرة إلا لبعولتهنّ، وهم أزواجهن، واحدهم بعل، أو لآبائهنّ، أو لآباء بعولتهن: يقول أو لآباء أزواجهن، أو لأبنائهن، أو لأبناء بعولتهن، أو لإخوانهن، أو لبني إخوانهن، ويعني بقوله: أو لإخوانهن أو لأخواتهن، أو لبني إخوانهن، أو بني أخواتهن، أو نسائهن. قيل: عني بذلك نساء المسلمين...لا يحلّ لمسلمة أن ترى مشركة عريتها، إلا أن تكون أمة لها، فذلك قوله: "أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ"...
وقوله: "أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ" اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال: بعضهم: أو مَمَالِيكُهُنَّ، فإنه لا بأس عليها أن تظهر لهم من زينتها ما تظهره لهؤلاء...
وقال: آخرون: بل معنى ذلك: أو ما ملكت أيمانهنّ من إماء المشركين، كما قد ذكرنا عن ابن جُرَيج قبل من أنه لما قال: "أَوْ نِسَائِهِنَّ" عنى بهن النساء المسلمات دون المشركات، ثم قال: أو ما ملكت أيمانهن من الإماء المشركات...
"أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"
يقول تعالى ذكره: والذين يتبعونكم لطعام يأكلونه عندكم، ممن لا أرب له في النساء من الرجال، ولا حاجة به إليهنّ، ولا يريدهنّ...
عن ابن عباس، قوله: "أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ" فهذا الرجل يتبع القوم، وهو مغفل في عقله، لا يكترث للنساء، ولا يشتهيهنّ، فالزينة التي تبديها لهؤلاء: قرطاها وقلادتها وسواراها، وأما خلخالاها ومعضداها ونحرها وشعرها، فإنها لا تبديه إلا لزوجها...
والإربة: الفِعْلة من الأَرَب... وهي الحاجة، يقال: لا أرب لي فيك: لا حاجة لي فيك، وكذا أَرِبْتُ لكذا وكذا: إذا احتجت إليه...
وقوله: "أوِ الطّفْلِ الّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا على عَوْرَاتِ النّساءِ" يقول تعالى ذكره: أو الطفل الذين لم يكشفوا عن عورات النساء بجماعهنّ فيظهروا عليهن لصغرهنّ...
عن مجاهد، قوله: "على عَوْرَاتِ النّساءِ" قال: لم يَدْروا ما ثَمّ، من الصّغَر قبل الحُلُم.
وقوله: "وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ" يقول تعالى ذكره: ولا يجعلن في أرجلهنّ من الحليّ ما إذا مشين أو حرّكنهنّ، علم الناس الذين مشين بينهم ما يخفين من ذلك...
وقوله: "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ" يقول تعالى ذكره: وارجعوا أيها المؤمنون إلى طاعة الله فيما أمركم ونهاكم من غضّ البصر، وحفظ الفرج، وترك دخول بيوت غير بيوتكم، من غير استئذان ولا تسليم، وغير ذلك من أمره ونهيه؛ "لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" يقول: لتفلحوا وتدركوا طلباتكم لديه، إذا أنتم أطعتموه فيما أمركم ونهاكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم ذكر في الآية المحارم جميعا إلا الأعمام والأخوال. قال بعضهم: إنما لم يذكرهم في هذه الآية لأنها تحل لبنيهم بالنكاح، فكره أن يصفوها لبنيهم ولهذا كره في ما كره من المرأة المسلمة إبداء الزينة الخفية للكافرة من اليهودية والنصرانية لما لعلها تصف ذلك للمشركين، فيرغبون فيها، ويتكلفون ذلك...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} والزينة ما أدخلته المرأة على بدنها حتى زانها وحسنها في العيون كالحلي والثياب والكحل والخضاب...
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهنَّ} الخمر المقانع أمِرن بإلقائها على صدورهن تغطية لنحورهن فقد كن يلقينها على ظهورهن بادية نحورهن، وقيل: كانت قمصهن مفروجة الجيوب كالدراعة يبدو منها صدروهن فأمرن بإلقاء الخمر لسترها. وكنى عن الصدور بالجيوب لأنها ملبوسة عليها...
{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} يعني الزينة الباطنة إبداؤها للزوج استدعاء لميله وتحريكاً لشهوته...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "وليضربن بخمرهن على جيوبهن "فالخمار غطاء رأس المرأة المنسبل على جبينها وجمعه خمر، وقال الجبائي: هي المقانع.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المطالبةُ عليهن كالمطالبة على الرجال لشمولِ التكليف للجنسين، فالواجبُ عليهن تركُ المحظوراتِ، والندبُ والنَّفْلُ لهن صونُ القلب عن الشواغل والخواطر الردية...
{وَتُوبُوا إِلّى اللَّهِ جميعاً أَيُّهَ المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. التوبةُ الرجوعُ عن المذموماتِ من الأفعال إلى أضدادها المحمودة، وجميع المؤمنين مأمورون بالتوبة، فتوبةٌ عن الزَّلَّةِ وهي توبة العوام، وتوبة عن الغفلة وهي توبة الخواص...
ويقال أمَر الكافة بالتوبةِ؛ العاصين بالرجوع إلى الطاعة من المعصية، والمطيعين من رؤية الطاعة إلى رؤية التوفيق، وخاصَّ الخاصِّ من رؤية التوفيق إلى مشاهدة الموفِّق...
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} يتبين أنَّه أمَرَهم بالتوبة لينتفعوا هم بذلك، لا ليكون للحقِّ -سبحانه- بتوبتهم وطاعتهم تجمُّلٌ. ويقال أحوجُ الناس إلى التوبة مَنْ تَوَهَّمَ أنَّه ليس يحتاج إلى التوبة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
النساء مأمورات أيضاً بغضّ الأبصار، ولا يحلّ للمرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما تحت سرته إلى ركبته، وإن اشتهت غضّت بصرها رأساً، ولا تنظر من المرأة إلاّ إلى مثل ذلك، وغضها بصرها من الأجانب أصلاً أولى بها وأحسن...
فإن قلت: لم قدّم غضّ الأبصار على حفظ الفروج؟ قلت: لأنّ النظر بريد الزنى ورائد الفجور، والبلوى فيه أشدّ وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{أو الطفل} اسم جنس بمعنى الجمع ويقال طفل ما لم يراهق الحلم...
اختلفوا في المراد بزينتهن، واعلم أن الزينة اسم يقع على محاسن الخلق التي خلقها الله تعالى وعلى سائر ما يتزين به الإنسان من فضل لباس أو حلى وغير ذلك، وأنكر بعضهم وقوع اسم الزينة عل الخلقة، لأنه لا يكاد يقال في الخلقة إنها من زينتها، وإنما يقال ذلك فيما تكتسبه من كحل وخضاب وغيره، والأقرب أن الخلقة داخلة في الزينة، ويدل عليها وجهان:
الأول: أن الكثير من النساء ينفردن بخلقتهن عن سائر ما يعد زينة، فإذا حملناه على الخلقة وفينا العموم حقه، ولا يمنع دخول ما عدا الخلقة فيه أيضا.
الثاني: أن قوله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} يدل على أن المراد بالزينة ما يعم الخلقة وغيرها فكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقتهن بأن أوجب سترها بالخمار...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
"وقل للمؤمنات" خص الله سبحانه وتعالى الإناث هنا بالخطاب على طريق التأكيد، فإن قوله "قل للمؤمنين" يكفي؛ لأنه قول عام يتناول الذكر والأنثى من المؤمنين، حسب كل خطاب عام في القرآن...
الخمر: جمع الخمار، وهو ما تغطي به رأسها، ومنه اختمرت المرأة وتخمرت، وهي حسنة الخِمرة.
والجيوب: جمع الجيب، وهو موضع القطع من الدرع والقميص، وهو من الجوب وهو القطع...
"لبعولتهن" والبعل هو الزوج والسيد في كلام العرب.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{وليضربن بخمرهن على جيوبهن} الجيوب: هي التي يقول: لها العامة أطواق، وسببها أن النساء كن في ذلك الزمان يلبسن ثيابا واسعات الجيوب يظهر منها صدورهن، وكن إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة سدلها من وراء الظهر، فيبقى الصدر والعنق والأذنان لا ستر عليها، فأمرهن الله بلي الأخمرة على الجيوب ليستر جميع ذلك...
{وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون} التوبة واجبة على كل مؤمن مكلف، بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وفرائضها ثلاث: الندم على الذنب من حيث عُصيَ به ذو الجلال، لا من حيث أضر ببدن أو مال، والإقلاع عن الذنب في أول أوقات الإمكان من غير تأخير ولا توان، والعزم أن لا يعود إليها أبدا ومهما قضى عليه بالعود أحدث عزما مجددا. وآدابها ثلاثة: الاعتراف بالذنب مقرونا بالانكسار، والإكثار من التضرع والاستغفار، والإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من السيئات.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والزينة حلال للمرأة، تلبية لفطرتها. فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة، وأن تبدو جميلة. والزينة تختلف من عصر إلى عصر؛ ولكن أساسها في الفطرة واحد، هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله، وتجليته للرجال. والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية؛ ولكنه ينظمها ويضبطها، ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد -هو شريك الحياة- يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه. ويشترك معه في الاطلاع على بعضها، المحارم والمذكورون في الآية بعد، ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاع. فأما ما ظهر من الزينة في الوجه واليدين، فيجوز كشفه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أردف أمر المؤمنين بأمر المؤمنات لأن الحكمة في الأمرين واحدة، وتصريحاً بما تقرر في أوامر الشريعة المخاطب بها الرجال من أنها تشمل النساء أيضاً. ولكنه لما كان هذا الأمر قد يظن أنه خاص بالرجال لأنهم أكثر ارتكاباً لضده وقع النص على هذا الشمول بأمر النساء بذلك أيضاً.
وانتقل من ذلك إلى نهي النساء عن أشياء عرف منهن التساهل فيها ونهيهن عن إظهار أشياء تعوّدْن أن يحببن ظهورها وجمعها القرآن في لفظ الزينة بقوله: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}.
والزينة: ما يحصل به الزين. والزين: الحسن، مصدر زانه... والزينة قسمان خِلقية ومكتسبة. فالخلقية: الوجه والكفان أو نصف الذراعين، والمكتسبة: سبب التزين من اللباس الفاخر والحلي والكحل والخضاب بالحناء. وقد أطلق اسم الزينة على اللباس في قوله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31] وقوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} في سورة الأعراف (32)، وعلى اللباس الحسن في قوله {قال موعدكم يوم الزينة} [طه: 59]. والتزين يزيد المرأة حسناً ويلفت إليها الأنظار لأنها من الأحوال التي لا تقصد إلا لأجل التظاهر بالحسن فكانت لافتة أنظار الرجال، فلذلك نهى النساء عن إظهار زينتهن إلا للرجال الذين ليس من شأنهم أن تتحرك منهم شهوة نحوها لحرمة قرابة أو صهر.
واستثني ما ظهر من الزينة وهو ما في ستره مشقة على المرأة أو في تركه حرج على النساء وهو ما كان من الزينة في مواضع العمل التي لا يجب سترها مثل الكحل والخضاب والخواتيم...
والظاهر من الزينة الخلقية ما في إخفائه مشقة كالوجه والكفين والقدمين، وضدها الخفية مثل أعالي الساقين والمعصمين والعضدين والنحر والأذنين. والظاهر من الزينة المصطنعة ما في تركه حرج على المرأة من جانب زوجها وجانب صورتها بين أترابها ولا تسهل إزالته عند البدوّ أمام الرجال وإرجاعه عند الخلو في البيت، وكذلك ما كان محل وضعه غير مأمور بستره كالخواتيم بخلاف القرط والدمالج...
فمعنى {ما ظهر منها} ما كان موضعه مما لا تستره المرأة وهو الوجه والكفان والقدمان.
وفسر جمع من المفسرين الزينة بالجسد كله، وفسر ما ظهر بالوجه والكفين قيل والقدمين والشعر. وعلى هذا التفسير فالزينة الظاهرة هي التي جعلها الله بحكم الفطرة بادية يكون سترها معطلاً الانتفاع بها أو مدخلاً حرجاً على صاحبتها وذلك الوجه والكفان، وأما القدمان فحالهما في الستر لا يعطل الانتفاع ولكنه يعسره لأن الحفاء غالب حال نساء البادية. فمن أجل ذلك اختلف في سترهما الفقهاء؛ ففي مذهب مالك قولان: أشهرهما أنها يجب ستر قدميها، وقيل: لا يجب، وقال أبو حنيفة: لا يجب ستر قدميها، أما ما كان من محاسن المرأة ولم يكن عليها مشقة في ستره فليس مما ظهر من الزينة مثل النحر والثدي والعضد والمعصم وأعلى الساقين، وكذلك ما له صورة حسنة في المرأة وإن كان غير معرى كالعجيزة والأعكان والفخذين ولم يكن مما في إرخاء الثوب عليه حرج عليها...
وجمهور الأئمة على أن استثناء إبداء الوجه والكفين من عموم منع إبداء زينتهن يقتضي إباحة إبداء الوجه والكفين في جميع الأحوال لأن الشأن أن يكون للمستثنى جميع أحوال المستثنى منه. وتأوله الشافعي بأنه استثناء في حالة الصلاة خاصة دون غيرها وهو تخصيص لا دليل عليه.
ونُهِين عن التساهل في الخِمرة. والخمار: ثوب تضعه المرأة على رأسها لستر شعرها وجيدها وأذنيها وكان النساء ربما يسدلن الخمار إلى ظهورهن كما تفعل نساء الأنباط فيبقى العنق والنحر والأذنان غير مستورة فلذلك أُمرْنَ بقوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}.
والضرب: تمكين الوضع وتقدم في قوله تعالى: {إن الله لا يستحيِ أن يضرب مثلاً} في سورة البقرة (26).
والمعنى: ليشددن وضع الخمر على الجيوب، أي بحيث لا يظهر شيء من بشرة الجيد.
والباء في قوله {بخمرهن} لتأكيد اللصوق مبالغة في إحكام وضع الخمار على الجيب زيادة على المبالغة المستفادة من فعل {يضربن}.
والجُيوب: جمع جيب بفتح الجيم وهو طوق القميص مما يلي الرقبة. والمعنى: وليضعن خمرهن على جيوب الأقمصة بحيث لا يبقى بين منتهى الخمار ومبدأ الجَيب ما يظهر منه الجيد.
وقوله: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} أعيد لفظ {ولا يبدين زينتهن} تأكيداً لقوله {ولا يبدين زينتهن} المتقدم وليبني عليه الاستثناء في قوله: {إلا لبعولتهن} إلخ الذي مقتضى ظاهره أن يعطف على {إلا لبعولتهن} لبعد ما بين الأول والثاني، أي ولا يبدين زينتهن غير الظاهرة إلا لمن ذُكروا بعد حرف الاستثناء لشدة الحرج في إخفاء الزينة غير الظاهرة في أوقات كثيرة، فإن الملابسة بين المرأة وبين أقربائها وأصهارها المستثنين ملابسة متكررة فلو وجب عليها ستر زينتها في أوقاتها كان ذلك حرجاً عليها.
وذكرت الآية اثني عشر مستثنى كلهم ممن يكثر دخولهم. وسكتت الآية عن غيرهم ممن هو في حكمهم بحسب المعنى...
ولم يذكر في عداد المستثنيات العم والخال، فاختلف العلماء في مساواتهما في ذلك: فقال الحسن والجمهور: هما مساويان لمن ذكر من المحارم، وهو ظاهر مذهب مالك إذ لم يذكر المفسرون من المالكية مثل ابن الفرس وابن جزي عنه المنع. وقال الشعبي بالمنع وعلل التفرقة بأن العم والخال قد يصفان المرأة لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم. وهذا تعليل واهٍ لأن وازع الإسلام يمنع من وصف المرأة.
والظاهر أن سكوت الآية عن العم والخال ليس لمخالفة حكمهما حكم بقية المحارم ولكنه اقتصار على الذين تكثر مزاولتهم بيت المرأة، فالتعداد جرى على الغالب. ويلحق بهؤلاء القرابة من كان في مراتبهم من الرضاعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". وجزم بذلك الحسن، ولم أر فيه قولاً للمالكية. وظاهر الحديث أن فيهم من الرخصة ما في محارم النسب والصهر.
{وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}.
الضرب بالأرجل إيقاع المشي بشدة كقوله: يضرب في الأرض.
روى الطبري عن حضرمي: أن امرأة اتخذت بُرتين (تثنية بُرَة بضم الباء وتخفيف الراء المفتوحة ضرب من الخَلْخَال) من فضة واتخذت جَزْعاً في رجليها فمرت بقوم فضربت برجلها فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية.
والتحقيق أن من النساء من كن إذا لبسن الخلخال ضربن بأرجلهن في المشي بشدة لتسمع قعقعة الخلاخل غنجاً وتباهياً بالحسن فنهين عن ذلك مع النهي عن إبداء الزينة.
قال الزجاج: سماع هذه الزينة أشد تحريكاً للشهوة من النظر للزينة فأما صوتُ الخلخال المعتادُ فلا ضير فيه...
وهذا يقتضي النهي عن كل ما من شأنه أن يُذَكِّرَ الرجل بلهو النساء ويثير منه إليهن من كل ما يُرى أو يسمع من زينة أو حركة كالتثني والغناء وكلم الغَزَل. ومن ذلك رقص النساء في مجالس الرجال ومن ذلك التلطخ بالطيب الذي يغلب عبيقه. وقد أومأ إلى علة ذلك قوله تعالى: {ليعلم ما يخفين من زينتهن} ولعن النبي صلى الله عليه وسلم المستوشمات والمتفلجات للحسن...
{وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
أعقبت الأوامر والنواهي الموجهة إلى المؤمنين والمؤمنات بأمر جميعهم بالتوبة إلى الله إيماء إلى أن فيما أمروا به ونهوا عنه دفاعاً لداع تدعو إليه الجبلة البشرية من الاستحسان والشهوة فيصدر ذلك عن الإنسان عن غفلة ثم يتغلغل هو فيه فأمروا بالتوبة ليحاسبوا أنفسهم على ما يفلت منهم من ذلك اللمم المؤدي إلى ما هو أعظم.
والجملة معطوفة على جملة: {قل للمؤمنين} [النور: 30]. ووقع التفات من خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خطاب الأمة لأن هذا تذكير بواجب التوبة المقررة من قبل وليس استئناف تشريع.
ونبه بقوله: {جميعاً} على أن المخاطبين هم المؤمنون والمؤمنات وإن كان الخطاب ورد بضمير التذكير على التغليب، وأن يؤملوا الفلاح إن هم تابوا وأنابوا.