ثم ذكر تعالى حال المتولي عن طاعة ربه ، وأنه لا يتولى إلى خير ، بل إلى شر ، فقال : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } أي : فهما أمران ، إما التزام لطاعة الله ، وامتثال لأوامره ، فثم الخير والرشد والفلاح ، وإما إعراض عن ذلك ، وتولٍ عن طاعة الله ، فما ثم إلا الفساد في الأرض بالعمل بالمعاصي وقطيعة الأرحام .
ثم بين - سبحانه - ما هو متوقع منهم ، ووجه الخطاب إليهم على سبيل الالتفات ليكون أزجر لهم ، فقال : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : وهذه الآية فيها إشارة إلى فساد قول قالوه ، وهو أنهم كانوا يقولون : كيف نقاتل العرب وهم من ذوى أرحامنا وقبائلنا .
والاستفهام للتقرير المؤكد ، وعسى للتوقع ، وفى قوله { إِن تَوَلَّيْتُمْ } وجهان : أحدهما : أنه من الولاية ، يعنى : فهل يتوقع منكم - أيها المنافقون - إن أخذتم الولاية وسار الناس بأمركم ، إلا فساد فى الأرض وقطع الأرحام ؟
وثانيهما : أنه من التولى بمعنى الإِعراض وهذا أنسب - أى : إن كنتم تتركون القتال ، وتقولون فيه الإِفاسد وقطع الأرحام ، لكون الكفار أقاربنا ، فإن فى هذه الحالة لا يتوقع منكم إلا الإِفساد وقطع الأرحام كما كان حالكم فى الجاهلية .
وعلى كلا القولين فالمقصود من الآية توبيخهم على جبنهم وكراهتهم لما يأمرهم به النبى - صلى الله عليه وسلم - من الجهاد فى سبيل الله - تعالى - ، وتقريعهم على أعذارهم الباظلة ، ببيان أنهم لو أعرضوا عن القتال وخالفوا تعاليم الإِسلام فلن يكون منهم إلا الإِفساد وقطع الأرحام ، وكذلك سيكون حالهم لو تولوا أمور الناس ، وكانوا حكاما لهم .
وقوله : { أَن تُفْسِدُواْ } خبر عسى ، وقوله : { إِن تَوَلَّيْتُمْ . . } جملة معترضة ، وجواب { إِن } محذوف لدلالة قوله : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ } عليه .
أى : ما يتوقع منكم إلا الإِفساد وقطع الأرحام ، إن أعرضتم عن تعاليم الإِسلام ، أو إن توليتم أمور الناس ، فأحذروا أن يكون منكم هذا التولى الذى سيفضى بكم إلى سوء المصير ، الذى بينه - سبحانه –
مقتضى تناسق النظم أن هذا مفرع على قوله : { فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم } [ محمد : 21 ] لأنه يفهم منه أنه إذا عزم الأمر تولوا عن القتال وانكشف نفاقهم فتكون إتماماً لما في الآية السابقة من الإنباء بما سيكون من المنافقين يوم أُحُد . وقد قال عبد الله بن أبي : عَلاَم نقتل أنفسنا ها هنا ؟ وربما قال في كلامه : وكيف نقاتل قريشاً وهم من قومنا ، وكان لا يرى على أهل يثرب أن يقاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ويرى الاقتصار على أنهم آووه . والخطاب موجّه إلى الذين في قلوبهم مرض على الالتفات .
والاستفهام مستعمل في التكذيب لما سيعتذرون به لانخزالهم ولذلك جيء فيه ب { هل } الدالة على التحقيق لأنّها في الاستفهام بمنزلة ( قد ) في الخبر ، فالمعنى : أفيتحقق إن توليتم أنكم تفسدون في الأرض وتقطعون أرحامكم وأنتم تزعمون أنكم توليتم إبقاء على أنفسكم وعلى ذوي قرابة أنسابكم على نحو قوله تعالى : { قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا } [ البقرة : 246 ] وهذا توبيخ كقوله تعالى : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم } [ البقرة : 85 ] . والمعنى : أنكم تقعون فيما زعمتم التّفادي منه وذلك بتأييد الكفر وإحداث العداوة بينكم وبين قومكم من الأنصار . فالتولّي هنا هو الرجوع عن الوجهة التي خرجوا لها كما في قوله تعالى : { فلما كتب عليهم القتال تولّوا إلا قليلاً منهم } [ البقرة : 246 ] وقوله : { أفرأيت الذي تولّى } [ النجم : 33 ] وقوله : { فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى } [ طه : 60 ] . وبمثله فسر ابن جريج وقتادة على تفاوتتٍ بين التفاسير . ومن المفسرين من حمل التولّي على أنه مطاوع وَلاّه إذا أعطاه ولاية ، أي ولاية الحكم والإمارة على الناس وبه فسر أبو العالية والكلبي وكعب الأحبار . وهذا بعيد من اللفظ ومن النظم وفيه تفكيك لاتصال نظم الكلام وانتقال بدون مناسبة ، وتجاوز بعضهم ذلك فأخذ يدعي أنها نزلت في الحرورية ومنهم من جعلها فيما يحدث بين بني أمية وبني هاشم على عادة أهل الشيع والأهواء من تحميل كتاب الله ما لا يتحمله ومن قصر عموماته على بعض ما يراد منها .
وقرأ نافع وحده { عَسِيتُم } بكسر السين . وقرأه بقية العشرة بفتح السين وهما لغتان في فعل عسى إذا اتصل به ضمير . قال أبو علي الفارسي : وجه الكسر أن فعله : عَسِي مثل رَضِي ، ولم ينطقوا به إلاّ إذا أسند هذا الفعل إلى ضمير ، وإسناده إلى الضمير لغة أهل الحجاز ، أما بنو تميم فلا يسندونه إلى الضمير البتة ، يقولون : عسى أن تفعلوا .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف أنهم إذا نزلت سورة محكمة، وذُكر فيها القتال نظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر المغشيّ عليه "فَهَلْ عَسَيْتُمْ "أيها القوم، يقول: فلعلكم إن توليتم عن تنزيل الله جلّ ثناؤه، وفارقتم أحكام كتابه، وأدبرتم عن محمد صلى الله عليه وسلم وعما جاءكم به "أنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ" يقول: أن تعصوا الله في الأرض، فتكفروا به، وتسفكوا فيها الدماء "وَتُقَطّعُوا أرْحامَكُمْ" وتعودوا لما كنتم عليه في جاهليتكم من التشتت والتفرّق بعد ما قد جمعكم الله بالإسلام، وألّف به بين قلوبكم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إن الآية في المنافقين؛ كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمعون منه ما قال، ثم إذا تولّوا عنه كانوا يسعون في الأرض بالفساد...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما معنى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ... أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض}؟ قلت: معناه: هل يتوقع منكم الإفساد؟
فإن قلت: فكيف يصح هذا في كلام الله عز وعلا وهو عالم بما كان وبما يكون؟ قلت: معناه إنكم لما عهد منكم أحقاء بأن يقول لكم كل من ذاقكم وعرف تمريضكم ورخاوة عقدكم في الإيمان: يا هؤلاء، ما ترون؟ هل يتوقع منكم إن توليتم أمور الناس وتأمرتم عليهم لما تبين منكم من الشواهد ولاح من المخايل {أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرض وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ} تناحرا على الملك وتهالكا على الدنيا؟ وقيل: إن أعرضتم وتوليتم عن دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض: بالتغاور والتناهب، وقطع الأرحام: بمقاتلة بعض الأقارب بعضاً ووأد البنات؟... وفي قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «تُوِلِّتُم» أي: إن تولاكم ولاة غشمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وأفسدتم بإفسادهم؟
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والمعنى: فهل عسى أن تفعلوا {إن توليتم} غير {أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم}،...
وهذه الآية فيها إشارة إلى فساد قول قالوه، وهو أنهم كانوا يقولون كيف نقاتل والقتل إفساد والعرب من ذوي أرحامنا وقبائلنا؟ فقال تعالى: {إن توليتم} لا يقع منكم إلا الفساد في الأرض فإنكم تقتلون من تقدرون عليه وتنهبونه والقتال واقع بينكم، أليس قتلكم البنات إفسادا وقطعا للرحم؟ فلا يصح تعللكم بذلك مع أنه خلاف ما أمر الله وهذا طاعة... {إن توليتم}... من التولي الذي هو الإعراض... أي كنتم تتركون القتال وتقولون فيه الإفساد وقطع الأرحام لكون الكفار أقاربنا فلا يقع منكم إلا ذلك حيث تقاتلون على أدنى شيء كما كان عادة العرب... فلم تتقاعدون عن القتال وتتباعدون في الضلال...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
هل يمكن عندكم نوع إمكان وتتوقعون شيئاً من توقع أن يكون حالكم جديراً وخليقاً لتغطية علم العواقب عنكم فتخافون من أنفسكم...
. {إن توليتم} أي بأنفسكم عن الجهاد الذي أمركم به ربكم الذي عرفكم من فوائده ما لا مزيد عليه مما لا يتركه معه عاقل ولا يتخيل تركه إلا على سبيل الفرض -بما أشارت إليه أداة الشرط -... {أن تفسدوا} أي توقعوا الإفساد العظيم الذي يستمر تجديده منكم {في الأرض} بقتال يكرهه الله ويسخطه ويغضب أشد غضب على فاعله وتكونوا في غاية الجرأة عليه... {وتقطعوا} تقطعياً عظيماً شديداً كثيراً منتشراً كبيراً {أرحامكم} فتكونوا بذلك أعزة على المؤمنين كما كنتم أذلة على الكافرين، وأقل ما في إعراضكم خذلانكم للمؤمنين المجاهدين بما قد يكون سبباً لظهور الكافرين عليهم فتكونوا بذلك قد جمعتم بين قطيعة- أرحامهم وفقدكم لما كان يصل إليكم من منافعهم...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
ولا ريبَ في أنَّ الإعراضَ عن الإسلامِ رأسُ كلِّ شرَ وفسادٍ فحقُّه أنْ يجعلَ عمدةً في التوبيخِ لا وسيلةً للتوبيخِ بما دونَهُ من المفاسدِ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم؟).. وهذا التعبير.. (هل عسيتم).. يفيد ما هو متوقع من حال المخاطبين. ويلوح لهم بالنذير والتحذير.. احذروا فإنكم منتهون إلى أن تعودوا إلى الجاهلية التي كنتم فيها. تفسدون في الأرض وتقطعون الأرحام، كما كان شأنكم قبل الإسلام..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
مقتضى تناسق النظم أن هذا مفرع على قوله: {فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم} [محمد: 21] لأنه يفهم منه أنه إذا عزم الأمر تولوا عن القتال وانكشف نفاقهم فتكون إتماماً لما في الآية السابقة من الإنباء بما سيكون من المنافقين يوم أُحُد. وقد قال عبد الله بن أبي: عَلاَم نقتل أنفسنا ها هنا؟ وربما قال في كلامه: وكيف نقاتل قريشاً وهم من قومنا، وكان لا يرى على أهل يثرب أن يقاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ويرى الاقتصار على أنهم آووه. والخطاب موجّه إلى الذين في قلوبهم مرض على الالتفات.
والاستفهام مستعمل في التكذيب لما سيعتذرون به لانخزالهم ولذلك جيء فيه ب {هل} الدالة على التحقيق لأنّها في الاستفهام بمنزلة (قد) في الخبر، فالمعنى: أفيتحقق إن توليتم أنكم تفسدون في الأرض وتقطعون أرحامكم وأنتم تزعمون أنكم توليتم إبقاء على أنفسكم وعلى ذوي قرابة أنسابكم على نحو قوله تعالى: {قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا} [البقرة: 246] وهذا توبيخ كقوله تعالى: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم} [البقرة: 85]. والمعنى: أنكم تقعون فيما زعمتم التّفادي منه وذلك بتأييد الكفر وإحداث العداوة بينكم وبين قومكم من الأنصار. فالتولّي هنا هو الرجوع عن الوجهة التي خرجوا لها كما في قوله تعالى: {فلما كتب عليهم القتال تولّوا إلا قليلاً منهم} [البقرة: 246] وقوله: {أفرأيت الذي تولّى} [النجم: 33] وقوله: {فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى} [طه: 60]. وبمثله فسر ابن جريج وقتادة على تفاوتتٍ بين التفاسير. ومن المفسرين من حمل التولّي على أنه مطاوع وَلاّه إذا أعطاه ولاية، أي ولاية الحكم والإمارة على الناس وبه فسر أبو العالية والكلبي وكعب الأحبار. وهذا بعيد من اللفظ ومن النظم وفيه تفكيك لاتصال نظم الكلام وانتقال بدون مناسبة، وتجاوز بعضهم ذلك فأخذ يدعي أنها نزلت في الحرورية ومنهم من جعلها فيما يحدث بين بني أمية وبني هاشم على عادة أهل الشيع والأهواء من تحميل كتاب الله ما لا يتحمله ومن قصر عموماته على بعض ما يراد منها.