اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَهَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن تَوَلَّيۡتُمۡ أَن تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوٓاْ أَرۡحَامَكُمۡ} (22)

قوله : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ } أي فلعلكم إن توليتم أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه { أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض } ، تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية تفسدوا في الأرْضِ بالمعصية والبَغْي وسَفْكِ الدماء وترجعون إلى الفُرْقة بعدما جمعكم الله بالإسلام !

قوله : { أَن تُفْسِدُواْ } خبر عسى{[51435]} . والشرط مُعْتَرِضٌ بينهما وجوابه محذوف لدلاَلَةِ : «فَهَلْ عَسَيْتُمْ » عليه أو هو يفسره «فَهَلْ عَسَيْتُمْ » ، عند من يرى تقديمه .

وقرأ علي رضي الله عنه «إن تُوُلِّيتُمْ » بضم التاء والواو وكسر اللام مبنياً للمفعول من الولاية أي وُلِّيتم أمور الناس{[51436]} . وقال ابن الخطيب : لولا تولاَّكم ولاةٌ ظلمة ، جُفاة غَشَمَة ومشيتم معهم لفسدتم وقطعت الأرحام والنبي عليه الصلاة والسلام لا يأمركم إلا بصلة الأرحام فلم تتقاعدون عن القتال ؟ ! . والأول أظهر ومعناه إن كنتم تتركون القتال وتقولون فيه الإفساد ، وقطع الأرحام وكون الكفار أقاربنا فلا يقع منكم إلا ذلك ، حيث تَتَقاَتَلُونَ على أدنى شيءٍ كما كان عادة العرب الأُوَل{[51437]} . ( وقرئ : وُليتم من الولاية أيضاً{[51438]} ) .

فصل

قال ابن الخطيب : في استعمال «عسى » ثلاثة مذاهب :

أحدها الإتيان بها على صورة فعل ماض معه فاعل تقول : عَسَ زَيْدٌ ، وعَسَيْنَا وعَسَوْا ، وعَسَيْتُمَا ، وعَسَيْتُ وعَسَيْتُنَّ وعَسَيْنَا{[51439]} وعَسَيْتُنَّ .

والثاني : أن يؤتى بها على صورة فعل ومفعول يقال : عَسَاهُ ، وعَسَاهُمَا ، وعَسَاكَ ، وَعَسَاكُمَا وعَسَايَ وعَسَانَا{[51440]} .

الثالث : الإتيانُ بها من غير أن يُقْرَن بها شيء{[51441]} تقول : عَسَى زَيْدٌ يَخْرُجُ ، وعَسَى أَنْتَ تَخْرُجُ ، وعَسَى أَنَا أخْرُجُ ، والكل متوجه ما عليه كلام الله أوجه ، لأن «عسى » من الأفعال الجامدة ، واقتران الفاعل بالفعل الأولى من اقتران المفعول ، لأن الفاعل كالجزء من الفعل ولهذا لم يجوزوا فيه أرْبَعَ متحركات في مثل قول القائل : بَصُرْتُ{[51442]} وجوزوا في مثل قولنا : بَصَرُكَ{[51443]} . وقد تقدم الكلام في «عسى » مشْبَعاً .

وفي قوله : «عَسَيْتُم » إلى آخره ، التفات من غيبة في قوله : { الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } إلى خطابهم بذلك زيادة في توبيخهم والاستفهام للتقرير المؤكد فإنه لو قال على سبيل الإخبار : «عَسَيْتُمْ إنْ » لكان للمخاطب أن ينكره فإذا قال بصيغة الاستفهام فإنه يقول : أنا أسألك عن هذا وأنت لا تقدر ( أن ){[51444]} تجيب إلا ب «لا » أو «نَعَمْ » ، فهو مُقَرَّر عندك وعندي{[51445]} .

واعلم أن «عَسَى » للتوقع والله عالم بكل شيء والكلام فيه كالكلام في «لَعَلَّ » وفي قوله : { لِّيَبْلُوَكُمْ }{[51446]} [ المائدة : 48 ] فقال بعضهم : يفعل بكم فعل المترجِّي والمبتلي والمتوقع . وقيل : كل من ينظر إليهم يتوقع منهم ذلك . وقال ابن الخطيب : هو محمول على الحقيقة ؛ لأن الفعل إذا كان في نفسه متوقعاً فالنظر غير مستلزم لأمر ، وإِنما الأمر يجوز أن يحصل منه تارة ، ولا يحصل منه أخرى يكون الفعل لذلك الأمر المطلوب على سبيل الترجِّي سواء كان الفاعل يعلم حصول الأمر منه أو لم يعلم مثاله من نَصَبَ شَبَكةً لاصطياد الصَّيد يقال : هو متوقع لذلك ، فإن حصل له العمل بوقوعه فيه بإخبار صادقٍ أنه سيقع أو بطريق أخرى لا يخرج عن التوقع .

غاية ما في الباب أن في الشاهد لم يحصل لنا العلم فيما{[51447]} نتوقعه{[51448]} فظن أن عدم العلم لازم للتوقع فليس كذلك بل التوقع هو المنتظر بأمر ليس بواجب الوقوع نظراً إلى ذلك الأمر حسب{[51449]} سواء كان له به علم أو لم يكن{[51450]} .

قوله : { وتقطعوا } قرأ العامة بالتشديد على التكثير ، وأبو عمرو في رواية وسلام ويعقوب : بالتخفيف مضارع قَطَع{[51451]} . والحَسن : بفتح التاء والطاء مشددة ، أصلها تَتَقَّطُعُوا بتاءين{[51452]} حذفت إحداهما{[51453]} . وانتصب «أَرْحَامَكُم » على هذا إسقاط الخافض أي في أرْحَامِكُمْ .


[51435]:في محل نصب جملة فعلية كخبر أفعال المقاربة والتاء اسمها. وانظر التبيان 1163، والمشكل 2/308.
[51436]:شاذة ذكرها الكشاف 3/536. والفعل ماض مبني للمجهول وهي قراءة ابن أبي إسحاق أيضا. ورواها رويس عن يعقوب. وانظر القرطبي 16/245 ومختصر ابن خالويه 140.
[51437]:بالمعنى من الرازي 28/64.
[51438]:ولم أعرف من قرأ بها وهي شاذة. وانظر الكشاف 3/536 والبحر المحيط 8/82 ومعناها توليتم أمور الناس.
[51439]:في الرازي: عستم وعست وعسنا والأول يجوز أن يكون صحيحا ولكن الثاني والثالث من الإمكان أن يكونا محرفين من قبل الناسخ فما دام قد أسند الفعل إلى الفاعل المضمر فإن الألف ترد إلى ياء. وهذا المذهب مرجوح فلم يأت القرآن الكريم به. وهذا الرأي ذكره الرازي في تفسيره حيث اقتصر عل الفعل والفاعل وهذا المذهب مذهب الكوفيين فهي بمنزلة قرب فعل قاصر.
[51440]:وهو قليل أيضا وفيه مذاهب ثلاثة: أحدها: أنها أجريت مجرى لعل في نصب الاسم ورفع الخبر كما أجريت لعل مجراها في اقتران خبرها بأن وقال به سيبويه. والثاني: أنها باقية على عملها عمل كان ولكن استعير ضمير النصب مكان ضمير الرفع وقال بذلك الأخفش. والثالث: أنها باقية على إعمالها عمل كان ولكن قلب الكلام فجعل المخبر عنه خبرا وبالعكس قاله المبرد والفارسي. بتصرف من المغني 151 و152 و153.
[51441]:يقصد أن هذا المذهب أو الوجه قليل كقوله: عسى الكرب... البيت.
[51442]:في (ب) والرازي: نصرت.
[51443]:وانظر الرازي 28/63 و64.
[51444]:ساقط من النسختين فهو زيادة للسياق.
[51445]:الرازي السابق.
[51446]:كذا في (أ) وهي كلمة من الآية 48 من المائدة وفي (ب) ليبلوهم وليست موجودة في القرآن وفي الرازي لنبلوهم بالنون من الآية 7 من سورة الكهف.
[51447]:كذا في (أ) والرازي في (ب) يتوقعه بالياء.
[51448]:في الرازي: فيظن.
[51449]:في الرازي: فحسب.
[51450]:وانظر تفسير الإمام الرازي 28/64.
[51451]:لم ترو في المتواتر عن أبي عمرو فهي شاذة ذكرها ابن خالويه في مختصره 140 وانظر الكشاف 3/536، والقرطبي 16/246.
[51452]:شاذة كسابقتها وانظر الكشاف والقرطبي السابقين.
[51453]:تخفيفا.