ومن هوله أنك { ترى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } لا تفقد [ شيئا ] منها وتظنها باقية على الحال المعهودة وهي قد بلغت منها الشدائد والأهوال كل مبلغ وقد تفتت ثم تضمحل وتكون هباء منبثا . ولهذا قال : { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } من خفتها وشدة ذلك الخوف وذلك { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } فيجازيكم بأعمالكم .
وقوله - تعالى - : { وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب . . . } معطوف على قوله - سبحانه - قبل ذلك : { يُنفَخُ فِي الصور } .
أى : فى هذا اليوم الهائل الشديد ، يفزع من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله ، وترى الجبال الراسيات الشامخات ، { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } أى ثابتة فى أماكنها ، والحال أنها تمر فى الجو مر السحاب ، الذى تسسيره الرياح سيرا حثيثا .
وهكذا تصور الآيات الكريمة أهوال ذلك اليوم هذا التصوير البديع المعجز المؤثر ، فالناس جميعا - إلا من شاء الله - فزعون وجلون ، والجبال كذلك كأنها قد أصابها ما أصاب الناس ، حتى لكأنها - وهى تسرع الخطا - . السحاب فى خفته ومروقه وتناثره ، ثم يعقب - سبحانه - على كل ذلك بقوله { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } .
ولفظ { صُنْعَ } يجوز أن يكون منصوبا على الإغراء أى : انظروا صنع الله - تعالى - الذى أتقن كل شىء فقد أحسن - سبحانه - ما خلقه وأحكمه ، وجعله فى أدق صورة ، وأكمل هيئة ، وصدق الله - تعالى - إذ يقول { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } قال صاحب فتح القدير : وانتصاب " صنع " على المصدرية ، أى : صنع الله ذلك صنعا . وقيل هو مصدر مؤكد لقوله : { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور } وقيل منصوب على الإغراء .
وجملة : { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } تعليل لما قبله . أى : صَنَع الله ما خلقه على هذا الإحكام العجيب ، والإتقان البديع ، لأنه - سبحانه - خبير بما تفعلونه ومطلع على ما تخفونه وما تعلنونه .
{ وترى الجبال تحسبها جامدة } ثابتة في مكانها . { وهي تمر مر السحاب } في السرعة ، وذلك لأن الأجرام الكبار إذا تحركت في سمت واحد لا تكاد تبين حركتها . { صنع الله } مصدر مؤكد لنفسه وهو لمضمون الجملة المتقدمة كقوله { وعد الله } . { الذي اتقن كل شيء } أحكم خلقه وسواه على ما ينبغي . { إنه خبير بما تفعلون } عالم بظواهر الأفعال وبواطنها فيجازيكم عليها كما قال : { من جاء بالحسنة فله خير منها }
هذا وصف حال الأشياء يوم القيامة عقب النفخ في الصور ، و «الرؤية » هي بالعين{[9091]} وهذه الحال ل { الجبال } هي في أول الأمر تسير وتموج وأمر الله تعالى ينسفها ويفتها خلال ذلك فتصير كالعهن ، ثم تصير في آخر الأمد هباء منبثاً ، و «الجمود » : التصاُّم في الجوهر ، قال ابن عباس { جامدة } قائمة ، ونظيره قول الشاعر [ النابغة ] : [ الطويل ]
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم . . . وقوف لحاج والركاب تهملج{[9092]}
و { صنع الله } مصدر معرف والعامل فيه فعل مضمر من لفظه ، وقيل هو نصب على الإغراء بمعنى انظروا صنع الله{[9093]} ، و «الإتقان » الإحسان في المعمولات وأن تكون حساناً وثيقة القوة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «يفعلون » بالياء وقرأ الباقون «تفعلون » بالتاء على الخطاب .
الذي قاله جمهور المفسرين : إن الآية حكت حادثاً يحصل يوم ينفخ في الصور فجعلوا قوله { وترى الجبال تحسبها جامدة } عطفاً على { ينفخ في الصور } [ النمل : 87 ] أي ويوم ترى الجبال تحسبها جامدة الخ . . وجعلوا الرؤية بصرية ، ومرّ السحاب تشبيهاً لتنقلها بمرّ السحاب في السرعة ، وجعلوا اختيار التشبيه بمرور السحاب مقصوداً منه إدماج تشبيه حال الجبال حين ذلك المرور بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها فيكون من معنى قوله { وتكون الجبال كالعهن المنفوش } [ القارعة : 5 ] ، وجعلوا الخطاب في قوله { ترى } لغير معين ليعم كل من يرى ، وجعلوا معنى هذه الآية في معنى قوله تعالى { ويوم نسير الجبال } [ الكهف : 47 ] . فلما أشكل أن هذه الأحوال تكون قبل يوم الحشر لأن الآيات التي ورد فيها ذكر دك الجبال ونسفها تشير إلى أن ذلك في انتهاء الدنيا عند القارعة وهي النفخة الأولى أو قبيلها ، فأجابوا بأنها تندك حينئذ ثم تسير يوم الحشر لقوله { فقل ينسفها ربي نسفاً } إلى أن قال { يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له } [ طه : 105 108 ] لأن الداعي هو إسرافيل ( وفيه أن للاتباع أحوالاً كثيرة ، وللداعي معاني أيضاً ) .
وقال بعض المفسرين : هذا مما يكون عند النفخة الأولى وكذلك جميع الآيات التي ذكر فيها نسف الجبال ودكها وبسها . وكأنهم لم يجعلوا عطف { وترى الجبال } على { ينفخ في الصور } [ النمل : 87 ] حتى يتسلط عليه عمل لفظ ( يوم ) بل يجعلوه من عطف الجملة على الجملة ، والواو لا تقتضي ترتيب المعطوف بها مع المعطوف عليه ، فهو عطف عبرة على عبرة وإن كانت المذكورة أولى حاصلة ثانياً .
وجعل كلا الفريقين قوله { صنع الله } الخ مراداً به تهويل قدرة الله تعالى وأن النفخ في الصور وتسيير الجبال من عجيب قدرته ، فكأنهم تأولوا الصنع بمعنى مطلق الفعل من غير التزام ما في مادة صنع من معنى التركيب والإيجاد ، فإن الإتقان إجادة ، والهدم لا يحتاج إلى إتقان .
وقال الماوردي : قيل هذا مثل ضربه الله ، أي وليس بخبر . وفيما ضرب فيه المثل ثلاثة أقوال :
أحدهما : أنه مثل للدنيا يظن الناظر إليها أنها ثابتة كالجبال وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب ، قاله سهل بن عبد الله التستري .
الثاني : أنه مثل للإيمان تحسبه ثابتاً في القلب ، وعمله صاعد إلى السماء .
الثالث : إنه مثل للنفس عند خروج الروح ، والروح تسير إلى العرش .
وكأنهم أرادوا بالتمثيل التشبيه والاستعارة .
ولا يخفى على الناقد البصير بعد هذه التأويلات الثلاثة لأنه إن كان { الجبال } مشبهاً بها فهذه الحالة غير ثابتة لها حتى تكون هي وجه الشبه وإن كان لفظ { الجبال } مستعاراً لشيء وكان مر السحاب كذلك كان المستعار له غير مصرح به ولا ضمنياً .
وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان اختصاص هذه الآية بأن الرائي يحسب الجبال جامدة ، ولا بيان وجه تشبيه سيرها بسير السحاب ، ولا توجيه التذليل بقوله تعالى { صنع الله الذي أتقن كل شيء } فلذلك كان لهذه الآية وضع دقيق ، ومعنى بالتأمل خليق ، فوضعها أنها وقعت موقع الجملة المعترضة بين المجمل وبيانه من قوله { ففزع من في السموات ومن في الأرض } إلى قوله { من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ ءامنون } [ النمل : 87 89 ] بأن يكون من تخلل دليل على دقيق صنع الله تعالى في أثناء الإنذار والوعيد إدماجاً وجمعاً بين استدعاء للنظر ، وبين الزواجر والنذر ، كما صنع في جملة { ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه } [ النمل : 86 ] الآية .
أو هي معطوفة على جملة { ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه } [ النمل : 86 ] الآية ، وجملة { ويوم ينفخ في الصور } [ النمل : 87 ] معترضة بينهما لمناسبة ما في الجملة المعطوف عليها من الإيماء إلى تمثيل الحياة بعد الموت ، ولكن هذا استدعاء لأهل العلم والحكمة لتتوجه أنظارهم إلى ما في هذا الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة . وهذا من العلم الذي أودع في القرآن ليكون معجزة من الجانب العلمي يدركها أهل العلم ، كما كان معجزة للبلغاء من جانبه النظمي كما قدمناه في الجهة الثانية من المقدمة العاشرة .
فإن الناس كانوا يحسبون أن الشمس تدور حول الأرض فينشأ من دورانها نظام الليل والنهار ، ويحسبون الأرض ساكنة . واهتدى بعض علماء اليونان إلى أن الأرض هي التي تدور حول الشمس في كل يوم وليلة دورة تتكون منها ظلمة نصف الكرة الأرضي تقريباً وضياء النصف الآخر وذلك ما يعبر عنه بالليل والنهار ، ولكنها كانت نظرية مرموقة بالنقد وإنما كان الدال عليها قاعدة أن الجرم الأصغر أولى بالتحرك حول الجرم الأكبر المرتبط بسيره وهي علة إقناعية لأن الحركة مختلفة المدارات فلا مانع من أن يكون المتحرك الأصغر حول الأكبر في رأي العين وضبط الحساب وما تحققت هذه النظرية إلا في القرن السابع عشر بواسطة الرياضي ( غاليلي ) الإيطالي .
والقرآن يدمج في ضمن دلائله الجمة وعقب دليل تكوين النور والظملة دليلاً رمز إليه رمزاً ، فلم يتناوله المفسرون أو تسمع لهم ركزاً .
وإنما ناط دلالة تحرك الأرض بتحرك الجبال منها لأن الجبال هي الأجزاء الناتئة من الكرة الأرضية فظهور تحرك ظلالها متناقصة قبل الزوال إلى منتهى نقصها ، ثم آخذة في الزيادة بعد الزوال . ومشاهدة تحرك تلك الظلال تحركاً يحاكي دبيب النمل أشد وضوحاً للراصد ، وكذلك ظهور تحرك قممها أمام قرص الشمس في الصباح والماء أظهر مع كون الشمس ثابتة في مقرها بحسب أرصاد البروج والأنواء .
ولهذا الاعتبار غير أسلوب الاستدلال الذي في قوله تعالى { ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه } [ النمل : 86 ] فجعل هنا بطريق الخطاب { وترى الجبال } . والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم تعليماً له لمعنى يدرك هو كنهه ولذلك خص الخطاب به ولم يعمم كما عمم قوله { ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه } [ النمل : 86 ] في هذا الخطاب ، وادخاراً لعلماء أمته الذين يأتون في وقت ظهور هذه الحقيقة الدقيقة . فالنبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على هذا السر العجيب في نظام الأرض كما أطلع إبراهيم عليه السلام على كيفية إحياء الموتى ، اختص الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعلم ذلك في وقته وائتمنه على علمه بهذا السر العجيب في قرآنه ولم يأمره بتبليغه إذ لا يتعلق بعلمه للناس مصلحة حنيئذ حتى إذا كشف العلم عنه من نقابه وجد أهل القرآن ذلك حقاً في كتابه فاستلوا سيف الحجة به وكان في قرابة .
وهذا التأويل للآية هو الذي يساعد قوله { وترى الجبال } المقتضي أن الرائي يراها في هيئة الساكنة ، وقوله { تحسبها جامدة } إذ هذا التأويل بمعنى الجامدة هو الذي يناسب حالة الجبال إذ لا تكون الجبال ذائبة .
وقوله { وهي تمرّ } الذي هو بمعنى السير { مرّ السحاب } أي مرا واضحاً لكنه لا يبين من أول وهلة . وقوله بعد ذلك كله { صنع الله الذي أتقن كل شيء } المقتضي أنه اعتبار بحالة نظامها المألوف لا بحالة انخرام النظام لأن خرم النظام لا يناسب وصفه بالصنع المتقن ولكنه يوصف بالأمر العظيم أو نحو ذلك من أحوال الآخرة التي لا تدخل تحت التصور .
و { مر السحاب } مصدر مبين لنوع مرور الجبال ، أي مروراً تنتقل به من جهة إلى جهة مع أن الرائي يخالها ثابتة في مكانها كما يخال ناظر السحاب الذي يعم الأفق أنه مستقر وهو ينتقل من صوب إلى صوب ويمطر من مكان إلى آخر فلا يشعر به الناظر إلا وقد غاب عنه . وبهذا تعلم أن المر غير السير الذي في قوله تعالى { ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة } [ الكهف : 47 ] فإن ذلك في وقت اختلال نظام العالم الأرضي .
وانتصب قوله { صنع الله } على المصدرية مؤكداً لمضمون جملة { تمر مر السحاب } بتقدير : صنع الله ذلك صنعاً . وهذا تمجيد لهذا النظام العجيب إذ تتحرك الأجسام العظيمة مسافات شاسعة والناس يحسبونها قارة ثابتة وهي تتحرك بهم ولا يشعرون .
والجامدة : الساكنة ، قاله ابن عباس . وفي « الكشاف » : الجامدة من جمد في مكانه إذا لم يبرح ، يعني أنه جمود مجازي ، كثر استعمال هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة والصنع . قال الراغب : إجادة الفعل فكل صنع فعل وليس كل فعل صنعاً قال تعالى { ويصنع الفلك } [ هود : 38 ] { وعلمناه صنعة لبوس لكم } [ الأنبياء : 80 ] يقال للحاذق المجيد : صنع ، وللحاذقة المجيدة : صنّاع . اه . وقصر في تفسير الصنع الجوهري وصاحب « اللسان » وصاحب « القاموس » واستدركه في « تاج العروس » .
قلت : وأما قولهم : بئس ما صنعت ، فهو على معنى التخطئة لمن ظن أنه فعل فعلاً .
حسناً ولم يتفطن لقبحه . فالصنع إذا أطلق انصرف للعمل الجيد النافع وإذا أريد غير ذلك وجب تقييده على أنه قليل أو تهكم أو مشاكلة .
واعلم أن الصنع يطلق على العمل المتقن في الخير أو الشر قال تعالى { تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر } [ طه : 69 ] ، ووصف الله ب { الذي أتقن كل شيء } تعميم قصد به التذييل ، أي ما هذا الصنع العجيب إلا مماثلاً لأمثاله من الصنائع الإلهية الدقيقة الصنع . وهذا يقتضي أن تسيير الجبال نظام متقن ، وأنه من نوع التكوين والخلق واستدامة النظام وليس من نوع الخرم والتفكيك .
وجملة { إنه خبير بما تفعلون } تذييل أو اعتراض في آخر الكلام للتذكير والوعظ والتحذير ، عقب قوله { الذي أتقن كل شيء } لأن إتقان الصنع أثر من آثار سعة العلم فالذي بعلمه أتقن كل شيء هو خبير بما يفعل الخلق فليحذروا أن يخالفوا عن أمره .
ثم جيء لتفصيل هذا بقوله { من جاء بالحسنة } [ النمل : 89 ] الآية فكان من التخلص والعود إلى ما يحصل يوم ينفخ في الصور ، ومن جعلوا أمر الجبال من أحداث يوم الحشر جعلوا جملة { إنه خبير بما تفعلون } استئنافاً بيانياً لجواب سائل : فماذا يكون بعد النفخ والفزع والحضور بين يدي الله وتسيير الجبال ، فأجيب جواباً إجمالياً بأن الله عليم بأفعال الناس ثم فصل بقوله { من جاء بالحسنة فله خير منها } [ النمل : 89 ] الآية .
قرأ الجمهور { بما تفعلون } بتاء الخطاب . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { يفعلون } بياء الغائبين عائداً ضميره على { من في السماوات ومن في الأرض } [ النمل : 87 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وترى الجبال تحسبها جامدة} يعني: تحسبها مكانها {وهي تمر مر السحاب} فتستوي في الأرض {صنع الله الذي أتقن} يعني: الذي أحكم {كل شيء إنه خبير بما تفعلون} يعني: إنه خبير بما فعلتم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَتَرى الجِبَالَ" يا محمد "تَحْسَبُها "قائمة "وَهِيَ تَمُرُ"...
عن ابن عباس، قوله: "وَتَرَى الجبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً" يقول: قائمة، وإنما قيل: "وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السّحابِ" لأنها تجمع ثم تسير، فيحسب رائيها لكثرتها أنها واقفة، وهي تسير سيرا حثيثا...
قوله: "صُنْعَ اللّهِ الّذِي أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ" وأوثق خلقه... عن ابن عباس، قوله: "صُنْعَ اللّهِ الّذِي أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ" يقول: أحكم كلّ شيء...
"إنّهُ خَبِيرٌ بِمَا يَفْعَلونَ" يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم وخبرة بما يفعل عباده من خير وشرّ وطاعة له ومعصية، وهو مجازي جميعهم على جميع ذلك على الخير الخيرَ، وعلى الشرّ الشرّ نظيره.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب} قال بعضهم: هي تمر مر كذا لكثرتها وازدحامها، يرى الناظر إليها، ويحسبها كأنها جامدة، وكذلك العسكر العظيم يحسبه الناظر إليه كأنه ساكن جامد لكثرة جنوده وازدحامهم. وقال بعضهم: لا، ولكن لشدة ذلك اليوم وهوله وفزعه على الناس، يحسبون الجبال كأنها جامدة {وهي تمر مر السحاب} وهو ما ذكر: {وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} الآية [الحج: 2] لشدة ذلك اليوم وفزعه...
وأصله: أن ما يذكر هنا وما تقدم من هول ذلك اليوم وشدته على الخلق ليتعظوا، وينزجروا...
{صنع الله الذي أتقن كل شيء} على إثر وصف الجبال بما وصف من انتقاضها وإفسادها وإخراجها عن الصفة التي أنشأها إلى ما ذكر لم يخرج من الإتقان والإحكام والإبرام ليعلم أن ليس في إفساد الشيء خروج عن الإتقان إذا كان ذلك محكمه، والله أعلم.
وقوله تعالى: {إنه خبير بما تفعلون} وعيد لهم.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
الإتقان: الإتيان بالشيء على أحسن حالاته من الكمال والإحكام في الخلق، وهو مشتق من قول العرب: تقنوا أرضهم إذا أرسلوا فيها الماء الخاثر بالتراب فتجود، والتقن: ما رمي به الماء في الغدير، وهو الذي يجيء به الماء من الخثورة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر دخورهم، تلاه بدخور ما هو أعظم منهم خلقاً، وأهول أمراً، فقال: عاطفاً على ناصب الظرف مما تقديره: كانت أمور محلولة، معبراً بالمضارع لأن ذلك وإن شارك الفزع في التحقق قد فارقه في الحدوث والتجدد شيئاً فشيئاً: {وترى الجبال} أي عند القيام من القبور، والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم ليدل ذلك -لكونه صلى الله عليه وسلم أنفذ الناس بصراً وأنورهم بصيرة- على عظم الأمر، وإما لكل أحد لأن الكل صاروا بعد قيامهم أهلاً للخطاب بعد غيبتهم في التراب {تحسبها جامدة} أي قائمة ثابته في مكانها لا تتحرك، لأن كل كبير متباعد الأقطار لا يدرك مشيته إلا تخرصاً {وهي تمر} أي تسير حتى تكون كالعهن المنفوش فينسفها الله فتقع حيث شاء كأنها الهباء المنثور، فتستوي الأرض كلها بحيث لا يكون فيها عوج، وأشار إلى أن سيرها خفي وإن كان حثيثاً بقوله: {مر السحاب} أي مراً سريعاً لا يدرك على ما هو عليه لأنه إذا طبق الجو لا يدرك سيره مع أنه لا شك فيه وإن لم تنكشف الشمس بلا لبس، وكذا كل كبير الجرم أو كثير العد يقصر عن الإحاطة به لبعد ما بين أطرافه بكثرته البصر، يكون سائراً، والناظر الحاذق يظنه واقفاً.
ولما كان ذلك أمراً هائلاً، أشار إلى عظمته بقوله، مؤكداً لمضمون الجملة المتقدمة: {صنع الله} أي صنع الذي له الأمر كله ذلك الذي أخبر أنه كائن في ذلك اليوم صنعاً، ونحو هذا المصدر إذا جاء عقب كلام جاء كالشاهد بصحته، والمنادي على سداده، والصارخ بعلو مقداره، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا هكذا، ثم زاد في التعظيم بقوله دالاً على تمام الإحكام في ذلك الصنع: {الذي أتقن كل شيء}.
ولما ثبت هذا على هذا الوجه المتقن، والنظام الأمكن، أنتج قطعاً قوله: {إنه} أي الذي أحكم هذه الأمور كلها {خبير بما تفعلون} أي لأن الإتقان نتيجة القدرة، وهي نتيجة العلم، فمن لم يكن شامل العلم لم يكن تام القدرة، وعبر بالفعل الذي هو أعم من أن يكون بعلم أو لا، لأنه في سياق البيان لعماهم، ونفي العلم عنهم، وقرئ بالخطاب المؤذن بالقرب المرجي للرضا، المرهب من الإبعاد، المقرون بالسخط، وبالغيبة المؤذنة بالإعراض الموقع في الخيبة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الذي قاله جمهور المفسرين: إن الآية حكت حادثاً يحصل يوم ينفخ في الصور فجعلوا قوله {وترى الجبال تحسبها جامدة} عطفاً على {ينفخ في الصور} [النمل: 87] أي ويوم ترى الجبال تحسبها جامدة الخ.. وجعلوا الرؤية بصرية، ومرّ السحاب تشبيهاً لتنقلها بمرّ السحاب في السرعة، وجعلوا اختيار التشبيه بمرور السحاب مقصوداً منه إدماج تشبيه حال الجبال حين ذلك المرور بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها فيكون من معنى قوله {وتكون الجبال كالعهن المنفوش} [القارعة: 5]، وجعلوا الخطاب في قوله {ترى} لغير معين ليعم كل من يرى، وجعلوا معنى هذه الآية في معنى قوله تعالى {ويوم نسير الجبال} [الكهف: 47]. فلما أشكل أن هذه الأحوال تكون قبل يوم الحشر لأن الآيات التي ورد فيها ذكر دك الجبال ونسفها تشير إلى أن ذلك في انتهاء الدنيا عند القارعة وهي النفخة الأولى أو قبيلها، فأجابوا بأنها تندك حينئذ ثم تسير يوم الحشر لقوله {فقل ينسفها ربي نسفاً} إلى أن قال {يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له} [طه: 105 108] لأن الداعي هو إسرافيل (وفيه أن للاتباع أحوالاً كثيرة، وللداعي معاني أيضاً).
وقال بعض المفسرين: هذا مما يكون عند النفخة الأولى وكذلك جميع الآيات التي ذكر فيها نسف الجبال ودكها وبسها. وكأنهم لم يجعلوا عطف {وترى الجبال} على {ينفخ في الصور} [النمل: 87] حتى يتسلط عليه عمل لفظ (يوم) بل يجعلوه من عطف الجملة على الجملة، والواو لا تقتضي ترتيب المعطوف بها مع المعطوف عليه، فهو عطف عبرة على عبرة وإن كانت المذكورة أولى حاصلة ثانياً.
وجعل كلا الفريقين قوله {صنع الله} الخ مراداً به تهويل قدرة الله تعالى وأن النفخ في الصور وتسيير الجبال من عجيب قدرته، فكأنهم تأولوا الصنع بمعنى مطلق الفعل من غير التزام ما في مادة صنع من معنى التركيب والإيجاد، فإن الإتقان إجادة، والهدم لا يحتاج إلى إتقان...
وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان اختصاص هذه الآية بأن الرائي يحسب الجبال جامدة، ولا بيان وجه تشبيه سيرها بسير السحاب، ولا توجيه التذليل بقوله تعالى {صنع الله الذي أتقن كل شيء} فلذلك كان لهذه الآية وضع دقيق، ومعنى بالتأمل خليق، فوضعها أنها وقعت موقع الجملة المعترضة بين المجمل وبيانه من قوله {ففزع من في السموات ومن في الأرض} إلى قوله {من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ ءامنون} [النمل: 87- 89] بأن يكون من تخلل دليل على دقيق صنع الله تعالى في أثناء الإنذار والوعيد إدماجاً وجمعاً بين استدعاء للنظر، وبين الزواجر والنذر، كما صنع في جملة {ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه} [النمل: 86] الآية.
أو هي معطوفة على جملة {ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه} [النمل: 86] الآية، وجملة {ويوم ينفخ في الصور} [النمل: 87] معترضة بينهما لمناسبة ما في الجملة المعطوف عليها من الإيماء إلى تمثيل الحياة بعد الموت، ولكن هذا استدعاء لأهل العلم والحكمة لتتوجه أنظارهم إلى ما في هذا الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة. وهذا من العلم الذي أودع في القرآن ليكون معجزة من الجانب العلمي يدركها أهل العلم، كما كان معجزة للبلغاء من جانبه النظمي كما قدمناه في الجهة الثانية من المقدمة العاشرة...
والقرآن يدمج في ضمن دلائله الجمة وعقب دليل تكوين النور والظلمة دليلاً رمز إليه رمزاً، فلم يتناوله المفسرون أو تسمع لهم ركزاً.
وإنما ناط دلالة تحرك الأرض بتحرك الجبال منها لأن الجبال هي الأجزاء الناتئة من الكرة الأرضية فظهور تحرك ظلالها متناقصة قبل الزوال إلى منتهى نقصها، ثم آخذة في الزيادة بعد الزوال. ومشاهدة تحرك تلك الظلال تحركاً يحاكي دبيب النمل أشد وضوحاً للراصد، وكذلك ظهور تحرك قممها أمام قرص الشمس في الصباح والماء أظهر مع كون الشمس ثابتة في مقرها بحسب أرصاد البروج والأنواء.
ولهذا الاعتبار غير أسلوب الاستدلال الذي في قوله تعالى {ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه} [النمل: 86] فجعل هنا بطريق الخطاب {وترى الجبال}. والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم تعليماً له لمعنى يدرك هو كنهه ولذلك خص الخطاب به ولم يعمم كما عمم قوله {ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه} [النمل: 86] في هذا الخطاب، وادخاراً لعلماء أمته الذين يأتون في وقت ظهور هذه الحقيقة الدقيقة. فالنبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على هذا السر العجيب في نظام الأرض كما أطلع إبراهيم عليه السلام على كيفية إحياء الموتى، اختص الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعلم ذلك في وقته وائتمنه على علمه بهذا السر العجيب في قرآنه ولم يأمره بتبليغه إذ لا يتعلق بعلمه للناس مصلحة حينئذ حتى إذا كشف العلم عنه من نقابه وجد أهل القرآن ذلك حقاً في كتابه فاستلوا سيف الحجة به وكان في قرابة.
وهذا التأويل للآية هو الذي يساعد قوله {وترى الجبال} المقتضي أن الرائي يراها في هيئة الساكنة، وقوله {تحسبها جامدة} إذ هذا التأويل بمعنى الجامدة هو الذي يناسب حالة الجبال إذ لا تكون الجبال ذائبة.
وقوله {وهي تمرّ} الذي هو بمعنى السير {مرّ السحاب} أي مرا واضحاً لكنه لا يبين من أول وهلة. وقوله بعد ذلك كله {صنع الله الذي أتقن كل شيء} المقتضي أنه اعتبار بحالة نظامها المألوف لا بحالة انخرام النظام لأن خرم النظام لا يناسب وصفه بالصنع المتقن ولكنه يوصف بالأمر العظيم أو نحو ذلك من أحوال الآخرة التي لا تدخل تحت التصور.
و {مر السحاب} مصدر مبين لنوع مرور الجبال، أي مروراً تنتقل به من جهة إلى جهة مع أن الرائي يخالها ثابتة في مكانها كما يخال ناظر السحاب الذي يعم الأفق أنه مستقر وهو ينتقل من صوب إلى صوب ويمطر من مكان إلى آخر فلا يشعر به الناظر إلا وقد غاب عنه. وبهذا تعلم أن المر غير السير الذي في قوله تعالى {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة} [الكهف: 47] فإن ذلك في وقت اختلال نظام العالم الأرضي.
وانتصب قوله {صنع الله} على المصدرية مؤكداً لمضمون جملة {تمر مر السحاب} بتقدير: صنع الله ذلك صنعاً. وهذا تمجيد لهذا النظام العجيب إذ تتحرك الأجسام العظيمة مسافات شاسعة والناس يحسبونها قارة ثابتة وهي تتحرك بهم ولا يشعرون...
ووصف الله ب {الذي أتقن كل شيء} تعميم قصد به التذييل، أي ما هذا الصنع العجيب إلا مماثلاً لأمثاله من الصنائع الإلهية الدقيقة الصنع. وهذا يقتضي أن تسيير الجبال نظام متقن، وأنه من نوع التكوين والخلق واستدامة النظام وليس من نوع الخرم والتفكيك.
وجملة {إنه خبير بما تفعلون} تذييل أو اعتراض في آخر الكلام للتذكير والوعظ والتحذير، عقب قوله {الذي أتقن كل شيء} لأن إتقان الصنع أثر من آثار سعة العلم فالذي بعلمه أتقن كل شيء هو خبير بما يفعل الخلق فليحذروا أن يخالفوا عن أمره.
ثم جيء لتفصيل هذا بقوله {من جاء بالحسنة} [النمل: 89] الآية فكان من التخلص والعود إلى ما يحصل يوم ينفخ في الصور، ومن جعلوا أمر الجبال من أحداث يوم الحشر جعلوا جملة {إنه خبير بما تفعلون} استئنافاً بيانياً لجواب سائل: فماذا يكون بعد النفخ والفزع والحضور بين يدي الله وتسيير الجبال، فأجيب جواباً إجمالياً بأن الله عليم بأفعال الناس ثم فصل بقوله {من جاء بالحسنة فله خير منها} [النمل: 89] الآية.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب} إشارة إلى حركة دوران الأرض بما عليها من رواسي الجبال في حالتها العادية {صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون}.
ثم ينتقل السياق بنا مرة أخرى إلى آية كونية: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير لما تفعلون}: قوله تعالى {تحسبها جامدة} أي: تظنها ثابتة، وتحكم عليها بعدم الحركة؛ لذلك نسميها الرواسي والأوتاد {وهي تمر مر السحاب} أي: ليس الأمر كما تظن؛ لأنها تتحرك وتمر كما يمر السحاب، لكنك لا تشعر بهذه الحركة ولا تلاحظها لأنك تتحرك معها بنفس حركتها...
إذن: لا تستطيع أن تلاحظ هذه الحركة إلا إذا كنت أنت خارج الشيء المتحرك، ألا ترى أنك حين تركب القطار مثلا ترى أن أعمدة التليفون هي التي تجري وأنت ثابت. ولأن هذه الظاهرة عجيبة سيقف عندها الخلق يزيل الله عنهم هذا العجب، فيقول {صنع الله الذي أتقن كل شيء} يعني: لا تتعجب، فالمسألة من صنع الله وهندسته وبديع خلقه، واختار هنا من صفاته تعالى: {الذي أتقن كل شيء} يعني: كل خلق عنده بحساب دقيق متقن. البعض فهم الآية على أن مر السحاب سيكون في الآخرة، واستدل بقوله تعالى: {وتكون الجبال كالعهن المنفوش} (القارعة 5). وقد جانبه الصواب لأن معنى {كالعهن المنفوش} (القارعة 5) أنها ستتفتت وتتناثر، لا أنها تمر، وتسير هذه واحدة، والأخرى أن الكلام هنا مبني على الظن {تحسبها جامدة} وليس في القيامة ظن؛ لأنها إذا قامت فكل أحداثها متيقنة. ثم إن السحاب لا يتحرك بذاته... إنما يحركه الهواء، كذلك الجبال حركتها ليست ذاتية فيها، فلم نر جبلا تحرك من مكانه، فحركة الجبال تابعة لحركة الأرض؛ لأنها أوتاد عليها، فحركة الوتد تابعة للموتود فيه. لذلك لما تكلم الحق –سبحانه وتعالى- عن الجبال قال: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} (النحل 15). ولو خلقت الأرض على هيئة السكون ما احتاجت لما يثبتها فلا بد أنها مخلوقة على هيئة الحركة. في الماضي وقبل تطور العلم ما كانوا يعتقدون في المنجمين وعلماء الفلك الكفرة أنهم يعلمون الغيب، أما الآن وقد توصل العلماء إلى قوانين حركة الأرض وحركة الكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية واستطاعوا حساب ذلك كله بدقة مكنتهم من معرفة ظاهرة الخسوف والكسوف مثلا ونوع كل منهما ووقته وفعلا تحدث الظاهرة في نفس الوقت الذي حددوه لا تتخلف. واستطاعوا بحساب هذه الحركة أن يصعدوا إلى سطح القمر، وأن يطلقوا مركبات الفضاء ويسيروها بدقة حتى إن إحداها تلتحم بالأخرى في الفضاء الخارجي. كل هذه الظواهر لو لم تكن مبنية على حقائق متيقنة لأدت إلى نتائج خاطئة وتخلفت.
ومن الأدلة التي تثبت صحة ما نميل إليه في معنى حركة الجبال، أن قوله تعالى {صنع الله الذي أتقن كل شيء} امتنان من الله تعالى بصنعته، والله لا يمتن بصنعته يوم القيامة، إنما الامتنان علينا الآن ونحن في الدنيا...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يعتقد كثير من المفسّرين أن هذه الآية تشير إلى الحوادث التي تقع بين يدي القيامة، لأننا نعرف أن في نهاية هذه الدنيا تقع زلازل وانفجارات هائلة، وتتلاشى الجبال وتنفصل بعضها عن بعض، وقد أشير إلى هذه الحقيقة في السور الأخيرة من القرآن مراراً. ووقوع الآية في سباق آيات القيامة دليل وشاهد على هذا التّفسير. إلاّ أن قرائن كثيرة في الآية تؤيد تفسيراً آخر، وهو أن الآية آنفة الذكر من قبيل آيات التوحيد ودلائل عظمة الله في هذه الدنيا، وتشير إلى حركة الأرض التي لا نحس بها. وتوضيح ذلك:
إنّ الآية تقول: تحسب الجبال ساكنة وجامدة مع أنّها تمرّ مرّ السحاب.. وهذا التعبير واضح أنّه لا ينسجم مع الحوادث التي تقع بين يدي القيامة.. لأنّ هذه الحوادث من الوضوح بمكان بحيث يعبر عنها القرآن (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى).
تشبيه حركة الجبال بحركة السحاب يتناسب مع الحركات المتناسقة الهادئة، ولا يتناسب والانفجارات العظيمة التي تصطك منها المسامع!.
التعبير الآنف الذكر يدلّ على أنّه في الوقت الذي ترى الجبال بحسب الظاهر جامدة، إلاّ أنّها في الواقع تتحرك بسرعة «على حالتها التي ترى فيها جامدة» أي أن الحالتين تبينان شيئاً واحداً.
والتعبير ب «الإتقان» الذي يعني الإحكام والتنظيم، يتناسب زمان استقرار نظام العالم، ولا يتناسب وزمان انهياره وتلاشيه.
جملة (إنّه خبير بما تفعلون) مع ملاحظة أنّ «تفعلون» فعل مضارع، تدل على أنّها تتعلق بهذه الدنيا، لأنّها تقول: إن الله خبير بأعمالكم التي تصدر في الحال والمستقبل. ولو كانت ترتبط بانتهاء العالم، لكان ينبغي أن يقال: إنّه خبير بما فعلتم. «فتأملوا بدقّة». ويستفاد من مجموع هذه القرائن أنّ هذه الآية تكشف عن إحدى عجائب الخلق، وهي في الواقع تشبه ما جاء في الآيتين آنفتي الذكر: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه). وبناءً على ذلك فالآيات محل البحث قسم منها في التوحيد، وقسم منها في المعاد!. وما نستنتجه من هذا التّفسير، هو أن هذه الجبال التي نتصورها ساكنة «جامدة» هي في سرعة مطرّدة في حركتها...
ومن المقطوع به أنّه لا معنى لحركة الجبال من دون حركة الأرض المتصلة بها، فيتّضح من الآية أنّ الأرض تتحرك كما يتحرك السحاب!. ووفقاً لحسابات علماء اليوم فإنّ سرعة حركة الأرض حول نفسها تقرب من (30) كيلومتر في كل دقيقة، وسرعة سيرها في حركتها الانتقالية حول الشمس أكثر من هذا المقدار... لكن علام عُني بالجبال دون غيرها؟ لعل ذلك إنّما هو لأنّ الجبال يضرب بها المثل لثقلها وقرارها، وتعدّ مثلا حسناً لبيان قدرة الله سبحانه، فحيث أن هذه الجبال على عظمتها وما فيها من ثقل، تتحرك كالسحاب بأمر الله «مع الأرض» فقدرته على كل شيء «بينة، وثابتة»! وعلى كل حال، فالآية آنفة الذكر تعدّ من معاجز القرآن العلمية...