{ قَالَ } الله مجيبا لدعوة موسى : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ } أي : إن من عقوبتهم أن نحرم عليهم دخول هذه القرية التي كتبها الله لهم ، مدة أربعين سنة ، وتلك المدة أيضا يتيهون في الأرض ، لا يهتدون إلى طريق ولا يبقون مطمئنين ، وهذه عقوبة دنيوية ، لعل الله تعالى كفر بها عنهم ، ودفع عنهم عقوبة أعظم منها ، وفي هذا دليل على أن العقوبة على الذنب قد تكون بزوال نعمة موجودة ، أو دفع نقمة قد انعقد سبب وجودها أو تأخرها إلى وقت آخر .
ولعل الحكمة في هذه المدة أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ، الصادرة عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات ، بل قد ألفت الاستعباد لعدوها ، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها ، ولتظهر ناشئة جديدة تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء ، وعدم الاستعباد ، والذل المانع من السعادة .
ولما علم الله تعالى أن عبده موسى في غاية الرحمة على الخلق ، خصوصا قومه ، وأنه ربما رق لهم ، واحتملته الشفقة على الحزن عليهم في هذه العقوبة ، أو الدعاء لهم بزوالها ، مع أن الله قد حتمها ، قال : { فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } أي : لا تأسف عليهم ولا تحزن ، فإنهم قد فسقوا ، وفسقهم اقتضى وقوع ما نزل بهم لا ظلما منا .
وهذا الرجاء من موسى لربه في معنى الدعاء عليهم بسبب جبنهم وعصيانهم وقد أجاب الله - تعالى - دعاءه فيهم ، بأن أضلهم ظاهرا كما ضلوا باطنا وجاء الحكم الفاصل ممن يملكه فقال - تعالى - : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين } .
وقوله : { يَتِيهُونَ } من التيه وهو الحيرة . يقال : تاه يتيه ويتوه إذا تحير وضل الطريق . ووقع فلان في التيه أي : في مواضع الحيرة .
وقوله : { فَلاَ تَأْسَ } أي : فلا تحزن عليهم من الأسى وهو الحزن . يقال : أسى - كتعب - أي : حزن . فهو أسين مثل حزين . وأسا على مصيبته - من باب عدا - أي : حزن قال امرؤ القيس :
وقوفا بها صحبي على مطيهم . . . يقولون لا تهلك أسى وتجمل
أي : يقولون لا تهلك نفسك حزنا وتجمل بالصبر .
والمعنى : قال الله - تعالى - لنبيه موسى مجيبا لدعائه : يا موسى إن الأرض المقدسة محرمة على هؤلاء الجبناء العصاة مدة أربعين سنة ، يسيرون خلالها في الصحراء تائيهن حياري لا يستقيم لهم أمر ، ولا يستقر لهم قرار ، فلا تحزن عليهم بسبب هذه العقوبة ؛ فإننا ما عاقبناهم بهذه العقوبة إلا بسبب خورجهم عن طاعتنا ، وتمردهم على أوامرنا ، وجبنهم عن قتال أعدائنا ، وسوء أدبهم مع أنبيائنا .
قال الآلوسي : قوله : { مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } أي : لا يدخلونها ولا يملكونها . والتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد ، وجوز أن يكون تحريم العبد والأول أظهر وقوله { أَرْبَعِينَ سَنَةً } متعلق بقوله : محرمة فيكون التحريم مؤقتا لا مؤبداً ، فلا يكون مخالفا لظاهر قوله - تعالى - { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم هذه المدة ، لكن لا بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها ، بل بعضهم ممن بقي - يجوز له دخولها - فقد روى أن موسى سار بمن بقي من بني إسرائيل - بعد انقضاء هذه المدة - إلى الأرض المقدسة .
وقوله : { يَتِيهُونَ فِي الأرض } استئناف لبيان كيفية حرمانهم . وقيل حال من ضمير { عَلَيْهِمْ } وقيل : الظرف متعلق بقوله : { يَتِيهُونَ } فيكون التيه مؤقتا والتحريم مطلقا يحتمل التأبيد وعدمه .
وقال الفخري الرازي : اختلف الناس في أن موسى وهارون - عليهما السلام - هل بقيا في التيه أو لا ؟ فقال قوم : إنهما ما كانا في التيه ؛ لأن موسى دعا الله أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين ، ودعوات الأنبياء مجابة ، لأن التيه كان عذاباً والأنبياء لا يُعذبون .
وقال آخرون : إنهما كانا مع القوم في ذلك التيه ، إلا أن الله - تعالى - سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها بردا وسلاما . وإنهما قد ماتا في التيه وبقي يوشع بن نون - وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته - وهو الذي فتح الأرض المقدسة - بعد انقضاء مدة التيه .
وقيل بل بقي موسى بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة .
هذا ونرى من المناسب في هذا المقام أن نتعرض بشيء من التفصيل للمسائل الآتية :
أولا : الرد على اليهود في دعواهم أن الأرض المقدسة - فلسطين - ملك لهم مستندين إلى قوله - تعالى - : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } .
ثانيا : الحكمة في كون عقابهم أربعين سنة يتيهون في الأرض .
ثالثاً : ما يؤخذ من هذه الآيات من العبر والعظات .
وللإِجابة على المسألة الأولى نقول : للمفسرين أقوال في المراد من الكتابة في قوله - تعالى - { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أشهرها قولان :
أولهما : أن معنى { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } : أمركم بدخولها ، وفرضه عليكم كما أمركم بالصلاة والزكاة فالكتب هنا مثله في قوله - تعالى - { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } أي : فرض عليكم وهذا قول قتادة والسدى .
والثاني : أن معنى { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } قدرها لكم وقضى أن تكون مساكن لكم دون الجبارين . وهذا القضاء مشروط بالإِيمان ، وطاعة الأنبياء ، والجهاد في سبيل نصرة الحق ، فإذا لم يكونوا كذلك - وهم لم يكونوا كذلك فعلا - لم يتحقق لهم التمكين في الأرض المقدسة ، ولذا بعد أن أغراهم نبيهم موسى - عليه السلام - بدخولها ، حذرهم من الجبن والعصيان فقال لهم : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } .
قال الآلوسي : " وترتيب الخيبة والخسران على الارتداد يدل على اشتراط الكتب بالمجاهدة المترتبة على الإيمان .
وقال ابن عباس : كانت هبة من الله لهم ثم حرمها - سبحانه - عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم .
وقال الفخر الرازي : إن الوعد بقوله { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لا جرم لم يوجد المشروط .
والخلاصة أن الكتابة في قوله - تعالى - { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } : إما أن تكون تكليفية على معنى : أن الله - تعالى - كتب عليكم وفرض أن تدخلوها مجاهدين مطيعين لنبيكم فإذا خالفتم ذلك حقت عليكم العقوبة .
وإما أن تكون كتابة قدرية . أي : قضى وقدر - سبحانه - أن تكون لكم متى آمنتم وأطعتم . وبنو إسرائيل ما آمنوا وما أطاعوا ، بل كفروا وعصوا فحرمها - سبحانه - عليهم .
وبذلك ترى أن دعوى اليهود بأن الأرض المقدسة ملك لهم ، بدليل قوله - تعالى - { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } لا أساس لها من الصحة ولا يشهد لها عقل أو نقل .
وللإِجابة على المسألة الثانية نقول : اقتضت حكمة الله - تعالى - أن يجعل عقوبته لقوم مناسبة لما اجترحوا من ذنوب وآثام وبنو إسرائيل لطول ما ألفوا من ذل واستعباد ، هانت عليهم نعمة الحرية . وضعف عندهم الشعور بالعزة . وأصبحت حياة الذلة مع العقود . أحب إليهم من حياة العزة مع الجهاد ولهذا عندما أمرهم نبيهم موسى - عليه السلام - بدخول الأرض المقدسة اعتذروا بشتى المعاذير الواهية وأكدوا له عدم اقترابهم منها ما دام الجبارون فيها :
وقالوا : { إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } .
فاقتضت حكمة الله - تعالى - أن يحرمهم منها جزاء جبنهم وعصيانهم وأن يعاقبهم بما يشبه القعود ، بأن يحكم عليهم بالتيهان في بقعة محدودة من الأرض ، يذهبون فيها ويجيئون وهم حيارى لا يعرفون لهم مقرا وأن يستمروا على تلك الحالة أربعين سنة حتى ينشأ من بينهم جيل آخر سوى ذلك الجيل الذي استمرأ الذل والهوان .
قال ابن خلدون في مقدمته . . ويظهر من مساق قوله - تعالى - { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } ومن مفهومه : أن حكمة ذلك التيه مقصودة ، وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر ، وأفسدوا من عصبيتهم ، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف القهر ولا يسام بالمذلة .
فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر .
هذا ولصاحب المنار كلام حسن في كمة هذه العقوبة ، نرى من المناسب إثباته هنا ، فقد قال - رحمه الله - في ختام تفسيره لهذه الآيات :
" إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد ، والإِحساس بالظلم والاضطهاد ، تفسد أخلاقها ، وتذل نفوسها . وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة ، حتى تكون كالغرائز الفطرية . والطبائع الخلقية ، وإذا أخرجت صاحبها من بيئتها ، ورفعت عن رقبته نيرها ، ألفيته ينزع بطبعه إليها ويتفلت منك ليقتحم فيها ، وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه ، ويجرون عليه من خير وشر ، وإيمان وكفر .
أفسد ظلم فرعون فطرة بني إسرائيل في مصر ، وطبع عليها بطابع المهانة والذل . وقد أراهم الله - تعالى - من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى - عليه السلام - وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذل إلى الحرية . ولكنهم كانوا مع هذا كله إذا أصابهم ضرر يتطيرون بموسى ، ويذكرون مصر ويحنون إليها .
وكان الله - تعالى - يعلم أنهم لا تطاوعهم أنفسهم المهينة على دخول أرض الجبارين ، وأن وعده - تعالى - لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشرى ، إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية . ونشأ بعده جيل جديد في حرية البداوة ، وعدل الشريعة ، ونور الآيات الإِلهية ، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم ، حتى يبين لهم حجته عليهم ، ليعلموا أنه لم يظلمهم إنما يظلمون أنفسهم .
وعلى هذه السنة العادلة أمر الله - تعالى - بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة ، فأبوا واستكبروا . فأخذهم الله بذنوبهم وأنشأ من بعدهم قوماً آخرين .
فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي ضربها الله لنا ، وأن نعلم أن إصلاح الأمم من بعد فسادها بالظلم والاستبداد إنما يكون بإنشاء جيل جديد جمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها ، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها .
وللإِجابة على المسألة الثالثة - وهي ما يؤخذ من هذه الآيات من عظات وعبر - نقول : إن هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على لون حكيم في أسلوب الدعوة إلى الله - تعالى - فقد بدأت بتذكير بني إسرائيل بأمجادهم وبعظم نعم الله عليهم ، لتغرس فيهم الشعور بالعزة ؛ ولتغريهم بالاستجابة لما أمر به - سبحانه - .
كما اشتملت على تحذيرهم من مغبة الجبن والمخالفة لأن ذلك يؤدي إلى الخسران .
وفوق ذلك فقد صورت تصويرا معجزا طبيعة بني إسرائيل على حقيقتها وكشفت عن خور عزيمتهم ، وسقوط همتهم وسوء اختيارهم لأنفسهم . . بما جعلهم أهلا العقوبات الرادعة وفي كل ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما لحقه من اليهود المعاصرين له من أذى ، وتحذير لهم من السير على طريق آبائهم المعوجة ، حتى لا يعرضوا أنفسهم للعقوبات التي حلت بأسلافهم .
قال الإِمام ابن جرير : عند تفسيره للآيات الكريمة : وهذا - أيضاً - من الله - تعالى تعريف - لنبيه صلى الله عليه وسلم يتمادى هؤلاء اليهود في الغي ، وبعدهم عن الحق ، وسوء اختيارهم لأنفسهم ، وشدة خلافهم لأنبيائهم وبطء إثابتهم إلى الرشاد ، مع كثرة نعم الله عندهم ، وتتابع آياته وآلائه عليهم ، مسليا بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم عما ينزل به من مجادلاتهم في ذات الله ، يقول الله - له : لا تأس على ما أصابك منهم ، فإن الذهاب عن الله ، والبعد عن الحق ، وما فيه من الحظ لهم في الدنيا والآخرة ، من عاداتهم وعادات أسلافهم ، وأوائلهم ، وتعزّ بما لاقى منهم أخوك موسى - عليه السلام - .
وقال الإِمام ابن كثير : وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود ، وبيان فضائحهم ، ومخالفتهم لله ولرسوله ، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد ، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم ، مع أن بين أظهرهم كليم الله وصفيه من خلقه في ذلك الزمان . وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم . هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من الغرق له ولجنوده في اليم وهم ينظرون . لتقر به أعينهم - وما بالعهد من قدم - ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم . وظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ، ولا يسترها الذيل .
وقال - رحمه الله - قبل ذلك : وما أحسن ما أجاب به الصحابة - رضي الله عنهم - يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال قريش . فقد قالوا فأحسنوا .
لقد قال المقداد : يا رسول الله ، إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى ؛ { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن نقول لك : " إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون " .
كذلك يؤخذ من هذه القصة أن معصية الله ورسله تؤدي إلى الخسران ، فإن بني إسرائيل لما جبنوا عن دخول الأرض المقدسة ، وعصوا أمر نبيهم ، عاقبهم الله بالتيه مدة أربعين سنة ، صارت قصتهم عبرة للمعتبرين ، وموعظة للمتقين .
{ قال فإنها } فإن الأرض المقدسة . { محرمة عليهم } لا يدخلونها ولا يملكونها بسبب عصيانهم . { أربعين سنة يتيهون في الأرض } عامل الظرف إما محرمة فيكون التحريم مؤقتا غير مؤبد فلا يخالف ظاهر قوله { التي كتب الله لكم } ، ويؤيد ذلك ما روي : أن موسى عليه الصلاة والسلام سار بعده بمن بقي من بني إسرائيل ففتح أريحاء ، وأقام بها ما شاء الله ثم قبض وقيل : إنه قبض في التيه ولما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي وأن الله سبحانه وتعالى أمره بقتال الجبابرة ، فسار بهم يوشع وقتل الجبابرة وصار الشام كله لبني إسرائيل ، وإما يتيهون أي يسيرون فيها متحيرين لا يرون طريقا فيكون التحريم مطلقا ، وقد قيل لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال إنا لن ندخلها بل هلكوا في التيه ، وإنما قاتل الجبابرة أولادهم . روي : أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون من الصباح إلى المساء ، فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه ، وكان الغمام يظلهم من الشمس وعمود من نور يطلع بالليل فيضيء لهم ، وكان طعامهم المن والسلوى وماؤهم من الحجر الذي يحملونه ، والأكثر على أن موسى وهارون كانا معهم في التيه إلا أنه كان ذلك روحا لهما وزيادة في درجتهما ، وعقوبة لهم ، وأنهما ماتا فيه مات هارون ، وموسى بعده بسنة . ثم دخل يوشع أريحاء بعد ثلاثة أشهر ومات النقباء فيه بغتة غير كالب ويوشع . { فلا تأس على القوم الفاسقين } خاطب به موسى عليه الصلاة والسلام لما ندم على الدعاء عليهم وبين أنهم أحقاء بذلك لفسقهم .
{ قال فإنها محرمة } المعنى قال الله ، وأضمر الفاعل في هذه الأفعال كلها إيجازاً لدلالة معنى الكلام على المراد ، وحرم الله تعالى على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة { أربعين سنة } وتركهم خلالها { يتيهون في الأرض } أي في أرض تلك النازلة ، وهو فحص التيه وهو على ما يحكى طول ثمانين ميلاً في عرض ستة فراسخ ، وهو ما بين مصر والشام ، ويروى أنه اتفق أن مات كل من كان قال إنّا لن ندخلها أبداً ، ولم يدخل المدينة أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالوث ، ويروى أن هارون عليه السلام مات في فحص التيه في خلال هذه المدة ولم يختلف في هاذا ، وروي أن «موسى » عليه السلام مات فيه بعد هارون بثمانية أعوام ، وقيل بستة أشهر ونصف ، وأن يوشع نبيء بعد كمال «الأربعين سنة » وخرج ببني إسرائيل وقاتل الجبارين وفتح المدينة ، وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين{[4506]} ، وروي أن «موسى » عليه السلام عاش حتى كملت الأربعون وخرج بالناس وحارب الجبارين ويوشع وكالب على مقدمته ، وأنه فتح المدينة وقتل بيده عوج بن عناق ، يقال كان في طول «موسى » عشرة أذرع وفي طول عصاه عشرة أذرع ، وترامى من الأرض في السماء عشرة أذرع ، وحينئذ لحق كعَب عوج فضربه بعصاه في كعبه فخر صريعاً ، ويروى أن عوجاً اقتلع صخرة ليطرحها على عسكر بني إسرائيل فبعث الله هدهداً بحجر الماس فأداره على الصخرة فتقورت ودخلت في عنق عوج ، وضربه «موسى » فمات ، وحكى الطبري أن طول عوج ثمانمائة ذراع ، وحكي عن ابن عباس أنه قال : لما خر كان جسراً على النيل سنة .
قال القاضي أبو محمد : والنيل ليس في تلك الأقطار وهذا كله ضعيف والله أعلم ، وحكى الزجاج عن قوم أن «موسى » وهارون لم يكونا في التيه ، والعامل في { أربعين } يحتمل أن يكون { محرمة } ، أي حرمت عليهم { أربعين سنة ويتيهون في الأرض } هذه المدة ثم تفتح عليهم ، أدرك ذلك من أدركه ومات قبله من مات . وخطأ أبو إسحاق أن يكون العامل { محرمة } ، وذلك منه تحامل ، ويحتمل أن يكون العامل { يتيهون } مضمراً يدل عليه { يتيهون } المتأخر ، ويكون قوله إنها محرمة إخبار مستمر تلقوا منه أن المخاطبين لا يدخلونها أبداً ، وأنهم مع ذلك «يتيهون في الأرض أربعين سنة » يموت فيها من مات .
قال القاضي أبو محمد : كأنه لم يعش المكلفون ، أشار إلى ذلك الزجاج ، والتيه : الذهاب في الأرض إلى غير مقصد معلوم{[4507]} ، ويروى أن بني إسرائيل كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع في تحليق ونحوه من التردد وقلة استقامة السير ، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي كانوا فيه أول الليل ، وقال مجاهد وغيره كانوا يسيرون النهار أحياناً والليل أحياناً فيمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا ، وذلك في مقدار ستة فراسخ .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة وقلة اجتماع الرأي ، وإن الله تعالى رماهم بالاختلاف وعلموا أنها قد حرمت عليهم «أربعين سنة » . فتفرقت منازلهم في ذلك الفحص ، وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع ، حتى كملت هذه المدة وأذن الله بخروجهم وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر . والآخر الذي ذكر مجاهد إنما هو خرق عادة وعجب من قدرة الله تعالى ، وفي ذلك التيه ظلل عليهم الغمام ورزقوا المن والسلوى إلى غير ذلك مما روي من ملابسهم ، وقد مضى ذلك في سورة البقرة . وقوله تعالى : { فلا تأس على القوم الفاسقين } معناه فلا تحزن يقال أسى : الرجل يأسى أسى إذا حزن ومنه قول امرىء القيس :
وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيهم . . . يقولون لا تهلك أسى وتجمل
فقلت لهم إن الأسى يبعث الأسى . . . دعوني فهذا كله قبر مالك
والخطاب بهذه الآية لموسى عليه السلام ، قال ابن عباس ندم «موسى » على دعائه على قومه وحزن عليهم ، فقال له الله : { فلا تأس على القوم الفاسقين } وقال قوم من المفسرين الخطاب بهذه الألفاظ لمحمد صلى الله عليه وسلم ويراد ب { الفاسقين } معاصروه ، أي هذه أفعال اسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك ، وردهم عليك ، فإنه سجية خبيثة موروثة عندهم .
قوله الله تعالى له : { فإنّها محرّمة عليهم أربعين سنة } الخ جواب عن قول موسى { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } ، وهو جواب جامع لجميع ما تضمّنه كلام موسى ، لأنّ الله أعلم موسى بالعقاب الذي يصيب به الّذين عصوا أمره ، فسكن هاجس خوفه أن يصيبهم عذاب يعمّ الجميع ، وحصل العقاب لهم على العصيان انتصاراً لموسى . فإن قلت : هذا العقاب قد نال موسى منه ما نال قومَه ، فإنّه بقي معهم في التِيه حتّى توفّي . قلت : كان ذلك هَيِّناً على موسى لأنّ بقاءه معهم لإرشادهم وصلاحهم وهو خصّيصة رسالته ، فالتعب في ذلك يزيده رفع درجة ، أمَّا هم فكانوا في مشقّة .
{ يتيهون } يضلّون ، ومصدره التَّيْه بفتح التّاء وسكون الياء والتيه بكسر التّاء وسكون التحتية . وسمّيت المفازة تيهاء وسمّيت تِيهاً . وقد بقي بنو إسرائيل مقيمين في جهات ضيّقة ويسيرون الهوينا على طريق غير منتظم حتّى بلغوا جبل ( نيبُو ) على مقربَة من نهر ( الأردن ) ، فهنالك توفّي موسى عليه السلام وهنالك دُفن . ولا يُعرف موضع قبره كما في نصّ كتاب اليهود . وما دَخلوا الأرض المقدسة حتّى عَبَروا الأرْدُن بقيادة يوشع بن نون خليفة موسى . وقد استثناه الله تعالى هو وكالب بن يفنَّة ، لأنّهما لم يقولا : لن ندخلها . وأمّا بَقية الرّوّاد الذين أرسلهم موسى لاختبار الأرض فوافقوا قومهم في الامتناع من دخولها .
وقوله : { فلا تأس على القوم الفاسقين } تفريع على الإخبار بهذا العقاب ، لأنّه علم أنّ موسى يحزنه ذلك ، فنهاه عن الحزن لأنّهم لا يستأهلون الحزن لأجلهم لفسقهم . والأسى : الحزن ، يقال أسِي كفرح إذا حَزن .