{ و } كذلك { الَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا } أي : الفاحشة { مِنْكُمْ } من الرجال والنساء { فَآذُوهُمَا } بالقول والتوبيخ والتعيير والضرب الرادع عن هذه الفاحشة ، فعلى هذا يكون الرجال إذا فعلوا الفاحشة يؤذون ، والنساء يحبسن ويؤذين .
فالحبس غايته إلى الموت ، والأذية نهايتها إلى التوبة والإصلاح ، ولهذا قال : { فَإِنْ تَابَا } أي : رجعا عن الذنب الذي فعلاه وندما عليه ، وعزما على أن لا يعودا { وَأَصْلَحَا } العمل الدال على صدق التوبة { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } أي : عن أذاهما { إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا } أي : كثير التوبة على المذنبين الخطائين ، عظيم الرحمة والإحسان ، الذي -من إحسانه- وفقهم للتوبة وقبلها منهم ، وسامحهم عن ما صدر منهم .
ويؤخذ من هاتين الآيتين أن بينة الزنا ، لا بد أن تكون أربعة رجال مؤمنين ، ومن باب أولى وأحرى اشتراط عدالتهم ؛ لأن الله تعالى شدد في أمر هذه الفاحشة ، سترًا لعباده ، حتى إنه لا يقبل فيها النساء منفردات ، ولا مع الرجال ، ولا ما دون أربعة .
ولا بد من التصريح بالشهادة ، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة ، وتومئ إليه هذه الآية لما قال : { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } لم يكتف بذلك حتى قال : { فَإِنْ شَهِدُوا } أي : لا بد من شهادة صريحة عن أمر يشاهد عيانًا ، من غير تعريض ولا كناية .
ويؤخذ منهما أن الأذية بالقول والفعل والحبس ، قد شرعه الله تعزيرًا لجنس المعصية الذي يحصل به الزجر .
ثم بين - سبحانه - حكما آخر فقال : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } .
أى واللذان يأتيان فاحشة الزنا من رجالكم ونسائكم فآذوهما بالشتم والتوبيخ والزجر الشديد ليندما على ما فعلا وليرتدع سواهما بهما .
وقد اختلف العلماء فى المراد بقوله { واللذان } .
فمنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة البكران اللذان لم يحصنا .
ومنهم من قال المراد بهما الرجلان يفعلان اللواط .
ومنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة لا فرق بين بكر وثيب .
والمختار عند كثير من العلماء هو الرأى الأول ، قالوا : لأن الله - تعالى - ذكر فى هاتين الآيتين حكمين :
والثاني : الإِيذاء ، ولا شك أن من حكم عليه بالأول خلاف من حكم عليه بالثاني ، والشرع يخفف فى البكر ويشدد على الثيب ، ولذلك لما نسخ هذا الحكم جعل للثيب الرجم وللبكر الجلد ، فجعلنا الحكم الشديد وهو الحبس على الثيب ، والحكم الأخف وهو الإِيذاء على البكر .
قالوا : وقد نسخ حكم هذه الآية بآية النور ، حيث جعل حكم الزانيين اللذين لم يحصنا جلد مائة .
فقد أخرجه ابن جرير عن الحسن البصرى وعكرمة قالا فى قوله - تعالى - { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } الآية ، نسخ ذلك بآية الجلد وهى قوله - تعالى - فى سورة النور : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } الآية .
ومن العلماء من قال بأن هذه الآية غير منسوخة بآية النور ، فإن العقوبة ذكرت هنا مجملة غير واضحة المقدار لأنا مجرد الإِيذاء ، وذكرت بعد ذلك مفصلة بينة المقدار فى سورة النور . أى أن ما ذكر هنا من قبيل المجمل ، وما ذكر فى سورة النور من قبيل المفصل ، وأنه لا نسخ بين الآيتين .
هذا ، ولأبى مسلم الأصفهاني رأى آخر فى تفسير هاتين الآيتين ، فهو يرى أن المراد باللاتى فى قوله { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ } النساء السحاقات اللاتى يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس ، والمراد بقوله { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } اللائطون من الرجال وحدهم الإِيذاء وأما حكم الزناة فسيأتى فى سورة النور .
قال الآلوسى : وقد زيف هذا القول بأنه لم يقل به أحد ، وبأن الصحابة قد اختلفوا فى حكم اللوطى ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية ، وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست فى ذلك .
وأيضا جعل الحبس فى البيت عقوبة السحاق لا معنى له . لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا . فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن عدم اختلاط بعضهن ببعض لا الحبس والمنع من الخروج . وحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المراد باللاتى يأتين الفاحشة الزانيات . . .
والذى نراه أن هذا الحكم المذكور فى الآيتين منسوخ ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة .
أما الكتاب فهو قوله - تعالى - فى سورة النور { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } الآية .
وأما السنة فحديث عباده بن الصامت الذى سبق ذكره .
وإنما قلنا ذلك لأن ظاهر الآيتين يدل على أن ما ذكر فيهما من الحبس والإِيذاء بعد نزول آية سورة النور . بل الثابت عنه أنه كان يجلد البكر من الرجال والنساء ، ويرجم المحصن منهما ، ولم يضم إلى إحدى هاتين العقوبتين حبسا أو إيذاء ، فثبت أن هذا الحكم المذكور فى الآيتين قد نسخ .
ثم بين - سبحانه - الحكم فيما إذا أقلع الزانى والزانية عن جريمتهما فقال : { فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } .
أى فإن تابا فعلا من الفاحشة ، وأصلحا أعمالهما { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ } أى فاصفحوا عنهما وكفوا عن أذاهما { إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً } أى مبالغا فى قبول التوبة ممن تاب توبة صادقة نصوحا { رَّحِيماً } أى واسع الرحمة بعباده الذين لا يصرون على معصية بل يتوبون إليه منها توبة صادقة .
{ واللذان يأتيانها منكم } يعني الزانية والزاني . وقرأ ابن كثير { واللذان } بتشديد النون وتمكين مد الألف ، والباقون بالتخفيف من غير تمكين . { فآذوهما } بالتوبيخ والتقريع ، وقيل بالتعيير والجلد . { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } فاقطعوا عنهما الإيذاء ، أو أعرضوا عنهما بالإغماض والستر . { إن الله كان توابا رحيما } علة الأمر بالإعراض وترك المذمة . قيل هذه الآية سابقة على الأولى نزولا وكان عقوبة الزنا الأذى ثم الحبس ثم الجلد . وقيل الأولى في السحاقات وهذه في اللواطين ، والزانية والزاني في الزناة .
{ واللذان } - تثنية الذي ، وكان القياس أن يقال : اللذيان كرحيان المتمكنة وبين الأسماء المبهمات . قال أبو علي : حذفت الياء تخفيفاً إذ قد أمن من اللبس في اللذان ، لأن النون لا تنحذف ونون التثنية في الأسماء المتمكنة قد تنحذف مع الإضافة في رحياك ومصطفيا القوم ، فلو حذفت الياء لاشتبه المفرد بالاثنين ، وقرأ ابن كثير «اللذانّ » بشد النون ، وتلك عوض من الياء المحذوفة ، وكذلك قرأ و < فذانك> و بالتشديد في جميعها ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بتخفيف جميع ذلك ، وشدد أبو عمرو ، «فذانك » وحدها ولم يشدد غيرها ، { واللذان } رفع بالابتداء ، وقيل على معنى : فيما يتلى عليكم «اللذان » واختلف في الأذى ، فقال عبادة والسدي : هو التعيير والتوبيخ وقالت فرقة : هو السبُّ والجفاء دون تعيير ، وقال ابن عباس : هو النيل باللسان واليد وضرب النعال وما أشبهه ، قال مجاهد وغيره : الآية الأولى في النساء عامة لهن ، محصنات وغير محصنات ، والآية الثانية في الرجال ، وبين بلفظ التثنية صنفي الرجال ممن أحصن وممن لم يحصن ، فعقوبة النساء الحبس ، وعقوبة الرجال الأذى ، وهذا قول يقتضيه اللفظ ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة عليه ، ويؤيده من جهة اللفظ قوله في الأولى { من نسائكم } وقوله في الثانية { منكم } ، وقال السدي وقتادة وغيرهما : الآية الأولى في النساء المحصنات ، يريد ويدخل معهن من أحصن من الرجال بالمعنى ، والآية الثانية هي في الرجل والمرأة البكرين .
قال القاضي أبو محمد : ومعنى هذا القول تام ، إلا أن لفظ الآية يقلق عنه ، وقد رجحه الطبري ، وقرأ ابن مسعود «والذين يفعلونه منكم » وأجمع العلماء على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد في سورة النور ، قاله الحسن ومجاهد وغيرهما ، إلا من قال : إن الأذى والتعيير باق مع الجلد لأنهما لا يتعارضان بل يتحملان على شخص واحد ، وأما الحبس فمنسوخ بإجماع ، وآية الجلد عامة في الزناة محصنهم وغير محصنهم ، وكذلك عممه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حطان بن عبد الله الرقاشي الذي ذكرته آنفاً ، وإن كان في صحيح مسلم فهو خبر آحاد ، ثم ورد بالخبر المتواتر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ولم يجلد ، فمن قال : إن السنة المتواترة تنسخ القرآن ، جعل رجم الرسول دون جلد ناسخاً لجلد الثيب ، وهذا الذي عليه الأئمة : أن السنة المتواترة تنسخ القرآن ، إذ هما جميعاً وحي من الله ، ويوجبان جميعاً العلم والعمل ، وإنما اختلفا في أن السنة نقص منها الإعجاز ، وصح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في خبر ماعز ، وفي حديث الغامدية ، وفي حديث المرأة التي بعث إليها أنيس{[3890]} ، ومن قال إن السنة المتواترة لا تنسخ القرآن ، قال : إنما يكون حكم القرآن موقفاً ، ثم تأتي السنة مستأنفة من غير أن تتناول نسخاً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تخيل لا يستقيم ، لأنا نجد السنة ترفع بحكمها ما استقر من حكم القرآن على حد النسخ ، ولا يرد ذلك نظر ، ولا ينخرم منه أصل ، أما أن هذه النازلة بعينها يتوجه عندي أن يقال فيها : إن الناسخ لحكم الجلد هو القرآن المتفق على رفع لفظه وبقاء حكمه ، وفي قوله تعالى : { الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجمهوها }{[3891]} البتة ، وهذا نص في الرجم ، وقد قرره عمر على المنبر بمحضر الصحابة ، وذكر أنهم قرأوه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، والحديث بكماله في مسلم{[3892]} . وأيضا فيعضد أن ذلك من القرآن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي قال له : فاقض بيننا يا رسول الله بكتاب الله ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «لأقضين بينكما بكتاب الله » ثم أمر أنيساً برجم المرأة إن هي اعترفت ، فدل هذا الظاهر على أن الرجم كان في القرآن ، وأجمعت الأمة على رفع لفظه ، وهاتان الآيتان أعني الجلد والرجم لو لم يقع بيان من الرسول لم يجب أن تنسخ إحداهما الأخرى ، إذ يسوغ اجتماعهما على شخص واحد ، وحديث عبادة المتقدم يقوي جميعهما ، وقد أخذ به علي رضي الله عنه في شراحة جلدها ثم رجمها ، وقال : أجلدها بكتاب الله وأرجمها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال الحسن وإسحاق بن راهويه ، ولكن لما بين الرسول برجمه دون جلد كان فعله بمثابة قوله مع هذه الآية : فقوا ولا تجلدوا فيكون القرآن هو الناسخ والسنة هي المبينة ويصح أن نعترض من ينسخ بالسنة في هذه النازلة فنقول : الناسخ من شروطه أن يستقل في البيان بنفسه ، وإذا لم يستقل فليس بناسخ ، وآية الرجم بعد أن يسلم ثبوتها لا تستقل في النسخ بنفسها ، بل تنبني مع الجلد وتجتمع ، كما تضمن حديث عبادة بن الصامت ، لكن إسقاط الرسول الجلد هو الناسخ ، لأن فعله في ذلك هو بمنزلة قوله : لا تجلدوا الثيب ، وأما البكر فلا خلاف أنه يجلد ، واختلف في نفيه ، فقال الخلفاء الأربعة وابن عمر ومالك والشافعي وجماعة : لا نفي اليوم ، وقالت جماعة : ينفى وقيل : نفيه سجنه ، ولا تنفى المرأة ولا العبد ، هذا مذهب مالك وجماعة من العلماء ، وقوله : { فأعرضوا عنهما } كانت هذه العقوبة من الإمساك والأذى إرادة أن يتوب الزناة ، وهو الرجوع عن الزنا والإصرار عليه ، فأمر الله تعالى المؤمنين ، إذا تاب الزانيان وأصلحا في سائر أعمالهما أن يكف عنهما الأذى ، وجاء الأمر بهذا الكف الذي هو «أعرضوا » وفي قوة اللفظ غض من الزناة وإن تابوا ، لأن تركهم إنما هو إعراض ، ألا ترى إلى قوله تعالى :{ وأعرض عن الجاهلين }{[3893]} وليس الإعراض في الآيتين أمراً بهجرة ، ولكنها متاركة معرض ، وفي ذلك احتقار لهم بحسب المعصية المتقدمة ، وبحسب الجهالة في الآية الأخرى ، والله تعالى تواب ، أي راجع بعباده عن المعاصي إلى تركها ولزوم الطاعة .