تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَـٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (93)

{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

وهذا رد على اليهود بزعمهم الباطل أن النسخ غير جائز ، فكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ، لأنهما قد أتيا بما يخالف بعض أحكام التوراة بالتحليل والتحريم فمن تمام الإنصاف في المجادلة إلزامهم بما في كتابهم التوراة من أن جميع أنواع الأطعمة محللة لبني إسرائيل { إلا ما حرم إسرائيل } وهو يعقوب عليه السلام { على نفسه } أي : من غير تحريم من الله تعالى ، بل حرمه على نفسه لما أصابه عرق النسا نذر لئن شفاه الله تعالى ليحرمن أحب الأطعمة عليه ، فحرم فيما يذكرون لحوم الإبل وألبانها وتبعه بنوه على ذلك وكان ذلك قبل نزول التوراة ، ثم نزل في التوراة أشياء من المحرمات غير ما حرم إسرائيل مما كان حلالا لهم طيبا ، كما قال تعالى { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وأمر الله رسوله إن أنكروا ذلك أن يأمرهم بإحضار التوراة ، فاستمروا بعد هذا على الظلم والعناد ، فلهذا قال تعالى { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَـٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (93)

ثم عاد القرآن الكريم إلى الرد على اليهود الذين جادلوا النبى صلى الله عليه وسلم فى كثير من القضايا ، بعد أن ذكر فى الآيات السابقة طرفا من مسالكهم الخبيثة التى منها تواصيهم فيما بينهم بأن يؤمنوا أول النهار ويكفروا آخره ، وقد حكى هنا جدلهم فيما أحله الله وحرمه من الأطعمة فقال - تعالى - : { كُلُّ الطعام . . . } .

ذكر بعض المفسرين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لليهود فى معرض مناقشته لهم : أنا على ملة إبراهيم . فقال بعض اليهود : كيف تدعى ذلك وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها ؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم ، كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحله . فقالوا : كل شىء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه كان محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا ، فأنزل الله هذه الآيات تكذيبا لهم " .

والطعام : مصدر بمعنى المطعوم ، والمراد به هنا كل ما يطعم ويؤكل .

وحلا : مصدر أيضاً بمعنى حلالا ، والمراد الإخبار عن أكل الطعام بكونه حلالا ، لا نفس الطعام ، لان الحل كالحرمة مما لا يتعلق بالذوات .

وإسرائيل : هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - .

والمعنى : كل أنواع الأطعمة كانت حلالا لبنى إسرائيل قبل نزول التوراة إلا شيئا واحدا كان محرما عليهم قبل نزولها وهو ما حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه ، فإنهم حرموه على أنفسهم اقتداء به ، فلما أنزل الله التوراة حرم عليهم فيها بعض الطيبات بسبب بغيهم وظلمهم .

هذا هو الحق الذى لا شك فيه ، فإن جادلوك يا محمد فى هذه المسألة فقل لهم على سبيل التحدى : أحضروا التوراة فاقرءوها ليتبين الصادق منا من الكاذب ، إن كنتم صادقين فى زعمكم أن ما حرمه الله عليكم فيها كان محرما على نوح وإبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - .

فالآية الكريمة قد تضمنت أموراً من أهمها :

أولاً : إبطال حجتهم فيما يتعلق بقضية النسخ ، إذ زعموا أن النسخ محال ، واتخذوا من كون النسخ مشروعا في الإسلام ذريعة للطعن فى نبوة النبى صلى الله عليه وسلم فدحض القرآن مدعاهم وألزمهم الحجة عن طريق كتابهم .

ولذا قال الإمام ابن كثير : الآية مشروع فى الرد على اليهود ، وبيان بأن النسخ الذى أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع ، فإن الله - تعالى - قد نص فى كتابهم التوراة أن نوحا - عليه السلام - لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها ، ثم بعد هذا حرم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل وألبانها فاتبعه بنوه فيما حرم على نفسه ، وجاءت التوراة بتحريم ذلك ، وبتحريم أشياء زيادة على ذلك - عقوبة لهم بسبب بغيهم وظلمهم . وهذا هو النسخ بعينه " .

وقد صرح ابن كثير وغيره من المفسرين أن ما حرمه إسرائيل على نفسه هو لحوم الإبل وألبانها ، وبذلك جاءت بعض الروايات عن النبى صلى الله عليه وسلم وكان تحريمه لها تعبدا وزهادة وقهرا للنفس طلبا لمرضاة الله - تعالى - .

وقيل إن ما حرمه على نفسه هو العروق . روى ذلك عن ابن عباس والضحاك والسدى موقوفا عليهم .

قالوا : كان يعتريه عرق النسا وهو عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذين ويسبب آلاما شديدة - فنذر إن عوفى منه لا يأكل عرقا ، فلما شفاه الله ترك كل العروق وفاء بنذره .

ثانيا : تضمنت أيضا تكذيبهم فى دعواهم أن ما حرم عليهم لم يكن سبب تحريمه ظملهم أو بغيهم ، وإنما كان محرما على غيرهم ممن سبقهم من الأمم .

وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال : " وهو - أى ما اشتملت عليه الآية - رد على اليهود وتكذيب لهم ، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم فى قوله - تعالى - { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } وحيث أرادوا جحود ما غاظهم بسبب ما نطق به القرآن من أن تحريم الطيبات عليهم كان لأجل بغيهم وظلمهم فقالوا : لسنا بأول من حرمت عليه هذه الأشياء ، وما هو إلا تحريم قديم ، كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده من بنى إسرائيل وهلم جرا ، إلى أن انتهى التحريم إلينا ، فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا .

وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغى والظلم والصد عن سبيل الله وأكل الربا . وما عدد من مساويهم التى كلما ارتكبوا منها كبيرة حرم الله عليهم نوعا من الطيبات عقوبة لهم " .

ثالثاً : تضمنت الآية كذلك أمراً من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يتحداهم بالتوراة ويبكتهم بما نطقت به ، وذلك بقوله - تعالى - فى الآية الكريمة { قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .

فكأنه - سبحانه - يقول لهم : ما دمتم - يا معشر اليهود - قد زعمتم أن ما حرم عليكم بسبب بغيكم وظلمكم ليس تحريما حادثا ، وإنما هو تحريم قديم على الأمم قبلكم ، فها هى ذى التوراة قريبة منكم فأحضروها واتلوها بإمعان وتدبر إن كنتم صادقين فى مدعاكم .

والتعبير ب " إن " يشير إلى عدم صدقهم ، لأنها تدل على الشك فى الشرط .

أى : هم ليسوا صادقين فيما يزعمون ، ولذلك لا يتلون ولا يقرؤون ، ولو جاءوا بها لكانت مؤيدة لما أخبر به القرآن الكريم ، ولذلك لم يجسروا على إخراج التوراة ، وبهتوا وانقلبوا صاغرين . وفى ذلك الحجة البينة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم .

وقوله { إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } مستثنى من اسم كان ، والتقدير : كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل إلا ما حرم نفسه فإنه قد حرم عليهم فى التوراة ، وليس منه ما زادوه من محرمات وادعوا صحة ذلك .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَـٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (93)

{ كل الطعام } أي المطعومات والمراد أكلها . { كان حلا لبني إسرائيل } حلالا لهم ، وهو مصدر نعت به ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال تعالى : { لا هن حل لهم } . { إلا ما حرم إسرائيل } يعقوب . { على نفسه } كلحوم الإبل وألبانها . وقيل كان به عرق النسا فنذر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحبه إليه . وقيل : فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباء . واحتج به من جوز للنبي أن يجتهد ، وللمانع أن يقول ذلك بإذن من الله فيه فهو كتحريمه ابتداء . { من قبل أن تنزل التوراة } أي من قبل إنزالها مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم وبغيهم عقوبة وتشديدا ، وذلك رد على اليهود في دعوى البراءة مما نعى عليهم في قوله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات } وقوله : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } الآيتين ، بأن قالوا لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده حتى انتهى الأمر إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا ، وفي منع النسخ والطعن في دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم موافقة إبراهيم عليه السلام بتحليله لحوم الإبل وألبانها . { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } أمر بمحاجتهم بكتابهم وتبكيتهم بما فيه من أنه قد حرم عليهم بسبب ظلمهم ما لم يكن محرما . روي : أنه عليه السلام لما قاله لهم بهتوا ولم يجسروا أن يخرجوا التوراة . وفيه دليل على نبوته .