ومن الآيات على كمال قدرته وبديع صنعته أن جعل { فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ } فيها أنواع الأشجار { مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } وغير ذلك ، والنخيل التي بعضها { صِنْوَانٌ } أي : عدة أشجار في أصل واحد ، { وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } بأن كان كل شجرة على حدتها ، والجميع { يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ } وأرضه واحدة { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ } لونا وطعما ونفعا ولذة ؛ فهذه أرض طيبة تنبت الكلأ والعشب الكثير والأشجار والزروع ، وهذه أرض تلاصقها لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء ، وهذه تمسك الماء ولا تنبت الكلأ ، وهذه تنبت الزرع والأشجار ولا تنبت الكلأ ، وهذه الثمرة حلوة وهذه مرة وهذه بين ذلك .
فهل هذا التنوع في ذاتها وطبيعتها ؟ أم ذلك تقدير العزيز الرحيم ؟
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : لقوم لهم عقول تهديهم إلى ما ينفعهم ، وتقودهم إلى ما يرشدهم ويعقلون عن الله وصاياه وأوامره ونواهيه ، وأما أهل الإعراض ، وأهل البلادة فهم في ظلماتهم يعمهون ، وفي غيهم يترددون ، لا يهتدون إلى ربهم سبيلا ولا يعون له قيلا .
ثم ساق - سبحانه - مظاهر أخرى لقدرته فقال - تعالى - : { وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } .
والقطع : جمع قطعة - بكسر القاف - وهى الجزء من الشئ ، تشبيها لها ، بما يقتطع من الشئ .
ومتجاورات : أى : متلاقيات ومتقاربات .
وليس هذا الوصف مقصوداً لذاته ، بل المقصود أنها من تجاورها وتقاربها مختلفة في أوصافها مما يشهد بقدرة الله - تعالى - العظيمة .
ولذا قال ابن كثير ما ملخصه : { وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } أى : أرض يجاوزر بعضها بعضاً ، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس ، وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئاً ، وهذه تربتها حمراء ، وتلك تربتها سوداء . . . وهذه محجرة وتلك سهلة . . . والكل متجاورات ، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار ، لا إله إلا هو ولا رب سواه .
وقال - سبحانه - { وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } بإعادة اسم الأرض الظاهر ، ولم يقل وفيها قطع متجاورات كما قال : { جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين } في الآية السابقة ، وذلك ليكون كاملاً مستقلا ، وليتجدد الأسلوب فيزداد حلاوة وبلاغة . وقوله { وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل . . . } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته - سبحانه - ورحمته بعباده .
والجنات : جمع جنة ، والمراد بها البستان ذو الشجر المتكاثف ، الملتف الأغصان الذي يظلل ما تحته ويستره .
والأعناب : جمع عنب وهو شجر الكرم .
والمراد بالزرع : أنواع الحبوب على اختلاف ألوانها وطعومها وصفاتها وقوله { صنوان } صفة لنخيل ، وهو جمع صنو .
والصنو : بمعنى المثل ومنه قيل لعم الرجل : صنو أبيه ، أى : مثله ، فأطلق على كل غصن صنو لمماثلته للآخر في التفرع من أصل واحد { والأكل } اسم لما يؤكل من الثمار والحب .
والمعنى : أن من مظاهر قدرت الله - أيضا - ومن الأدلة على وحدانيته - سبحانه - أنه جعل في الأرض بقاعا كثيرة متجاورة ومع ذلك فهى مختلفة في أوصافها وفى طبيعتها .
. وفيها أيضا بساتين كثيرة من أعناب ومن كل نوع من أنواع الحبوب .
وفيها كذلك نخيل يجمعها أصل واحد فهى صنوان ، ونخيل أخرى لا يجمعها أصل واحد فهى غير صنوان .
والكل من الأعناب والزرع والنخيل وغيرها { يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ } لا اختلاف في ذاته سواء أكان السقى من ماء الأمطار أم من ماء الأنهار ومع وجود أسباب التشابه ، فإننا لعظيم قدرتنا وإحساننا { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ } آخر منها { فِي الأكل } أى : في اختلاف الطعوم .
قال الإِمام الرازى : " قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } كلها بالرفع عطفا على قوله { وجنات } وقرأ الباقون بالجر عطفاً على الأعناب . . . "
وخص - سبحانه - النخيل بوصفه بصنوان ، لأن العبرة به أقوى ، إذ المشاهدة له أكثر من غيره .
ووجه زيادة { وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } تجدير العبرة باختلاف الأحوال ، واقتصر - سبحانه - في التفاضل على الأكل ، لأنه أعظم المنافع .
وقوله - سبحانه - { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } تذييل قصد به الحض على التعقل والتدبر .
أى : إن في ذلك الذي فصل الله - تعالى - أحواله من اختلاف أجناس الثمرات والزروع في أشكالها وألوانها وطعومها وأوراقها . . . مع أنها تسقى بماء واحد . وتنبت في أرض متجاورة ، إن في ذلك كله لدلائل باهرة ، على قدرة الله - تعالى - واختصاصه بالعبادة ، لقوم يستعملون عقولهم في التفكير السليم ، والتأمل النافع .
أما الذني يستعملون عقولهم فيما لا ينفع ، فإنهم يمرون بالعبر والعظات وهم عنها معرضون .
وبذلك نرى أن الله - تعالى - قد ساق في هذه الآيات أدلة متعددة ومتنوعة من العالم العلوى والسفلى ، وكلها تدل على عظيم قدرته ، وجليل حكمته .
1 - خلقه السموات مرتفعة بغير عمد .
2 - تسخيره الشمس والقمر لمنافع الناس .
3 - خلقه الأرض بتلك الصورة الصالحة للاستقرار عليها .
4 - خلقه الجبال فيها لتثبيتها .
5 - خلقه الأنهار فيها لمنفعة الإِنسان والحيوان والنبات .
6 - خلقه زوجين اثنين من كل نوع من أنواع الثمار .
7 - معاقبته بين الليل والنهار .
8 - خلقه بقاعا في الأرض متجاورة مع اختلافها في الطبيعة والخواص .
9 - خلقه أنواعاً من الزورع المختلفة في ثمارها وأشكالها .
10 - خلقه النخيل صنواناً وغير صنوان ، وجميعها تسقى بماء واحد .
ومع كل ذلك فضل - سبحانه - بعضها على بعض في الأكل .
وهذه الأدلة يشاهدها الناس بأبصارهم ، ويحسونها بحواسهم ، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب .
وقوله : { وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ } أي : أراضٍ تجاور{[15432]} بعضها بعضا ، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس ، وهذه سَبَخة مالحة لا تنبت شيئا . هكذا روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، والضحاك ، وغيرهم .
وكذا يدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض ، فهذه تربة حمراء ، وهذه بيضاء ، وهذه صفراء ، وهذه سوداء ، وهذه محجرة{[15433]} وهذه سهلة ، وهذه مرملة ، وهذه سميكة ، وهذه رقيقة ، والكل متجاورات . فهذه بصفتها ، وهذه بصفتها الأخرى ، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه .
وقوله : { وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } {[15434]} يحتمل{[15435]} أن تكون عاطفة على { جنات } فيكون { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } {[15436]} مرفوعين . ويحتمل أن يكون معطوفا على أعناب ، فيكون مجرورا ؛ ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة .
وقوله : { صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } الصنوان : هي الأصول المجتمعة في منبت واحد ، كالرمان والتين وبعض النخيل ، ونحو ذلك . وغير الصنوان : ما كان على أصل واحد ، كسائر الأشجار ، ومنه سمي عم الرجل صنو أبيه ، كما جاء في الحديث الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر : " أما شعرت{[15437]} أن عم الرجل صنو أبيه ؟ " {[15438]} .
وقال سفيان الثوري ، وشعبة ، عن أبى إسحاق ، عن البراء ، رضي الله عنه : الصنوان : هي النخلات في أصل واحد ، وغير الصنوان : المتفرقات . وقاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقوله : { يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ } قال الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ } قال : " الدَّقَل والفارسي ، والحُلْو والحامض " . رواه الترمذي وقال : حسن غريب{[15439]} .
أي : هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع ، في أشكالها وألوانها ، وطعومها وروائحها ، وأوراقها وأزهارها .
فهذا في غاية الحلاوة وذا في غاية الحموضة ، وذا{[15440]} في غاية المرارة وذا عَفِص ، وهذا عذب وهذا{[15441]} جمع هذا وهذا ، ثم يستحيل إلى طعم آخر بإذن الله تعالى . وهذا أصفر وهذا أحمر ، وهذا أبيض وهذا أسود وهذا أزرق . وكذلك الزهورات مع أن كلها يستمد{[15442]} من طبيعة واحدة ، وهو الماء ، مع هذا الاختلاف الكبير الذي لا ينحصر ولا ينضبط ، ففي ذلك آيات لمن كان واعيا ، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار ، الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
وقوله تعالى : { وفي الأرض قطع . . . } الآية ، «القطع » : جمع قطعة وهي الأجزاء ، وقيد منها في هذا المثال ما جاور وقرب بعضه من بعض ، لأن اختلاف ذلك في الأكل أغرب{[6890]} .
وقرأ الجمهور «وجناتٌ » بالرفع ، عطفاً على { قطع } ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «وجناتٍ » بالنصب بإضمار فعل ، وقيل : هو عطف على { رواسي } ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص - عن عاصم - «وزرعٌ ونخيلٌ صنوانٌ وغيرُ » بالرفع في الكل - عطفاً على { قطع } - وقرأ الباقون : «وزرعٍ » بالخفض في الكل - عطفاً على { أعناب } وجعل الجنة من الأعناب من رفع الزرع .
و «الجنة » حقيقة إنما هي الأرض التي فيها الأعناب وفي ذلك تجوز ومنه قول الشاعر : [ زهير بن أبي سلمى ] [ البسيط ]
كأن عيني في غربي مقتلة *** من النواضح تسقي جنة سحقا{[6891]}
أي نخيل جنة ، إذ لا توصف بالسحق إلا النخل ، ومن خفض «الزرع » ف «الجنات » من مجموع ذلك لا من الزرع وحده ، لأنه لا يقال للمزرعة جنة إلا إذا خالطتها شجرات{[6892]} .
و { صنوان } جمع صنو ، وهو الفرع يكون مع الآخر في أصل واحد ، وربما كان أكثر من فرعين ، قال البراء بن عازب : الصنوان : المجتمع ، «وغير الصنوان » المتفرق فرداً فرداً ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «العم صنو الأب »{[6893]} وروي أن عمر بن الخطاب أسرع إليه العباس في ملاحاة فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أردت يا رسول الله أن أقول يا رسول الله لعباس ، فذكرت مكانك منه فسكت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يرحمك الله يا عمر العم صنو الأب » وفي كتاب الزكاة من صحيح مسلم أنه قال : «يا عمر أما شعرت أن العم صنو الأب » وجمع الصنو صنوان{[6894]} ، وهو جمع مكسر ، قال أبو علي : وكسرة الصاد في الواحد ليست التي في الجمع ، وهو جار مجرى فلك . وتقول : صنو وصنوان في الجمع بتنوين النون وإعرابه .
وقرأ عاصم - في رواية القواس عن حفص - «صُنوان » بضم الصاد قال أبو علي : هو مثل ذئب وذؤبان .
قال القاضي أبو محمد : وهي قراءة ابن مصرف وأبي عبد الرحمن السلمي ، وهي لغة تميم وقيس ، وكسر الصاد هي لغة أهل الحجاز ، وقرأ الحسن وقتادة «صَنوان » بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع ونظير هذه الللفظة : قنو وقنوان ، وإنما نص على «الصنوان » في هذه الآية لأنها بمثابة التجاوز في القطع ، تظهر فيه غرابة اختلاف الأكل .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي والحسن وأبو جعفر وأهل مكة : «تسقى » بالتاء ، وأمال حمزة والكسائي القاف . وقرأ عاصم وابن عامر «يسقى » بالياء ، على معنى يسقى ما ذكر . وقرأ الجمهور «نفضل » بالنون وقرأ حمزة والكسائي «ويفضل » بالياء ، وقرأ ابن محيصن : «يسقى بماء واحد ، ويفضل » بالياء فيهما ، وقرأ يحيى بن يعمر وأبو حيوة «ويفضَّل » بالياء وفتح الضاد «بعضُها » بالرفع ، قال أبو حاتم : وجدته كذلك في نقط يحيى بن يعمر في مصحفه - وهو أول من نقط المصاحف .
و { الأكل } اسم ما يؤكل ، بضم الهمزة ، والأكل المصدر .
وقرأت فرقة «في الأُكُل » بضم الهمزة والكاف ، وقد تقدم هذا في البقرة{[6895]} وحكى الطبري عن غير واحد - ابن عباس وغيره - { قطع متجاورات } أي واحدة سبخة ، وأخرى عذبة ، ونحو هذا من القول ، وقال قتادة المعنى : قرى متجاورات .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وجه من العبرة كأنه قال : وفي الأرض قطع مختلفات بتخصيص الله لها بمعانٍ فهي «تسقى بماء واحد » ، ولكن تختلف فيما تخرجه والذي يظهر من وصفه لها بالتجاور إنما هو أنها من تربة واحدة ونوع واحد ، وموضع العبرة في هذا أبين لأنها مع اتفاقها في التربة والماء ، تفضل القدرة والإرادة بعض أكلها على بعض ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن هذه الآية - فقال :
«الدقل والفارسي{[6896]} والحلو والحامض{[6897]} » وعلى المعنى الأول قال الحسن : هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم : كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فسطحها فصارت قطعاً متجاورة فينزل عليها ماء واحد من السماء - فتخرج هذه زهرة وثمرة ، وتخرج هذه سبخة وملحاً وخبثاً ، فكذلك الناس : خلقوا من آدم فنزلت عليهم من السماء تذكرة -فرقت قلوب وخشعت ، وقست قلوب ولهت وجفت : قال الحسن : فوالله ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان ، قال الله تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً }{[6898]} [ الإسراء : 82 ] .
والتفضيل في الأكل [ يشمل ]{[6899]} الأذواق والألوان والملمس وغير ذلك .
لله بلاغة القرآن في تغيير الأسلوب عند الانتقال إلى ذكر النعم الدالة على قدرة الله تعالى فيما ألهم الناس من العمل في الأرض بفلحها وزرعها وغرسها والقيام عليها ، فجاء ذلك معطوفاً على الأشياء التي أسند جَعْلها إلى الله تعالى ، ولكنه لم يسند إلى الله حتى بلغ إلى قوله : { ونفضل بعضها على بعض في الأكل } ، لأن ذلك بأسرار أودعها الله تعالى فيها هي موجب تفاضلها . وأمثال هذه العِبر ، ولَفْتِ النظر مما انفرد به القرآن من بين سائر الكتب .
وأعيد اسم { الأرض } الظاهر دون ضميرها الذي هو المقتضَى ليستقل الكلام ويتجدد الأسلوب ، وأصل انتظام الكلام أن يقال : جَعل فيها زوجين اثنين ، وفيها قطعٌ متجاورات ، فعدل إلى هذا توضيحاً وإيجازاً .
والقِطع : جمع قِطعة بكسر القاف ، وهي الجزء من الشيء تشبيهاً لها بما يقتطع . وليس وصف القِطع بمتجاورات مقصوداً بالذات في هذا المقام إذ ليس هو محل العبرة بالآيات ، بل المقصود وصفٌ محذوف دل عليه السياق تقديره ؛ مختلفات الألوان والمنابت ، كما دل عليه قوله : { ونفضل بعضها على بعض في الأكل } .
وإنما وصفت بمتجاورات لأن اختلاف الألوان والمنابت مع التجاور أشد دلالة على القدرة العظيمة ، وهذا كقوله تعالى : { ومن الجبال جُدَدٌ بِيض وحُمر مختلفٌ ألوانها وغرابيب سود } [ فاطر : 27 ] .
فمعنى { قطع متجاورات } بقاعٌ مختلفة مع كونها متجاورةً متلاصقة .
والاقتصار على ذكر الأرض وقِطعها يشير إلى اختلاف حاصل فيها عن غير صنع الناس وذلك اختلاف المراعي والكلأ . ومجرد ذكر القطَع كاف في ذلك فأحالهم على المشاهدة المعروفة من اختلاف منابت قطع الأرض من الأبّ والكلإ وهي مراعي أنعامهم ودوابّهم ، ولذلك لم يقع التعرض هنا لاختلاف أُكله إذ لا مذاق للآدمي فيه ولكنه يختلف شَرعهُ بعض الحيوان على بعضه دون بعض .
وتقدم الكلام على { وجنات من أعناب } عند قوله تعالى : { ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب } [ الأنعام : 99 ] .
والزرع تقدم في قوله : { والنخل والزرع مختلفا أكله } [ الأنعام : 141 ] .
والنخيل : اسم جمع نخلة مثل النخل ، وتقدم في تلك الآية ، وكلاهما في سورة الأنعام .
والزرع يكون في الجنات يزرع بين أشجارها .
وقرأ الجمهور { وزرع ونخيل } بالجر عطفاً على { أعناب } ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص ، ويعقوب بالرفع عطفاً على { جنات } . والمعنى واحد لأن الزرع الذي في الجنات مساوٍ للذي في غيرها فاكتُفي به قضاء لحق الإيجاز . وكذلك على قراءة الرفع هو يغني عن ذكر الزرع الذي في الجنات ، والنخل لا يكون إلاّ في جنات .
وصنوان : جمع صِنو بكسر الصاد في الأفصح فيهما وهي لغة الحجاز ، وبضمها فيهما أيضاً وهي لغة تميم وقيسسٍ . والصنو : النخلة المجتمعة مع نخلة أخرى نابتتين في أصل واحد أو نخلات .
الواحد صنو والمثنى صنواننِ بدون تنوين ، والجمع صِنوانٌ بالتنوين جمع تكسير . وهذه الزنة نادرة في صيغ أو الجموع في العربية لم يحفظ منها إلا خمسةُ جموع : صِنو وصنوانٌ ، وقِنْو وقنوانٌ ، وزِيدٍ بمعنى مِثْل وزِيدَاننٍ ، وشِقْذ ( بذال معجمة اسم الحرباء ) وشِقذان ، وحِشّ ( بمعنى بستان ) وحِشانٍ .
وخصّ النخل بذكر صفة صنوان لأن العبرة بها أقوى . ووجه زيادة { وغير صنوان } تجديد العبرة باختلاف الأحوال .
وقرأ الجمهور { صنوان وغير صنوان } بجر { صنوان } وجر { وغير } عطفاً على { زرع } . وقرأهما ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص ، ويعقوب بالرفع عطفاً على { وجنات } .
والسقي : إعطاء المشروب . والمراد بالماء هنا ماء المطر وماء الأنهار وهو واحد بالنسبة للمسقى ببعضه .
والتفضيل : منة بالأفضل وعبرة به وبضده وكناية عن الاختلاف .
وقرأ الجمهور { تُسقَى } بفوقية اعتباراً بجمع { جنات } ، وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، ويعقوب { يسقى } بتحتية على تأويل المذكور .
وقرأ الجمهور { ونفضل } بنون العظمة ، وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف { ويفضل } بتحتية . والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { الله الذي رفع السماوات بغير عمد } . وتأنيث { بعضها } عند من قرأ { يسقى } بتحتية دون أن يقول بعضه لأنه أريد يفضل بعض الجنات على بعض في الثمرة .
والأُكْل : بضم الهمزة وسكون الكاف هو المأكول . ويجوز في اللغة ضم الكاف .
وظرفية التفضيل في { الأكل } ظرفية في معنى الملابسة لأن التفاضل يظهر بالمأكول ، أي نفضل بعض الجنات على بعض أو بعض الأعناب والزرع والنخيل على بعض من جنسه بما يثمره . والمعنى أن اختلاف طعومه وتفاضلها مع كون الأصل واحداً والغذاء بالماء واحداً ما هو إلا لقوى خفيّة أودعها الله فيها فجاءت آثارها مختلفة .
ومن ثم جاءت جملة { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } مجيء التذييل .
وأشار قوله : { ذلك } إلى جميع المذكور من قوله : { وهو الذي مدّ الأرض } [ سورة الرعد : 3 ] . وقد جعل جميع المذكور بمنزلة الظرف للآيات . وجعلت دلالته على انفراده تعالى بالإلهية دلالات كثيرة إذ في كل شيء منها آية تدل على ذلك .
ووصفت الآيات بأنها من اختصاص الذين يعقلون تعريضاً بأن من لم تقنعهم تلك الآيات منزّلون منزلة من لا يعقل . وزيد في الدلالة على أن العقل سجية للذين انتفعوا بتلك الآيات بإجراء وصف العقل على كلمة { قَوم } إيماء إلى أن العقل من مقومات قوميتهم كما بيناه في الآية قبلها .