{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } وهي أكبر من خلق الناس . { قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } بلى ، إنه على ذلك قدير .
{ و } لكنه قد { وَجَعَل } َ لذلك { أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ } ولا شك ، وإلا فلو شاء لجاءهم به بغتة ، ومع إقامته الحجج والأدلة على البعث .
{ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا } ظلمًا منهم وافتراء .
ثم رد - سبحانه - على ما استنكروه من شأن البعث ردًا يقنع كل ذى عقل سليم ، فقال - تعالى - { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ . . . } .
والهمزة للاستفهام التوبيخى ، وهى داخلة على محذوف ، والمراد بمثلهم إياهم ، فيكون المعنى : أعموا عن الحق ، ولم يعلموا كما يعلم العقلاء ، أن الله - تعالى - الذى خلق السموات والأرض بقدرته ، وهما أعظم من خلق الناس ، قادر على إعادتهم إلى الحياة مرة أخرى بعد موتهم ، لكى يحاسبهم على أعمالهم فى الدنيا .
إن عدم علمهم بذلك ، وإنكارهم له ، لمن أكبر الأدلة على جهلهم وانطماس بصيرتهم ، لأن من قدر على خلق ما هو أعظم وأكبر - وهو السموات والأرض فهو على إعادة ما هو دونه - وهو الناس - أقدر .
قال الشيخ الجمل ما ملخصه : قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ . . } هذا رد لإِنكارهم البعث ، ولما استبعدوه من شأنه ، يعنى أن من خلق السموات والأرض ، كيف يستبعد منه أن يقدر على إعادتهم بأعيانهم . . وأراد - سبحانه - . . بمثلهم : إياهم ، فعبر عن خلقهم بلفظ المثل كقول المتكلمين : إن الإِعادة مثل الابتداء ، وذلك أن مثل الشئ مساو له فى حاله ، فجاز أن يعبر به عن الشئ نفسه يقال : مثلك لا يفعل كذا ، أى : أنت لا تفعله .
ويجوز أن يكون المعنى أنه - سبحانه - قادر على أن يخلق عبيدًا غيرهم يوحدونه ويقرون بكمال حكمته ، ويتركون هذه الشبهات الفاسدة ، كما فى قوله - تعالى - { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } والأول أشبه بما قبله .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وقوله - سبحانه - : { أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى وَهُوَ الخلاق العليم . . . } وبعد أن أقام - سبحانه - الدليل الواضح على أن البعث حق ، وعلى أن إعادة الناس إلى الحياة بعد موتهم أمر ممكن ، أتبع ذلك ببيان أن لهذه الإِعادة وقتًا معلومًا يجريه حسب حكمته - تعالى - فقال : { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ } .
أى : وجعل لهم ميقاتًا محددا لا شك فى حصوله ، وعند حلول هذا الميقات يخرجون من قبورهم للحساب والجزاء ، كما قال - تعالى - : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } والجملة الكريمة وهى قوله : { وجعل لهم . . . } معطوفة على قوله { أَوَلَمْ يَرَوْاْ . . } لأنه فى قوة قولك قد رأوا وعلموا .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت ؛ علام عطف قوله : { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً } ؟
قلت : على قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } لأن المعنى : قد علموا بدليل العقل ، أن من قدر على خلق السموات والأرض ، فهو قادر على خلق أمثالهم من الإِنس لأنهم ليسوا بأشد خلقًا منهن ، كما قال : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء } وقوله - سبحانه - : { فأبى الظالمون إِلاَّ كُفُوراً } بيان لإِصرارهم على جحود الحق مع علمهم بأنه حق .
أى : فأبى هؤلاء الظالمون المنكرون للبعث ، إلا جحودًا له وعنادًا لمن دعاهم إلى الإِيمان به ، شأن الجاهلين المغرورين الذين استحبوا العمى على الهدى .
فاحتج{[17865]} تعالى عليهم ، ونبههم على قدرته على ذلك ، بأنه خلق السماوات والأرض ، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك كما قال : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر : 57 ] وقال { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف : 33 ] وقال { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ يس : 81 ، 83 ] .
وقال هاهنا : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) أي : يوم القيامة يعيد أبدانهم وينشئهم نشأة أخرى ، ويعيدهم كما بدأهم .
وقوله : ( وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ ) أي : جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلا مضروبًا ومدة مقدرة لا بد من انقضائها ، كما قال تعالى : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ } [ هود : 104 ] .
وقوله : ( فَأَبَى الظَّالِمُونَ ) أي : بعد قيام الحجة عليهم ( إِلا كُفُورًا ) إلا تماديًا في باطلهم وضلالهم .
هذه الآية احتجاج عليهم فيما استبعدوه من العبث ، وذلك أنهم قرروا على خلق الله تعالى واختراعه لهذه الجملة التي البشر جزء منها ، فهم لا ينكرون ذلك ، فكيف يصح لهم أن يقروا بخلقه للكل وإخراجه من خمول العدم وينكرون إعادته للبعض ؟ فحصل الأمر في حيز الجواز ، وأخبر الصادق الذي قامت دلائل معجزاته بوقوع ذلك الجائز ، و «الرؤية » في هذه الآية رؤية القلب ، و «الأجل » هنا يحتمل أن يريد به القيامة ويحتمل أن يريد أجل الموت ، و «الأجل » على هذا التأويل اسم جنس لأنه وضعه موضع الآجال ، ومقصد هذا الكلام بيان قدرة الله عز وجل وملكه لخلقه ، وبتقرير ذلك يقوى جواز بعثه لهم حين يشاء لا إله إلا هو ، وقوله { فأبى } عبارة عن تكسبهم وجنوحهم ، وقد مضى تفسير هذه الآيات آنفاً ،
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.