تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا} (59)

ثم أمر بطاعته وطاعة رسوله وذلك بامتثال أمرهما ، الواجب والمستحب ، واجتناب نهيهما . وأمر بطاعة أولي الأمر وهم : الولاة على الناس ، من الأمراء والحكام والمفتين ، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم ، طاعة لله ورغبة فيما عنده ، ولكن بشرط ألا يأمروا بمعصية الله ، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . ولعل هذا هو السر في حذف الفعل عند الأمر بطاعتهم وذكره مع طاعة الرسول ، فإن الرسول لا يأمر إلا بطاعة الله ، ومن يطعه فقد أطاع الله ، وأما أولو الأمر فشرط الأمر بطاعتهم أن لا يكون معصية .

ثم أمر برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله وإلى الرسول أي : إلى كتاب الله وسنة رسوله ؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية ، إما بصريحهما أو عمومهما ؛ أو إيماء ، أو تنبيه ، أو مفهوم ، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه ، لأن كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين ، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما .

فالرد إليهما شرط في الإيمان فلهذا قال : { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة ، بل مؤمن بالطاغوت ، كما ذكر في الآية بعدها { ذَلِكَ } أي : الرد إلى الله ورسوله { خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فإن حكم الله ورسوله أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم وعاقبتهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا} (59)

وبعد أن أمر - سبحانه بأداء الأمانة وبالحكم بالعدل عقب ذلك بأمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله وولاة أمورهم فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } .

وطاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان . قال - تعالى - : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } ومعنى طاعتهما : التزام أوامرهما ، واجتناب نواهيهما .

والمراد بأولى الأمر - على الراجح - الحكام . وطاعتهم إنما تكون فى غير معصية الله ، فإذا أمروا بأولى الأمر - على الراجح - الحكام . وطاعتهم إنما تكون فى غير معصية الله ، فإذا أمروا بما يتنافى مع تعاليم الدين فلا سمع لهم على الأمة ولا طاعة .

وإنما أمرنا الله - تعالى - بطاعتهم فى غير معصية ، لأنهم هم المنفذون لتعاليم الشريعة ، وهم الذين بيدهم مقاليد الأمة التى يقومون على رعاية مصالحها ، ولأن عدم طاعتهم يؤدى إلى اضطراب أحواله الأمة وفسادها .

قال صاحب الكشاف : والمراد ب { وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } : أمراء الحق ، لأن - أمراء الجور - الله ورسوله بريئان منهم ، فلا يعطفون على الله ورسوله بوجوب الطاعة لهم . وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما فى إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما . والنهى عن أضدادهما كالخلفاء والراشدين ومن تبعهم بإحسان . وكان الخلفاء يقولون : أطيعونى ما عدلت فيكم . فان خالفت فلا طاعة لى عليكم ، وعن أبى حازم أن مسلمة بن عبد الملك قال له : ألستم أمرتم بطاعتنا فى قوله { وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } فقال له : أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } .

وقيل هم العلماء الدينيون الذين يعلمون الناس ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر .

وأعاد - سبحانه - الفعل { أَطِيعُواْ } مع الرسول فقال : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } ولم يعده مع أولى الأمر ، للإِشارة إلى استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم بالطاعة حتى ولو كان ما يأمر به ليس منصوصا عليه فى القرآن ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، وللإِيذان بأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى من طاعة أولى الأمر .

وقوله { مِنْكُمْ } فى محل نصب على الحال من أولى الأمر أى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر حالة كونهم كائنين منكم أى من دينكم وملتكم .

وفى ذلك إشارة إلى أنه لا طاعة لمن يتحكمون فى شئون المسلمين ممن ليسوا على ملتهم .

وقوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } بيان لما يجب على المؤمنين أن يفعلوه إذا ما حدث بينهم اختلاف فى أمر من الأمور الدينية . والمراد بالتنازع هنا : الاختلاف والجدال مأخوذ من النزع بمعنى الجذب . فكأن كل واحد من المختلفين بجذب من غيره الحجة لدليله . . .

ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم " ما لى أنازع القرآن " أى ينازعنى غيرى ويجاذبنى فى القراءة . وذلك أن بعض المأمومين جهر خلفه فنازعه قراءة فشغله ، فنهاه عن الجهر بالقراءة فى الصلاة خلفه .

والمعنى : فان تنازعتم واختلفتم أيها المؤمنون أنتم وألوا الأمر منكم فى أمر من أمور الدين { فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } أى فردوا ذلك الحكم أو الأمر الذى اختلفتم فيه إلى كتاب الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن تسألوه عنه فى حياته ، وترجعوا إلى سنته بعد مماته .

قال القرطبى : قوله { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ } أى تجادلتم واختلفتم فى شئ من أمور دينكم { فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } أى ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال فى حياته ، أو بالنظر فى سنته بعد وفاته . وهذا قول مجاهد والأعمش وقتادة . وهو الصحيح .

ومن لم ير هذا اختل إيمانه ، لقوله - تعالى { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } .

وفى قوله { فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } دليل على أن سنته صلى الله عليه وسلم يعمل بها ويمتثل ما فيها .

قال صلى الله عليه وسلم " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم . فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " أخرجه مسلم .

وروى أبو داود عن أبى رافع عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته ، يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندرى ما وجدناه فى كتاب الله اتبعناه " .

وعن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو يقول :

" أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما فى هذا القرآن ألا وإنى والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن اشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر " .

وقوله { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } شرط جوابه محذوف عند جمهور البصريين اكتفاء بدلالة المذكور عليه .

أى : إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر حق الإِيمان فارجعوا فيما تنازعتم فيه من أمور دينية إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

والجملة الكريمة تحريض للمؤمنين على الامثال لتعاليم الإِسلام وآدابه ، لأن الإِيمان الحق يقتضى ذلك .

واسم الاشارة فى قوله : { ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } يعود إلى الرد إلى الكتاب والسنة وقوله { تَأْوِيلاً } من آل هذا الأمر إلى كذا أى رجع إليه ، فيكون المعنى : ذلك الذى أمرتكم به من رد ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة خير لكم وأحمد مغبة ، وأجمل عاقبة .

ويجوز أن يكون قوله { تَأْوِيلاً } معنى التفسير والتوضيح فيكون المعنى :

ذلك أى الرد إلى الكتاب والسنة خير لكم وأحسن تأويلا وتفسيراً من تأويلكم أنتم إياه ، من غير رد إلى اصل من الكتاب والسنة . والأول أنسب لسياق الآية الكريمة .

قال ابن كثير : قوله { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ } . الآية هذا أمر من الله - تعالى - بأن كل شئ تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه ، أن يردوا التنازع فى ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال - تعالى - : { وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله } فما حكم به القرآن والسنة وشهد له بالصحة فهو الحق . ماذا بعد الحق إلا الضلال . ولهذا قال - تعالى - : { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } . أى : ردوا الخصومات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . فدل على أن من لم يتحاكم فى محل النزاع إلى الكتاب والسنة ، ولا يرجع إليهما فى ذلك ، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر .

وقال بعض العلماء : قد يؤخذ من الآية التى معنا أن أدلة الأحكام الشرعية أربعة . وهى : الكتاب والسنة والإِجماع والقياس . . لأن الأحكام إما منصوبة فى الكتاب أو السنة وذلك قوله : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } . وإما مجمع عليها من أولى الأمر بعد استنادهم إلى دليل علموه . وذلك قوله { وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } وإما غير منصوصة ولا مجمع عليها . وهذه سبيلها الاجتهاد والرد إلى الله والرسول وذلك هو القياس .

فما اثبته الفقهاء والأصوليون غير هذه الأربعة كالاستحسان الذى يراه الأحناف دليلا .

وإثبات الأحكام الشرعية تمشيا مع المصلاح المرسلة الذى يقول به المالكية ، والاستصحاب الذى يقول به الشافعية ، كل ذلك إن كان غير هذه الأربعة فمردود بظاهر هذه الآية ، وإن كان راجعا إليها فقد ثبت أن الأدلة أربعة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا} (59)

قال البخاري : حدثنا صدقة بن الفضل ، حدثنا حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } قال : نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي ؛ إذ بعثه رسول النبي صلى الله عليه وسلم في سرية .

وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من حديث حجاج بن محمد الأعور ، به . وقال الترمذي : حديث حسن غريب ، ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج{[7792]} .

وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن سعيد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية ، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار ، فلما خرجوا وَجَد عليهم في شيء . قال : فقال لهم : أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني ؟ قالوا : بلى ، قال : اجمعوا{[7793]} لي حطبا . ثم دعا بنار فأضرمها فيه ، ثم قال : عزمت عليكم لتدخلنها . [ قال : فهم القوم أن يدخلوها ]{[7794]} قال : فقال لهم شاب منهم : إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار ، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها . قال : فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فقال لهم : " لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا ؛ إنما الطاعة في المعروف " . أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش ، به{[7795]} .

وقال أبو داود : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، حدثنا نافع ، عن عبد الله بن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " .

وأخرجاه من حديث يحيى القطان{[7796]} .

وعن عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ، في مَنْشَطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثَرَةٍ علينا ، وألا ننازع الأمر أهله . قال : " إلا أن تروا كفرا بَوَاحا ، عندكم فيه من الله برهان " أخرجاه{[7797]} .

وفي الحديث الآخر ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة " . رواه البخاري{[7798]} .

وعن أبي هريرة قال : أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع ، وإن كان عبدا حبشيًا مُجَدَّع الأطراف . رواه مسلم{[7799]} .

وعن أم الحصين أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول : " ولو استعمل عليكم عبد{[7800]} يقودكم بكتاب الله ، اسمعوا له وأطيعوا " رواه مسلم{[7801]} وفي لفظ له : " عبدا حبشيًا مجدوعا " .

وقال ابن جرير : حدثني علي بن مسلم الطوسي ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثني عبد الله بن محمد بن عروة{[7802]} عن هشام بن عروة ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سيليكم بعدي ولاة ، فيليكم البر ببره ، ويليكم الفاجر بفجوره ، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق ، وصلوا وراءهم ، فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم " {[7803]} .

وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي ، وسيكون خلفاء فيكثرون " . قالوا : يا رسول الله ، فما تأمرنا ؟ قال : " أوفوا ببيعة الأول فالأول ، وأعطوهم حقهم ، فإن الله سائلهم عما استرعاهم " أخرجاه{[7804]} .

وعن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر ؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية " . أخرجاه{[7805]} .

وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من خلع يدا من طاعة ، لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية " . رواه مسلم{[7806]} .

وروى مسلم أيضا ، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال : دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة ، والناس حوله مجتمعون عليه ، فأتيتهم فجلست إليه فقال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ، ومنا من يَنْتَضل ، ومنا من هو في جَشَره{[7807]} إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلاة جامعة . فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يَدُل أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينذرهم شر ما يعلمه لهم ، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها{[7808]} في أولها ، وسيصيب{[7809]} آخرها بلاء وأمور تُنْكرونها ، وتجيء فتن يَرفُق بعضُها بعضا ، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتي ، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه هذه ، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ، ومن بايع إماما فأعطاه صَفْقَة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عُنُق الآخر " . قال : فدنوت منه فقلت : أنشدك بالله آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال : سمعته أذناي ووعاه قلبي ، فقلت له : هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، ونقتل أنفسنا ، والله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [ النساء : 29 ]قال : فسكت ساعة ثم قال : أطعه في طاعة الله ، واعصه في معصية الله{[7810]} .

والأحاديث في هذا كثيرة .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن الحسين ، حدثنا أحمد بن المفضل{[7811]} حدثنا أسباط ، عن السدي : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها خالد بن الوليد ، وفيها عمار بن ياسر ، فساروا قبل القوم الذين يريدون ، فلما بلغوا قريبا{[7812]} منهم عَرَّسوا ، وأتاهم ذو العُيَيْنَتَين فأخبرهم ، فأصبحوا قد هربوا غير رجل . فأمر{[7813]} أهله فجمعوا{[7814]} متاعهم ، ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل ، حتى أتى عسكر خالد ، فسأل عن عمار بن ياسر ، فأتاه فقال : يا أبا اليقظان ، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا عبده ورسوله ، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا ، وإني بقيت ، فهل إسلامي نافعي غدا ، وإلا هربت ؟ قال عمار : بل هو ينفعك ، فأقم . فأقام ، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدًا غير الرجل ، فأخذه وأخذ ماله . فبلغ عمارا الخبر ، فأتى خالدا فقال : خل عن الرجل ، فإنه قد أسلم ، وإنه في أمان مني . فقال خالد : وفيم أنت تجير ؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأجاز أمان عمار ، ونهاه أن يجير الثانية على أمير . فاستبا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال خالد : يا رسول الله ، أتترك هذا العبد الأجدع يَسُبُّني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا خالد ، لا تسب عمارًا ، فإنه من يسب عمارا يسبه الله ، ومن يبغضه يبغضه الله ومن يلعن عمارا يلعنه الله " {[7815]} فغضب عمار فقام ، فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه ، فرضي عنه ، فأنزل الله عز وجل قوله : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ }

وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، من طريق عن السدي ، مرسلا . ورواه ابن مردويه من رواية الحكم{[7816]} بن ظهير ، عن السدي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، فذكره بنحوه{[7817]} والله أعلم .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } يعني : أهل الفقه والدين . وكذا قال مجاهد ، وعطاء ، والحسن البصري ، وأبو العالية : { وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } يعني : العلماء . والظاهر - والله أعلم - أن الآية في جميع{[7818]} أولي الأمر من الأمراء والعلماء ، كما تقدم . وقد قال تعالى : { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ } [ المائدة : 63 ] وقال تعالى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] وفي الحديث الصحيح المتفق عليه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصا الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصا أميري فقد عصاني " {[7819]} .

فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء ، ولهذا قال تعالى : { أَطِيعُوا اللَّهَ } أي : اتبعوا كتابه { وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } أي : خذوا بسنته { وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } أي : فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله ، كما تقدم في الحديث الصحيح : " إنما الطاعة في المعروف " . وقال الإمام أحمد :

حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن أبي مرابة ، عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا طاعة في معصية الله " {[7820]} .

وقوله : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } قال مجاهد وغير واحد من السلف : أي : إلى كتاب الله وسنة رسوله .

وهذا أمر من الله ، عز وجل ، بأن كل شيء تنازع الناس{[7821]} فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة ، كما قال تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [ الشورى : 10 ] فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، ولهذا قال تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله ، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }

فدل على أن من لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك ، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر .

وقوله : { ذَلِكَ خَيْرٌ } أي : التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله . والرجوع في فصل النزاع إليهما خير { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } أي : وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وغير واحد . وقال مجاهد : وأحسن جزاء . وهو قريب .


[7792]:صحيح البخاري برقم (8584)، وصحيح مسلم برقم (1834)، وسنن أبي داود برقم (2624)، وسنن الترمذي برقم (1672)، وسنن النسائي (7/ 154).
[7793]:في أ: "قال: فقال اجمعوا".
[7794]:زيادة من أ، والمسند.
[7795]:المسند (1/82) وصحيح البخاري برقم (4340)، وصحيح مسلم برقم (1840).
[7796]:سنن أبي داود برقم (2626)، وصحيح البخاري برقم (7144)، وصحيح مسلم برقم (1839).
[7797]:صحيح البخاري برقم (7199)، وصحيح مسلم برقم (1709).
[7798]:صحيح البخاري برقم (693).
[7799]:رواه مسلم في صحيحه برقم (1837) من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، وليس من حديث أبي هريرة.
[7800]:في أ: "عبد حبشي".
[7801]:صحيح مسلم برقم (1838).
[7802]:في أ: "عرفة".
[7803]:تفسير الطبري (8/498).
[7804]:صحيح البخاري برقم (3455)، وصحيح مسلم برقم (1842).
[7805]:صحيح البخاري برقم (7143)، وصحيح مسلم برقم (1849).
[7806]:صحيح مسلم برقم (1851).
[7807]:في أ: "شجرة".
[7808]:في ر: "عاقبتها".
[7809]:في أ: "وبقيت".
[7810]:صحيح مسلم برقم (1844).
[7811]:في ر، أ: "ابن الفضل".
[7812]:في أ: "قبلا".
[7813]:في أ: "أمر".
[7814]:في ر: "فخرقوا"، وفي أ: "فحزموا".
[7815]:في أ: "من أبغض عمارا أبغضه الله، ومن لعن عمارا لعنه الله".
[7816]:في ر: "الحاكم".
[7817]:تفسير الطبري (8/498)
[7818]:في ر، أ: "كل".
[7819]:رواه البخاري في صحيحه برقم (7137)، ومسلم في صحيحه برقم (1835).
[7820]:المسند (4/426).
[7821]:في د: "المسلمون".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا} (59)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } . .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ربكم فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ، وأطيعوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فإن في طاعتكم إياه لربكم طاعة ، وذلك أنكم تطيعونه لأمر الله إياكم بطاعته . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أطاعَنِي فَقَدْ أطاعَ اللّهَ وَمَنْ أطاعَ أمِيري فَقَدْ أطاعَنِي ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللّهَ وَمَنْ عَصَا أمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي » .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله : { أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ } فقال بعضهم : ذلك أمر من الله باتباع سنّته . ذكر من قال ذلك :

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، في قوله : { أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ } قال : طاعة الرسول : اتّباع سنته .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن عبد الملك ، عن عطاء : { أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ } قال : طاعة الرسول : اتباع الكتاب والسنة .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، مثله .

وقال آخرون : ذلك أمر من الله بطاعة الرسول في حياته . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ } إن كان حيّا .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : هو أمر من الله بطاعة رسوله في حياته فيما أمر ونهى ، وبعد وفاته في اتباع سنته¹ وذلك أن الله عمّ بالأمر بطاعته ولم يخصص ذلك في حال دون حال ، فهو على العموم حتى يخصّ ذلك ما يجب التسليم له .

واختلف أهل التأويل في أولي الأمر الذين أمر الله عباده بطاعتهم في هذه الاَية ، فقال بعضهم هم الأمراء . ذكر من قال ذلك :

حدثني أبو السائب سلم بن جنادة ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة في قوله : { أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولى الأمْرِ مِنْكُمْ } قال : هم الأمراء .

حدثنا الحسن بن الصباح البزار ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه قال : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ } ، نزلت في رجل بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم على سرية .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبيد الله بن مسلم بن هرمز ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن هذه الاَية نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي إذ بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم في السرية .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، قال : سأل مسلمة ميمون بن مهران ، عن قوله : { أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولى الأمْره مِنْكُمْ } قال : أصحاب السرايا على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْر مِنْكُمْ } قال : قال أبي : هم السلاطين . قال : وقال ابن زيد في قوله : { وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ } قال أبي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الطّاعَة الطّاعة ! وفي الطّاعَةِ بلاءٌ » . وقال : «ولو شَاء اللّه لَجَعَلَ الأَمْرَ في الأنْبِيَاءِ » ، يعني : لقد جعل إليهم والأنبياء معهم ، ألا ترى حين حكموا في قتل يحيى بن زكريا ؟ .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، حدثنا أسباط ، عن السديّ : { أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولى الأمْرِ مِنْكُمْ } قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها خالد ابن الوليد ، وفيها عمار بن ياسر ، فساروا قَبِلَ القوم الذين يريدون ، فلما بلغوا قريبا منهم عَرّسوا ، وأتاهم ذو العيينتين ، فأخبرهم فأصبحوا وقد هربوا غير رجل أمر أهله ، فجمعوا متاعهم . ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل ، حتى أتى عسكر خالد ، فسأل عن عمار بن ياسر فأتاه ، فقال : يا أبا اليقظان ، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا ، وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غدا وإلا هربت ؟ قال عمار : بل هو ينفعك ، فأقم ! فأقام . فلما أصبحوا أغار خالد ، فلم يجد أحدا غير الرجل ، فأخذه وأخذ ماله ، فبلغ عمارا الخبر ، فأتى خالدا فقال : خلّ عن الرجل فإنه قد أسلم ، وهو في أمان مني ! فقال خالد : وفيم أنت تجير ؟ فاستّبا وارتفعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأحاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أمير . فاستّبا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال خالد : يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يسبني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا خالِدُ لا تَسُبّ عَمّارا ، فإنّهُ مَنْ سَبّ عَمّارا سَبّهُ اللّهُ ، وَمَنْ أبْغَضَ عَمّارا أبْغَضَهُ اللّهُ ، وَمَنْ لَعَنَ عَمّارا لَعَنَهُ اللّهُ » . فغضب عمار ، فقام فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه ، فرضي عنه ، فأنزل الله تعالى قوله : { أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولى الأمْرِ مِنْكُمْ } .

وقال آخرون : هم أهل العلم والفقه . ذكر من قال ذلك :

حدثني سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن عليّ بن صالح ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله . . . قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، في قوله : { أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولى الأمْرِ مِنْكُمْ } قال : أولي الفقه منكم .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا ليث ، عن مجاهد ، في قوله : { أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْر مِنْكُمْ } قال : أولي الفقه والعلم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح : { وأُولي الأمْر مِنْكُمْ } قال : أولي الفقه في الدين والعقل .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ } يعني : أهل الفقه والدين .

حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن حصين ، عن مجاهد : { وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ } قال : أهل العلم .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء بن السائب في قوله : { أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ } قال : أولي العلم والفقه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن عطاء : { وأُولي الأمْر مِنْكُمْ } قال : الفقهاء والعلماء .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : { وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ } قال : هم العلماء .

قال : وأخبرنا عبد الرزاق ، عن الثّوْرِيّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : { وَأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ } قال : هم أهل الفقه والعلم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : { وأولي الأمْر مِنْكُمْ } قال : هم أهل العلم ، ألا ترى أنه يقول : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وَإلى أُولِي الأمْر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبطُونَهُ مِنْهُمْ } ؟ .

وقال آخرون : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { { أطِيعُوا اللّهَ وأطيعُوا الرّسُولَ وَأُولي الأمْر مِنْكُمْ } قال : كان مجاهد يقول : أصحاب محمد . قال : وربما قال : أولي الفضل والفقه ودين الله .

وقال آخرون : هم أبو بكر وعمر رضي الله عنه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن عمرو البصري ، قال : حدثنا حفص بن عمر العدني ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة : { أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ } قال : أبو بكر وعمر .

وأوْلَي الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : هم الأمراء والولاة ، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان طاعة وللمسلمين مصلحة . كالذي :

حدثني عليّ بن مسلم الطوسي قال : حدثنا ابن أبي فديك ، قال : ثني عبد الله بن محمد بن عروة ، عن هشام بن عروة ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «سيَليكُمْ بَعْدِي وُلاةٌ ، فَيَلِيكُمْ البَرّ بِبرّة والفَاجِرِ بِفُجُوره ، فاسمَعُوا لَهُمْ وأطِيعُوا فِي كلّ ما وَافَقَ الحَقّ ، وَصَلّوا وَرَاءَهُمْ فإنْ أحْسَنُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ ، وَإنْ أساءوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ » .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى عن عبيد الله ، قال : أخبرني نافع ، عن عبد الله ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «على المَرْء المُسْلِم الطّاعَةُ فِيما أحَبّ وكَرهَ ، إلاّ أنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصَيَةٍ فَمَنْ أُمرَ بِمَعْصِيَةِ فَلا طاعَةَ » .

حدثني ابن المثنى ، قال : ثني خالد عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .

فإذا كان معلوما أنه لا طاعة واجبة لأحد غير الله أو رسوله أو إمام عادل ، وكان الله قد أمر بقوله : { أطِيعُوا اللّهَ وأطِعُوا الرّسُولَ وأولي مِنْكُمْ } بطاعة ذوي أمرنا ، كان معلوما أن الذين أمر بطاعتهم تعالى ذكره من ذوي أمرنا هم الأئمة ومن ولاّه المسلمون دون غيرهم من الناس ، وإن كان فرضا القبول من كل من أمر بترك معصية الله ، ودعا إلى طاعة الله ، وأنه لا طاعة تجب لأحد فيما أمر ونهى فيما لم تقم حجة وجوبه إلا للأئمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم مما هو مصلحة لعامة الرعية ، فإنّ على من أمروه بذلك طاعتهم ، وكذلك في كل ما لم يكن لله معصية . وإذ كان ذلك كذلك كان معلوما بذلك صحة ما اخترنا من التأويل دون غيره .

القول في تأويل قوله تعالى : { فإنْ تَنازَعْتمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إلى اللّهِ وَالرّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللّهِ وَاليَوْم الاَخِرِ } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : فإن اختلفتم يها المؤمنون في شيء من أمر دينكم أنتم فيما بينكم أو أنتم وولاة أمركم فاشتجرتم فيه ، { فَردّوهُ إلَى اللّه } يعني بذلك : فارتادوا معرفة حكم الذي اشتجرتم أنتم بينكم أو انتم وأولو أمركم من عند الله ، يعني بذلك : من كتاب الله ، فاتبعوا ما وجدتم . وأما قوله : { وَالرّسولِ فإنه يقول : فإن تجدوا إلى علم ذلك في كتاب الله سبيلاً ، فارتادوا معرفة ذلك أيضا من عند الرسول إن كان حيّا وإن كان ميتا ، فمن سنته : { إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللّهِ وَاليَوْم الاَخِر } يقول : افعلوا ذلك إن كنتم تصدّقون بالله واليوم الاَخر . يعني : بالمعاد الذي فيه الثواب والعقاب ، فإنكم إن فعلتم ما أمرتم به من ذلك فلكم من الله الجزيل من الثواب ، وإن لم تفعلوا ذلك فلكم الأليم من العقاب .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا ليث عن مجاهد ، في قوله : { فإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُوهُ إلى اللّهِ وَالرّسُولِ } قال : فإن تنازع العلماء ردّوه إلى الله والرسول . قال : يقول : فردّوه إلى كتاب الله وسنة رسوله . ثم قرأ مجاهد هذه الاَية : { وَلَوْ رَدّوه إلى الرّسولِ وإلَى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَه الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَه مِنْهُمْ } .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : { فَرُدّوهُ إلى الله وَالرّسُول } قال : كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : { فَرُدّوهُ إلى الله وَالرّسُولِ } قال : إلى الله إلى كتابه ، وإلى الرسول : إلى سنة نبيه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، قال : سأل مسلمة ميمون بن مهران عن قوله : { فإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوه إلى الله والرّسُول } قال : «الله » : كتابه و«رسوله » : سنته . فكأنما ألقمه حجرا .

حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : أخبرنا جعفر بن مروان ، عن ميمون بن مهران : { فإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إلى اللّهِ وَالرّسُولِ } قال : الردّ إلى الله : الردّ إلى كتابه ، والردّ إلى رسوله إن كان حيّا ، فإن قبضه الله إليه فالردّ إلى السنة .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إلى اللّهِ والرّسُولِ } يقول : ردّوه إلى كتاب الله وسنة رسوله { إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ } .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إلى اللّهِ وَالرّسُولِ } إن كان الرسول حيّا ، و{ إلَى الله } قال : إلى كتابه .

القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلاً } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { ذَلِكَ } فردّ ما تنازعتم فيه من شيء إلى الله والرسول ، خير لكم عند الله في معادكم ، وأصلح لكم في دنياكم ، لأن ذلك يدعوكم إلى الألفة ، وترك التنازع والفرقة . { وأحْسَنُ تَأْويلاً } يعني : وأحمدُ موئلاً ومغبة ، وأجمل عاقبة . وقد بينا فيما مضى أن التأويل : التفعيل من تأوّل ، وأن قول القائل تأوّل : تفعّل ، من قولهم آل هذا الأمر إلى كذا : أي رجع¹ بما أغنى عن إعادته .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وأحْسَنُ تَأْوِيلاً } قال : حسن جزاء .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلاً } يقول : ذلك أحسن ثوابا وخير عاقبه .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وأحْسَنُ تَأُويلاً } قال : عاقبة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْويلاً } قال : وأحسن عاقبة . قال : والتأويل : التصديق .