{ 9-12 } { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا }
وهذا الاستفهام بمعنى النفي ، والنهي . أي : لا تظن أن قصة أصحاب الكهف ، وما جرى لهم ، غريبة على آيات الله ، وبديعة في حكمته ، وأنه لا نظير لها ، ولا مجانس لها ، بل لله تعالى من الآيات العجيبة الغريبة ما هو كثير ، من جنس آياته في أصحاب الكهف وأعظم منها ، فلم يزل الله يري عباده من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم ، ما يتبين به الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، وليس المراد بهذا النفي أن تكون قصة أصحاب الكهف من العجائب ، بل هي من آيات الله العجيبة ، وإنما المراد ، أن جنسها كثير جدا ، فالوقوف معها وحدها ، في مقام العجب والاستغراب ، نقص في العلم والعقل ، بل وظيفة المؤمن التفكر بجميع آيات الله ، التي دعا الله العباد إلى التفكير فيها ، فإنها مفتاح الإيمان ، وطريق العلم والإيقان . وأضافهم إلى الكهف ، الذي هو الغار في الجبل ، الرقيم ، أي : الكتاب الذي قد رقمت فيه أسماؤهم وقصتهم ، لملازمتهم له دهرا طويلا .
قال الإِمام الرازى : " اعلم أن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف ، وسألوا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الامتحان ، فقال - تعالى - : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } ؟ لا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب فإن من كان قادرا على خلق السموات والأرض ، وعلى تزيين الأرض بما عليها من نبات وحيوان ومعادن ، ثم يجعلها بعد ذلك صعيدا جرزا خالية من الكل ، كيف يستبعد من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة من الناس مدة ثلاثمائة سنة وأكثر فى النوم . . " .
وعلى ذلك يكون المقصود بهذه الآيات الكريمة ، بيان أن قصة أصحاب الكهف ليست شيئاً عجبا بالنسبة لقدرة الله - تعالى - .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول قصة أصحاب الكهف روايات ملخصها : أن قريشا بعثت النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبى معيط ، إلى أحبار اليهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم ، وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول . وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء .
فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره صلى الله عليه وسلم فقالوا لهما سلوه عن ثلاث نأمركم بهن . فإن أخبركم بهن ، فهو نبى مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول .
سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ماذا كان من خبرهم . فإنهم قد كان لهم حديث عجيب .
وسلوه عن رجل طواف طاف المشارق والمغارب ماذا كان من خبره ؟ وسلوه عن الروح ، ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبى فاتبعوه .
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش . فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور .
ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد أخبرنا ، ثم سألوه عما قالته لهم يهود .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سأجيبكم غدا بما سألتم عنه ولم يستثن - : أى . ولم يقل إن شاء الله - فانصرفوا عنه .
ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة . لا يحدث الله إليه فى ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبريل - عليه السلام - حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمسة عشر قد أصبحنا فيها ، لا يخبرنا بشئ عما سألناه عنه . وحتى أَحْزَن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحى عنه ، وشق عليه ما تكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف ، وقول الله - تعالى -
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } والخطاب فى قوله - تعالى - { أم حسبت . . . } للرسول صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره من المكلفين .
و " أم " فى هذه الآية هى المنقطعة ، وتفسر عند الجمهور بمعنى بل والهمزة ، أى : بل أحسبت ، وعند بعض العلماء تفسر بمعنى بل ، فتكون للانتقال من كلام إلى آخر ، أى : بل حسبت . ويرى بعضهم أنها هنا بمعنى الهمزة التى للاستفهام الإِنكارى أى : أحسبت أن أصحاب الكهف والرقيم .
والكهف : هو النقب المتسع فى الجبل ، فإن لم يكن فيه سعة فهو غار ، وجمعه كهوف .
والمراد به هنا : ذلك الكهف الذى اتخذه هؤلاء الفتية مستقرا لهم .
وأما الرقيم فقد ذكروا فى المراد به أقوالا متعددة منها : أنه اسم كلبهم ، ومنها أنه اسم الجبل أو الوادى الذى كان فيه الكهف ، ومنها أنه اسم القرية التى خرج منها هؤلاء الفتية .
ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن المراد به اللوح الذى كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقصتهم ، فيكون الرقيم بمعنى المرقوم - فهو فعيل بمعنى مفعول - ومأخوذ من رقمت الكتاب إذا كتبته .
ومنه قوله - تعالى - { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } أى مكتوب .
قال بعض العلماء : " والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم : طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين : أحدهما : معطوف على الآخر ، خلافا لمن قال أن أصحاب الكهف طائفة ، وأصحاب الرقيم طائفة أخرى ، وأن الله قص على نبيه فى هذه السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف ، ولم يذكر له شيئا عن أصحاب الرقيم . وخلافا لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عليهم صخرة فسدّت عليهم باب الكهف فدعوا الله بصالح أعمالهم فانفرجت ، وهم البار بوالديه ، والعفيف ، والمستأجر ، وقصتهم مشهورة ثابتة فى الصحيح ، إلا أن تفسير الآية بأنهم هم المراد بعيد كما ترى " .
والمعنى : أظننت - أيها الرسول الكريم - أن ما قصصناه عليك من شأن هؤلاء الفتية ، كان من بين آياتنا الدالة على قدرتنا شيئا عجبا ؟ لا ، لا تظن ذلك فإن قدرتنا لا يعجزها شئ .
إن الطريقة التي اتبعت في عرض هذه القصة من الناحية الفنية هي طريقة التلخيص الإجمالي أولا ، ثم العرض التفصيلي أخيرا . وهي تعرض في مشاهد وتترك بين المشاهد فجوات يعرف ما فيها من السياق . وهي تبدأ هكذا :
( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا . إذ أوى الفتية إلى الكهف ، فقالوا : ربنا آتنا من لدنك رحمة ، وهيء لنا من أمرنا رشدا . فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ، ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ) .
( أم ) للإضراب الانتقالي من غرض إلى غرض . ولما كان هذا من المقاصد التي أنزلت السورة لبيانها لم يكن هذا الانتقال اقتضاباً بل هو كالانتقال من الديباجة والمقدمة إلى المقصود .
على أن مناسبة الانتقال إليه تتصل بقوله تعالى : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } [ الكهف : 6 ] ، إذ كان مما صرف المشركين عن الإيمان إحالتهم الإحياء بعد الموت ، فكان ذكر أهل الكهف وبعثِهم بعد خمودهم سنين طويلة مثالاً لإمكان البعث .
و { أم } هذه هي ( أم ) المنقطعة بمعنى ( بل ) ، وهي ملازمة لتقدير الاستفهام معها ، يقدر بعدها حرف استفهام ، وقد يكون ظاهراً بعدها كقول أفْنُون التغلبي :
أنّى جَزَوا عامراً سُوءاً بضعته *** أم كيف يجزونني السُّوأَى عن الحسن
والاستفهام المقدر بعد ( أم ) تعجيبي مثل الذي في البيت .
والتقدير هنا : أحسبت أن أصحاب الكهف كانوا عجباً من بين آياتنا ، أي أعجب من بقية آياتنا ، فإن إماتة الأحياء بعد حياتهم أعظم من عجب إنامة أهل الكهف . لأن في إنامتهم إبقاءً للحياة في أجسامهم وليس في إماتة الأحياء إبقاء لشيء من الحياة فيهم على كثرتهم وانتشارهم . وهذا تعريض بغفلة الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم بيان قصة أهل الكهف لاستعلام ما فيها من العجب ، بأنَهم سألوا عن عجيب وكفروا بما هو أعجب ، وهو انقراض العالم ، فإنهم كانوا يعرضون عن ذكر فناء العالم ويقولون : { ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] . أي إن الحياة إلا حياتنا الدنيا لا حياة الآخرة وأن الدهر يهلكنا وهو باقٍ .
وفيه لفت لعقول السائلين عن الاشتغال بعجائب القصص إلى أن الأولى لهم الاتعاظ بما فيها من العِبر والأسباب وآثارها . ولذلك ابتدىء ذكر أحوالهم بقوله : { إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشداً } [ الكهف : 10 ] فأعلم الناس بثبات إيمانهم بالله ورجائهم فيه ، وبقوله : { إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى } [ الكهف : 13 ] . الآيات الدالِّ على أنهم أبطلوا الشرك وسفهوا أهله تعريضاً بأن حق السامعين أن يقتدوا بهداهم .
والخطاب للنبيء . والمراد : قومه الذين سألوا عن القصة ، وأهل الكتاب الذين أغروهم بالسؤال عنها وتطلب بيانها . ويظهر أن الذين لقنوا قريشاً السؤال عن أهل الكهف هم بعض النصارى الذين لهم صلة بأهل مكة من التجار الواردين إلى مكة ؛ أو من الرهبان الذين في الأديرة الواقعة في طريق رحلة قريش من مكة إلى الشام وهي رحلة الصيف . ومحل التعجب هو قوله : من آياتنا } ، أي من بين آياتنا الكثيرة المشاهدة لهم وهم لا يتعجبون منها ويقصرون تعجبهم على أمثال هذه الخوارق ؛ فيؤول المعنى إلى أن أهل الكهف ليسوا هم العجب من بين الآيات الأخرى ، بل عجائب صنع الله تعالى كثيرة منها ما هو أعجب من حال أهل الكهف ومنها ما يساويها .
فمعنى ( مِن ) في قوله : { من آياتنا } التبعيض ، أي ليست قصة أهل الكهف منفردة بالعجب من بين الآيات الأخرى ، كما تقول : سأل فلاناً فهو العالم منا ، أي المنفرد بالعلم من بيننا .
ولك أن تجعلها للظرفية المجازية ، أي كانوا عجباً في آياتنا ، أي وبقية الآيات ليست عجباً . وهذا نداء على سوء نظرهم إذ يعلقون اهتمامهم بأشياء نادرة وبين يديهم من الأشياء ما هو أجدر بالاهتمام .
وأخبر عن أصحاب الكهف بالعجب وإنما العجب حالهم في قومهم ، فَثمّ مضاف محذوف يدل عليه الكلام .
وأخبر عن حالهم بالمصدر مبالغة ، والمراد عجيب .
والكهف : الشق المتسع الوسط في جبل ، فإن لم يكن متسعاً فهو غار .
والرقيم : فعيل بمعنى مفعول من الرقم وهو الكتابة . فالرقيم كتاب كان مع أصحاب الكهف في كهفهم . قيل : كتبوا فيه ما كانوا يدينون به من التوحيد ، وقيل : هو كتاب دينهم ، ديننٍ كان قبل عيسى عليه السلام ، وقيل : هو دين عيسى ، وقيل : كتبوا فيه الباعث الذي بعثهم على الالتجاء إلى الكهف فراراً من كفر قومهم .
وابتدأ القرآن من قصتهم بمحل العبرة الصادقة والقدوة الصالحة منه ، وهو التجاؤهم إلى ربهم واستجابته لهم .
وقد أشارت الآية إلى قصة نفَر من صالحي الأمم السالفة ثبتوا على دين الحق في وقت شيوع الكفر والباطل فانزووا إلى الخلوة تجنباً لمخالطة أهل الكفر فأووا إلى كهف استقروا فيه فراراً من الفتنة في دينهم ، فأكرمهم الله تعالى بأن ألقَى عليهم نوماً بقُوا فيه مدة طويلة ثم أيقظهم فأراهم انقراض الذين كانوا يخافونهم على دينهم . وبعد أن أيقنوا بذلك أعاد نومتهم الخارقة للعادة فأبقاهم أحياء إلى أمد يعلمه الله أو أماتهم وحفظ أجسادهم من البِلى كرامة لهم .
وقد عَرَف الناس خبرهم ولم يقفوا على أعيانهم ولا وقفوا على رقيمهم ، ولذلك اختلفوا في شأنهم ، فمنهم من يثبت وقوع قصتهم ومنهم من ينفيها .
ولما كانت معاني الآيات لا تتضح إلا بمعرفة ما أشارت إليه من قصة أهل الكهف تعين أن نذكر ما صح عند أعلام المؤرخين على ما فيه من اختلاف . وقد ذكر ابن عطية ملخصاً في ذلك دون تعريج على ما هو من زيادات المبالغين والقُصّاص .
والذي ذكره الأكثر أن في بلد يقال له ( أَبْسُس ) بفتح الهمزة وسكون الموحدة وضم السين بعدها سين أخرى مهملة وكان بلداً من ثغور طرسوس بين حلب وبلاد أرمينية وأنطاكية .
وليست هي ( أفسس ) بالفاء أخت القاف المعروفة في بلاد اليونان بشهرة هيكل المشتري فيها فإنها من بلاد اليونان وإلى أهلها كتب بُولس رسالته المشهورة . وقد اشتبه ذلك على بعض المؤرخين والمفسرين . وهي قريبة من ( مَرْعش ) من بلاد أرمينية ، وكانت الديانة النصرانية دخلت في تلك الجهات ، وكان الغالب عليها دين عبادة الأصنام على الطريقة الرومية الشرقية قبل تنصر قسطنطين ، فكان من أهل ( أبسُس ) نفر من صالحي النصارى يقاومون عبادة الأصنام .
وكانوا في زمن الأنبراطور ( دوقيوس ) ويقال ( دقيانوس ) الذي ملك في حدود سنة 237 . وكان ملكه سنة واحدة . وكان متعصباً للديانة الرومانية وشديد البغض للنصرانيّة ، فأظهروا كراهية الديانة الرومانية . وتوعدهم دوقيوس بالتعذيب ، فاتفقوا على أن يخرجوا من المدينة إلى جبل بينه وبين المدينة فرسخان يقال له ( بنجلوس ) فيه كهف أووا إليه وانفردوا فيه بعبادة الله . ولما بلغ خبر فرارهم مسامع الملك وأنهم أووا إلى الكهف أرسل وراءهم فألقى الله عليهم نومةً فظنهم أتباعُ الملك أمواتاً . وقد قيل : إنه أمر أن تُسد فوهة كهفهم بحائط ، ولكن ذلك لم يتم فيما يظهر لأنه لو بني على فوهة كهفهم حائط لما أمكن خروج من انبعث منهم . ولعل الذي حال دون تنفيذ ما أمر به الملك أن مدته لم تطل في الملك إذ لم تزد مدته على عام واحد ، وقد بقوا في رقدتهم مدة طويلة قربها ابن العبري بمائتين وأربعين سنة ، وكان انبعاثهم في مدة مُلك ( ثاوذوسيوس ) فيصر الصغير ، وذكر القرآن أنها ثلاثمائة سنة .
ثم إن الله جعلهم آية لأنفسهم وللناس فبعثهم من مرقدهم ولم يعلموا مدة مكثهم وأرسلوا أحدهم إلى المدينة ، وهي ( أبسس ) ، بدراهم ليشتري لهم طعاماً . فعجب الناس من هيئته ومن دراهمه وعجب هو مما رأى من تغيير الأحوال . وتسامَع أهل المدينة بأمرهم ، فخرج قيصر الصغير مع أساقفةٍ وقسيسين وبطارقة إلى الكهف فنظروا إليهم وكلموهم وآمنوا بآيتهم ، ولما انصرفوا عنهم ماتوا في مواضعهم ، وكانت آية تأيّد بها دين المسيح .
والذي في « كتاب الطبري » أن الذين ذهبوا إلى مشاهدة أصحاب الكهف هم رئيسا المدينة ( أريوس ) و ( أطيوس ) ومن معهما من أهل المدينة ، وقيل لما شاهدهم الناس كتبَ واليا المدينة إلى ملك الروم ، فحضر وشاهدهم وأمر بأن يبنى عليهم مسجد . ولم يذكروا هَلْ نُفّذ بناء المسجد أو لم ينفذ . ولم يذكر أنه وقع العثور على هذا الكهف بعد ذلك . ولعله قد انهدم بحادث زلزال أو نحوه كرامة من الله لأصحابه ، وإن كانت الأخبار الزائفة عن تعيينه في مواضع من بلدان المسلمين في أقطار الأرض كثيرة . وفي جنوب القطر التونسي موضع يُدعى أنه الكهف . وفي مواضع أخرى من بادية القطر مشاهد يسمونها السبعة الرقود اعتقاداً بأن أهل الكهف كانوا سبعة . وستعلم مثار هذه التوهمات .
وفي « تفسير الألوسي » عن ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : غزونا مع معاوية غزو المَضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف . فقال معاوية : لو كُشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم ، فقال ابن عباس : ليس ذلك لك ، قد منع الله ذلك مَن هو خير منك ، فقال : { لو اطلعتَ عليهم لوليتَ منهم فراراً } [ الكهف : 18 ] فقال معاوية : لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالاً وقال : اذهبوا فادخلوا الكهف وانظروا ، فذهبوا فلما دخلوه بعث الله عليهم ريحاً فأخرجتهم . وروى عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عكرمة : أن ابن عباس غزا مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام . فقال رجل : هذه عظام أهل الكهف . فقال ابن عباس : لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة .
وفي « تفسير الفخر » عن القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم : « أن الواثق أنفذه ليعرف حال أصحاب الكهف ، فسافر إلى الروم فوجه ملك الروم معه أقواماً إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه ، قال : وإن الرجل الموكل بذلك الموضع فزعني من الدخول عليهم ، قال : فدخلت ورأيت الشعور على صدورهم ، قال : وعرفت أنه تمويه واحتيال ، وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة لأبدان الموتى لتصونها عن البلى مثل التلطيخ بالصبر وغيره » ا هـ .
وقوله : ( فسافر إلى الروم ) مبني على اعتقادهم أن الكهف كان حول مدينة ( أفسوس ) بالفاء أخت القاف وهو وهم حصل من تشابه اسمي البلدين كما نبهنا عليه آنفاً ، فإن بلد ( أفسس ) في زمن الواثق لا تزال في حكم قياصرة الروم بالقسطنطينية ، ولذلك قال بعض المؤرخين : إن قيصر الروم لما بلغته بعثة الجماعة الذين وجههم الخليفة الواثق ، أمر بأن يجعل دليل في رفقة البعثة ليسهل لهم ما يحتاجونه ، أما مدينة ( أبسس ) بالباء الموحدة فقد كانت حينئذٍ من جملة مملكة الإسلام .
قال ابن عطية : « وبالأندلس في جهة ( أغرناطة ) بقرب قرية تسمى ( لُوشة ) كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة ، وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك ، وقد مضت القرون السالفة ولم نجدْ مِن علم شأنهم أثارةً ، ويزعم الناس أنهم أصحاب الكهف ، دخلت إليهم ورأيتُهم سنة أربع وخمسمائة ، وهم بهذه الحال وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم كأنه قصر محلق ( كذا بحاء مهملة لعله بمعنى مستدير كالحلقة ) وقد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض حَزنة ، وبأعلى حَضرة ( أغرناطة ) مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة ( دقيوس ) وجدنا في آثارها غرائب في قبورها ونحوها » ا هـ .
وقصة أهل الكهف لها اتصال بتاريخ طور كبير من أطوار ظهور الأديان الحق ، وبخاصة طور انتشار النصرانية في الأرض .
وللكهوف ذكر شائع في اللوْذ إليها والدفن بها .
وقد كان المتنصرون يُضطهدون في البلاد فكانوا يفرون من المدن والقرى إلى الكهوف يتخذونها مساكن فإذا مات أحدهم دفن هنالك ، وربما كانوا إذا قتلوهم وضعوهم في الكهوف التي كانوا يتعبدون فيها . ولذلك يوجد في رومية كهف عظيم من هذه الكهوف اتخذه النصارى لأنفسهم هنالك ، وكانوا كثيراً ما يستصحبون معهم كلباً ليدفع عنهم الوحوش من ذئاب ونحوها .
وما الكهف الذي ذكره ابن عطية إلا واحد من هذه الكهوف .
غير أن ما ذكر في سبب نزول السورة من علم اليهود بأهل الكهف ، وجعلهم العلم بأمرهم أمارة على نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم يبعد أن يكون أهل الكهف هؤلاء من أهل الدين المسيحي فإن اليهود يتجافون عن كل خبر فيه ذكر للمسيحية ، فيحتمل أن بعض اليهود أووا إلى بعض الكهوف في الاضطهادات التي أصابت اليهود وكانوا يأوون إلى الكهوف . ويوجد مكان بأرض سُكرة قرب المرسى من أحواز تونس فيه كهوف صناعية حقق لي بعض علماء الآثار من الرهبان النصارى بتونس أنها كانت مخابىء لليهود يختفون فيها من اضطهاد الرومان القرطاجنيين لهم .
ويجوز أن يكون لأهل كلتا الملتين اليهودية والنصرانية خبراً عن قوم من صالحيهم عرفوا بأهل الكهف أو كانوا جماعة واحدة ادعى أهل كلتا الملتين خبرها لصالحي ملته ، وبُني على ذلك اختلاف في تسمية البلاد التي كان بها كهفهم .
قال السهيلي في « الروض الأنف » : وأصحاب الكهف من أمة عجمية والنصارى يعرفون حديثهم ويؤرخون به ا هـ . وقد تقدم طرف من هذا عند تفسير قوله تعالى : { ويسألونك عن الروح } في سورة الإسراء ( 85 ) .