تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ} (187)

ثم قال تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

كان في أول فرض الصيام ، يحرم على المسلمين في الليل بعد النوم الأكل والشرب والجماع ، فحصلت المشقة لبعضهم ، فخفف الله تعالى عنهم ذلك ، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجماع ، سواء نام أو لم ينم ، لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به .

{ فتاب } الله { عليكم } بأن وسع لكم أمرا كان - لولا توسعته - موجبا للإثم { وعفا عنكم } ما سلف من التخون .

{ فالآن } بعد هذه الرخصة والسعة من الله { باشروهن } وطأ وقبلة ولمسا وغير ذلك .

{ وابتغوا ما كتب الله لكم } أي : انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى والمقصود الأعظم من الوطء ، وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته ، وحصول مقاصد النكاح .

ومما كتب الله لكم ليلة القدر ، الموافقة لليالي صيام رمضان ، فلا ينبغي لكم أن تشتغلوا بهذه اللذة عنها وتضيعوها ، فاللذة مدركة ، وليلة القدر إذا فاتت لم تدرك .

{ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } هذا غاية للأكل والشرب والجماع ، وفيه أنه إذا أكل ونحوه شاكا في طلوع الفجر فلا بأس عليه .

وفيه : دليل على استحباب السحور للأمر ، وأنه يستحب تأخيره أخذا من معنى رخصة الله وتسهيله على العباد .

وفيه أيضا دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل أن يغتسل ، ويصح صيامه ، لأن لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر ، أن يدركه الفجر وهو جنب ، ولازم الحق حق .

{ ثم } إذا طلع الفجر { أتموا الصيام } أي : الإمساك عن المفطرات { إلى الليل } وهو غروب الشمس ولما كان إباحة الوطء في ليالي الصيام ليست إباحته{[126]}  عامة لكل أحد ، فإن المعتكف لا يحل له ذلك ، استثناه بقوله : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } أي : وأنتم متصفون بذلك ، ودلت الآية على مشروعية الاعتكاف ، وهو لزوم المسجد لطاعة الله [ تعالى ] ، وانقطاعا إليه ، وأن الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد .

ويستفاد من تعريف المساجد ، أنها المساجد المعروفة عندهم ، وهي التي تقام فيها الصلوات الخمس .

وفيه أن الوطء من مفسدات الاعتكاف .

{ تلك } المذكورات - وهو تحريم الأكل والشرب والجماع ونحوه من المفطرات في الصيام ، وتحريم الفطر على غير المعذور ، وتحريم الوطء على المعتكف ، ونحو ذلك من المحرمات { حدود الله } التي حدها لعباده ، ونهاهم عنها ، فقال : { فلا تقربوها } أبلغ من قوله : " فلا تفعلوها " لأن القربان ، يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه ، والنهي عن وسائله الموصلة إليه .

والعبد مأمور بترك المحرمات ، والبعد منها غاية ما يمكنه ، وترك كل سبب يدعو إليها ، وأما الأوامر فيقول الله فيها : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } فينهى عن مجاوزتها .

{ كذلك } أي : بيَّن [ الله ] لعباده الأحكام السابقة أتم تبيين ، وأوضحها لهم أكمل إيضاح .

{ يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه ، وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه ، فإن الإنسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم ، ولو علم تحريمه لم يفعله ، فإذا بين الله للناس آياته ، لم يبق لهم عذر ولا حجة ، فكان ذلك سببا للتقوى .


[126]:- في ب: إباحة.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ} (187)

{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ . . . }

روى بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية الكريمة أحاديث تفيد أن المسلمين كانوا عند ما فرض صيام شهر رمضان . إذا أفطروا يأكلون ويشربون ويقربون النساء ما لم يناموا ، فإذا ناموا حرم عليهم بعد ذلك الطعام والشراب وقربان النساء حتى يفطروا من الغد .

ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى ما أخرجه الإِمام أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه . قال : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حمر عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده ، فأراد امرأته فقالت إني قد نمت ، فقال ما نمت ثم واقعها ، وصنع كعب مثل ذلك . فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبهر فنزلت .

ومنها ما رواه البخاري عن البراء قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإِفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمس . وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما وفي رواية : كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما . فلما حضر الإِفطار أتى امرأته فقال لها : أعندك طعام ؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه فجاءته امرأته فما رأته قالت : خيبة لك . فلما انتصف النهار غشى عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } ففرحوا فرحاً شديداً ، ونزلت { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر } .

وجمهور المفسرين - كما يقول الإِمام الرازي - على أن هذه الآية من قبيل النسخ ، لأنها قد نسخت ما كان حاصلا في أول فرضية من أن الصائم إذا نام بعد فطره لا يحل له الأكل أو الشرب أو الجماع إلى أن يفطر من الغد .

ويرى بعض العلماء أن الآية ليست من قبيل النسخ وإنما هي إرشاد إلى ما شرعه الله - تعالى - لعباده خلال شهر الصوم من إباحة غشيان أزواجهن ليلا . ومن جواز الأكل والشرب ، حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وكأن الصحابة كانوا يتحرجون عن ذلك ظناً منهم أنه من تتمة الصوم ، ورأوا أن لا صبر لأنفسهم عن الأكل والشرب والجماع ليلا ، فبين الله لهم أن ذلك حلال لا حرج فيه .

وأصحاب هذا الرأي يستشهدون لذلك بما رواه البخاري عن البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله - تعالى - { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } فالمقصود من الآية الكريمة عند هؤلاء رفع ما توهمه بعض الصحابة من أن الأكل أو الشرب أو الجماع لا يجوز ما دامو قد ناموا بعد فطرهم ؛ لأن الله - تعالى - رءوف رحيم بهم ، ولم يشرع لهم ما فيه حرج أو مشقة عليهم .

وعلى كلا القولين فالآية الكريمة تسوق لنا لونا من ألوان رحمة الله - تعالى - بعباده فيما شرع لهم من فرائض وأحكام .

والمراد بليلة الصيام : الليلة التي يصبح فيها الإِنسان صائما دون تحديد ليلة معينة من شهر رمضان ، فالإِضافة لأدنى ملابسة .

قال الجمل وقوله : { لَيْلَةَ الصيام } منصوب على الظرف ، وفي الناصب له ثلاثة أقوال :

أحدها : وهو المشهور عند المعربين أنه أحل ، وليس بشئ ، لأن الإِحلال ثابت قبل ذلك الوقت .

الثاني : أنه مقدر مدلول عليه بلفظ الرفث تقديره : أحل لكم أن ترفثوا ليلة الصيام .

الثالث : أنه متعلق بالرفث وذلك على رأى من يرى الاتساع في الظرف والمجرورات " .

والرفث في الأصل : الفحش من القول ، وكلام النساء حين الجماع ، كنى به عن المباشرة للزومه لها غالباً . يقال رفث في لكامه - كنصر وفرح وكرم - وأرفث ، إذا أفحش فيه . والمراد به في الآية الجماع والمباشرة .

وعدي بإلى - مع أن المستعمل الشائع أن يقال : رفث بالمرأة - لتضمنه معنى الإِفضاء كما في قوله - تعالى - : { وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } والمعنى : أحل الله لكم في ليالي صومكم الإِفضاء إلى نسائكم ومباشرتهن وقوله - تعالى - { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } وارد مورد المقتضى لإِباحة مباشرة النساء في ليالي الصيام ، ذلك أن كلا مع الزوجين يسكن إلى صاحبه ، ويكون من شدة القرب منه كالثوب الملابس له وكانت العرب تسمى المرأة لباساً ، وهذه حال تقوى معها الدواعي إلى المباشرة ، فمن رفقه - تعالى - بعباده أن أحلها لهم ليلة الصيام .

قال الراغب : جعل اللباس كناية عن الزوج لكونه ستراً لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء ، كما أن اللباس ستر عنه أن يبدو منه السوء .

وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما موقع قوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } قلت : هو استئناف كالبيان لسبب الإِحلال ، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن وصعب عليكم اجتنابهن ، فلذلك رخص لكم في مباشرتهن " .

وفي هذا التعبير القرآني ما فيه من اللطافة والأدب وسمو التصوير لما بين الرجل وزوجه من شدة الاتصال والمودة واستتار كل واحد منهما بصاحبه .

وقوله - تعالى - : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } جملة معترضة بين قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام } وبين قوله : { فالآن بَاشِرُوهُنَّ } إلخ .

وقد جيء بها لبيان حالهم بالنسبة إلى ما فرط منهم ، ولبيان مظهر من مظاهر لطف الله بهم ، ورحمته إياهم .

وقوله : { تَخْتانُونَ } قال الراغب : الاختيان مراودة الخيانة ، ولم يقل تخونون أنفسكم لأنه لم تكن منهم الخيانة بل كان منهم الاختيان ، فإن الاختيان تحرك شهوة الإِنسان لتحري الخيانة وذلك هو المشار إليه بقوله - تعالى - : { إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء } والمعنى : علم الله - تعالى - أنكم كنتم تراودون أنفسكم على مباشرة نسائكم ليلا ، وعلى الأكل بعد النوم ، قبل أن يظهر الفجر الصادق ، بل إن بعضكم قد فعل ذلك ، فكان من رحمة الله بكم أن أباح الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم ، وأن قبل توبتكم وعفا عنكم ، أي : محا أثر ما فعلتموه من الأكل والجماع قبل أن يأذن لكم بذلك .

وجملة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } معطوفة على محذوف ، والتقدير : قتبتم فتاب عليكم .

والذين لا يرون أن الآية ناسخة لحكم سابق عبر عن وجهة نظرهم صاحب المنار فقال : وقوله - تعالى - : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } أي : تتنقصونها بعض ما أحل الله لها من اللذات توهما أن من قبلكم كان كذلك فيكون بمعنى التخون أي : النقص من الشيء أو معناه : تخونون أنفسكم إذ تعتقدون شيائً ثم لا تلتزمون العمل به فهو مبالغة من الخيانة التي هي مخالفة مقتضي الأدلة ولم يقل تختانون الله كما قال في آية أخرى : لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم " للإِشعار بأن الله - تعالى - لم يحرم عليهم بعد النوم في الليل ما حرمه على الصائم في النهار ، وإنما ذهب بهم اجتهادهم إلى ذلك فهم قد خانوا أنفسهم في اعتقادها ، فكانوا كمن يتغشى امرأته ظاناً أنها أجنبية ، فعصيانه بحسب اجتهاده لا بحسب الواقع ، فهم على أية حال كانوا عاصين بما فعلوا محتاجين إلى التوبة والعفو ولذلك قال { فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } .

وقوله - تعالى - : { فالآن بَاشِرُوهُنَّ } الأمر فيه للإِباحة وهو مرتب على قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } .

ولفظ { فالآن } يطلق حقيقة على الوقت أنت فيه ، وقد يقع على الماضي القريب منك وعلى المستقبل القريب الوقوع تنزيلا له منزلة الحاضر وهو المراد هنا .

{ بَاشِرُوهُنَّ } من المباشرة وأصلها اتصال البشرة بالبشرة ، وكنى بها القرآن عن الجماع الذي يستلزمها .

وقوله - تعالى - { وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } تأكيد لما قبله . والابتغاء الطلب والمعنى : لقد أبحنا لكم الإِفضاء إلى نسائكم في ليالي رمضان بعد أن كان محرماً عليكم فضلا منا ورحمة بكم فالآن باشروهن واطلبوا من وراء هذه المباشرة ما كتبه لكم الله من الذرية الصالحة ومن التعفف عن إتيان الحرام .

وفي هذا إشعار بأن النكاح شرع ليبتغي به النسل حتى يتحقق ما يريده الله - تعالى - من بقاء النوع الإِنساني ، ومن صيانة المرء نفسه عن الوقوع في فاحشة الزنا .

وقوله - تعالى - { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر } معطوف على باشروهن .

والمقصود من الخيط الأبيض : أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره .

والمقصود من الخيط الأسود : ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة الليل .

والمعنى : لقد أبحنا لكم مباشرة النساء في ليالي الصوم ، وأبحنا لكم كذلك أن تأكلوا وأن تشربوا في هذه الليالي حتى يتبين لكم بياض الفجر من سواد الليل .

قال الإِمام الرازي : { الفجر } مصدر قولك : فجرت الماء أفجره فجراً ، وفجرته تفجيراً قال الأزهري : الفجر أصله الشق ، فعلى هذا الفجر في آخر الليل هو انشقاق ظلمة الليل بنور الصبح .

وقد وردت روايات صحيحة تفيد أن قوله : { مِنَ الفجر } قد تأخر نزوله عن الجمل السابقة له . ففي الصحيحين عن سهل به سعد قال أنزلت { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر } فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ويأكل حتى يتبين له رؤيتها ، فأنزل الله بعده { مِنَ الفجر } فعلموا أنه يعني الليل والنهار .

ورويا أيضاً عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت هذه الآية { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر } عمدت إلى عقالين لي أسود وأبيض فجعلتهما تحت وسادتي وجعلت أنظر في الليل إليهما فلا يتبين لي ، فعمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فقال : " إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " ونزل قوله - تعالى - : { مِنَ الفجر } .

وشبه بياض النهار وسواد الليل بالخيطين : الأبيض والأسود لأن أول ما يبدوا من الفجر المعترض في الأفق وما يمتد معه من غبش الليل يكون كالخيط الممدود .

وفي الإتيان بلفظ التفعل في قوله : { حتى يَتَبَيَّنَ . . . } إشعار بأنه لا يكفي إلا التبين الوضاح لا مجرد التوهم ، فقد روى الإِمام مسلم في صحيحه عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر - أو قال - حتى ينفجر الفجر " .

وقوله : { مِنَ الفجر } بيان للخيط الأبيض . واكتفى به عن بيان الخيط الأسود ، لأن بيان أحدهما بيان للثاني ، ويجوز أن تكون " من " للتبعيض ، أي : من بعض الفجر .

وقوله - تعالى - : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } بيان لإنتهاء وقت الصيام بعد أن بينت الجملة السابقة بدايته . أي : ابدءوا صومكم من طلوع الفجر وانتهوا منه بدخول الليل عند غروب الشمس ، إذ الليل لبس بوقت الصيام .

قال الإِمام الرازي : كلمة { إِلَى } لإنتهاء الغاية ، فظاهر الآية : أن الصوم ينتهي عند دخول الليل ، وذلك لأن غاية الشيء مقطعه ومنتهاه وإنما يكون مقطعاً ومنتهى إذا لم يبق بعد ذلك وقد تجيء هذه الكلة لا للإِنتهاء كما في قوله - تعالى - : { إِلَى المرافق } إلا أن ذلك على خلاف الدليل ، والفرقب بين الصورتين أن الليل من جنس النهار فيكون الليل خارجاً عن حكم النهار ، والمرافق من جنس اليد فيكون داخلا فيه " .

وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أقبل الليل من هنا وأدبر النهار من هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " .

وكان من عادته صلى الله عليه وسلم تعجيل الفطر ، فقد روى الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " .

وقد أخذ العلماء من هذه الآية ومن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله ، أن من واصل الإِمساك عن المفطرات في الليل فلا ثواب له على هذا الإِمساك ، لأنه لم يقع في الوقت لالذي رسمه الشارع لعبادة الصوم ، بل يعد هذا المواصل فاعلا لمحظور ، فلا بد للصائم من تناول شي من المفطرات بعد غروب الشمس ولو قليلا من الماء . فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات فإن لم تكن رطبات فتميرات ، فإن لم تكن تميزات حسا حسوات من ماء ، والوصال - بمعى أن يصوم الشخص اليوم وما بعده من غير أن يتناول مفطراً في الليل الفاصل بينهما - وردت في النهي عنه أحاديث كثيرة ، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تواصلوا ، قالوا : إنك تواصل يا رسول الله . قال : لست كأحد منكم إني أطعم وأسقى . أو قال : إني أظل يطعمني ربي ويسقيني " .

وروى الإِمام أحمد عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت : أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعنى بشير وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال : " يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل ، فإذا كان الليل فأفطروا " .

وقوله : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ } كان هذا الإِطلاق مظنة لأن يؤخذ منه أن المعتكف كالصائم في أنه يجوز له أن يباشر زوجته ليلا لا نهاراً ، فبين - سبحانه - بهذه الجملة أن المعتكف يحرم عليه أن يباشر النساء فيي الليل والنهار .

قال القرطبي : والاعتكاف في اللغة : الملازمة ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه .

قال الشاعر :

وظل بنات الليل حولي عكفا . . . عكوف البواكي بينهن صريع

ولما كان المعتكف ملازماً للعمل بطاعة الله مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم وهو في عرف الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في مو ضع مخصوص .

وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأزواجه ، ويلزمه إن ألزمه نفسه ، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه .

وأجمع العلماء على أنه لا يكون إلا في المسجد واختلفوا في المراد بالمساجد في قوله - تعالى - { فِي المساجد } فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد وهو ما بناه نبي كالمسجد الحرام والمسجد النبوي وبيت المقدس ، وقال آخرون لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة ، وقال آخرون الاعتكاف في كل مسجد جائز .

والمشار إليه في قوله - تعالى - : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } الأحكام التي سبق تقريرها من إيجاب وتحريم وإباحة .

والحدود جمع حد ، وهو في اللغة الحاجز بين الشيئين المتقابلين ليمنع من دخول أحدهما في الآخر . ومنه سمي الحديد حديداً لأنه يمنع وصول السلاح إلى البدن .

و سميت الأحكام التي شرعها الله حدوداً لأنها تحجز بين الحق والباطل .

أي : تلك الأحكام التي شرعناها لكم من إيجاب الصوم ، وتحريم الأكل والشرب والجماع في نهاره ، وإباحة ذلك في ليله ، هي حدود الله التي لا يحل لكم مخالفتها أو مجازتها .

وعبر - سبحانه - عن النهي عن مخالفة تلك الأحكام بقوله : { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } مبالغة في التحذير من مخالفتها ، لأن النهي عن القرب من الشيء نهى عن إتيانه بالأولى والآية ترشد بقولها { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } إلى اجتناب ما فيه شبهة كما ترشد إلى ترك الأشياء التي تقضى في غالب أمرها إلى الوقوع في حرام .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف قيل { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } مع قوله : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله } قلت : من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق فنهى أن يتعداه . لأن من تعداه وقع في حيز الباطل ، ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حييز الحق والباطل لئلا يداني الباطل ، وأن يكون في الواسطة متباعداً عن الطرف فضلا عن أن يتخطاه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لكل ملك حمى ، وحمى الله محارمه ، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه " فالرتع حول الحمى وقربان حيزه واحد . ويجوز أن يريد بحدود الله محارزه ومناهيه خصوصاً لقوله - تعالى - : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ } وهي حدود لا تقرب " .

ثم ختم - سبحانه - هذه الآية الكريمة بقوله : { كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .

أي : مثل ذلك البيان الجامع الذي بين الله به حدوده التي أمركم بالتزامها ونهاكم عن مخالفتها ، يبين لكم آياته ، أي : أدلته وحججه لكي تصونوا أنفسكم عما يؤدي بكم إلى العقوبة ، وتكونوا ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه .

وبذلك تكون الآية الكريمة قد ختمت الحديث عن الصوم ، ببيان مظاهر رفق الله بعباده ، ورعايته لمصالحهم ومنافعهم بأسلوب بليغ جمع بين الترغيب والترهيب ، والإِباحة والتحريم ، وغير ذلك من أنواع الهداية والإِرشاد إلى ما يسعد الناس في دينهم ودنياهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ} (187)

178

ثم يمضي السياق يبين للذين آمنوا بعض أحكام الصيام . فيقرر لهم حل المباشرة للنساء في ليلة الصوم ما بين المغرب والفجر ، وحل الطعام والشراب كذلك ، كما يبين لهم مواعيد الصوم من الفجر إلى الغروب ، وحكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد :

( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ، هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ؛ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ؛ فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، ثم أتموا الصيام إلى الليل ، ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد . تلك حدود الله فلا تقربوها . كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ) .

وفي أول فرض الصوم كانت المباشرة والطعام والشراب تمتنع لو نام الصائم بعد إفطاره . فإذا صحا بعد نومه من الليل - ولو كان قبل الفجر - لم تحل له المباشرة ولم يحل له الطعام والشراب . وقد وقع أن بعضهم لم يجد طعاما عند أهله وقت الإفطار ، فغلبه النوم ، ثم صحا فلم يحل له الطعام والشراب فواصل . ثم جهد في النهار التالي وبلغ أمره إلى النبي [ ص ] كما وقع أن بعضهم نام بعد الإفطار أو نامت امرأته ، ثم وجد في نفسه دفعة للمباشرة ففعل وبلغ أمره إلى النبي [ ص ] وبدت المشقة في أخذ المسلمين بهذا التكليف ، فردهم الله إلى اليسر وتجربتهم حاضرة في نفوسهم ، ليحسوا بقيمة اليسر وبمدى الرحمة والاستجابة . . ونزلت هذه الآية . نزلت تحل لهم المباشرة ما بين المغرب والفجر :

( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) . .

والرفث مقدمات المباشرة ، أو المباشرة ذاتها ، وكلاهما مقصود هنا ومباح . . ولكن القرآن لا يمر على هذا المعنى دون لمسة حانية رفافة ، تمنح العلاقة الزوجية شفافية ورفقا ونداوة ، وتنأى بها عن غلظ المعنى الحيواني وعرامته ، وتوقظ معنى الستر في تيسير هذه العلاقة :

هن لباس لكم وأنتم لباس لهن . .

واللباس ساتر وواق . . وكذلك هذه الصلة بين الزوجين . تستر كلا منهما وتقيه . والإسلام الذي يأخذهذا الكائن الإنساني بواقعه كله ، ويرتضي تكوينه وفطرته كما هي ، ويأخذ بيده إلى معارج الارتفاع بكليته . . الإسلام وهذه نظرته يلبي دفعة اللحم والدم . وينسم عليها هذه النسمة اللطيفة ، ويدثرها بها الدثار اللطيف . . في آن . .

ويكشف لهم عن خبيئة مشاعرهم ، وهو يكشف لهم عن رحمته بالاستجابة لهواتف فطرتهم :

( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم . فتاب عليكم وعفا عنكم ) . .

وهذه الخيانة لأنفسهم التي يحدثهم عنها ، تتمثل في الهواتف الحبيسة ، والرغبات المكبوتة ؛ أو تتمثل في الفعل ذاته ، وقد ورد أن بعضهم أتاه . . وفي كلتا الحالتين لقد تاب عليهم وعفا عنهم ، مذ ظهر ضعفهم وعلمه الله منهم . . فأباح لهم ما كانوا يختانون فيه أنفسهم :

( فالآن باشروهن ) . .

ولكن هذه الإباحة لا تمضي دون أن تربط بالله ، ودون توجيه النفوس في هذا النشاط لله أيضا :

( وابتغوا ما كتب الله لكم ) . .

ابتغوا هذا الذي كتبه الله لكم من المتعة بالنساء ، ومن المتعة بالذرية ، ثمرة المباشرة . فكلتاهما من أمر الله ، ومن المتاع الذي أعطاكم إياه ، ومن إباحتها وإتاحتها يباح لكم طلبها وابتغاؤها . وهي موصولة بالله فهي من عطاياه . ومن ورائها حكمة ، ولها في حسابه غاية . فليست إذن مجرد اندفاع حيواني موصول بالجسد ، منفصل عن ذلك الأفق الأعلى الذي يتجه إليه كل نشاط .

بهذا ترتبط المباشرة بين الزوجين بغاية أكبر منهما ، وأفق أرفع من الأرض ومن لحظة اللذة بينهما . وبهذا تنظف هذه العلاقة وترق وترقى . . ومن مراجعة مثل هذه الإيحاءات في التوجيه القرآني وفي التصور الإسلامي ندرك قيمة الجهد المثمر الحكيم الذي يبذل لترقية هذه البشرية وتطويرها ، في حدود فطرتها وطاقتها وطبيعة تكوينها . وهذا هو المنهج الإسلامي للتربية والاستعلاء والنماء . المنهج الخارج من يد الخالق . وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير .

وكما أباح المباشرة أباح الطعام والشراب في الفترة ذاتها :

( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) . .

أي حتى ينتشر النور في الأفق وعلى قمم الجبال . وليس هو ظهور الخيط الأبيض في السماء وهو ما يسمى بالفجر الكاذب . وحسب الروايات التي وردت في تحديد وقت الإمساك نستطيع أن نقول : إنه قبل طلوع الشمس بقليل . وإننا نمسك الآن وفق المواعيد المعروفة في قطرنا هذا قبل أوان الإمساك الشرعي ببعض الوقت . . ربما زيادة في الاحتياط . .

قال ابن جرير - بإسناده - عن سمرة بن جندب : قال : قال رسول الله [ ص ] : " لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض ، حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر " . . ثم رواه من حديث شعبة وغيره عن سواد بن حنظلة عن سمرة قال : قال رسول الله [ ص ] : " لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ، ولكنه الفجر المستطير في الأفق " . . والفجر المستطير في الأفق يسبق طلوع الشمس بوقت قليل . . وكان بلال - رضي الله عنه - يبكر في الأذان لتنبيه النائم ، وكان ابن أم مكتوم يؤذن متأخرا للإمساك . وإلى هذا كانت الإشارة إلى أذان بلال . .

ثم يذكر حكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد . والاعتكاف - بمعنى الخلوة إلى الله في المساجد . وعدم دخول البيوت إلا لضرورة قضاء الحاجة ، أو ضرورة الطعام والشراب - يستحب في رمضان في الأيام الأخيرة . وكانت سنة رسول الله [ ص ] في العشر الأواخر منه . . وهي فترة تجرد لله . ومن ثم امنتعت فيها المباشرة تحقيقا لهذا التجرد الكامل ، الذي تنسلخ فيه النفس من كل شيء ، ويخلص فيه القلب من كل شاغل :

( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) . .

سواء في ذلك فترة الإمساك وفترة الإفطار .

وفي النهاية يربط الأمر كله بالله على طريقة القرآن في توجيه كل نشاط وكل امتناع . كل أمر وكل نهي . كل حركة وكل سكون :

( تلك حدود الله فلا تقربوها ) . .

والنهي هنا عن القرب . . لتكون هناك منطقة أمان . فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه . والإنسان لا يملك نفسه في كل وقت ؛ فأحرى به ألا يعرض إرادته للامتحان بالقرب من المحظورات المشتهاة ، اعتمادا على أنه يمنع نفسه حين يريد . ولأن المجال هنا مجال حدود للملاذ والشهوات كان الأمر : ( فلا تقربوها ) . . والمقصود هو المواقعة لا القرب . ولكن هذا التحذير على هذا النحو له إيحاؤه في التحرج والتقوى :

( كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ) . .

وكذلك تلوح التقوى غاية يبين الله آياته للناس ليبلغوها ، وهي غاية كبيرة يدرك قيمتها الذين آمنوا ، المخاطبون بهذا القرآن في كل حين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ} (187)

أحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 187 )

لفظة { أحل } تقتضي أنه كان محرماً قبل ذلك( {[1719]} ) ، و { ليلة } نصب على الظرف ، وهي اسم جنس فلذلك أفردت ، ونحوه قول عامر الرامي الحضرمي المحاربي : [ الوافر ]

همُ المَولَى وَقَدْ جَنَفُوا عَلَيْنا . . . وإنّا مِنْ عَدَواتِهِمْ لَزُورُ( {[1720]} )

و { الرفث } كناية عن الجماع ، لأن الله تعالى كريم يكني( {[1721]} ) ، قاله ابن عباس والسدي ، وقرأ ابن مسعود «الرفوث » ، و { الرفث } في غير هذا ما فحش من القول ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]

عَنِ اللّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ( {[1722]} ) . . . وقال أبو إسحاق : «الرفث كل ما يأتيه الرجل مع المرأة من قبل ولمس وجماع » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : أو كلام في هذه المعاني( {[1723]} ) ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه »( {[1724]} )

وسبب هذه الآية فيما قال ابن عباس وغيره أن جماعة من المسلمين اختانوا أنفسهم وأصابوا النساء بعد النوم ، أو بعد صلاة العشاء ، على الخلاف( {[1725]} ) ، منهم عمر بن الخطاب ، جاء إلى امرأته فأرادها ، فقالت له : قد نمت ، فظن أنها تعتل ، فوقع بها ثم تحقق أنها قد كانت نامت ، وكان الوطء بعد نوم أحدهما ممنوعاً : وقال السدي : جرى له هذا في جارية له ، قالوا : فذهب عمر فاعتذر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجرى نحو هذا لكعب بن مالك الأنصاري ، فنزل صدر الآية فيهم( {[1726]} ) ، فهي ناسخة للحكم المتقرر في منع الوطء بعد النوم ، وحكى النحاس ومكي أن عمر نام ثم وقع بامرأته( {[1727]} ) ، وهذا عندي بعيد على عمر رضي الله عنه ، وروي أن صرمة بن قيس ، ويقال صرمة بن مالك ، ويقال أبو أنس قيس بن صرمة( {[1728]} ) ، نام قبل الأكل فبقي كذلك دون أكل حتى غشي عليه في نهاره المقبل ، فنزل فيه من قوله تعالى : { وكلوا واشربوا } ، واللباس أصله في الثياب ثم شبه التباس الرجل بالمرأة وامتزاجهما وتلازمهما بذلك( {[1729]} ) ، كما قال النابغة الجعدي : [ المتقارب ]

إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا . . . تَدَاعتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا( {[1730]} )

وقال النابغة أيضاً : [ المتقارب ]

لَبِسْت أُنَاساً فَأَفْنَيْتُهُمْ . . . وَأَفْنَيْت بَعْدَ أُنَاسِ أُنَاسَا( {[1731]} )

فشبه خلطته لهم باللباس ، نحا هذا المنحى في تفسير اللباس الربيع وغيره ، وقال مجاهد والسدي : { لباس } : سكن ، أي يسكن بعضهم إلى بعض ، وإنما سميت هذه الأفعال اختياناً لعاقبة المعصية وجزائها ، فراكبها يخون نفسه ويؤذيها ، و { فتاب عليكم } معناه من المعصية التي واقعتموها ، و { عفا عنكم } يحتمل أن يريد عن المعصية بعينها فيكون ذلك تأكيداً ، وتأنيساً بزيادة على التوبة ، ويحتمل أن يريد عفا عما كان ألزمكم من اجتناب النساء فيما يؤتنف ، بمعنى تركه لكم( {[1732]} ) ، كما تقول شيء معفو عنه أي متروك .

قال ابن عباس وغيره : { باشروهن } كناية عن الجماع ، مأخوذ من البشرة( {[1733]} ) ، وقد ذكرنا لفظة { الآن }( {[1734]} ) في ماضي قصة البقرة . { وابتغوا ما كتب الله لكم } .

قال ابن عباس ومجاهد والحكم بن عتيبة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك : معناه ابتغوا الولد( {[1735]} ) .

وروي أيضاً عن ابن عباس وغيره أن المعنى وابتغوا ليلة القدر ، وقيل : المعنى ابتغوا الرخصة والتوسعة ، قاله قتادة ، وهو قول حسن ، وقرأ الحسن فيما روي عنه ومعاوية بن قرة «واتبعوا » من الاتباع ، وجوزها ابن عباس ، ورجح { ابتغوا } من الابتغاء .

{ وكلوا واشربوا حتى يتبين } نزلت بسبب صرمة بن قيس ، و { حتى } غاية للتبين ، ولا يصح أن يقع التبين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر ، و { الخيط } استعارة وتشبيه( {[1736]} ) لرقة البياض أولاً ورقة السواد الحاف به ، ومن ذلك قول أبي داود( {[1737]} ) :

فَلَمَّا بَصُرْنَ بِهِ غدْوَةً . . . وَلاَحَ مِنَ الْفَجْرِ خَيْطٌ أَنَارا

ويروى فنارا ، وقال بعض المفسرين : { الخيط } اللون ، وهذ لا يطرد لغة ، والمراد فيما قال جميع العلماء بياض النهار وسواد الليل ، وهو نص قول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في حديثه المشهور( {[1738]} ) ، و { من } الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للتبعيض ، و { الفجر } مأخوذ من تفجر الماء ، لأنه يتفجر شيئاً بعد شيء ، وروي عن سهل بن سعد( {[1739]} ) وغيره من الصحابة أن الآية نزلت إلا قوله { من الفجر } فصنع بعض الناس خيطين أبيض وأسود ، فنزل قوله تعالى : { من الفجر }( {[1740]} ) ، وروي أنه كان بين طرفي المدة عام .

قال القاضي أبو محمد : من رمضان إلى رمضان ، تأخر البيان إلى وقت الحاجة( {[1741]} ) ، وعدي بن حاتم جعل خيطين على وساده وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له : «إن وسادك لعريض » ، وروي أنه قال له : «إنك لعريض القفا » ولهذه الألفاظ تأويلان( {[1742]} ) ، واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك . فقال الجمهور وبه أخذ الناس ومضت عليه الأمصار والأعصار ووردت به الأحاديث الصحاح : ذلك الفجر المعترض الآخذ في الأفق يمنة ويسرة ، فبطلوع أوله في الأُفق يجب الإمساك ، وهو مقتضى حديث ابن مسعود وسمرة بن جندب( {[1743]} ) ، وروي عن عثمان بن عفان وحذيفة بن اليمان وابن عباس وطلق بن علي( {[1744]} ) وعطاء بن أبي رباح والأعمش وغيرهم أن الإمساك يجب بتبين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال ، وذكر عن حذيفة أنه قال : «تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النهار ، إلا أنّ الشمس لم تطلع » ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه صلى الصبح بالناس ثم قال : «الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود » .

قال الطبري : «ومما قادهم إلى هذا القول أنهم يرون أن الصوم إنما هو في النهار ، والنهار عندهم من طلوع الشمس لأن آخره غروبها ، فكذلك أوله طلوعها » .

وحكى النقاش عن الخليل بن أحمد أن النهار من طلوع الفجر ، ويدل على ذلك قول الله تبارك وتعالى : { أقم الصلاة طرفي النهار }( {[1745]} ) [ هود : 114 ] ،

قال القاضي أبو محمد : والقول في نفسه صحيح ، وقد ذكرت حجته في تفسير قوله تعالى : { واختلاف الليل والنهار }( {[1746]} ) [ البقرة : 164 ، آل عمران : 190 ، الجاثية : 5 ] ، وفي الاستدلال بهذه الآية نظر( {[1747]} ) ، ومن أكل وهو يشك هل طلع الفجر أم لم يطلع فعليه عند مالك القضاء( {[1748]} ) .

وقوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } أمر يقتضي الوجوب ، و { إلى } غاية ، إذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه ، كقولك اشتريت الفدان إلى حاشيته ، وإذا كان من غير جنسه كما تقول اشتريت الفدان إلى الدار لم يدخل في المحدود ما بعد { إلى } ، ورأت عائشة رضي الله عنها أن قوله { إلى الليل } يقتضي النهي عن الوصال( {[1749]} ) ، وقد واصل النبي صلى الله عليه وسلم ونهى الناس عن الوصال ، وقد واصل جماعة من العلماء وقد تقدم أن هذه الآية نسخت الحكم الذي في قوله { كما كتب على الذين من قبلكم } [ البقرة : 183 ] على قول من رأى التشبيه في الامتناع من الوطء والأكل بعد النوم في قول بعضهم ، وبعد صلاة العشاء في قول بعضهم ، والليل الذي يتم به الصيام مغيب قرص الشمس ، فمن أفطر وهو شاكّ هل غابت الشمس فالمشهور من المذهب أن عليه القضاء والكفارة .

في ثمانية أبي زيد : عليه القضاء فقط قياساً على الشك في الفجر ، وهو قول جماعة من العلماء( {[1750]} ) .

وقال إسحاق والحسن : لا قضاء عليه كالناسي .

وقوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } ، قالت فرقة : المعنى لا تجامعوهن .

وقال الجمهور : ذلك يقع على الجماع فما دونه مما يتلذذ به من النساء ، و { عاكفون } ملازمون ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلاً عليه ، قال الراجز : [ الرجز ]

عكف النبيط يلعبونَ الفَنْزَجا( {[1751]} ) . . . وقال الشاعر : [ الطويل ]

وَظَلَّ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْليَ عُكَّفاً . . . عَكُوفَ الْبَوَاكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ( {[1752]} )

وقال أبو عمرو وأبو حاتم ، قرأ قتادة «عكفون بغير ألف ، والاعتكاف سنة ، وقرأ الأعمش " في المسجد " بالإفراد ، وقال : وهو المسجد الحرام .

قال مالك رحمه الله وجماعة معه : لا اعتكاف إلا في مساجد الجمعات ، وروي عن مالك أيضاً أن ذلك في كل مسجد ، ويخرج إلى الجمعة كما يخرج إلى ضروري أشغاله .

وقال قوم : لا اعتكاف إلا في أحد المساجد الثلاثة التي تشد المطي إليها حسب الحديث في ذلك .

وقالت فرقة لا اعتكاف إلى في مسجد نبي( {[1753]} ) .

وقال مالك : لا يعتكف أقل من يوم وليلة ، ومن نذر أحدهما لزمه الآخر .

وقال سحنون : من نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه شيء .

وقالت طائفة : أيهما نذر اعتكفه ولم يلزمه أكثر .

وقال مالك : لا اعتكاف بصوم .

وقال غيره : يعتكف بغير صوم ، وروي عن عائشة أنه يعتكف في غير مسجد( {[1754]} ) .

و { تلك } إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي ، والحدود : الحواجز بين الإباحة والحظر ، ومنه قيل للبواب : حداد لأنه يمنع ، ومنه الحاد وهي المرأة الممتنعة من الزينة( {[1755]} ) ، والآيات : العلامات الهادية إلى الحق ، و { لعلهم } ترّجٍ في حقهم ، وظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره الله للهدى بدلالة الآيات التي تتضمن أن الله يضل من يشاء .


[1719]:- ثم أباح الله الجماع والأكل والشرب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقا بالعباد وذلك بسبب عمر بن الخطاب ومن صنع صنعه، وبسبب صرمة بن قيس رضي الله عن الجميع، وروى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله [علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم] انتهى. واختان: أبلغ من خان، كما أن اكتسب أبلغ من كسب.
[1720]:- قال أبو عبيدة: العرب تضع الواحد موضع الجمع كما قال عامر الحصفي: هُمُ المَوْلَى وَقَدْ جَنَفُوا عَلَيْنَا وَإنَّا مِنْ عَدَاوَتِهِمْ لَزُورُ أي: هم الموالي. ويقال له عامر الرام، وعامر الرامي الحضري الحصفي المحاري الصحاي الشاعر، ذكر له أبو عمر والحافظ حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر له صاحب المفضليات قصيدة أولها: مَن مُبْلغ سعْدَ بن نعمان مالكا وسَعْد بن ذبْيان الذي قد تَخَتَّمَا وسمي بذلك لأنه كان ماهراً في الرماية.
[1721]:- والكناية عما يستقبح ذكره بما يستحسن لفظه من سنن العرب كما للثعالبي في فقه اللغة. والرفث كما قال أبو إسحق كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة. وقد نقل عن ابن عباس أن الرَّفث الذي نهى الله عنه ما خُوطبت به المرأة، وإنما عدي الرفث بإلى في الآية لأنه بمعنى الإفضاء، فلما كنت تعدى أفضيت بإلى كقولك إلى المرأة جئت بإلى مع الرفث إيذناً وإشعاراً بأنه بمعناه.
[1722]:- البيت للعجاج أو رؤبة. والبيت بتمامه: وَرُبَّ أسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّـــم عن اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ واللغا: الباطل. والكظم: الساكتون.
[1723]:- قال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس أن نافعا أخبره، أن عبد الله بن عمر كان يقول: الرفث إتيان النساء والتكلم بذلك للرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم.
[1724]:- أخرجه البخاري ومسلم.
[1725]:- فقد كان الصوم واجبا في أول الإسلام حتى في الليل من بعد العشاء أو من بعد النوم. روى الطبري عن طريق عطية عن ابن عباس قال: كان الناس أول ما أسلموا إذا صاموا يطعمون من الطعام فيما بين المساء والعتمة، فإذا صلُّوا العتمة حرم عليهم الطعام حتى يمسوا من الليلة القابلة.
[1726]:- كعب بن مالك هو أحد الذين شهدوا بيعة العقبة، وقد شهد أحداً وغيرها لكنه تخلف عن بدر، وعن تبوك، فهو واحد من الثلاثة الذين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثم تاب الله عليهم، وقد اختلف المؤرخون في تاريخ وفاته رضي الله عنه. هذا وآخر الآية نزل في صرمة ابن قيس الأنصاري الذي غشي عليه بسبب عدم الأكل والشرب بعد ما نام.
[1727]:- هذه الرواية تثبت أن عمر رضي الله عنه هو الذي نام، وهذا بعيد كما قال ابن عطية لأن المباشرة بعد النوم كانت حراما، فلا يليق ذلك بعمر. فالرواية السابقة هي الصواب، وهي أن امرأته نامت وهو رضي الله عنه لم يصدقها ظنا منه أنها إنما اعتذرت بالنوم.
[1728]:- اسم الذي نزل فيه قوله تعالى: [وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود] فيه اختلاف كثير، انظر ابن حجر في قيس بن صرمة. وفي صرمة بن قيس من "الإصابة". وقال أبو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب" بعد أن ذكر قول ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بعد المبعث ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين ما نصه: ويشهد لذلك قول أبي قيس صرمة بن قيس الأنصاري: قال أبو عمر: روينا هذه الأبيات من طرق، عن سفيان بن عُيينة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم ذكر أكمل الروايات في هذه الأبيات.
[1729]:- فالتشبيه من حيث التباسهما واشتمال أحدهما على صاحبه، كما أن اللباس يشتمل على لابسه. ويصح أن يكون التشبيه من حيث أن أحدهما يستر الآخر، ويسكن إلى الآخر كما قال تعالى: (ومن آياته أن جعل لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة)، وأيّا ما يكون فالتشبيه صورة رائعة من بلاغة القرآن.
[1730]:- هو النابغة الجعدي، كنيته أبو ليلى. واسمه عبد الله بن قيس، والضجيع: المضاجع للمرأة، وهي له لباس وفراش. ومعنى (تداعت): سقطت عليه، أو أقبلت عليه برغبة، وفي رواية: (تَثَنَّتْ).
[1731]:- يقال: لبست أناساً بمعنى: تملَّيت بهم زمنا – كما يقال: لبست امرأة بمعنى تمتعت بها.
[1732]:- بمعنى أنه خفف وسهّل عليكم في هذا الأمر وتركه لكم، وهذا هو المناسب لسماحة الدين ورفع الحرج عن أهله.
[1733]:- فالمباشرة إلصاق البشرة بالبشرة وذلك كناية عن الجماع.
[1734]:- الآن: عبارة عن الوقت الذي أنت فيه. وقد يقع على الماضي القريب، والمستقبل القريب تنزيلا للقريب منزلة الحاضر وهو المراد هنا، وعليه: فالآن متعلقة بقوله: [باشروهن]، وإذا قلنا: إنها للوقت الحاضر فهي متعلقة بمعنى ما قبلها، والتقدير: فالآن قد أبحنا لكم أن تباشروهن.
[1735]:- جعل الله لنا شهوة النكاح لبقاء النوع الإنساني، وشهوة الطعام لبقاء الشخص الإنساني إلى أجل مسمى. فحقّ الإنسان أن يتحرى بالنكاح ما جعل الله له على حسب ما يقتضيه العقل والدين، ومتى تحرى به حفظ النفس وتحصين النفس على الوجه المشروع فقد ابتغى ما كتب الله له وهو الولد.
[1736]:- قوله: استعارة وتشبيه مشكل – وقد وضح صاحب "الكشاف" هذا فقال: «فإن قلت: أهذا من باب الاستعارة أم من باب التشبيه ؟ قلت: قوله: من الفجر – أخرجه من باب الاستعارة، كما أن قولك: رأيت أسداً مجاز، فإذا زدت "من فلان" رجع تشبيها – فإن قلت: فلم زيد "من الفجر" حتى كان تشبيها، وهلا اقتصر به على الاستعارة التي هي أبلغ من التشبيه وأدخل في الفصاحة ؟ قلت: لأن من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام، ولو لم يذكر "من الفجر" لم يعلم أن الخيطين مستعاران، فزيد "من الفجر" فكان تشبيها بليغا، وخرج من أن يكون استعارة». ا. هـ.
[1737]:- أبو داود بدالين مهملتين أولاهما مضمومة بعدها واو، شاعر جاهلي، واسمه جارية ابن الحجاج الإيادي، والرواية الموجودة عند الأكثر. فَلَمَّا أضّاءَت لنا سُــدفَــــةٌ وَلاحَ مِنَ خَيْطٌ أَنَـــاراَ والسُّدفة: اختلاط الضوء والظلمة كوقت ما بين صلاة الفجر إلى أول الإسفار.
[1738]:- روى البخاري، ومسلم عن عديِّ بن حاتم قال: لما نزلت: [حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر] قال عدي: يا رسول الله، إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالا أبيض، وعقالا أسود، أعرف الليل من النهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ وسَادَكَ لَعَريضٌ، إنّما هو سَوَادَ الليلِ وبياضُ النّهار).
[1739]:- هو سهل بن سعد بن مالك الأنصاري – صحابي مشهور، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومات سنة (91) هـ.
[1740]:- أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: أنزلت: [وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود] ولم ينزل: [من الفجر]، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبيّن له رؤيتهما فأنزل الله (من الفجر) فعلموا أنه يعني الليل والنهار وزال الالتباس.
[1741]:- يعني أنه كان بين نزول قوله تعالى: [وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود] ونزول قوله تعالى: [من الفجر] عام من رمضان إلى رمضان.
[1742]:- قال (ك): ومعنى قوله: إن وسادك لعريض أي إن كان يسع الخيطين المرادين من هذه الآية فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب، لفظ (إنك لعريض القفا) فسره بعضهم بالبلادة وهو ضعيف بل يرجع هذا اللفظ إلى لفظ (إن وسادك لعريض) لأنه إذا كان وسادُه عريضا فقفاه أيضا عريض، والله أعلم.
[1743]:- لفظ حديث سَمُرَة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق) – ولفظ حديث ابن مسعود، عن عامر بن مطر، قال: (أتيت عبد الله بن مسعود في داره فأخرج فضلا من سحوره فأكلنا منه، ثم أقيمت الصلاة فخرجنا فصلينا)، انظر تفسير الإمام (ط) رحمه الله وصحيح الإمام مسلم. وفي أسد الغابة لابن الأثير: روى وكيع، عن مسعر عن جبلة بن سحيم، عن عامر بن مطر قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة، كذا قاله سهل بن زنجلة، ورواه غيره عن وكيع، قال: تسحرنا مع ابن مسعود وهو الصحيح. أخرجه أبو نعيم، وأبو موسى. وسمرة بن جندب أحد الصحابة الحافظين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من حلفاء الأنصار، وقد خرج للحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شاب صغير فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أذن له بعد صراعه مع شاب آخر صغير السن مثله – قيل إنه مات سنة (59) هـ.
[1744]:- هو طلق بن علي بن طلق بن عمرو – صحابي مشهور، اشترك مع الصحابة في بناء المسجد.
[1745]:- من الآية (114) من سورة (هود).
[1746]:- من الآية (164) من سورة البقرة، وقد سبق ذلك، ونصه هناك: وقال الزجاج في كتاب الأنواء: أول النهار ذرور الشمس، قال: وزعم النضر بن شميل أن أول النهار ابتداء طلوع الشمس ولا يعد ما قبل ذلك من النهار. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الحكم ا. هـ. ويعني بذلك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الخيط الأبيض والخيط الأسود: إنما هو بياض النهار وسواد الليل. فهذا قاض أن النهار من طلوع الفجر لا من طلوع الشمس، والله أعلم.
[1747]:- قال ابن عطية عند قوله تعالى: [وأقم الصلاة طرفي النهار وزُلفا من الليل]: لم يختلف أحد أن الصلاة في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة. واختلف في طرفي النهار وزلف الليل فقيل: الطرف الأول: الصبح، والثاني: الظهر والعصر، والزُّلف: المغرب والعشاء، قاله مجاهد ومحمد بن كعب القرظي، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المغرب والعشاء: هما زلفتا الليل. وقيل: الطرف الأول: الصبح، والثاني: العصر – قاله الحسن، وقتادة، والضحاك، والزُّلف: المغرب والعشاء، وليست الظهر في هذه الآية على هذا القول بل هي في غيرها. وقيل: الطرفان: الصبح والمغرب قاله ابن عباس أيضا، والزُّلف: العشاء وليست الظهر والعصر في الآية. وقيل: الطرفان: الظهر والعصر، والزُّلف: المغرب والعشاء والصبح. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: كأن هذا القائل راعى جهر القراءة أي وسريتها، قال: والأول أحسن هذه الأقوال عندي. ورجح الطبري أن الطرفين الصباح والمغرب، وأنه الظاهر، إلا أن عموم الصلوات الخمس بالآية أولى، انتهى، وتأمل وجه اعتراضه الاستدلال بهذه الآية مع أن أكثر الأقوال متظاهرة على أن الطرف الأول من النهار هو الصبح.
[1748]:- هذا مفهوم قوله تعالى: [حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود] أي حتى يتحقق.
[1749]:- وذلك ما ورد في الأحاديث الصحيحة كحديث البخاري ومسلم عن أنس بن مالك، وفيه لما قالوا له: إنك تواصل: (إنّي لست مثلكم، إنّي أَبِيتُ عند ربِّي يُطعمني ويَسقيني).
[1750]:- هذا هو المعتمد، قال شراح المختصر الخليلي عند قوله: "وكأكله شاكّا في الفجر". وأولى في الغروب، وهو مثال لما يجب فيه القضاء، ومحله إن لم يتبين أنه أكل قبل الفجر أو بعد الغروب، وإلا فلا قضاء عليه عند المالكية، وهو ما تدل عليه الآية الكريمة، لأن الله قال: [حتى يتبين لكم] وقد تبين أنه أكل قبل الفجر أو بعد الغروب.
[1751]:- هو للعجاج، وقد تقدم صدر هذا البيت ومعناه عند قوله تعالى: [وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهِّرا بيتي للطائفين والعاكفين].
[1752]:- هو للطِّرمَّاح بن حكيم. وبنات الليل: الهموم. والصريع: المجنون.
[1753]:- هذا القول موافق لما قبله، لأن المساجد الثلاثة مساجد الأنبياء، فالمسجد الحرام مسجد إبراهيم عليه السلام، ومسجد المدينة مسجد محمد صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى مسجد سليمان عليه السلام.
[1754]:- وذلك أن النهي عن الشيء مقيدا بحال لها متعلق لا يدل على أن تلك الحال إذا وقعت من المنهيين يكون ذلك المتعلق شرطا في وقوعها، ونظير ذلك: «لا تضرب زيدا وأنت راكب فرسا» فلا يلزم من هذا أنك متى ركبت فلا يكون ركوبك إلا فرسا، فالاستدلال بالآية على لزوم الاعتكاف في المسجد ضعيف. وذكر المساجد ملصقة بالاعتكاف إنما هو لأن الاعتكاف لا يكون غالبا إلا فيها.
[1755]:- المرأة الحادّ والمحِدَّة: التي تترك الزينة بعد زوجها للعدة. قاله ابن دريد.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ} (187)

انتقال في أحكام الصيام إلى بيان أعمال في بعض أزمنة رمضان قد يظن أنها تنافي عبادة الصيام ، ولأجل هذا الانتقال فُصلت الجملة عن الجمل السابقة .

وذكروا لسبب نزول هذه الآية كلاماً مضطرباً غير مُبيّن فروى أبو داود عن معاذ بن جبل كان المسلمون إذا نام أحدهم إذا صلى العِشاء وسهر بعدها لم يأكل ولم يباشر أهله بعد ذلك فجاء عُمر يريد امرأتْه فقالت : إني قد نمت فظن أنها تعْتَلُّ فباشرها ، وروى البخاري عن البراء بن عازب أن قيس بن صرمة جاء إلى منزله بعد الغروب يريد طعامه فقالت له امرأته : حتى نسخنَ لك شيئاً فنام فجاءت امرأته فوجدته نائماً فقالت : خيبةً لك ، فبقي كذلك فلما انتصف النهار أغمي عليه من الجوع ، وفي كتاب التفسير من صحيح البخاري { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فالئن باشروهن وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } عن حديث البراء بن عاوب قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله تعالى : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } الآية ، ووقع لكعب بن مالك مثل ما وقع لعمر ، فنزلت هذه الآية بسبب تلك الأحداث ، فقيل : كان ترك الأكل ومباشرة النساء من بعد النوم أو من بعد صلاة العشاء حكماً مشروعاً بالسُّنة ثم نسخ ، وهذا قول جمهور المفسرين ، وأنكر أبو مسلم الأصفهاني أن يكون هذا نسخاً لشيء تقرر في شرعنا وقال : هو نسخ لما كان في شريعة النصارى .

وما شرع الصوم إلاّ إمساكاً في النهار دون الليل فلا أحسب أن الآية إنشاء للإباحة ولكنها إخبار عن الإباحة المتقررة في أصل توقيت الصيام بالنهار ، والمقصود منها إبطال شيء توهمه بعض المسلمين وهو أن الأكل بين الليل لا يتجاوز وقتين وقت الإفطار ووقت السحور وجعلوا وقت الإفطار هو ما بين المغرب إلى العشاء ، لأنهم كانوا ينامون إثر صلاة العشاء وقيامها فإذا صلوا العشاء لم يأكلوا إلاّ أكلة السحور وأنهم كانوا في أمر الجماع كشأنهم في أمر الطعام وأنهم لما اعتادوا جعل النوم مبدأ وقت الإمساك الليلي ظنوا أن النوم إن حصل في غير إبانة المعتاد يكون أيضاً مانعاً من الأكل والجماعِ إلى وقت السحور وإن وقت السحور لا يباح فيه إلاّ الأكل دون الجماع ؛ إذ كانوا يتأثمون من الإصباح في رمضان على جنابة ، وقد جاء في « صحيح مسلم » أن أبا هريرة كان يرى ذلك يعني بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل هذا قد سرى إليْهم من أهل الكتاب كما يقتضيه ما رواه محمد بن جرير من طريق السدي ، ولعلهم التزموا ذلك ولم يسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعل ذلك لم يتجاوز بعض شهر رمضان من السنة التي شرع لهم فيها صيام رمضان فحدثت هذه الحوادث المختلفة المتقاربة ، وذكر ابن العربي في « العارضة » عن ابن القاسم عن مالك كان في أول الإسلام من رقد قبل أن يَطْعَم لم يَطعم من الليل شيئاً فأنزل الله : { فالئن باشروهن } فأكلوا بعد ذلك فقوله تعالى : { علم الله } دليل على أن القرآن نزل بهذا الحكم لزيادة البيان ؛ إذ علم الله ما ضيق به بعض المسلمين على أنفسهم وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا يشير إلى أن المسلمين لم يُفشوا ذلك ولا أخبروا به رسول الله ولذلك لا نجد في روايات البخاري والنسائي أن الناس ذكروا ذلك لرسول الله إلاّ في حديث قيْس بن صِرمة عند أبي داود ولعله من زيادات الراوي .

فأَما أن يكون ذلك قد شرع ثم نسخ فلا أحسبه ، إذ ليس من شأن الدين الذي شرع الصوم أولَ مرة يوماً في السنة ثم درَّجه فشرع الصوم شهراً على التخيير بينه وبين الإطعام تخفيفاً على المسلمين أن يفرضه بعد ذلك ليلاً ونهاراً فلا يبيح الفطر إلاّ ساعات قليلة من الليل .

ولَيْلةُ الصيام الليلةُ التي يعقبها صيام اليوم الموالي لها جرياً على استعمال العرب في إضافة الليلة لليوم الموالي لها إلاّ ليلةَ عرفة فإن المراد بها الليلة التي بعد يوم عرفة .

والرَّفث في « الأساس » و« اللسان » أن حقيقته الكلام مع النساء في شؤون الالتذاذ بهن ثم أطلق على الجماع كناية ، وقيل هو حقيقة فيهما وهو الظاهر ، وتعديته بإلى ليتعين المعنى المقصود وهو الإفضاء .

وقول : { هن لباس لكم } جملة مستأنفة كالعلة لما قبلها أي أحل لعُسر الاحتراز عن ذلك ، ذلك أن الصوم لو فرض على الناس في الليل وهو وقت الاضطجاع لكان الإمساك عن قربان النساء في ذلك الوقت عنتاً ومشقة شديدة ليست موجودة في الإمساك عن قربانهن في النهار ؛ لإمكان الاستعانة عليه في النهار بالبعد عن المرأة ، فقوله تعالى : { هن لباس لكم } استعارة بجامع شدة الاتصال حينئذٍ وهي استعارة أحياها القرآن ، لأن العرب كانت اعتبرتها في قوله : لابَسَ الشيءُ الشيءَ ، إذا اتصل به لكنهم صيروها في خصوص زنة المفاعلة حقيقةً عُرفية فجاء القرآن فأحياها وصيَّرها استعارة أَصلية جديدة بعد أن كانت تبعية منسية وقريبٌ منها قول امرىء القيس :

* فسُلِّي ثيابي من ثيابكِ تَنْسِلِ *

و { تختانون } قال الراغب : « الاختيان مراودة الخيانة » بمعنى أنه افتعال من الخون وأصله تَخْتَوِنُون فصارت الواو ألِفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وخيانة الأنفس تمثيل لتكليفها ما لم تكلف به كأنَّ ذلك تعزيرٌ بها ؛ إذ يوهمها أن المشقة مشروعة عليها وهي ليست بمشروعة ، وهو تمثيل لمغالطتها في الترخص بفعل ما ترونه محرماً عليكم فتُقْدِمُون تارة وتحجمون أخرى كمن يحاول خيانة فيكون كالتمثيل في قوله تعالى : { يخادعون } [ البقرة : 9 ] .

والمعنى هنا أنكم تلجئونها للخيانة أو تنسبونها لها ، وقيل : الاختيان أشد من الخيانة كالاكتساب والكَسب كما في « الكشاف » قلت : وهو استعمال كما قال تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } [ النساء : 107 ] .

وقوله تعالى : { فالئن باشروهن } الأمر للإباحة ، وليس معنى قوله { فالئن } إشارة إلى تشريع المباشرة حينئذٍ بل معناه فاللآن اتضح الحكم فباشروهن ولا تختانوا أنفسكم . والابتغاء الطلب ، وما كتبه الله : ما أباحه من مباشرة النساء في غير وقت الصيام أو اطلبوا ما قدر الله لكم من الولد تحريضاً للناس على مباشرة النساء عسى أن يتكون النسل من ذلك وذلك لتكثير الأمة وبقاء النوع في الأرض .

عطف على { باشروهن } ، والخيط سلك الكتان أو الصوف أو غيرهما يلفق به بين الثياب بشدة بإبرة أو مِخْيَطٍ ، يقال خاط الثوب وخَيَّطه . وفي خبر قبور بني أمية أنهم وجدوا معاوية رضي الله عنه في قبره كالخيط ، والخيط هنا يراد به الشعاع الممتد في الظلام والسوادُ الممتد بجانبه قال أبو دؤاد من شعراء الجاهلية :

فَلَمَّا أَضَاءَت لَنَا سَدْفَةٌ{[176]} *** ولاَحَ من الصُّبْح خَيْطٌ أَنَارَا .

وقوله : { من الفجر } منْ ابتدائية أي الشعاع الناشىء عن الفجر ، وقيل بيانية وقيل تبعيضية وكذلك قول أبي دُؤَاد « من الصبح » لأن الخيط شائع في السلك الذي يخاط به فهو قرينة إحدى المعنيين للمشترك ، وجعله في « الكشاف » تشبيهاً بليغاً ، فلعله لم يثبت عنده اشتهار إطلاقه على هذا المعنى في غير بعض الكلام ، كالآية وبيت أبي دُؤاد ، وعندي أن القرآن ما أطلقه إلاّ لكونه كالنص في المعنى المراد في اللغة الفصحى دون إرادة التشبيه لأنه ليس بتشبيه واضح .

وقد جيء في الغاية بحتى وبالتَّبَيُّن للدلالة على أن الإمساك يكون عند اتضاح الفجر للناظر وهو الفجر الصادق ، ثم قوله تعالى : { حتى يتبين } تحديد لنهاية وقت الإفطار بصريح المنطوق ؛ وقد علم منه لا محالة أنه ابتداء زمن الصوم ، إذ ليس في زمان رمضان إلاّ صوم وفطر وانتهاء أحدهما مبدأ الآخر فكان قوله : { أتموا الصيام إلى الليل } بياناً لنهاية وقت الصيام ولذلك قال تعالى : { ثم أتموا } ولم يقل ثم صوموا لأنهم صائمون من قبل .

و { إلى الليل } غاية اختير لها ( إلى ) للدلالة على تعجيل الفطر عند غروب الشمس لأن إلى لا تمتد معها الغاية بخلاف حتى ، فالمراد هنا مقارنة إتمام الصيام بالليل .

واعلم أن ثم في عطف الجمل للتراخي الرتبي وهو اهتمام بتعيين وقت الإفطار ، لأن ذلك كالبشارة لهم ، ولا التفات إلى ما ذهب إليه أبو جعفر الخباز السمرقندي من قدماء الحنفية من الاستدلال بثم في هاته الآية على صحة تأخير النية عن الفجر احتجاجاً لمذهب أبي حنيفة من جواز تأخير النية إلى الصحوة الكبرى .

بناء على أن ثم للتراخي وأن إتمام الصيام يستلزم ابتداءه ، فكأنه قال ثم بعد تبيين الخيطين من الفجر صوموا أو أتموا الصيام إلى الليل فينتج معنى صوموا بعد تراخ عن وقت الفجر وهو على ما فيه من التكلف والمصير إلى دلالة الإشارة الخفيفة غفلة عن معنى التراخي في عطف ( ثم ) للجمل .

هذا ، وقد رويت قصة في فهم بعض الصحابة لهذه الآية وفي نزولها مفرقة ، فروى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال : " لما نزلت { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } عمدت إلى عِقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي الأبيض من الأسود فغدوت على رسول الله فذكرتُ له ذلك فقال رسول الله : إن وِسادَك لعَرِيض ، وفي رواية : إنك لعَرِيض القفا ، إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " .

ورَوَيا عن سهل بن سعد قال نزلت : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } ولم ينزل { من الفجر } فكانَ رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأْكل حتى تتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعدُ { من الفجر } ، فيظهر من حديث سهل بن سعد أن مثل ما عمله عدي بن حاتم قد كان عمله غيره من قبلِه بمدة طويلة ، فإن عَدِياً أَسلَمَ سنة تسع أو سنة عشر ، وصيام رمضان فُرض سنة اثنتين ولا يُعقل أن يبقَى المسلمون سبع أو ثمانيَ سنين في مثل هذا الخطأ ، فمحل حديث سهل بن سعد على أن يكون ما فيه وقع في أول مُدة شرع الصيام ، ومحمل حديث عدي بن حاتم أن عدياً وقع في مثل الخطأ الذي وقع فيه مَن تقدموه ، فإن الذي عند مسلم عن عبد الله بن إدريس عن حصين عن الشعبي عن عدي أنه قال لما نزلت : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } الخ فهو قد ذكر الآية مستكملة ، فيتعين أن يكون محمل حديث سهل بن سعد على أن ذلك قد عمله بعض الناس في الصوم المفروض قبلَ فَرْض رمضان أي صومِ عاشوراء أو صومِ النَّذْر وفي صوم التَّطوع ، فلما نزلت آية فرض رمضان وفيها { من الفجر } علموا أن ما كانوا يعملونه خطأ ، ثم حَدث مثل ذلك لعدي بن حاتم .

وحديث سهل لا شبهة في صحة سنده إلاّ أنه يحتمل أن يكون قوله فيه ولم ينزل { من الفجر } وقوله فأنزل الله بعد ذلك { مِن الفجر } مروياً بالمعنى فجاء راويه بعبارات قلقة غير واضحة ، لأنه لم يقع في « الصحيحين » إلاّ من رواية سعيد بن أبي مريم عن أبي غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد فقال الراوي : « فأنزل بعد أو بعدَ ذلك من الفجر » وكان الأوضح أن يقول فأنزل الله بعدُ : { وكلوا واشربوا } إلى قوله { من الفجر } .

وأيّاً ما كان فليس في هذا شيء من تأخير البيان ، لأن معنى الخيط في الآية ظاهر للعرب ، فالتعبير به من قبيل الظاهر لا من قبيل المجمل ، وعدمُ فهم بعضهم المرادَ منه لا يقدح في ظهور الظاهر ، فالذين اشتبه عليهم معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فهموا أَشهر معاني الخيط وظَنوا أن قوله : { من الفجر } متعلق بفعل { يتبين } على أن تكون ( مِنْ ) تعليلية أي يكون تبينه بسبب ضوء الفجر ، فصنعوا ما صنعوا ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم « إنّ وسادك لعريض أو إنك لعريض القفا » كناية عن قلة الفِطنة وهي كناية موجهة من جوامع كلمه عليه السلام .

وقوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون } عطف على قوله { باشروهن } لقصد أن يكون المعتكف صالحاً . وأجمعوا على أنه لا يكون إلاّ في المسجد لهاته الآية ، واختلفوا في صفة المسجد فقيل لا بد من المسجد الجامع وقيل مطلق مسجد وهو التحْقيق وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله ، وأحكامه في كتب الفقه وليست من غرض هذا المفسر .

تذييل بالتحذير من مخالفة ما شرع إليه من أحكام الصيام . فالإشارة إلى ما تقدم ، والإخبار عنها بالحدود عيَّن أن المشار إليه هو التحديدات المشتمل عليها الكلام السابق وهي قوله : { حتى يتبين لكم الخيط } وقوله : { إلى الليل } { وأنتم عاكفون } من كل ما فيه تحديد يفضي تجاوزه إلى معصية ، فلا يخطر بالبال دخول أحكام الإباحة في الإشارة مثل : { أحل لكم } ومثل { فالئن باشروهن } .

والحدود الحواجز ونهايات الأشياء التي إذا تجاوزها المرء دخل في شيء آخر ، وشبهت الأحكام بالحدود لأن تجاوزها يخرج من حل إلى منع وفي الحديث " وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها " وستأتي زيادة بيان له في قوله تعالى : { تلك حدود الله فلا تقربوها } .

وقوله : { فلا تقربوها } نهى عن مقاربتها الموقعةِ في الخروج منها على طريق الكناية لأن القرب من الحد يستلزم قصد الخروج غالباً كما قال تعالى : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } [ الأنعام : 152 ] ، ولهذا قال تعالى في آيات أخرى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } [ البقرة : 229 ] . كما سيأتي هنالك وفي معنى الآية حديث " من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " .

والقول في : { كذلك يبين الله آياته للناس } تقدم نظيره في قوله : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] أي كما بين الله أحكام الصيام يبين آياته للناس أي جميع رياته لجميع الناس ، والمقصد أن هذا شأن الله في إيضاح أحكامه لئلا يلتبس شيء منها على الناس ، وقوله : { لعلهم يتقون } ، أي إرادةً لاتقائهم الوقوع في المخالفة ، لأنه لو لم يبين لهم الأحكام لما اهتدوا لطريق الامتثال ، أو لعلهم يلتبسون بغاية الامتثال والإتيان بالمأمورات على وجهها فتحصل لهم صفة التقوى الشرعية ، إذ لو لم يبين الله لهم لأتوا بعبادات غير مستكملة لما أراد الله منها ؛ وهم وإن كانوا معذورين عند عدم البيان وغير مؤاخذيم بإثم التقصير إلاّ أنهم لا يبلغون صفة التقوى أي كمال مصادفة مراد الله تعالى ، فلعل يتقون على هذا منزل منزلة اللازم لا يقدَّر له مفعول مثل { هل يستوى الذين يعلمون } [ الزمر : 9 ] ، وهو على الوجه الأول محذوف المفعول للقرينة .


[176]:السدفة الضوء بلغة قيس والظلمة بلغة تميم فهي من الأضداد في العربية.