{ 1 - 8 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ }
( التين ) هو التين المعروف ، وكذلك { الزَّيْتُونَ } أقسم بهاتين الشجرتين ، لكثرة منافع شجرهما وثمرهما ، ولأن سلطانهما في أرض الشام ، محل نبوة عيسى ابن مريم عليه السلام .
1- وتسمى –أيضا- سورة " والتين " وعدد آياتها ثماني آيات ، والصحيح أنها مكية .
وقد روي ذلك عن ابن عباس وغيره ، ويؤيد كونها مكية ، القسم بمكة في قوله –تعالى- : [ وهذا البلد الأمين ] ، وعن قتادة أنها مدنية ، وهو قول لا دليل عليه .
وكان نزولها بعد سورة " البروج " ، وقبل سورة " لإيلاف قريش " .
وقد اشتملت هذه السورة الكريمة ، على التنبيه بأن الله –تعالى- قد خلق الإنسان في أحسن تقويم ، فعليه أن يكون شاكرا لخالقه ، مخلصا له العبادة والطاعة .
اتفق المفسرون على أن المراد بطور سينين : الجبل الذى كلم الله - تعالى - عليه موسى - عليه السلام - وسينين ، وسيناء ، وسينا ، اسم للبقعة التى فيها هذا الجبل ، بإضافة " طور " إلى ما بعده ، من إضافة الموصوف إلى الصفة .
قال الإِمام الشوكانى : " وطور سينين " هو الجبل الذى كلم الله عليه موسى ، اسمه الطور . ومعنى سينين : المبارك الحسن . . وقال مجاهد : سينين كل جبل فيه شجر مثمر ، فهو سينين وسيناء . وقال الأخفش : طور : جبل . وسينين شجر ، واحدته سينه ، ولم ينصرف سينين كما لم ينصرف سيناء ، لأنه جعل اسما للبقعة .
وأقسم - سبحانه - به ، لأنه من البقاع المباركة ، وأعظم بركة حلت به ووقعت فيه ، تكليم الله - تعالى - ، لنبيه موسى - عليه السلام - .
كما اتفقوا - أيضا - على أن المراد بالبلد الأمين : مكة المكرمة ، وسمى بالأمين لأن من دخله كان آمنا ، وقد حرمها - تعالى - على جميع خلقه ، وحرم شجرها وحيوانها ، وفى الحديث الصحيح ، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال بعد فتحتها : " إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهى حرام إلى أن تقوم الساعة ، لم تحل لأحد قبلي ، ولن تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ، فلا يُعْضَد - أي : يقطع - شجرها - ولا ينفر صيدها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد .
إلا أن خلافهم فى المراد بقوله - تعالى - : { والتين والزيتون } ، وقد ذكر الإِمام القرطبى هذا الخلاف فقال ما ملخصه : قوله : { والتين والزيتون } : قال ابن عباس وغيره : هو تينكم الذى تأكلون ، وزيتونكم الذى تعصرون منه الزيت . قال - تعالى - : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بالدهن وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } وهى شجرة الزيتون .
وقال أبو ذر : " أهدى للنبى صلى الله عليه وسلم سلة تين ، فقال : " كلوا " وأكل منها . ثم قال : " لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة ، لقلت هذه . . " " .
وعن معاذ : أنه استاك بقضيب زيتون ، وقال : سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول : " نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة " .
وقال الإِمام ابن جرير بعد أن ساق جملة من الأقوال من المقصود بالتين والزيتون : والصواب من القول فى ذلك عندنا قول من قال : التين : هو التين الذى يؤكل . والزيتون : هو الزيتون الذى يعصر منه الزيت ، لأن ذلك هو المعروف عند العرب ، ولا يعرف جبل يسمى تينا ، ولا جبل يقال له زيتون . إلا أن يقول قائل : المراد من الكلام القسم بمنابت التين ، ومنابت الزيتون ، فيكون ذلك مذهبا ، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك ، دلالة فى ظاهر التنزيل .
وما ذهب إليه الإِمامان : ابن جرير والقرطبى ، من أن المراد بالتين والزيتون ، حقيقتهما ، هو الذى نميل إليه ، لأنه هو الظاهر من معنى اللفظ ، ولأنه ليس هناك من ضرورة تحمل على مخالفته ، ولله - تعالى - أن يقسم بما شاء من مخلوقاته ، فهو صاحب الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين .
الحقيقة الرئيسية التي تعرضها هذه السورة هي حقيقة الفطرة القويمة التي فطر الله الإنسان عليها ، واستقامة طبيعتها مع طبيعة الإيمان ، والوصول بها معه إلى كمالها المقدور لها . وهبوط الإنسان وسفوله حين ينحرف عن سواء الفطرة واستقامة الإيمان .
ويقسم الله - سبحانه - على هذه الحقيقة بالتين والزيتون ، وطور سينين ، وهذا البلد الأمين ، وهذا القسم على ما عهدنا في كثير من سور هذا الجزء - هو الإطار الذي تعرض فيه تلك الحقيقة . وقد رأينا في السور المماثلة أن الإطار يتناسق مع الحقيقة التي تعرض فيه تناسقا دقيقا .
وطور سينين هو الطور الذي نودي موسى - عليه السلام - من جانبه . والبلد الأمين هو مكة بيت الله الحرام . . وعلاقتهما بأمر الدين والإيمان واضحة . . فأما التين والزيتون فلا يتضح فيهما هذا الظل فيما يبدو لنا .
وقد كثرت الأقوال المأثورة في التين والزيتون . . قيل : إن التين إشارة إلى طور تينا بجوار دمشق .
وقيل : هو إشارة إلى شجرة التين التي راح آدم وزوجه يخصفان من ورقها على سوآتهما في الجنة التي كانا فيها قبل هبوطهما إلى هذه الحياة الدنيا . وقيل : هو منبت التين في الجبل الذي استوت عليه سفينة نوح - عليه السلام .
وقيل في الزيتون : إنه إشارة إلى طور زيتا في بيت المقدس . وقيل : هو إشارة إلى بيت المقدس نفسه . وقيل : هو إشارة إلى غصن الزيتون الذي عادت به الحمامة التي أطلقها نوح عليه السلام - من السفينة - لترتاد حالة الطوفان . فلما عادت ومعها هذا الغصن عرف أن الأرض انكشفت وأنبتت !
وقيل : بل التين والزيتون هما هذان الأكلان الذان نعرفهما بحقيقتهما . وليس هناك رمز لشيء وراءهما . .
أو أنهما هما رمز لمنبتهما من الأرض . . .
وشجرة الزيتون إشير إليها في القرآن في موضع آخر بجوار الطور : فقال : ( وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ) . . كما ورد ذكر الزيتون : ( وزيتونا ونخلا ) . . فأما " التين " فذكره يرد في هذا الموضع لأول مرة وللمرة الوحيدة في القرآن كله .
ومن ثم فإننا لا نملك أن نجزم بشيء في هذا الأمر . وكل ما نملك أن نقوله - اعتمادا على نظائر هذا الإطار في السور القرآنية - : إن الأقرب أن يكون ذكر التين والزيتون إشارة إلى أماكن أو ذكريات ذات علاقة بالدين والإيمان . أو ذات علاقة بنشأة الإنسان في أحسن تقويم [ وربما كان ذلك في الجنة التي بدأ فيها حياته ] . . كي تلتئم هذه الإشارة مع الحقيقة الرئيسية البارزة في السورة ؛ ويتناسق الإطار مع الحقيقة الموضوعة في داخله . على طريقة القرآن . . .
وهي مكية ، لا أعرف في ذلك خلافا بين المفسرين{[1]} .
اختلف الناس في معنى { التين والزيتون } اللذين أقسم الله تعالى بهما ، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم وعطاء وجابر بن زيد ومقاتل : هو { التين } الذي يؤكل { والزيتون } الذي يعصر ، وأكل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه تيناً أهدي إليه ، فقال : «لو قلت إن فاكهة أنزلت من الجنة لقلت هذه ، لأن فاكهة الجنة بلا عجم{[11890]} ، فكلوا فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس »{[11891]} ، وقال عليه السلام : «نعم السواك سواك الزيتون ومن الشجرة المباركة هي سواكي وسواك الأنبياء قبلي{[11892]} » ، وقال كعب وعكرمة : القسم بمنابتها ، وذلك أن { التين } ينبت بدمشق ، { والزيتون } ينبت بإيلياء فأقسم الله تعالى بالأرضين ، وقال قتادة : هما جبلان بالشام ، على أحدهما دمشق ، وعلى الآخر بيت المقدس ، وقال ابن زيد : { التين } مسجد دمشق ، { والزيتون } مسجد إلياء ، وقال ابن عباس وغيره : { التين } مسجد نوح { والزيتون } مسجد إبراهيم ، وقيل { التين والزيتون وطور سينين } ، ثلاثة مساجد بالشام ، وقال محمد بن كعب القرظي : { التين } مسجد أصحاب الكهف ، و { الزيتون } مسجد إيلياء .
سميت في معظم كتب التفسير ومعظم المصاحف { سورة والتين } بإثبات الواو تسمية بأول كلمة فيها . وسماها بعض المفسرين { سورة التين } بدون الواو لأن فيها لفظ { التين } كما قالوا { سورة البقرة } وبذلك عنونها الترمذي وبعض المصاحف .
وهي مكية عند أكثر العلماء قال ابن عطية : ل أعرف في ذلك خلافا بين المفسرين ، ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور المختلف فيها . وذكر القرطبي عن قتادة أنها مدنية ، ونسب أيضا إلى ابن عباس ، والصحيح عن ابن عباس أنه قال : هي مكية .
وعدت الثامنة والعشرين في ترتيب نزول السور ، نزلت بعد سورة البروج وقبل سورة الإيلاف .
احتوت هذه السورة على التنبيه بأن الله خلق الإنسان على الفطرة المستقيمة ليعلموا أن الإسلام هو الفطرة كما قال في الآية الأخرى { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها } وأن ما يخالف أصوله بالأصالة أو بالتحريف فساد وضلال ، ومتبعي ما يخالف الإسلام أهل ضلالة .
والتعريض بالوعيد للمكذبين بالإسلام .
والإشارة بالأمور المقسم بها إلى أطوار الشرائع الأربعة إيماء إلى أن الإسلام جاء مصدقا لها وأنها مشاركة أصولها لأصول دين الإسلام .
والتنويه بحسن جزاء الذين اتبعوا الإسلام في أصوله وفروعه .
وشملت الامتنان على الإنسان بخلقه على أحسن نظام في جثمانه ونفسه .
ابتداء الكلام بالقَسَم المؤكد يؤذن بأهمية الغرض المسوق له الكلام ، وإطالةُ القَسَم تشويق إلى المُقْسَم عليه .
والتينُ ظاهره الثمرة المشهورة بهذا الاسم ، وهي ثمرة يشبه شكلها شكل الكمثرى ذات قشر لونه أزرق إلى السواد ، تتفاوت أصنافه في قُتومَة قِشره ، سهلة التقشير تحتوي على مثل وعاء أبيضَ في وسطه عَسل طيّبٌ الرائحة مخلوط ببزور دقيقة مثل السِمسم الصغير ، وهي من أحسن الثمار صورة وطعماً وسهولة مضغ فحالتُها دالة على دقة صنع الله ومؤذنة بعلمه وقدرته ، فالقسم بها لأجل دلالتها على صفات إلهية كما يقسم بالاسم لدلالته على الذات ، مع الإِيذان بالمنة على الناس إذ خلَق لهم هذه الفاكهة التي تنبت في كل البلاد والتي هي سهلة النبات لا تحتاج إلى كثرة عمل وعلاج .
والزيتونُ أيضاً ظاهره الثمرة المشهورة ذاتُ الزيت الذي يُعتصر منها فيطعمه الناس ويستصبحُون به . والقَسَم بها كالقَسَم بالتين من حيث إنها دالّة على صفات الله ، مع الإِشارة إلى نعمة خلق هذه الثمرة النافعة الصالحة التي تكفي الناس حوائج طعامهم وإضاءتهم .
وعلى ظاهر الاسمين للتِّين والزيتون حملهما جمع من المفسرين الأوَّلين ابنُ عباس ومجاهد والحسن وعكرمةُ والنخعي وعطاء وجابر بن زيد ومقاتِل والكلبي وذلك لما في هاتين الثمرتين من المنافع للناس المقتضية الامتنان عليهم بأن خلقها الله لهم ، ولكن مناسبة ذكر هذَيْن مع { طور سنين } ومع { البلد الأمين } تقتضي أن يكون لهما محمل أوفق بالمناسبة فروي عن ابن عباس أيضاً تفسير التين بأنه مَسجد نوح الذي بني على الجُودي بعد الطوفان . ولعل تسمية هذا الجبل التين لكثرته فيه إذ قد تسمى الأرض باسم ما يكثر فيها من الشجر كقول امرىء القيس :
وسمي بالتين موضع جاء في شعر النابغة يصف سحابَات بقوله
صُهْب الظِّلال أتَيْنَ التينَ في عُرُضٍ *** يَزجين غَيماً قَليلاً ماؤُه شَبِما
والزيتون يطلق على الجبل الذي بُني عليه المسجد الأقصى لأنه ينبت الزيتون . وروي هذا عن ابن عباس والضحاك وعبد الرحمن بن زيد وقتادة وعكرمة ومحمد بن كعب القرظِي . ويجوز عندي أن يكون القَسَم ب { التين والزيتون } معنياً بهما شجر هاتين الثمرتين ، أي اكتسب نوعاهما شرفاً من بين الأشجار يكون كثير منه نابتاً في هذين المكانين المقدسين كما قال جرير :
أتذكرُ حين تصقِل عارضَيْها *** بفرع بشامة سُقي البشام{[455]}