تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قَالَ سَـَٔاوِيٓ إِلَىٰ جَبَلٖ يَعۡصِمُنِي مِنَ ٱلۡمَآءِۚ قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلۡيَوۡمَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَۚ وَحَالَ بَيۡنَهُمَا ٱلۡمَوۡجُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُغۡرَقِينَ} (43)

ف { قَالَ } ابنه ، مكذبا لأبيه أنه لا ينجو إلا من ركب معه السفينة .

{ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ } أي : سأرتقي جبلا ، أمتنع به من الماء ، ف { قَالَ } نوح : { لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ } فلا يعصم أحدا ، جبل ولا غيره ، ولو تسبب بغاية ما يمكنه من الأسباب ، لما نجا إن لم ينجه الله . { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ } الابن { مِنَ الْمُغْرَقِينَ }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَالَ سَـَٔاوِيٓ إِلَىٰ جَبَلٖ يَعۡصِمُنِي مِنَ ٱلۡمَآءِۚ قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلۡيَوۡمَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَۚ وَحَالَ بَيۡنَهُمَا ٱلۡمَوۡجُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُغۡرَقِينَ} (43)

ولكن هذه النصيحة الغالية من الأب الحزين على مصير ابنه . لم تجد أذنا واعية من هذا الابن العاق المغرور ، بل رد على أبيه : { قَالَ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي

ولكن هذه النصيحة الغالية من الأب الحزين على مصير ابنه . لم تجد أذنا واعية من هذا الابن العاق المغرور ، بل رد على أبيه : { قَالَ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي

أى : قال : سألتجئ إلى جبل من الجبال الشاهقة ، لكى أتحصن به من وصول الماء إلى .

وهنا يرد عليه أبوه الرد الأخير فيقول - كما حكى القرآن عنه - : { قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ . . }

أى : قال نوح لابنه : لا معصوم اليوم من عذاب الله إلا من رحمه - سبحانه - بلطفه وإحسانه ، وأما الجبال وأما الحصون . . وأما غيرهما من وسائل النجاة ، فسيعلوها الطوفان ، ولن تغنى عن المحتمى بها شيئا .

وعبر عن العذاب بأمر الله ، تهويلا لشأنه .

وقوله : { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين } بيان للعاقبة السيئة التى آل إليها أمر الابن الكافر .

أى : وحال وفصل الموج بهديره وسرعته بين الابن وأبيه .

فكانت النتيجة أن صار الابن الكافر من بين الكافرين المغرقين .

والتعبير بقوله : { وَحَالَ . . . } يشعر بسرعة فيضان الماء واشتداده ، حتى لكأن هذه السرعة لم تمهلهما ليكملا حديثهما .

والتعبير بقوله : { فَكَانَ مِنَ المغرقين } يشير إلى أنه لم يغرق وحده ، وإنما غرقهو وغرق معه كل من كان على شاكلته فى الكفر .

وهكذا تصور لنا هذه الآية الكريمة ما دار بين نوح وابنه من محاورات فى تلك اللحظات الحاسمة المؤثرة ، التى يبذل فيها كل أب ما يستطيع بذله من جهود لنجاة ابنه من هذا المصير المؤلم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَالَ سَـَٔاوِيٓ إِلَىٰ جَبَلٖ يَعۡصِمُنِي مِنَ ٱلۡمَآءِۚ قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلۡيَوۡمَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَۚ وَحَالَ بَيۡنَهُمَا ٱلۡمَوۡجُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُغۡرَقِينَ} (43)

25

ولكن البنوة العاقة لا تحفل بالأبوة الملهوفة ، والفتوة المغرورة لا تقدر مدى الهول الشامل :

( قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ) . .

ثم ها هي ذي الأبوة المدركة لحقيقة الهول وحقيقة الأمر ترسل النداء الأخير :

( قال : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) .

لا جبال ولا مخابئ ولاحام ولا واق . إلا من رحم الله .

وفي لحظة تتغير صفحة المشهد . فها هو ذا الموج الغامر يبتلع كل شيء :

( وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ) . .

وإننا بعد آلاف السنين ، لنمسك أنفاسنا - ونحن نتابع السياق - والهول يأخذنا كأننا نشهد المشهد . وهي تجري بهم في موج كالجبال ، ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء تلو النداء . وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة الدعاء ، والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة وينتهي كل شيء ، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب !

وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية - بين الوالد والمولود - كما يقاس بمداه في الطبيعة ، والموج يطغى على الذرى بعد الوديان . وإنهما لمتكافئان ، في الطبيعة الصامتة وفي نفس الإنسان . وتلك سمة بارزة في تصوير القرآن .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالَ سَـَٔاوِيٓ إِلَىٰ جَبَلٖ يَعۡصِمُنِي مِنَ ٱلۡمَآءِۚ قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلۡيَوۡمَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَۚ وَحَالَ بَيۡنَهُمَا ٱلۡمَوۡجُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُغۡرَقِينَ} (43)

ظن ابن نوح أن ذلك المطر والماء على العادة ، وقوله : { لا عاصم } قيل فيه : إنه على لفظة فاعل ؛ وقوله : { إلا مَنْ رحم } يريد إلا الله الراحم ، ف { مَنْ } كناية عن اسم الله تعالى ، المعنى : لا عاصم اليوم إلا الذي رحمنا ف { مَنْ } في موضع رفع ، وقيل : قوله : { إلا مَنْ رحم } استثناء منقطع كأنه قال : لا عاصم اليوم موجود ، لكن من رحم الله موجود{[6360]} ، وحسن هذا من جهة المعنى ، أن نفي العاصم يقتضي نفي المعصوم . فهو حاصل بالمعنى . وأما من جهة اللفظ ، ف { مَنْ } في موضع نصب على حد قول النابغة : إلا الأواري . . . . . . . {[6361]}

ولا يجوز أن تكون في موضع رفع على حد قول الشاعر : [ الرجز ] .

وبلدة ليس بها أنيس*** إلا اليعافير وإلا العيس{[6362]}

إذ هذان أنيس ذلك الموضع القفر ، والمعصوم هنا ليس بعاصم بوجه ، وقيل { عاصم } معناه ذو اعتصام ، ف { عاصم } على هذا في معنى معصوم ، ويجيء الاستثناء مستقيماً ، و { مَنْ } في موضع رفع ، و { اليوم } ظرف ، وهو متعلق بقوله : { من أمر الله } ، أو بالخير الذي تقديره : كائن اليوم ، ولا يصح تعلقه ب { عاصم } لأنه كان يجيء منوناً : لا عاصماً اليوم يرجع إلى أصل النصب لئلا يرجع ثلاثة أشياء واحداً ، وإنما القانون أن يكون الشيئان واحداً : { لا } وما عملت فيه ، ومثال النحويين في هذه المسألة : لا أمراً يوم الجمعة لك ، فإن أعلمت في يوم لك قلت : لا أمر{[6363]} .

و { بينهما } يريد بين نوح وابنه ، فكان الابن ممن غرق .


[6360]:- أي: من رحمه الله موجود.
[6361]:-هذا مطلع بيت سبق الاستشهاد به عند تفسير قوله تعالى: {فلو كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس} الآية (98) من سورة (يونس). والبيت بتمامه: إلا الأواري لأيا ما أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
[6362]:- البيت لجران العود النّميري، وهو من شواهد النحويين (خزانة الأدب للبغدادي) على أن الاستثناء في البيت منقطع لأن اليعافير والعيس ليسا من نوع المستثنى منه وهو "الأنيس". وللعرب في هذا مذهبان: فالحجازيون ينصبون المنقطع على الاستثناء، وبنو تميم يرفعونه على أنه بدل مما قبله. والبلدة هنا: القطعة من الأرض، والأنيس: المؤنس من الناس وهو الذي يذهب ما بك من وحشة، واليعافير: جمع يعفور وهو ولد الظبية أو البقرة الوحشية، أو هو تيس الظباء، والعيس: إبل بيض يخالط بياضها شقرة، والجمع: أعيس وعيساء.
[6363]:- أفضل ما قيل في الآراء التي ذكرها ابن عطية رحمه الله أن [من] في موضع رفع، والمعنى لا يعصم اليوم من أمر الله إلا الراحم، أي: إلا الله، وهذا هو الذي اختاره الطبري، ومال إليه القرطبي، قال: لأنك لم تجعل "عاصما" بمعنى "معصوم" فتخرجه من بابه، ولا "إلا" بمعنى "لكن". والذين جعلوا "عاصما" بمعنى "معصوم" قاسوها على قوله تعالى: {من ماء دافق} فهو والله أعلم بمعنى "مدفوق"، وعليه جاء قول الشاعر: بطيء القيام رخيم الكلا م أمسى فؤادي به فاتنا أي: "مفتونا"، وعليه أيضا قول الحطيئة يهجو الزبرقان بن بدر: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي أي: المطعوم المكسوّ.