معاني القرآن للفراء - الفراء  
{قَالَ سَـَٔاوِيٓ إِلَىٰ جَبَلٖ يَعۡصِمُنِي مِنَ ٱلۡمَآءِۚ قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلۡيَوۡمَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَۚ وَحَالَ بَيۡنَهُمَا ٱلۡمَوۡجُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُغۡرَقِينَ} (43)

وقوله : { سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الماء 43 } .

( قَالَ ) نوح عليه السلام { لاَ عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أمرِ الله إلاَّ مَنْ رَحِمَ } فمَنْ في موضع نصب ؛ لأن المعصوم خلاف للعاصم والمرحوم معصوم . فكأنه نصبه بمنزلة قوله { مالَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاَّ اتّباع الظَّنِّ } ومَن اسْتجاز رفع الاتباع أو الرفعَ في قوله :

وبلدٍ ليس به أنيسُ *** إلاَّ اليَعَافِيرُ وَإِلاَّ العِيسُ

لم يَجُزله الرفع في ( مَن ) لأن الذي قال : ( إلاّ اليعافيرُ ) جعل أنيس البَرّ اليعافِير والوحوش ، وكذلك قوله { إلاَّ اتِّبَاع الظَّنِّ } يقول : علِمهم ظنّ وأنت لا يجوز لك في وجه أن تقول : المعصوم عاصم . ولكن لو جَعلت العاصم في تأويل معصوم كأنك قلت : لا معصوم اليوم من أمر الله لجاز رفع ( مَن ) ولا تنكرنّ أن يخرج المفعول على فاعل ؛ ألا ترى قوله { مِنْ ماء دَافِقٍ } فمعناه والله أعلم : مدفوق وقوله { في عِيِشَةٍ رَاضِيَةٍ } معناها مرضيَّة ، وقال الشاعر :

دعِ المكارمَ لا ترحل لِبُغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى

معناه المكسوّ . تستدلّ على ذلك أنك تقول : رضيتُ هذه المعيشةَ ولا تقول : رَضِيَتْ ودُفِق الماء ولا تقول : دَفَق ، وتقول كُسِي العريان ولا تقول : كسا . ويقرأ ( إلاّ من رُحِم ) أيضاً . ولو قيل لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رُحِم كأنَّك قلت : لا يعصم اللهُ اليوم إلاّ من رُحِم ولم نسمع أحداً قرأ به .