الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد : فهذا تفسير مفصل لسورة آل عمران ، حاولت فيه أن أكشف عن بعض ما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات قويمة ، وهدايات جامعة . وإرشادات حكيمة . ووصايا جليلة ، وآداب عالية ، وحجج باهرة ، تقذف حقها على باطل الضالين فتدمغه فإذا هو زاهق .
وقد رأيت من الخير قبل أن أبدأ في تفسيرها أن أسوق كلمة بين يديها تكون بمثابة التعريف بها ، وبيان فضلها ومقاصدها الإجمالية ، والموضوعات التي اهتمت بالحديث عنها .
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه ، ونافعا لعباده ، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول .
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .
سورة آل عمران هي السورة الثالثة في ترتيب المصحف ؛ إذ تسبقها في الترتيب سورتا الفاتحة والبقرة .
وتبلغ آياتها مائتي آية . وهي مدنية باتفاق العلماء .
وسميت بسورة آل عمران ، لورود قصة آل عمران بها بصورة فيها شيء من التفصيل الذي لا يوجد في غيرها .
والمراد بآل عمران عيسى ، ويحيى ومريم ، وأمها . والمراد بعمران والد مريم أم عيسى –عليه السلام- .
وقد ذكر العلماء أسماء أخرى لهذه السورة منها :
أنها تسمى بسورة الزهراء ، لأنها كشفت عما التبس على أهل الكتاب من شأن عيسى –عليه السلام- .
وتسمى بسورة الأمان ، من تمسك بها أمن الغلط في شأنه .
وتسمى بسورة الكنز لتضمنها الأسرار التي تتعلق بعيسى عليه السلام .
وتسمى بسورة المجادلة ، لنزول أكثر من ثمانين آية منها في شأن مجادلة الرسول صلى الله عليه وسلم لوفدي نصارى نجران .
وتسمى بسورة طيبة ، لجمعها الكثير من أصناف الطيبين في قوله –تعالى- [ الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ] .
قال القرطبي ما ملخصه : وهذه السورة ورد في فضلها آثار وأخبار . فمن ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان الكلابي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يؤتى بالقرآن يوم القيامة وبأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران –وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال : كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق- أي ضوء ، أو كأنهما فرقان –أي قطعتان من طير صواف- تحاجان عن صاحبهما " .
ثم قال : وصدر هذه السورة نزل بسبب وفد نجران ، وكانوا قد وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر صلاة العصر ، عليهم ثياب الحبرات( {[1]} ) .
فقال بعض الصحابة : ما رأينا وفداً مثلهم جمالا وجلالة .
وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في المسجد إلى المشرق . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعوهم . ثم أقاموا بها أياماً يناظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بالبراهين الساطعة ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية ، إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة( {[2]} ) .
أما النصف الثاني من سورة آل عمران فقد كان نزول ما يقرب من ستين آية منه( {[3]} ) في أعقاب غزوة أحد .
هذا ونرى من الخير قبل أن نبدأ في تفسير هذه السورة الكريمة بالتفصيل أن نذكر على سبيل الإجمال ما اشتملت عليه من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وأحكام جليلة ، وتشريعات قويمة .
إنك عندما تفتح كتاب الله –تعالى- وتطالع سورة آل عمران تراها في مفتتحها تثبت أن المستحق للعبادة إنما هو الله وحده ، وتقيم البراهين الساطعة على ذلك .
[ الَمَ الله لا إله إلا هو الحي القيوم . نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه ، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ، وأنزل الفرقان ] .
ثم بعد أن مدحت أصحاب العقول السليمة لقوة إيمانهم ، وشدة إخلاصهم وكثرة تضرعهم إلى خالقهم –سبحانه- وبشرتهم بحسن العاقبة . . بعد أن فعلت ذلك ذمت الكافرين وتوعدتهم بسوء المصير فقالت : [ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ، وأولئك هم وقود النار ] .
[ قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ] .
ثم تحدثت عن الشهوات التي زينت للناس ، وبينت ما هو خير منها ، وصرحت بأن الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده هو دين الإسلام ، وأن أهل الكتاب ما تركوا الحق الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم إلا بسبب ما استولى على قلوبهم من بغي وجحود ، وأنهم بسبب ما ارتكبوه من كفر وجرائم في الدنيا ، سيكون حالهم يوم القيامة أسوأ حال وسيكون مصيرهم أشنع مصير ، [ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ] .
ثم نهت السورة الكريمة المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصدقاء يلقون إليهم بالمودة ، وذكرتهم بأن الله –تعالى- لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا السماء ، وأنه –سبحانه- سيحاسب كل نفس بما كسبت [ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ] .
فإذا ما طالعت –أيها القارئ الكريم- الربعين : الثالث والرابع منها ، وجدت فيهما حديثا حكيما عن آل عمران .
فقد تحدثت السورة الكريمة عما قالته امرأة عمران –أم مريم- عندما أحست بالحمل في بطنها ، وعما قالته عندما وضعت حملها .
[ قالت ربِّ إني وضعتها أنثى ، والله أعلم بما وضعت ، وليس الذكر كالأنثى ، وإني سميتها مريم ] .
وتحدثت عن الدعوات الخاشعات التي تضرع بها زكريا إلى ربه ، سائلا إياه الذرية الطيبة ، وكيف أن الله –تعالى- أجاب له دعاءه فبشره [ بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبيّاً من الصالحين ] .
وتحدثت عن اصطفاء الله –تعالى- لمريم وتبشيرها بعيسى –عليه السلام- وتعجبها من أن يكون لها ولد دون أن يمسها بشر ؛ وكيف أن الله –تعالى- قد رد عليها بما يزيل عجبها .
[ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ؟ قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ] .
وتحدثت عن الصفات الكريمة ، والمعجزات الباهرة التي منحها الله –تعالى- لعيسى –عليه السلام- وعن دعوته للناس إلى عبادة الله وحده وعن موقف أعدائه منه ؛ وعن صيانة الله له من مكرهم وعن تشابه عيسى وآدم في شأن خلقهما بدون أب . . وكيف أن الله –تعالى- أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أني تحدى كل من يجادله بالباطل في شأن عيسى فقال :
[ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون . الحق من ربك فلا تكن من الممترين . فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ، ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ، إن هذا لهو القصص الحق ، وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم ] .
ثم وجهت السورة الكريمة أربع نداءات إلى أهل الكتاب ، دعتهم فيها إلى عبادة الله وحده ، وإلى ترك الجدال بالباطل في شأن أنبيائه ، ووبختهم على كفرهم وعلى خلطهم الحق بالباطل .
[ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ، ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ] [ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ] .
[ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ] .
[ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ] .
ثم واصلت السورة الكريمة في الربعين : الخامس والسادس منها حديثها عن أهل الكتاب ، فمدحت القلة المؤمنة منهم ، وذمت من يستحق الذم منهم –وهم الأكثرون- وحكت بعض الرذائل التي عرفت عن أشرارهم وفريق من علمائهم .
[ وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ] .
ثم بينت أن الله _تعالى_ قد أخذ الميثاق على أنبيائه بأن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأنهم قد أقروا بذلك وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجابه مخالفيه بكلمة الحق التي جاء بها من عند الله ، وان يخبرهم بأن من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه .
[ قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون . ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ] .
ثم ساقت السورة الكريمة بعض الشبهات التي أثارها اليهود حول ما أحله الله وحرمه عليهم من الأطعمة . وردت عليهم بما يفضحهم ويثبت كذبهم ، ووبختهم على كفرهم وعلى صدهم الناس عن طريق الحق . . وحذرت المؤمنين من مسالكهم الخبيثة التي يريدون من ورائها تفريق كلمتهم وفصم عرى أخوتهم واعتصامهم بحبل الله . وذكرتهم بنعمة الإيمان التي بسببها نالوا ما نالوا من الخير [ واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ] .
ثم بشرت السورة الكريمة المؤمنين بأنهم خير أمة أخرجت للناس ، وأنهم هم الغالبون ما داموا معتصمين بدينهم . . وذكرت بعض العقوبات التي عاقب الله –تعالى- بها اليهود بسبب كفرهم بآياته ، وقتلهم أنبياءه ، وعصيانهم أوامره . . وأثنت على من يستحق الثناء من أهل الكتاب فقالت : [ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله ، ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم ، منهم المؤمنون ، وأكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون . ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . ليسوا سواء ] .
وبعد أن أقامت السورة الكريمة –في عشرات الآيات منها- الأدلة الواضحة ، وساقت الحجج الساطعة على صحة دين الإسلام . . انتقلت إلى الحديث عن معارك السيف والسنان التي دارت بين أهل الحق وأهل الباطل .
فتحدثت في الربع السابع والثامن والتاسع والعاشر منها عن غزوة أحد .
وكان حديثها عن هذه الغزوة زاخرا بالتوجيهات الحكيمة والتربية القويمة ، والوصايا الحميدة ، والعظات الجليلة والتشريعات السامية ، والآداب العالية .
كان حديثها عنها هاديا للمسلمين في كل زمان ومكان إلى الطريق الذي يوصلهم إلى النصر ليسلكوه ، موضحاً لهم طريق الفشل ليجتنبوه . كان حديثها عنها يدعو المسلمين كافة إلى الاعتبار بأحداث الحياة " وكيف أنها تسير على سنن وقوانين علينا أن نطلبها ونسلك السبيل إلى تعلمها ، وأن أحداث الحياة ليست مجموعة من المصادفات المتوالية ، أو التدفق العشوائي ، وإنما للنصر قوانين ، وللهزيمة قوانين . ومن الممكن أن ينهزم المسلمون في حرب ولو كان فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ما خالفوا عن أمره ، وسلكوا غير سبيل النصر ، وأن لهم النصر على عدوهم وإن فاقهم عدداً وعدة إذا ما استطاعوا أن يرتفعوا إلى ما فوق فاعلية عدوهم إيمانا وعلما وتنظيماً " ( {[4]} ) .
لقد بدأت سورة آل عمران حديثها عن غزوة أحد بتذكير المؤمنين بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بدء المعركة من إعداد وتنظيم للصفوف ، وبما هم به بعضهم من فشل ، وبما تم لهم من نصر على أعدائهم في غزوة بدر . . استمع إلى القرآن وهو يحكي كل ذلك فيقول : [ وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم . إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون . ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ، فاتقوا الله لعلكم تشكرون ] .
وفي هذا الربط بين الغزوتين تذكير للمؤمنين بأسباب انتصارهم في بدر وأسباب هزيمتهم في أحد : حتى يسلكوا في مستقبل حياتهم السبيل التي توصلهم إلى الظفر ، ويهجروا الطريق التي تقودهم إلى الفشل .
ثم وجهت السورة نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه عن التعامل بالربا ، وحثتهم على المسارعة إلى الأعمال الصالحة التي توصلهم إلى رضوان الله ، لأنه إذا كان أعداؤهم يجمعون المال من كل طريق لحربهم ، فعليهم هم أن يتحروا الحلال في جمعهم للمال ، وأن يتبعوا الوسائل الشريفة التي تبلغهم إلى غايتهم النبيلة ، ثم حضتهم على الاعتبار بسنن الله في خلقه ، وأمرتهم بالتجلد والصبر ، ونهتهم عن الوهن والضعف ، وبشرتهم بأنهم هم الأعوان ، وشجعتهم على مواصلة الجهاد في سبيل الله فإن العاقبة لهم ، وأخبرتهم بأن ما أصابهم من آلام وجراح في أحد ، قد أصيب أعداؤهم بمثلها ، وأن الأيام دول ، وأن هزيمتهم في أحد من ثمارها أنها ميزت قوى الإيمان من ضعيفه ، لأن المصائب كثيراً ما تكشف عن معادن النفوس ، وخفايا الصدور .
قال –تعالى- [ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين . ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين . إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ، وتلك الأيام نداولها بين الناس ، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ] .
ثم بينت السورة الكريمة أن الآجال بيد الله وحده ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد خلت من قبله الرسل ، وسيدركه الموت كما أدركهم . وأن الأخيار من أتباع الرسل السابقين كانوا يقاتلون معهم بثبات وصبر من أجل إعلاء كلمة الله . . فعلى المؤمنين في كل زمان ومكان أن يقدموا على الجهاد في سبيل الله بعزيمة صادقة ، وبنفوس مخلصة ؛ لأن الإقدام لا ينقص شيئا من الحياة ، كما أن الإحجام لا يؤخرها ، [ وما كان لنفس أن نموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ] .
ثم حذرت السورة الكريمة المؤمنين من طاعة الكافرين ؛ لأن طاعتهم تفضي بهم إلى الخسران ، وبشرتهم بأن الله –تعالى- سيلقى الرعب في قلوب أعدائهم ، وأخبرتهم بأنه –سبحانه- قد صدق وعده معهم ، حيث مكنهم في أول معركة أحد من الانتصار على خصومهم وأنهم –أي المؤمنين- ما أصيبوا بما أصيبوا به في أحد إلا بسبب فشلهم وتنازعهم وتطلعهم إلى الغنائم ، ومخالفتهم لوصايا رسولهم صلى الله عليه وسلم .
قال –تعالى- [ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون ، منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ، ولقد عفا عنكم ، والله ذو فضل على المؤمنين ] .
ولقد ذكرت السورة الكريمة المؤمنين بما حدث من بعضهم من فرار عن المعركة حتى لا يعودوا إلى ذلك مرة أخرى فقالت :
[ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم ] وبينت لهم كيف أن الله –تعالى- قد شملهم برحمته ، حيث أنزل عليهم النعاس في أعقاب المعركة ليكون أمانا لهم من الخوف ، وراحة لهم من الآلام التي أصابتهم . . وكيف أنه –سبحانه- قد فضح المنافقين ، ورد على أقوالهم وأراجيفهم بما يدحضها ويبطلها .
قال –تعالى- [ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية . يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله ، يخفون في أنفسهم مالا يبدون لك ، يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ، قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ] ثم وجهت السورة الكريمة حديثها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوصفته بأكرم الصفات وأفضلها ، ونزهته عن كل قول أو فعل يتنافى مع منزلته الرفيعة . . وأمرته باللين مع أتباعه وبالعفو عنهم وبالاستغفار لهم ، وبمشاورتهم في الأمر .
ثم عادت السورة الكريمة فأكدت للمؤمنين أن ما أصابهم في أحد سببه من عند أنفسهم ، فهم الذين خالفوا ما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم .
قال –تعالى- [ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ، قل هو من عند أنفسكم ] .
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن غزوة أحد ببيان فضل الشهداء ، وما أعده الله لهم من ثواب جزيل ، وبالثناء على المؤمنين الصادقين [ الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ] والذين لم يرهبهم قول المرجفين : [ إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ] بل إن هذا القول زادهم إيمانا على إيمانهم ، وجعلهم يفوضون أمورهم إلى الله ويقولون : [ حسبنا الله ونعم الوكيل ] .
ولقد ذكر –سبحانه- أن حكمته قد اقتضت أن يحدث ما حدث في أحد حتى يتميز الخبيث من الطيب فقال –تعالى :
[ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ، وما كان الله ليطلعكم على الغيب ، ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ، فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ] .
وبعد هذا الحديث الحكيم المستفيض عن غزوة أحد ، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن أهل الكتاب فذكرت جانبا من رذائل اليهود ، الذين حكى الله –تعالى- عنهم أنهم قالوا [ إن الله فقير ونحن أغنياء ] وأنهم قالوا : [ لن نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ] .
وأنهم قد نقضوا عهودهم مع الله وباعوا دينهم بدنياهم الفانية .
وقد توعدهم الله –تعالى- على ارتكابهم لهذه الرذائل والمنكرات بالعذاب المهين [ وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ] .
ثم تحدثت السورة الكريمة في أواخرها عن صفات أولى الألباب ، وحكت عنهم ما كانوا يتضرعون به إلى الله من دعوات خاشعات ، وابتهالات طيبات ، وكيف أنه –سبحانه- قد أجاب لهم دعاءهم ببركة قوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم ، وطهارة قلوبهم .
وكانت الآية الخاتمة فيها تدعو المؤمنين إلى الصبر والمصابرة والمرابطة وتقوى الله ، لأن المؤمن الذي تتوفر فيه هذه الصفات يكون أهلا للفلاح في الدنيا والآخرة . قال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ، واتقوا الله لعلكم تفلحون ] .
هذا ونستطيع بعد هذا العرض الإجمالي لأهم المقاصد التي اشتملت عليها سورة آل عمران أن نستخلص ما يأتي :
أولا : أن السورة الكريمة قد اهتمت بإثبات وحدانية الله –تعالى- وإقامة الأدلة الساطعة على ذلك ، وإثبات أن الدين الحق الذي ارتضاه الله –تعالى- لعباده هو دين الإسلام ، الذي أرسل به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم .
وقد ساقت السورة الكريمة لإثبات هذه الحقائق آيات كثيرة منها قوله تعالى : [ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ] .
وقوله –تعالى : [ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط . لا إله إلا هو العزيز الحكيم . إن الدين عند الله الإسلام ] .
وقوله – تعالى : [ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين ] .
ثانياً : أن السورة الكريمة قد فصلت الحديث عن أحوال أهل الكتاب ، بأسلوب مقنع حكيم يحق الحق ويبطل الباطل .
فأنت إذا طالعتها بتدبر تراها تارة تتحدث عن الكفر الذي ارتكسوا فيه بسبب اختلافهم وبغيهم . [ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ] .
وتارة تتحدث عن نبذهم لكتاب الله وتحاكمهم إلى غيره . [ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ] .
وتارة توبخهم على كفرهم بآيات الله . وعلى مجادلتهم بالباطل ، وعلى سوء أدبهم مع الله –تعالى- وعلى نقضهم لعهودهم ومواثيقهم ، وعلى كتمانهم لما أمرهم الله بإظهاره من حقائق .
وقد توعدتهم السورة الكريمة بسوء العذاب بسبب هذه الرذائل والمنكرات [ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلاً فبئس ما يشترون ] .
وتارة تحذر المؤمنين من شرورهم فتقول : [ لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ] .
ولا تغفل السورة الكريمة عن مدح من يستحق المدح منهم ، لأن القرآن الكريم لا يذم إلا من يستحق الذم ، فقد قال –تعالى- [ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ] .
وقال –تعالى- [ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ] .
وقال –تعالى- : [ منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ] .
هذا جانب من حديث سورة آل عمران عن أهل الكتاب ، وهو حديث يكشف عن حقيقتهم حتى يكون المؤمنون على بينة من أمرهم .
وقد تحدثت السورة . أيضاً عن المشركين وعن المنافقين إلا أن حديثها عن أهل الكتاب كان أكثر وأشمل .
ثالثا : أن السورة الكريمة قد اهتمت اهتماما بارزا بتربية المؤمنين تربية ينالون باتباعها النصر والسعادة في الدنيا والفوز والفلاح في الآخرة .
فقد وجهت إليهم سبعة نداءات أمرتهم فيها بتقوى الله ، وبالصبر والمصابرة والمرابطة ، ونهتهم عن طاعة الكافرين ، ون التشبه بهم ، وعن اتخاذهم أولياء كما نهتهم عن تعاطي الرب وعن كل ما يتنافى مع آداب دينهم وتعاليمه .
وهذه النداءات السبعة تراها في قوله تعالى :
1- [ يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ] .
2- [ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حتى تقاته ] .
3- [ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ] .
4- [ يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ] .
5- [ يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين ] .
6- [ يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزًّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ] .
7- [ يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ] .
وبجانب هذه النداءات التي اشتملت على أسمى ألوان التربية الفاضلة ، والتوجيه القويم . . نرى السورة الكريمة تسوق للمؤمنين في آيات كثيرة منها ما يهدى بهم إلى الخير والرشاد ويبعدهم عن الشر والفساد . فهي تحكي لهم ألوانا من الدعوات التي يتضرع بها الأخيار من الناس لكي يتأسوا بهم . وتبين لهم أن حب الشهوات طبيعة في الناس إلا أن العقلاء منهم يجعلون حبهم لما يرضى الله فوق أي شيء آخر . وتحرضهم على الاعتصام بحبل الله وتحثهم على المسارعة إلى الأعمال الصالحة التي توصلهم إلى رضا الله .
إلى غير ذلك من التوجيهات الحكيمة التي زخرت بها سورة آل عمران والتي من شأنها أن تزيد المؤمنين إيمانا مع إيمانهم ، وأن تهديهم إلى الصراط المستقيم .
رابعا : أن السورة الكريمة عرضت أحداث غزوة أحد عرضاً حكيما زاخراً بالعظات والعبر وفصلت الحديث عنها تفصيلا لا يوجد في غيرها من السور ، وساقت ما دار فيها بأسلوب بليغ مؤثر يخاطب العقول والعواطف ، ويكشف عن خفايا القلوب ونوازعها ، وطوايا النفوس وخواطرها ، ويعالج الأخطاء التي وقع فيها بعض المسلمين حتى لا يعودوا لمثلها ويشجعهم على المضي في طريق الجهاد حتى لا يؤثر في عزيمتهم ما حدث لهم في أحد ، ويبشرهم بأن الله –تعالى- قد عفا عمن فر منهم ، ويذكرهم بمظاهر فضل الله عليهم خلال المعركة وبعدها ، ويبصرهم بسنن الله التي لا تتخلف ، وبقوانينه التي لا تتبدل ، وبتعاليمه التي من سار عليها أفلح وانتصر ، ومن أعرض عنها خاب وخسر [ فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ] .
أما بعد ، فهذا عرض إجمالي لسورة آل عمران رأينا أن نسوقه قبل البدء في التفسير المفصل لآياتها ، ولعلنا بذلك نكون قد قدمنا تعريفاً موجزا نافعا عن هذه السورة الكريمة يعين على فهم بعض أسرارها ومقاصدها وتوجيهاتها .
والله نسأل أن يهدينا جميعا إلى صراطه المستقيم ، وأن يجنبنا فتنة القول والعمل ، وأن يجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه ونافعة لعباده .
افتتحت سورة آل عمران ببعض حروف التهجي وهو قوله - تعالى - : { الم }
ويبلغ عدد السور القرآنية التي افتتحت بالحروف المقطعة تسعا عشرين سورة .
وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود من حروف التهجي التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ويمكن إجمال اختلافهم فى رأيين رئيسيين :
الرأي الأول يرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهى من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه .
وإلى هذا الرأي ذهب ابن عباس - في إحدى الروايات عنه - كما ذهب إليه الشعبي ، وسفيان الثورى وغيرهما من العلماء ، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبى أنه سئل عن فواتح السور فقال : " إن لكل كتاب سراً ، وإن سر هذا القرآن فواتح السور " وروى عن ابن عباس أنه قال : " عجزت العلماء عن إدراكها " .
وعن على بن أبى طالب أنه قال : " إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجى " وفى رواية أخرى للشعبى أنه قال : " سر الله فلا تطلبوه " .
ومن الاعتراضات التى وجهت إلى هذا الرأى أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس ؛ لأنه من المتشابه فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثله كمثل التكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها .
وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإِفهام عنها عند كل الناس . فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد بها ، وكذلك بعض الصحابة المقربين ، ولكن الذى ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة فى أوائل بعض السور . وهناك مناقشات للعلماء حول هذا الرأى لا مجال لذكرها هنا .
أما الرأى الثانى فيرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها معلوم . وأنها ليست من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه . وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم فى تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها :
1- أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح " وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها ، كسورة " ص " وسورة " يس " وسورة " ق " . . الخ .
ولا يخلو هذا القول من ضعف لأنه لا يلزم من التسمية ببعضها أن تكون جميع الحروف المقطعة أسماء للسور التي بدئت بها ، ولأن كثيراً من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، فلو كانت أسماء للسور لم تتكرر لمعان مختلفة ؛ لأن الغرض من التسمية رفع الاشتباه .
2- وقيل : إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى .
3- وقيل : إنها حروف مقطعة بعضها من أسماء الله - تعالى - وبعضها من صفاته ، فمثلا : { الاما } أصلها أنا الله أعلم .
4- وقيل : إنها اسم الله الأعظم . إلى غير ذلك من الأقوال التى لا تخلو من مقال ، والتى أوصلها السيوطى فى كتابه " الإِتقان " إلى أكثر من عشرين قولا .
5- ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت فى افتتاح بعض سور القرآن على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن .
فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين فى أن القرآن من عند الله : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك .
ومما يشهد لصحة هذا الرأى : أن الآيات التى تلى هذه الحروف المقطعة تتحدث عن الكتاب المنزل ، وعن كونه معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم فى أغلب المواضع .
وأنت ترى هذه الآيات كثيرا ما تتصدر صراحة باسم الإِشارة الذى يعود إلى القرآن كما فى قوله - تعالى - : ( الم ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ ) أو ضمنا كما فى قوله - تعالى - : ( المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ ) وأيضا فإن هذه السور التى افتتحت بالحروف المقطعة إذا ما تأملتها من أولها إلى آخرها ترى من أهدافها الأساسية إثبات صحة الرسالة المحمدية عن طريق هذا الكتاب الذى جعله الله - تعالى - معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم .
هذه خلاصة موجزة لآراء العلماء فى المراد بالحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع إلى ما كتبه العلماء فى هذا الموضوع .
سورة آل عمران مدنية وآياتها مائتان
هذا القرآن هو كتاب هذه الدعوة . هو روحها وباعثها . وهو قوامها وكيانها . وهو حارسها وراعيها . وهو بيانها وترجمانها . وهو دستورها ومنهجها . وهو في النهاية المرجع الذي تستمد منه الدعوة - كما يستمد منه الدعاة - وسائل العمل ، ومناهج الحركة ، وزاد الطريق . .
ولكن ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا ، ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية ، ذات وجود حقيقي ؛ ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة ؛ ووجهت به حياة إنسانية حقيقية في هذه الأرض ؛ وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية وفي رقعة من الأرض كذلك . معركة تموج بالتطورات والانفعالات والاستجابات .
وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن ، طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة ، لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه هذا الخلق المسمى بالإنسان ، والتي تواجه هذه الأمة المسماة بالمسلمين ! بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية ، ذات كينونة واقعية حية ؛ ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيا حيا ، نشأ عنه وجود ، ذو خصائص في حياة " الإنسان " بصفة عامة ، وفي حياة الأمة المسلمة بوجه خاص .
ومعجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين في حياة أمة معينة ، في فترة من فترات التاريخ محددة ، وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها ، ولكنه - مع هذا - يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة ، وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية ، وفي صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها ، وفي معركتها كذلك في داخل النفس ، وفي عالم الضمير ، بنفس الحيوية ، ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك .
ولكي نحصل نحن من القرآن على قوته الفاعلة ، وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية الكامنة ، ونتلقى منه التوجيه المدخر للجماعة المسلمة في كل جيل . . ينبغي أن نستحضر في تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التي خوطبت بهذا القرآن أول مرة . . كينونتها وهي تتحرك في واقع الحياة ، وتواجه الأحداث في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها ؛ وتتعامل مع أعدائها وأصدقائها ؛ وتتصارع مع شهواتها وأهوائها ؛ ويتنزل القرآنحينئذ ليواجه هذا كله ، ويوجه خطاها في أرض المعركة الكبيرة : مع نفسها التي بين جنبيها ، ومع أعدائها المتربصين بها في المدينة وفي مكة وفيما حولهما . . وفيما وراءهما كذلك . .
أجل . . يجب أن نعيش مع تلك الجماعة الأولى ؛ ونتمثلها في بشريتها الحقيقية ، وفي حياتها الواقعية ، وفي مشكلاتها الإنسانية ؛ ونتأمل قيادة القرآن لها قيادة مباشرة في شؤونها اليومية وفي أهدافها الكلية على السواء ؛ ونرى كيف يأخذ القرآن بيدها خطوة خطوة . وهي تعثر وتنهض . وتحيد وتستقيم . وتضعف وتقاوم . وتتألم وتحتمل . وترقى الدرج الصاعد في بطء ومشقة ، وفي صبر ومجاهدة ، تتجلى فيها كل خصائص الإنسان ، وكل ضعف الإنسان ، وكل طاقات الإنسان .
ومن ثم نشعر أننا نحن أيضا مخاطبون بالقرآن في مثل ما خوطبت به الجماعة الأولى . وأن بشريتنا التي نراها ونعرفها ونحسها بكل خصائصها ، تملك الاستجابة للقرآن ، والانتفاع بقيادته في ذات الطريق .
إننا بهذه النظرة سنرى القرآن حيا يعمل في حياة الجماعة المسلمة الأولى ؛ ويملك أن يعمل في حياتنا نحن أيضا . وسنحس أنه معنا اليوم وغدا . وأنه ليس مجرد تراتيل تعبدية مهومة بعيدة عن واقعنا المحدد ، كما أنه ليس تاريخا مضى وانقضى وبطلت فاعليته وتفاعله مع الحياة البشرية .
إن القرآن حقيقة ذات كينونة مستمرة كهذا الكون ذاته . الكون كتاب الله المنظور . والقرآن كتاب الله المقروء . وكلاهما شهادة ودليل على صاحبه المبدع ؛ كما أن كليهما كائن ليعمل . . والكون بنواميسه ما زال يتحرك ويؤدي دوره الذي قدره له بارئه . الشمس ما زالت تجري في فلكها وتؤدي دورها ، والقمر والأرض ، وسائر النجوم والكواكب لا يمنعها تطاول الزمان من أداء دورها ، وجدة هذا الدور في المحيط الكوني . . والقرآن كذلك أدى دوره للبشرية ، وما يزال هو هو . فالإنسان ما يزال هوهو كذلك . ما يزال هو هو في حقيقته وفي أصل فطرته . وهذا القرآن هو خطاب الله لهذا الإنسان - فيمن خاطبهم الله به . خطاب لا يتغير ، لأن الإنسان ذاته لم يتبدل خلقا آخر ، مهما تكن الظروف والملابسات قد تبدلت من حوله ، ومهما يكن هو قد تأثر وأثر في هذه الظروف والملابسات . . والقرآن يخاطبه في أصل فطرته وفي أصل حقيقته التي لا تبديل فيها ولا تغيير ؛ ويملك أن يوجه حياته اليوم وغدا لأنه معد لهذا ، بما أنه خطاب الله الأخير ؛ وبما أن طبيعته كطبيعة هذا الكون ثابتة متحركة بدون تبديل .
وإذا كان من المضحك أن يقول قائل عن الشمس مثلا : هذا نجم قديم " رجعي ؟ " يحسن أن يستبدل به نجم جديد " تقدمي ! " أو أن هذا " الإنسان " مخلوق قديم " رجعي " يحسن أن يستبدل به كائن آخر " تقدمي " لعمارة هذه الأرض ! ! !
إذا كان من المضحك أن يقال هذا أو ذاك ، فأولى أن يكون هذا هو الشأن في القرآن . خطاب الله الأخير للإنسان .
وهذه السورة تمثل قطاعا حيا من حياة الجماعة المسلمة في المدينة من بعد " غزوة بدر " - في السنة الثانيةمن الهجرة - إلى ما بعد " غزوة أحد " في السنة الثالثة . وما أحاط بهذه الحياة من ملابسات شتى في خلال هذه الفترة الزمنية . وفعل القرآن - إلى جانب الأحداث - في هذه الحياة ، وتفاعله معها في شتى الجوانب .
والنصوص من القوة والحيوية بحيث تستحضر صورة هذه الفترة ؛ وصورة الحياة التي عاشتها الجماعة المسلمة ؛ وصورة الاشتباكات والملابسات التي أحاطت بهذه الحياة . مع استبطان السرائر والضمائر ، وما يدب فيها من الخواطر ، وما يشتجر فيها من المشاعر ، حتي لكأن قارئها يعيش هذه الأحداث ، ويعايش الأمة التي كانت تخوضها وتتفاعل وإياها . ولو أغمض الإنسان عينيه فلربما تراءت له - كما تراءت لي - شخوص الجماعة المسلمة رائحة غادية ، بسماتها الظاهرة على الوجوه ، ومشاعرها المستكنة في الضمائر . ومن حولها أعداؤها يتربصون بها ، ويبيتون لها ، ويلقون بينها بالفرية والشبهة ، ويتحاقدون عليها ، ويجمعون لها ، ويلقونها في الميدان ، وينهزمون أمامها - في أحد - ثم يكرون عليها فيوقعون بها . . وكل ما يجري في المعركة من حركة وكل ما يصاحب حركاتها من انفعال باطن وسمة ظاهرة . . والقرآن يتنزل ليواجه الكيد والدس ، ويبطل الفرية والشبهة ، ويثبت القلوب والأقدام ، ويوجه الأرواح والأفكار ، ويعقب على الحادث ويبرز منه العبرة ، ويبني التصور ويزيل عنه الغبش ، ويحذر الجماعة المسلمة من العدو الغادر والكيد الماكر ، ويقود خطاها بين الأشواك والمصايد والأحابيل ، قيادة الخبير بالفطرة العليم بما تكن الصدور . .
ومن وراء هذا كله تبقى التوجيهات والتلقينات التي احتوتها السورة خالصة طليقة من قيد الزمان والمكان ، وقيد الظروف والملابسات ، تواجه النفس البشرية ، وتواجه الجماعة المسلمة - اليوم وغدا - وتواجه الإنسانية كلها ، وكأنها تتنزل اللحظة لها ، وتخاطبها في شأنها الحاضر ، وتواجهها في واقعها الراهن . ذلك أنها تتناول أمورا وأحداثا ومشاعر وجدانية وحالات نفسية كأنما كانت ملحوظة في سياق السورة . . بل هي ملحوظة قطعا في تقدير العليم الخبير بالنفوس والأشياء والأمور .
ومن ثم يتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة في أي مكان وفي أي زمان . وهو دستور هذه الأمة في أي جيل ومن أي قبيل . وهو حادي الطريق وهادي السبيل على توالي القرون . . ذلك أنه خطاب الله الأخير لهذا الإنسان في جميع العصور . .
في هذه الفترة كانت الجماعة المسلمة في المدينة قد استقرت بعض الاستقرار في موطنها الجديد في مدينة الرسول [ ص ] ومضت خطوة وراء الموقف الذي صورناه من قبل في هذه الظلال في مطلع استعراض " سورة البقرة " .
كانت غزوة بدر الكبرى قد وقعت ؛ وكتب الله فيها النصر للمسلمين على قريش . وكان هذا النصر بظروفه التي تم فيها والملابسات التي أحاطت به تبدو فيه رائحة المعجزة الخارقة . . ومن ثم اضطر رجل كعبد الله بن أبي بن سلول من عظماء الخزرج أن ينزل عن كبريائه وكراهته لهذا الدين ونبيه [ ص ] وأن يكبت حقده وحسده للرسول الكريم ؛ وأن ينضم - منافقا - للجماعة المسلمة ، وهو يقول : " هذا أمر قد توجه " . . أي ظهرت له وجهة هو ماض فيها لا يرده عنها راد !
بذلك وجدت بذرة النفاق في المدينة - أو تمت وأفرخت ، فقد كان هناك قبل بدر من اضطروا لمنافقة أهلهم الذين دخلوا في الإسلام - وأصبحت مجموعة من الرجال ، ومن ذوي المكانة فيهم ، مضطرة إلى التظاهر بالإسلام ، والانضمام إلى المجتمع المسلم ، بينما هي تضمر في أنفسها الحقد والعداء للإسلام والمسلمين ؛ وتتربص بهم الدوائر ؛ وتتلمس الثغرات في الصف ؛ وتترقب الأحداث التي تضعضع قوى المسلمين أو تزعزع الصف المسلم ، ليظهروا كوامن صدورهم ، أو ليضربوا ضربة الإجهاز إذا كان ذلك في مكنتهم !
وقد وجد هؤلاء المنافقون حلفاء طبيعيين لهم في اليهود ، الذين كانوا يجدون في أنفسهم من الحقد على الإسلام والمسلمين ، وعلى نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام مثل ما يجد المنافقون بل أشد . وقد هددهم الإسلام تهديدا قويا في مكانتهم بين " الأميين " من العرب في المدينة ؛ وسد عليهم الثغرة التي كانوا ينفذون منها للعب بين الأوس والخزرج ، بعدما أصبحوا بنعمة الله إخوانا ، وفي ظل الإسلام صفا واحدا مرصوصا .
وقد غص اليهود وشرقوا بانتصار المسلمين في بدر ، وارتفع غليان حقدهم على الجماعة المسلمة ، وانطلقوا بكل ما يمكلون من دس وكيد وتآمر يحاولون تفتيت الصف الإسلامي ، وإلقاء الحيرة في قلوب المسلمين ، ونشر الشبهات والشكوك ، في عقيدتهم وفي أنفسهم على السواء !
وفي هذه الفترة وقع حادث بني قينقاع فوضح العداء وسفر . . على الرغم مما كان بين اليهود والنبي [ ص ] من مواثيق أبرمها معهم عقب مقدمه إلى المدينة .
كذلك كان المشركون موتورين من هزيمتهم في بدر ، يحسبون ألف حساب لانتصار محمد [ ص ] ومعسكر المدينة ، وللخطر الذي يتمثل إذن على تجارتهم وعلى مكانتهم وعلى وجودهم كذلك ! ومن ثم يتهيأون لدفع هذا الخطر الماحق قبل أن يصبح القضاء عليه مستحيلا .
وبينما كان أعداء المعسكر الإسلامي في عنفوان قوتهم وفي عنفوان حقدهم كذلك ! كان الصف المسلم ما يزال في أوائل نشأته بالمدينة . غير متناسق تماما . فيه الصفوة المختارة من السابقين من المهاجرين والأنصار ؛ ولكن فيه كذلك نفوس وشخصيات لم تنضج بعد . والجماعة كلها على العموم لم تنل من التجارب الواقعية ما يسوي النتوءات ، ويوضح حقيقة الدعوة وحقيقة الظروف الملابسة لها ، وحقيقة منهجها العملي وتكاليفه .
كان للمنافقين - وعلى رأسهم عبد الله بن أبي - مكانتهم في المجتمع ، وروابطهم العائلية والقبلية لم تنفصم بعد ؛ ولم ينضج في نفوس المسلمين الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي أسرتهم وهي قبيلتهم وهي وشيجتهم التي لا وشيجة معها . ومن ثم كانت هناك خلخلة في الصف الإسلامي بسبب وجود مثل هذه العناصر مندمجة في الصف ، مؤثرة في مقاديره . [ كما يتجلى ذلك في أحداث غزوة أحد عند استعراض النصوص الخاصة بها في السورة ] .
وكان لليهود مكانتهم كذلك في المدينة ، وارتباطاتهم الاقتصادية والتعهدية مع أهلها . ولم يتبين عداؤهم سافرا . ولم ينضج في نفوس المسلمين كذلك الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي العهد وهي الوطن وهي أصل التعامل والتعاقد ، وأنه لا بقاء لصلة ولا وشيجة إذا هي تعارضت مع العقيدة ! ومن ثم كانت لليهود فرصة للتوجيه والتشكيك والبلبلة . وكان هناك من يسمع لقولهم في الجماعة المسلمة ويتأثر به . وكان هناك من يدفع عنهم ما يريد النبي [ ص ] أن ينزل بهم من إجراءات لدفع كيدهم عن الصف المسلم [ كما حدث في شفاعة عبد الله بن أبي في بني قينقاع ، وإغلاظه في هذا للرسول [ ص ] ] .
ومن ناحية أخرى كان المسلمون قد انتصروا في بدر ذلك النصر الكامل الباهر بأيسر الجهد والبذل . فقدخرج ذلك العدد القليل من المسلمين ، غير مزودين بعدة ولا عتاد - إلا اليسير - فلاقوا ذلك الجحفل الضخم من قريش في عدتهم وعتادهم . ثم لم تلبث المعركة أن انجلت عن ذلك النصر المؤزر الباهر .
وكان هذا النصر في الوقعة الأولى التي يلتقي فيها جند الله بجند الشرك قدرا من قدر الله . ندرك اليوم طرفا من حكمته . ولعله كان لتثبيت الدعوة الناشئة وتمكينها . بل لإثبات وجودها الفعلي على محك المعركة ، لتأخذ بعد ذلك طريقها .
فأما المسلمون فلعلهم قد وقع في نفوسهم - من هذا النصر - أنه الشأن الطبيعي الذي لا شأن غيره . وأنه لا بد ملازمهم على أي حال في كل مراحل الطريق ! أليسوا بالمسلمين ؟ أليس أعداؤهم بالكافرين ؟ وإذن فهو النصر لا محالة حيثما التقى المسلمون بالكافرين !
غير أن سنة الله في النصر والهزيمة ليست بهذه الدرجة من البساطة والسذاجة ، فلهذه السنة مقتضياتها في تكوين النفوس ، وتكوين الصفوف ، وإعداد العدة ، واتباع المنهج ، والتزام الطاعة والنظام ، واليقظة لخوالج النفس ولحركات الميدان . . وهذا ما أراد الله أن يعلمهم إياه بالهزيمة في " غزوة أحد " على النحو الذي تعرضه السورة عرضا حيا مؤثرا عميقا ، وتعرض أسبابه من تصرفات بعض المسلمين ؛ وتوجه في ظله العظات البناءة للنفس وللصف على السواء .
وحين نراجع غزوة أحد نجد أن تعليم المسلمين هذا الدرس قد كلفهم أهوالا وجراحات وشهداء من أعز الشهداء - على رأسهم حمزة رضي الله عنه وأرضاه - وكلفهم ما هو أشق من ذلك كله على نفوسهم . . كلفهم أن يروا رسولهم الحبيب تشج جبهته وتكسر سنة ، ويسقط في الحفرة ، ويغوص حلق المغفر في وجنته [ ص ] الأمر الذي لا يقوم بوزنه شيء في نفوس المسلمين !
ويسبق استعراض " غزوة أحد " وأحداثها في السورة قطاع كبير تستغرقه كله توجيهات متشعبة لتصفية التصور الإسلامي من كل شائبة ؛ ولتقرير حقيقة التوحيد جلية ناصعة ، والرد على الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب ، سواء منها ما هو ناشىء من انحرافاتهم هم في معتقداتهم ، وما يتعمدون إلقاءه في الصف المسلم من شبهات ماكرة لخلخلة العقيدة وخلخلة الصف من وراء خلخلة العقيدة .
وتذكر عدة روايات أن الآيات من 1 - 83 نزلت في الحوار مع وفد نصارى نجران اليمن الذي قدم المدينة في السنة التاسعة للهجرة . ونحن نستبعد أن تكون السنة التاسعة هي زمن نزول هذه الآيات . فواضح من طبيعتها وجوها أنها نزلت في الفترة الأولى من الهجرة ، حيث كانت الجماعة المسلمة بعد ناشئة . وكان لدسائس اليهود وغيرهم أثر شديد في كيانها وفي سلوكها .
وسواء صحت رواية أن الآيات نزلت في وفد نجران أم لم تصح ؛ فإنه واضح من الموضوع الذي تعالجه أنها تواجه شبهات النصارى وبخاصة ما يتعلق منها بعيسى عليه السلام ، وتدور حول عقيدة التوحيد الخالص كما جاء به الإسلام . وتصحح لهم ما أصاب عقائدهم من انحراف وخلط وتشويه . وتدعوهم إلى الحق الواحد الذي تضمنته كتبهم الصحيحة التي جاء القرآن بصدقها .
ولكن هذا الفصل يتضمن كذلك إشارات وتقريعات لليهود وتحذيرات للمسلمين من دسائس أهل الكتاب . وما كان يجاورهم في المدينة من أهل الكتاب ممن يمثل مثل هذا الخطر إلا اليهود .
وعلى أية حال فإن هذا الفصل الذي يستغرق حوالي نصف السورة يصور جانبا من جوانب الصراع بينالعقيدة الإسلامية والعقائد المنحرفة في الجزيرة كلها . . وهو ليس صراعا نظريا إنما هو الجانب النظري من المعركة الكبيرة الشاملة بين الجماعة المسلمة الناشئة وكل أعدائها الذين كانوا يتربصون بها ، ويتحفزون من حولها ، ويستخدمون في حربها كل الأسلحة وكل الوسائل . وفي أولها زعزعة العقيدة ! وهي في صميمها المعركة التي ما تزال ناشبة إلى هذه اللحظة بين الأمة المسلمة وأعدائها . . إنهم هم هم : الملحدون المنكرون ، والصهيونية العالمية ، والصليبية العالمية ! ! !
ومن مراجعة نصوص السورة يتبين أن الوسائل هي الوسائل كذلك ؛ والأهداف هي الأهداف . ويتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة ، ومرجع هذه الأمة - اليوم وغدا - كما كان قرآنها ومرجعها بالأمس في نشأتها الأولى . وأنه لا يعرض عن استنصاح هذا الناصح واستشارة هذا المرجع في المعركة الناشبة اليوم إلا مدخول يعرض عن سلاح النصر في المعركة ؛ ويخدع نفسه أو يخدع الأمة ، لخدمة أعدائها القدامى المحدثين في غفلة بلهاء أو في خبث لئيم !
ومن خلال المناقشات والجدل والاستعراض والتوجيه في هذا المقطع الأول يتبين موقف أهل الكتاب المنحرفين عن كتابهم ، من الجماعة المسلمة والعقيدة الجديدة ، ممثلا في أمثال هذه النصوص :
( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله . . . ) . .
( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ؟ ) . .
( يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ) . .
( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم . . ) . .
( يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ؟ ) . .
( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ؟ ) . .
( وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ) ، ( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ! . . ) . .
( ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما . ذلك بأنهم قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل ! ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) . .
( وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب - وما هو من الكتاب – ( ويقولون : هو من عند الله وما هو من عند الله . ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) . .
( قل : يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون ) . .
( قل : يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء ؟ ) .
( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله . وإذا لقوكم قالوا : آمنا . وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ) . .
( إن تمسسكم حسنة تسؤهم ، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ) . .
وهكذا نرى أن أعداء الجماعة المسلمة لم يكونوا يحاربونها في الميدان بالسيف والرمح فحسب ؛ ولم يكونوا يؤلبون عليها الأعداء ليحاربوها بالسيف والرمح فحسب . . إنما كانوا يحاربونها أولا في عقيدتها . كانوا يحاربونها بالدس والتشكيك ، ونثر الشبهات وتدبير المناورات ! كانوا يعمدون أولا إلى عقيدتها الإيمانية التي منها انبثق كيانها ، ومنها قام وجودها ، فيعملون فيها معاول الهدم والتوهين . ذلك أنهم كانوا يدركون كما يدركون اليوم تماما - أن هذه الأمة لا تؤتى إلا من هذا المدخل ؛ ولا تهن إلا إذا وهنت عقيدتها ؛ ولا تهزم إلا إذا هزمت روحها ؛ ولا يبلغ أعداؤها منها شيئا وهي ممسكة بعروة الإيمان ، مرتكنة إلى ركنه ، سائرة على نهجه ، حاملة لرايته ، ممثلة لحزبه ، منتسبة إليه ، معتزة بهذا النسب وحده .
ومن هنا يبدو أن أعدى أعداء هذه الأمة هو الذي يلهيها عن عقيدتها الإيمانية ، ويحيد بها عن منهج الله وطريقه ، ويخدعها عن حقيقة أعدائها وحقيقة أهدافهم البعيدة .
إن المعركة بين الأمة المسلمة وبين أعدائها هي قبل كل شيء معركة هذه العقيدة . وحتى حين يريد أعداؤها أن يغلبوها على الأرض والمحصولات والاقتصاد والخامات ، فإنهم يحاولون أولا أن يغلبوها على العقيدة ، لأنهم يعلمون بالتجارب الطويلة أنهم لا يبلغون مما يريدون شيئا والأمة المسلمة مستمسكة بعقيدتها ، ملتزمة بمنهجها ، مدركة لكيد أعدائها . . ومن ثم يبذل هؤلاء الأعداء وعملاؤهم جهد الجبارين في خداع هذه الأمة عن حقيقة المعركة ، ليفوزوا منها بعد ذلك بكل ما يريدون من استعمار واستغلال ، وهم آمنون من عزمة العقيدة في الصدور !
وكلما ارتقت وسائل الكيد لهذه العقيدة ، والتشكيك فيها ، والتوهين من عراها ، استخدم أعداؤها هذه الوسائل المترقية الجديدة . ولكن لنفس الغاية القديمة : ( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ! ! ! ) . . فهذه هي الغاية الثابتة الدفينة !
لهذا كان القرآن يدفع هذا السلاح المسموم أولا . . كان يأخذ الجماعة المسلمة بالتثبيت على الحق الذي هي عليه ؛ وينفي الشبهات والشكوك التي يلقيها أهل الكتاب ؛ ويجلو الحقيقة الكبيرة التي يتضمنها هذا الدين ؛ ويقنع الجماعة المسلمة بحقيقتها وقيمتها في هذه الأرض ، ودورها ودور العقيدة التي تحملها في تاريخ البشرية .
وكان يأخذها بالتحذير من كيد الكائدين ، ويكشف لها نواياهم المستترة ووسائلهم القذرة ، وأهدافهم الخطرة ، وأحقادهم على الإسلام والمسلمين ، لاختصاصهم بهذا الفضل العظيم . .
وكان يأخذها بتقرير حقيقة القوى وموازينها في هذا الوجود . فيبين لها هزال أعدائها ، وهوانهم على الله ، وضلالهم وكفرهم بما أنزل الله إليهم من قبل وقتلهم الأنبياء . كما يبين لها أن الله معها ، وهو مالك الملك المعز المذل وحده بلا شريك . وأنه سيأخذ الكفار [ وهو تعبير هنا عن اليهود ] بالعذاب والنكال ؛ كما أخذ المشركين في بدر منذ عهد قريب .
وكانت هذه التوجيهات تتمثل في أمثال هذه النصوص :
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم . نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه ، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ، وأنزل الفرقان . إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد ، والله عزيز ذو انتقام . إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ) . .
( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار . كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب . قل للذين كفروا : ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين . والله يؤيد بنصره من يشاء . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . .
( إن الدين عند الله الإسلام ، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ، ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ) . .
( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) . .
( قل اللهم مالك الملك ، تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء وتذل من تشاء ، بيدك الخير ، إنك على كل شيء قدير ) . .
( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه ، وإلى الله المصير ) . .
( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) . .
( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ) .
( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ؟ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ) . .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا . واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا . وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون . . . ) . .
( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم ، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون . لن يضروكم إلا أذى ، وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون . ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا - إلا بحبل من الله وحبل من الناس - وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) . .
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا . ودوا ما عنتم . قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر . قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون . ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ، وتؤمنون بالكتاب كله . وإذا لقوكم قالوا : آمنا ، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ . قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور . إن تمسسكم حسنة تسؤهم ، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها . وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا . إن الله بما يعملون محيط ) .
ومن هذه الحملة الطويلة التي اقتطفنا منها هذه الآيات ، وتنوع توجيهاتها وتلقيناتها تتبين عدة أمور :
أولها : ضخامة الجهد الذي كان يبذله أهل الكتاب في المدينة وغيرها ، وعمق الكيد وتنوع أساليبه ، واستخدام جميع الوسائل لزعزعة العقيدة وخلخلة الصف المسلم من ورائها .
وثانيها : ضخامة الآثار التي كان هذا الجهد يتركها في النفوس وفي حياة الجماعة المسلمة ، مما اقتضى هذا البيان الطويل المفصل المنوع المقاطع والأساليب .
وثالثها : هو ما نلمحه اليوم من وراء القرون الطويلة . من أن هؤلاء الأعداء هم الذين يلاحقون هذه الدعوةوأصحابها في الأرض كلها ؛ وهم الذين تواجههم هذه العقيدة وأهلها . ومن ثم اقتضت إرادة الحكيم الخبير أن يقيم هذا المشعل الهادي الضخم البعيد المطارح لتراه الأجيال المسلمة قويا واضحا عميق التركيز على كشف الأعداء التقليديين لهذه الأمة ولهذا الدين !
أما القطاع الثاني في السورة فهو خاص بغزوة أحد . وهو يشتمل كذلك على تقريرات في حقائق التصور الإسلامي والعقيدة الإيمانية . وعلى توجيهات في بناء الجماعة المسلمة على أساس تلك الحقائق . إلى جانب استعراض الأحداث والوقائع ، والخواطر والمشاعر ، استعراضا يتبين منه بجلاء حالة الجماعة المسلمة يومها وقطاعاتها المختلفة التي أشرنا إليها في أول هذا التمهيد .
وعلاقة هذا المقطع بالمقطع الأول في السورة ظاهرة . فهو يتولى عملية بناء التصور الإسلامي وتجليته - في مجال المعركة والحديد ساخن ! - كما يتولى عملية تثبيت هذه الجماعة على التكاليف المفروضة على أصحاب دعوة الحق في الأرض . مع تعليمهم سنة الله في النصر والهزيمة . ويربيهم بالتوجيهات القرآنية كما يربيهم بالأحداث الواقعية .
وإنه ليصعب استيفاء الحديث هنا عن طبيعة هذا المقطع ومحتوياته وقيمته في بناء العقيدة وبناء الجماعة . . ولما كان هذا المقطع يقع بجملته في الجزء الرابع [ من الظلال ] فلنرجىء الحديث عنه إلى هذا الجزء [ إن شاء الله ] . .
ونمضي إلى ختام السورة - بعد فصل غزوة أحد - فإذا هو تلخيص لموضوعاتها الأساسية ، يبدأ بإشارة موحية إلى دلالة هذا الكون [ كتاب الله المنظور ] وإيحاءاته للقلوب المؤمنة . . ويأخذ في دعاء رخي ندي من هذه القلوب ، على مشهد الآيات في كتاب الكون المفتوح : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض . ربنا ما خلقت هذا باطلا ، سبحانك ! فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته . وما للظالمين من أنصار . ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار . ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة . إنك لا تخلف الميعاد . . . ) . . وهو يمثل نصاعة التصور ووضوحه . وخشوع القلب وتقواه .
ثم تجيء الاستجابة من الله - سبحانه - فيذكر فيها الهجرة والجهاد والإيذاء في سبيل الله :
( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض . فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم ، وأوذوا في سبيلي ، وقاتلوا وقتلوا ، لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله . والله عنده حسن الثواب . . ) . . وفيه إشارة وعلاقة بغزوة أحد وأحداثها وآثارها .
ثم يذكر أهل الكتاب - الذين استغرق الحديث عنهم مقطع السورة الأول - ليقول للمسلمين إن الحق الذي بأيديهم لا يجحده أهل الكتاب كلهم . فإن منهم من يؤمن به ويشهد بأحقيته : ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم ، وما أنزل إليهم ، خاشعين لله ، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا . . . ) .
وتختم السورة بدعوة المسلمين - بإيمانهم - إلى الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) . . وهو ختام يناسب جو السورة وموضوعاتها جميعا . .
ولا يتم التعريف المجمل بهذه السورة حتى نلم بثلاثة خطوط عريضة فيها ، تتناثر نقطها في السورة كلها ، وتتجمع وتتركز في مجموعها ، حتى ترسم هذه الخطوط العريضة بوضوح وتوكيد . .
أول هذه الخطوط بيان معنى " الدين " ومعنى " الإسلام " . . فليس الدين - كما يحدده الله - سبحانه - ويريده ويرضاه - هو كل اعتقاد في الله . . إنما هي صورة واحدة من صور الاعتقاد فيه - سبحانه - صورة التوحيد المطلق الناصع القاطع : توحيد الألوهية التي يتوجه إليها البشر كما تتوجه إليها سائر الخلائق في الكون بالعبودية . وتوحيد القوامة على البشر وعلى الكون كله . فلا يقوم شيء إلا بالله تعالى ، ولا يقوم على الخلائق إلا الله تعالى . ومن ثم يكون الدين الذي يقبله الله من عباده هو " الإسلام " وهو في هذه الحالة : الاستسلام المطلق للقوامة الإلهية ، والتلقي من هذا المصدر وحده في كل شأن من شؤون الحياة ، والتحاكم إلى كتاب الله المنزل من هذا المصدر ، واتباع الرسل الذين نزل عليهم الكتاب . وهو في صميمه كتاب واحد ، وهو في صميمه دين واحد . . الإسلام . . بهذا المعنى الواقعي في ضمائر الناس وواقعهم العملي على السواء . والذي يلتقي عليه كل المؤمنين أتباع الرسل . . كل في زمانه . . متى كان معنى إسلامه هو الاعتقاد بوحدة الألوهية والقوامة ؛ والطاعة والاتباع في منهج الحياة كله بلا استثناء .
ويتكىء سياق السورة على هذا الخط ويوضحه في أكثر من ثلاثين موضعا من السورة بشكل ظاهر ملحوظ . . نضرب له بعض الأمثلة في هذا التعريف المجمل :
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) . . ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) . . ( إن الدين عند الله الإسلام ) . . ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن . وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين : أأسلمتم ؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا . . ) . . ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ) . . ( قل : إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله . . . ) . . ( قل : أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ) . . ( قال الحواريون : نحن أنصار الله ، آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون . ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ) . . ( قل : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله . فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنا مسلمون ) . . ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ) . . ( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ؟ ) . . ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) . . وغيرها كثير . .
فأما الخط الثاني الذي يركز عليه سياق السورة فهو تصوير حال المسلمين مع ربهم واستسلامهم له ، وتلقيهم لكل ما يأتيهم منه بالقبول والطاعة والاتباع الدقيق . . ونضرب له كذلك بعض الأمثلة في هذا التعريف بالسورة حتى نواجهه مفصلا عند استعراض النصوص بالتفصيل :
( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا - وما يذكر إلا أولوا الألباب - ) ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب . ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد ) . . ( الذين يقولون : ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار . الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ) . . ( قال الحواريون : نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون . ربناآمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ) . . ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) . . ( من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ) . ( وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) . . ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيمانا ، وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ) . . ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض . ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ، وما للظالمين من أنصار . ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار . ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، ولا تخزنا يوم القيامة . إنك لا تخلف الميعاد ) . . ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم ، وما أنزل إليهم خاشعين لله ، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ) . . وغيرها كثير . .
والخط الثالث العريض في سياق السورة هو التحذير من ولاية غير المؤمنين ، والتهوين من شأن الكافرين مع هذا التحذير ، وتقرير أنه لا إيمان ولا صلة بالله مع تولي الكفار الذين لا يحتكمون لكتاب الله ، ولا يتبعون منهجه في الحياة . . وقد أشرنا إلى هذا الخط من قبل ولكنه يحتاج إلى إبراز هنا بقدر ما هو بارز وأساسي في سياق السورة ، وهذه نماذج من هذا الخط العريض :
( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء - إلا أن تتقوا منهم تقاة - ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير . قل . إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض . والله على كل شيء قدير ) . . ( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ) . .
( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله . ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا . . . )إلخ . . ( لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون . ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا . . . )إلخ . . ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا . ودوا ما عنتم ، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر . . . )إلخ . . ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . بل الله مولاكم وهو خير الناصرين . سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ، ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ) . . ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ) . . وغيرها كثير . .
وهذه الخطوط الثلاثة العريضة متناسقة فيما بينها متكاملة ، في تقرير التصور الإسلامي ، وتوضيح حقيقة التوحيد ومقتضاه في حياة البشر وفي شعورهم بالله ، وأثر ذلك في موقفهم من أعداء الله الذي لا موقف لهم سواه .
والنصوص في مواضعها من السياق أكثر حيوية وأعمق إيحاء . . لقد نزلت في معمعان المعركة . معركة العقيدة ، ومعركة الميدان . المعركة في داخل النفوس ، والمعركة في واقع الحياة . . ومن ثم تضمنت ذلك الرصيد الحي العجيب ، من الحركة والتأثير والإيحاء . .
فلنمض إذن لنواجه نصوص السورة في سياقها الحي القوي الأخاذ الجميل . .
فلنأخذ الآن في الاستعراض التفصيلي لنصوص هذا الدرس من السورة :
هذه الأحرف المقطعة : ألف . لأم . ميم . نختار في تفسيرها - على سبيل الترجيح لا الجزم - ما اخترنا في مثلها في أول سورة البقرة : " إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف ؛ وهي في متناول المخاطبين به من العرب . ولكنه - مع هذا - هو ذلك الكتاب المعجز ، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله . . . إلخ " . .
وهذا الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور - على سبيل الترجيح لا الجزم - يتمشى معنا بيسر في إدراك مناسبات هذه " الإشارة " في شتى السور . ففي سورة البقرة كانت الإشارة تتضمن التحدي الذي ورد في السورة بعد ذلك : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) إلخ . .
فأما هنا في سورة " آل عمران " فتبدو مناسبة أخرى لهذه " الإشارة " . . هي أن هذا الكتاب منزل من الله الذي لا إله إلا هو . وهو مؤلف من أحرف وكلمات شأنه في هذا شأن ما سبقه من الكتب السماوية التي يعترف بها أهل الكتاب - المخاطبون في السورة - فليس هناك غرابة في أن ينزل الله هذا الكتاب على رسوله بهذه الصورة .
{ الله لا إله إلا هو } إنما فتح الميم في المشهور وكان حقها أن يوقف عليها لإلقاء حركة الهمزة عليها ليدل على أنها في حكم الثابت ، لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج ، فإن الميم في حكم الوقف كقولهم واحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال لا لالتقاء الساكنين ، فإنه غير محذور في باب الوقف ، ولذلك لم تحرك الميم في لام . وقرئ بكسرها على توهم التحريك لالتقاء الساكنين . وقرأ أبو بكر بسكونها والابتداء بما بعدها على الأصل . { الحي القيوم } روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور في البقرة الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، وفي آل عمران الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، وفي طه وعنت الوجوه للحي القيوم " .
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم
هذه السورة مدنية بإجماع فيما علمت{[1]}و ذكر النقاش أن اسم هذه السورة في التوراة طيبة{[2]} .
قد تقدم ذكر اختلاف العلماء في الحروف التي في أوائل السور في أول سورة البقرة ، ومن حيث جاء في هذه السورة { الله لا أله إلا هو الحي القيوم } جملة قائمة بنفسها فتتصور تلك الأقوال كلها في { الم } في هذه السورة ، وذهب الجرجاني في النظم إلى أن أحسن الأقوال هنا أن يكون { الم } إشارة إلى حروف المعجم كأنه يقول : هذه الحروف كتابك أو نحو هذا .
ويدل قوله { الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب } على ما ترك ذكره مما هو خبر عن الحروف قال : وذلك في نظمه مثل قوله تعالى : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } [ الزمر : 21 ] وترك الجواب لدلالة قوله : { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله }{[2896]} تقديره : كمن قسا قلبه . ومنه قول الشاعر{[2897]} : [ الطويل ]
فَلاَ تَدْفِنُوني إنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ . . . عَلَيْكُمْ ، ولكنْ خامري أمَّ عامِرِ
قال : تقديره ولكن اتركوني للتي يقال لها خامري أم عامر .
قال القاضي رحمه الله : يحسن في هذا القول أن يكون { نزل } خبر قوله { الله } حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى . وهذا الذي ذكره القاضي الجرجاني فيه نظر لأن مثله ليست صحيحة الشبه بالمعنى الذي نحا إليه وما قاله في الآية محتمل ولكن الأبرع في نظم الآية أن يكون { الم } لا يضم ما بعدها إلى نفسها في المعنى وأن يكون { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } كلاماً مبتدأ جزماً جملة رادة على نصارى نجران الذين وفدوا على رسول الله عليه السلام فحاجوه في عيسى ابن مريم وقالوا : إنه الله وذلك أن ابن إسحاق والربيع وغيرهما{[2898]} ممن ذكر السير رووا{[2899]} أن وفد نجران قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصارى ستون راكباً فيهم من أشرافهم أربعة عشر رجلاً في الأربعة عشر{[2900]} ثلاثة نفر إليه يرجع أمرهم ، والعاقب أمير القوم وذو رأيهم واسمه عبد المسيح ، والسيد ثمالهم{[2901]} وصاحب مجتمعهم واسمه الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة أسد بني بكر بن وائل أسقفهم وعالمهم فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد إثر صلاة العصر عليهم الحبرات{[2902]} جبب وأردية فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأينا وفداً مثلهم جمالاً وجلالة ، وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله عليه السلام إلى المشرق فقال النبي عليه السلام : دعوهم ثم أقاموا بالمدينة أياماً يناظرون رسول الله عليه السلام في عيسى ويزعمون أنه الله إلى غير ذلك من أقوال بشعة مضطربة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بالبراهين الساطعة وهم لا يبصرون ، ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال{[2903]} وسيأتي تفسير ذلك .
وقرأ السبعة «المَ الله » بفتح الميم والألف ساقطة ، وروي عن عاصم أنه سكن الميم ثم قطع الألف ، روى الأولى التي هي كالجماعة حفص وروى الثانية أبو بكر ، وذكرها الفراء عن عاصم ، وقرأ أبو جعفر الرؤاسي{[2904]} وأبو حيوة-الم- بكسر الميم للالتقاء{[2905]} وذلك رديء لأن الياء تمنع ذلك والصواب الفتح قراءة جمهور الناس . قال أبو علي : حروف التهجي مبنية على الوقف فالميم ساكنة واللام ساكنة فحركت الميم بالفتح كما حركت النون في قولك : «من الله ومنَ المسلمين » إلى غير ذلك .
قال أبو محمد : ومن قال بأن حركة الهمزة ألقيت على الميم فذلك ضعيف لإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل فيما يسقط فلا تلقى حركته ، قاله أبو علي{[2906]} ، وقد تقدم تفسير قوله : { الحي القيوم } في آية الكرسي ، والآية هنالك إخبار لجميع الناس ، وكررت هنا إخباراً بحجج{[2907]} هؤلاء النصارى ، وللرد عليهم أن هذه الصفات لا يمكنهم ادعاؤها لعيسى عليه السلام لأنهم إذ يقولون إنه صلب فذلك موت في معتقدهم لا محالة إذ من البين أنه ليس بقيوم ، وقرأ جمهور القراء «القيوم » وزنه فيعول ، وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعلقمة بن قيس «القيام » وزنه - فيعال - وروي عن علقمة أيضاً أنه قرأ «القيم » وزنه فيعل ، وهذا كله من قام بالأمر يقوم به إذا اضطلع بحفظه وبجميع ما يحتاج إليه في وجوده ، فالله تعالى القيام على كل شيء بما ينبغي له أو فيه أو عليه .
سميت هذه السورة ، في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة : سورة آل عمران ، ففي صحيح مسلم ، عن أبي أمامة : قال سمعت رسول الله يقول أقرأوا الزهراوين : البقرة وآل عمران وفيه عن النواس بن سمعان : قال سمعت النبي يقول يؤتى بالقرآن يوم القيامة تقدمه سورة البقرة وآل عمران وروى الدارمي في مسنده : أن عثمان بن عفان قال : من قرأ سورة آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة وسماها ابن عباس ، في حديثه في الصحيح ، قال : بت في بيت رسول الله فنام رسول الله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله فقرأ الآيات من آخر سورة آل عمران . ووجه تسميتها بسورة آل عمران أنها ذكرت فيها فضائل آل عمران وهو عمران بن ماتان أبو مريم وآله هم زوجه حنة وأختها زوجة زكريا النبي ، وزكريا كافل مريم إذ كان أبوها عمران توفي وتركها حملا فكفلها زوج خالتها .
ووصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزهراء في حديث أبي أمامة المتقدم .
وذكر الآلوسي أنها تسمى : الأمان ، والكنز ، والمجادلة ، وسورة الاستغفار . ولم أره لغيره ، ولعله اقتبس ذلك من أوصاف وصفت بها هذه السورة مما ساقه القرطبي ، في المسألة الثالثة والرابعة ، من تفسير أول السورة .
وهذه السورة نزلت بالمدين بالاتفاق ، بعد سورة البقرة ، فقيل ، أنها ثانية لسورة البقرة على أن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة ، وقيل : نزلت بالمدينة سورة المطففين أولا ، ثم البقرة ، ثم نزلت سورة آل عمران ، ثم نزلت الأنفال في وقعة بدر ، وهذا يقتضي : أن سورة آل عمران نزلت قبل وقعة بدر ، للاتفاق على أن الأنفال نزلت في وقعة بدر ، ويبعد ذلك أن سورة آل عمران اشتملت على التذكير بنصر المسلمين يوم بدر ، وأن فيها ذكر يوم أحد ، ويجوز أن يكون بعضها نزل متأخرا . وذكر الواحدي في أسباب النزول ، عن المفسرين : أن أول هذه السورة إلى قوله { ونحن له مسلمون } نزل بسبب وفد نجران ، وهو وفد السيد والعاقب ، أي سنة اثنين من الهجرة ، ومن العلماء من قالوا : نزلت سورة آل عمران بعد سورة الأنفال ، وكان نزولها في وقعة أحد ، أي شوال سنة ثلاث ، وهذا أقرب ، فقد أتفق المفسرون على أن قوله تعالى { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } أنه قتال يوم أحد . وكذلك قوله { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } فإنه مشير إلى الإرجاف يوم أحد بقتل النبي صلى الله عليه وسلم .
ويجوز أن يكون أولها نزل بعد البقرة إلى نهاية ما يشير إلى حديث وفد نجران ، وذلك مقدار ثمانين آية من أولها إلى قوله { وإذ غدوت من أهلك } قاله القرطبي في أول السورة ، وفي تفسير قوله { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الآية . وقد تقدم القول في صدر سورة الفاتحة : إننا بينا إمكان تقارن نزول السور عدة في مدة واحدة ، فليس معنى قولهم : نزلت سورة كذا بعد سورة كذا ، مرادا منه أن المعدودة نازلة بعد أخرى أنها ابتدئ نزولها بعد نزول الأخرى ، بل المراد أنها ابتدئ نزولها بعد ابتداء نزول التي سبقتها .
وقد عدت هذه السورة الثامنة والأربعين في عداد سور القرآن .
وعدد آيها مائتان في عد الجمهور وعددها عند أهل العدد بالشام مائة وتسع وتسعون .
واشتملت هذه السورة ، من الأغراض : على الابتداء بالتنويه بالقرآن ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وتقسيم آيات القرآن ، ومراتب الأفهام في تلقيها ، والتنويه بفضيلة الإسلام وأنه لا يعدله دين ، وأنه لا يقبل دين عند الله ، بعد ظهور الإسلام ، غير الإسلام ، والتنويه بالتوراة والإنجيل ، والإيماء إلى أنهما أنزلا قبل القرآن ، تمهيدا لهذا الدين فلا يحق للناس أن يكفروا به ، وعلى التعريف بدلائل إلهية الله تعالى ، وانفراده ، وإبطال ضلالة الذين اتخذوا آلهة من دون الله : من جعلوا له شركاء ، أو اتخذوا له أبناء ، وتهديد المشركين بأن أمرهم إلى زوال ، وألا يغرهم ما هم فيه من البذخ ، وأن ما أعد للمؤمنين خير من ذلك ، وتهديدهم بزوال سلطانهم ، ثم الثناء على عيسى عليه السلام وآل بيته ، وذكر معجزة ظهوره ، وأنه مخلوق لله ، وذكر الذين آمنوا به حقا ، وإبطال إلهية عيسى ، ومن ثم أفضى إلى قضية وفد نجران ولجاجتهم ، ثم محاجة أهل الكتابين في حقيقة الحنفية وأنهم بعداء عنها ، وما أخذ الله من العهد على الرسل كلهم : أن يؤمنوا بالرسول الخاتم ، وأن الله جعل الكعبة أول بيت وضع للناس ، وقد أعاد إليه الدين الحنيف كما ابتدأه فيه ، وأوجب حجه على المؤمنين ، وأظهر ضلالات اليهود ، وسوء مقالتهم ، وافترائهم في دينهم وكتمانهم ما أنزل إليهم . وذكر المسلمين بنعمته عليهم بدين الإسلام ، وأمرهم بالاتحاد والوفاق ، وذكرهم بسابق سوء حالهم في الجاهلية ، وهون عليهم تظاهر معانديهم من أهل الكتاب والمشركين ، وذكرهم بالحذر من كيدهم وكيد الذين أظهروا الإسلام ثم عادوا إلى الكفر فكانوا مثلا لتمييز الخبيث من الطيب ، وأمرهم بالاعتزاز بأنفسهم ، والصبر على تلقي الشدائد ، والبلاء ، وأذى العدو ، ووعدهم على ذلك بالنصر والتأييد وإلقاء الرعب منهم في نفوس عدوهم ، ثم ذكرهم بيوم أحد ، ويوم بدر ، وضرب لهم الأمثال بما حصل فيهما ، ونوه ، بشأن الشهداء من المسلمين ، وأمر المسلمين بفضائل الأعمال : من بذل المال في مواساة الأمة ، والإحسان ، وفضائل الأعمال ، وترك البخل ، ومذمة الربا وختمت السورة بآيات التفكير في ملكوت الله .
وقد علمت أن سبب نزول هذه السورة قضية وفد نجران من بلاد اليمن .
ووفد نجران هم قوم من نجران بلغهم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أهل نجران متدينين بالنصرانية ، وهم من أصدق العرب تمسكا بدين المسيح ، وفيهم رهبان مشاهير ، وقد أقاموا للمسيحية كعبة ببلادهم هي التي أشار إليها الأعشى حين مدحهم بقوله :
فكعبة نجران حتم عليكِ *** حتى تناخي بأبوابها
فاجتمع وفد منهم يرأسه العاقب فيه ستون رجلا وأسمه عبد المسيح ، وهو أمير الوفد ، ومعه السيد واسمه الأيهم ، وهو ثمال القوم وولي تدبير الوفد ، ومشيره وذو الرأي فيه ، وفيهم أبو حارثة بن علقمة البكري وهو أسقفهم وصاحب مدارسهم وولي دينهم ، وفيهم أخو أبي حارثة ، ولم يكن من أهل نجران ، ولكنه كان ذا رتبة : شرفه ملوك الروم ومولوه . فلقوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وجادلهم في دينهم ، وفي شأن ألوهية المسيح ، فلما قامت الحجة عليهم أصروا على كفرهم وكابروا ، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة ، فأجابوا ثم استعظموا ذلك ، وتخلصوا منه ، ورجعوا إلى أوطانهم ، ونزلت بضع وثمانون آية من أول هذه السورة في شأنهم كما في سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق . وذكر ذلك الواحدي والفخر ، فمن ظن من أهل السير أن وفد نجران وفدوا في سنة تسع فقد وهِم وهْمًا انجرَّ إليه من اشتهار سنة تسع بأنها سنة الوفود . والإجماع على أن سورة آل عمران من أوائل المدنيات ، وترجيح أنها نزلت في وفد نجران يعينان أن وفد نجران كان قبل سنة الوفود .
لما كان أول أغراض هذه السورة ، الذي نزلت فيه ، هو قضية مجادلة نصارى نجران حين وفدوا إلى المدينة ، وبيان فضل الإسلام على النصرانِيَّة ، لا جرم افتتحت بحروف التهجّي ، المرموز بها إلى تحدّي المكذّبين بهذا الكتاب ، وكان الحظّ الأوفر من التكذيب بالقرآن للمشركين منهم ، ثم للنصارى من العَرب ؛ لأنّ اليهود الذين سكنوا بلاد العرب فتكلّموا بلسانهم لم يكونوا معدودين من أهل اللسان ، ويندر فيهم البلغاء بالعربية مثلُ السَّمَوْأل ، وهذا وما بعده إلى قوله : { إن الله اصطفى ءادم ونوحا } [ آل عمران : 33 ] تمهيد لِما نزلت السورة بسببه وبراعة استهلال لذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... قيل إن من أولها إلى رأس نيف وستين آية نزلت في قصة وفد نجران لما جاؤوا يحاجون النبي (صلى الله عليه وآله)...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
هذه السورة، سورة آل عمران، وتسمى: الزهراء، والأمان، والكنز، والمعينة، والمجادلة، وسورة الاستغفار، وطيبة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا القرآن هو كتاب هذه الدعوة، هو روحها وباعثها، وهو قوامها وكيانها، وهو حارسها وراعيها، وهو بيانها وترجمانها، وهو دستورها ومنهجها، وهو في النهاية المرجع الذي تستمد منه الدعوة -كما يستمد منه الدعاة- وسائل العمل، ومناهج الحركة، وزاد الطريق..
ولكن ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا، ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية، ذات وجود حقيقي، ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة، ووجهت به حياة إنسانية حقيقية في هذه الأرض، وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية، وفي رقعة من الأرض كذلك، معركة تموج بالتطورات والانفعالات والاستجابات.
وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن، طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة، لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه هذا الخلق المسمى بالإنسان، والتي تواجه هذه الأمة المسماة بالمسلمين! بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية، ذات كينونة واقعية حية، ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيا حيا، نشأ عنه وجود، ذو خصائص في حياة الإنسان بصفة عامة، وفي حياة الأمة المسلمة بوجه خاص.
ومعجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين في حياة أمة معينة، في فترة من فترات التاريخ محددة، وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها، ولكنه -مع هذا- يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة، وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية، وفي صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها، وفي معركتها كذلك في داخل النفس، وفي عالم الضمير، بنفس الحيوية، ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك.
ولكي نحصل نحن من القرآن على قوته الفاعلة، وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية الكامنة، ونتلقى منه التوجيه المدخر للجماعة المسلمة في كل جيل.. ينبغي أن نستحضر في تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التي خوطبت بهذا القرآن أول مرة.. كينونتها وهي تتحرك في واقع الحياة، وتواجه الأحداث في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها، وتتعامل مع أعدائها وأصدقائها، وتتصارع مع شهواتها وأهوائها، ويتنزل القرآن حينئذ ليواجه هذا كله، ويوجه خطاها في أرض المعركة الكبيرة؛ مع نفسها التي بين جنبيها، ومع أعدائها المتربصين بها في المدينة وفي مكة وفيما حولهما.. وفيما وراءهما كذلك..
أجل.. يجب أن نعيش مع تلك الجماعة الأولى، ونتمثلها في بشريتها الحقيقية، وفي حياتها الواقعية، وفي مشكلاتها الإنسانية، ونتأمل قيادة القرآن لها قيادة مباشرة في شؤونها اليومية وفي أهدافها الكلية على السواء، ونرى كيف يأخذ القرآن بيدها خطوة خطوة، وهي تعثر وتنهض، وتحيد وتستقيم، وتضعف وتقاوم، وتتألم وتحتمل، وترقى الدرج الصاعد في بطء ومشقة، وفي صبر ومجاهدة، تتجلى فيها كل خصائص الإنسان، وكل ضعف الإنسان، وكل طاقات الإنسان.
ومن ثم نشعر أننا نحن أيضا مخاطبون بالقرآن في مثل ما خوطبت به الجماعة الأولى، وأن بشريتنا التي نراها ونعرفها ونحسها بكل خصائصها، تملك الاستجابة للقرآن، والانتفاع بقيادته في ذات الطريق.
إننا بهذه النظرة سنرى القرآن حيا يعمل في حياة الجماعة المسلمة الأولى، ويملك أن يعمل في حياتنا نحن أيضا، وسنحس أنه معنا اليوم وغدا، وأنه ليس مجرد تراتيل تعبدية مهومة بعيدة عن واقعنا المحدد، كما أنه ليس تاريخا مضى وانقضى وبطلت فاعليته وتفاعله مع الحياة البشرية.
إن القرآن حقيقة ذات كينونة مستمرة كهذا الكون ذاته، الكون كتاب الله المنظور، والقرآن كتاب الله المقروء، وكلاهما شهادة ودليل على صاحبه المبدع، كما أن كليهما كائن ليعمل.. والكون بنواميسه ما زال يتحرك ويؤدي دوره الذي قدره له بارئه؛ الشمس ما زالت تجري في فلكها وتؤدي دورها، والقمر والأرض، وسائر النجوم والكواكب لا يمنعها تطاول الزمان من أداء دورها، وجدة هذا الدور في المحيط الكوني.. والقرآن كذلك أدى دوره للبشرية، وما يزال هو هو؛ فالإنسان ما يزال هو هو كذلك، ما يزال هو هو في حقيقته وفي أصل فطرته. وهذا القرآن هو خطاب الله لهذا الإنسان -فيمن خاطبهم الله به؛ خطاب لا يتغير، لأن الإنسان ذاته لم يتبدل خلقا آخر، مهما تكن الظروف والملابسات قد تبدلت من حوله، ومهما يكن هو قد تأثر وأثر في هذه الظروف والملابسات.. والقرآن يخاطبه في أصل فطرته وفي أصل حقيقته التي لا تبديل فيها ولا تغيير، ويملك أن يوجه حياته اليوم وغدا لأنه معد لهذا، بما أنه خطاب الله الأخير؛ وبما أن طبيعته كطبيعة هذا الكون ثابتة متحركة بدون تبديل.
وإذا كان من المضحك أن يقول قائل عن الشمس مثلا: هذا نجم قديم "رجعي "يحسن أن يستبدل به نجم جديد "تقدمي"، أو أن هذا الإنسان مخلوق قديم "رجعي"، يحسن أن يستبدل به كائن آخر "تقدمي" لعمارة هذه الأرض!!!
إذا كان من المضحك أن يقال هذا أو ذاك، فأولى أن يكون هذا هو الشأن في القرآن، خطاب الله الأخير للإنسان.
وهذه السورة تمثل قطاعا حيا من حياة الجماعة المسلمة في المدينة من بعد غزوة بدر- في السنة الثانية من الهجرة -إلى ما بعد غزوة أحد في السنة الثالثة، وما أحاط بهذه الحياة من ملابسات شتى في خلال هذه الفترة الزمنية، وفعل القرآن- إلى جانب الأحداث -في هذه الحياة، وتفاعله معها في شتى الجوانب.
والنصوص من القوة والحيوية بحيث تستحضر صورة هذه الفترة، وصورة الحياة التي عاشتها الجماعة المسلمة، وصورة الاشتباكات والملابسات التي أحاطت بهذه الحياة، مع استبطان السرائر والضمائر، وما يدب فيها من الخواطر، وما يشتجر فيها من المشاعر، حتي لكأن قارئها يعيش هذه الأحداث، ويعايش الأمة التي كانت تخوضها وتتفاعل وإياها. ولو أغمض الإنسان عينيه، فلربما تراءت له- كما تراءت لي -شخوص الجماعة المسلمة رائحة غادية، بسماتها الظاهرة على الوجوه، ومشاعرها المستكنة في الضمائر، ومن حولها أعداؤها يتربصون بها، ويبيتون لها، ويلقون بينها بالفرية والشبهة، ويتحاقدون عليها، ويجمعون لها، ويلقونها في الميدان، وينهزمون أمامها- في أُحُد -ثم يكرون عليها فيوقعون بها.. وكل ما يجري في المعركة من حركة، وكل ما يصاحب حركاتها من انفعال باطن وسمة ظاهرة.. والقرآن يتنزل ليواجه الكيد والدس، ويبطل الفرية والشبهة، ويثبت القلوب والأقدام، ويوجه الأرواح والأفكار، ويعقب على الحادث ويبرز منه العبرة، ويبني التصور ويزيل عنه الغبش، ويحذر الجماعة المسلمة من العدو الغادر والكيد الماكر، ويقود خطاها بين الأشواك والمصايد والأحابيل، قيادة الخبير بالفطرة العليم بما تكن الصدور..
ومن وراء هذا كله تبقى التوجيهات والتلقينات التي احتوتها السورة خالصة طليقة من قيد الزمان والمكان، وقيد الظروف والملابسات، تواجه النفس البشرية، وتواجه الجماعة المسلمة- اليوم وغدا -وتواجه الإنسانية كلها، وكأنها تتنزل اللحظة لها، وتخاطبها في شأنها الحاضر، وتواجهها في واقعها الراهن. ذلك أنها تتناول أمورا وأحداثا ومشاعر وجدانية وحالات نفسية كأنما كانت ملحوظة في سياق السورة.. بل هي ملحوظة قطعا في تقدير العليم الخبير بالنفوس والأشياء والأمور.
ومن ثم يتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة في أي مكان وفي أي زمان، وهو دستور هذه الأمة في أي جيل ومن أي قبيل، وهو حادي الطريق وهادي السبيل على توالي القرون.. ذلك أنه خطاب الله الأخير لهذا الإنسان في جميع العصور..
في هذه الفترة كانت الجماعة المسلمة في المدينة قد استقرت بعض الاستقرار في موطنها الجديد في مدينة الرسول [ص]، ومضت خطوة وراء الموقف الذي صورناه من قبل في هذه الظلال في مطلع استعراض سورة البقرة.
كانت غزوة بدر الكبرى قد وقعت، وكتب الله فيها النصر للمسلمين على قريش، وكان هذا النصر بظروفه التي تم فيها والملابسات التي أحاطت به، تبدو فيه رائحة المعجزة الخارقة.. ومن ثم اضطر رجل كعبد الله بن أُبَي بن سلول من عظماء الخزرج أن ينزل عن كبريائه وكراهته لهذا الدين ونبيه [ص] وأن يكبت حقده وحسده للرسول الكريم، وأن ينضم- منافقا -للجماعة المسلمة، وهو يقول:"هذا أمر قد توجه".. أي ظهرت له وجهة هو ماض فيها لا يرده عنها راد.
بذلك وجدت بذرة النفاق في المدينة- أو تمت وأفرخت، فقد كان هناك قبل بدر من اضطروا لمنافقة أهلهم الذين دخلوا في الإسلام -وأصبحت مجموعة من الرجال، ومن ذوي المكانة فيهم مضطرة إلى التظاهر بالإسلام، والانضمام إلى المجتمع المسلم، بينما هي تضمر في أنفسها الحقد والعداء للإسلام والمسلمين، وتتربص بهم الدوائر، وتتلمس الثغرات في الصف، وتترقب الأحداث التي تضعضع قوى المسلمين أو تزعزع الصف المسلم، ليظهروا كوامن صدورهم، أو ليضربوا ضربة الإجهاز إذا كان ذلك في مكنتهم.
وقد وجد هؤلاء المنافقون حلفاء طبيعيين لهم في اليهود، الذين كانوا يجدون في أنفسهم من الحقد على الإسلام والمسلمين، وعلى نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام مثل ما يجد المنافقون بل أشد، وقد هددهم الإسلام تهديدا قويا في مكانتهم بين "الأميين" من العرب في المدينة، وسد عليهم الثغرة التي كانوا ينفذون منها للعب بين الأوس والخزرج، بعدما أصبحوا بنعمة الله إخوانا، وفي ظل الإسلام صفا واحدا مرصوصا.
وقد غص اليهود وشرقوا بانتصار المسلمين في بدر، وارتفع غليان حقدهم على الجماعة المسلمة، وانطلقوا بكل ما يملكون من دس وكيد وتآمر يحاولون تفتيت الصف الإسلامي، وإلقاء الحيرة في قلوب المسلمين، ونشر الشبهات والشكوك، في عقيدتهم وفي أنفسهم على السواء.
وفي هذه الفترة، وقع حادث بني قينقاع، فوضح العداء وسفر، على الرغم مما كان بين اليهود والنبي [ص] من مواثيق أبرمها معهم عقب مقدمه إلى المدينة.
كذلك كان المشركون موتورين من هزيمتهم في بدر، يحسبون ألف حساب لانتصار محمد [ص] ومعسكر المدينة، وللخطر الذي يتمثل -إذن -على تجارتهم وعلى مكانتهم وعلى وجودهم كذلك، ومن ثم يتهيؤون لدفع هذا الخطر الماحق قبل أن يصبح القضاء عليه مستحيلا.
وبينما كان أعداء المعسكر الإسلامي في عنفوان قوتهم وفي عنفوان حقدهم كذلك، كان الصف المسلم ما يزال في أوائل نشأته بالمدينة، غير متناسق تماما، فيه الصفوة المختارة من السابقين من المهاجرين والأنصار، ولكن فيه كذلك نفوس وشخصيات لم تنضج بعد. والجماعة كلها على العموم لم تنل من التجارب الواقعية ما يسوي النتوءات، ويوضح حقيقة الدعوة وحقيقة الظروف الملابسة لها، وحقيقة منهجها العملي وتكاليفه.
كان للمنافقين- وعلى رأسهم عبد الله بن أُبَي -مكانتهم في المجتمع، وروابطهم العائلية والقبلية لم تنفصم بعد، ولم ينضج في نفوس المسلمين الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي أسرتهم وهي قبيلتهم وهي وشيجتهم التي لا وشيجة معها. ومن ثم كانت هناك خلخلة في الصف الإسلامي بسبب وجود مثل هذه العناصر مندمجة في الصف، مؤثرة في مقاديره، [كما يتجلى ذلك في أحداث غزوة أحد عند استعراض النصوص الخاصة بها في السورة].
وكان لليهود مكانتهم كذلك في المدينة، وارتباطاتهم الاقتصادية والتعهدية مع أهلها، ولم يتبين عداؤهم سافرا، ولم ينضج في نفوس المسلمين كذلك الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي العهد وهي الوطن وهي أصل التعامل والتعاقد، وأنه لا بقاء لصلة ولا وشيجة إذا هي تعارضت مع العقيدة. ومن ثم، كانت لليهود فرصة للتوجيه والتشكيك والبلبلة، وكان هناك من يسمع لقولهم في الجماعة المسلمة ويتأثر به، وكان هناك من يدفع عنهم ما يريد النبي [ص] أن ينزل بهم من إجراءات لدفع كيدهم عن الصف المسلم [كما حدث في شفاعة عبد الله بن أبي في بني قينقاع، وإغلاظه في هذا للرسول [ص]].
ومن ناحية أخرى، كان المسلمون قد انتصروا في بدر ذلك النصر الكامل الباهر بأيسر الجهد والبذل؛ فقد خرج ذلك العدد القليل من المسلمين، غير مزودين بعدة ولا عتاد- إلا اليسير -فلاقوا ذلك الجحفل الضخم من قريش في عدتهم وعتادهم، ثم لم تلبث المعركة أن انجلت عن ذلك النصر المؤزر الباهر.
وكان هذا النصر في الوقعة الأولى التي يلتقي فيها جند الله بجند الشرك قدرا من قدر الله، ندرك اليوم طرفا من حكمته، ولعله كان لتثبيت الدعوة الناشئة وتمكينها، بل لإثبات وجودها الفعلي على محك المعركة، لتأخذ بعد ذلك طريقها.
فأما المسلمون، فلعلهم قد وقع في نفوسهم- من هذا النصر -أنه الشأن الطبيعي الذي لا شأن غيره، وأنه لا بد ملازمهم على أي حال في كل مراحل الطريق، أليسوا بالمسلمين؟ أليس أعداؤهم بالكافرين؟ وإذن فهو النصر لا محالة حيثما التقى المسلمون بالكافرين!
غير أن سنة الله في النصر والهزيمة ليست بهذه الدرجة من البساطة والسذاجة، فلهذه السنة مقتضياتها في تكوين النفوس، وتكوين الصفوف، وإعداد العدة، واتباع المنهج، والتزام الطاعة والنظام، واليقظة لخوالج النفس ولحركات الميدان.. وهذا ما أراد الله أن يعلمهم إياه بالهزيمة في غزوة أُحُد على النحو الذي تعرضه السورة عرضا حيا مؤثرا عميقا، وتعرض أسبابه من تصرفات بعض المسلمين، وتوجه في ظله العظات البناءة للنفس وللصف على السواء.
وحين نراجع غزوة أحد، نجد أن تعليم المسلمين هذا الدرس قد كلفهم أهوالا وجراحات وشهداء من أعز الشهداء- على رأسهم حمزة رضي الله عنه وأرضاه -وكلفهم ما هو أشق من ذلك كله على نفوسهم.. كلفهم أن يروا رسولهم الحبيب تشج جبهته وتكسر سنه، ويسقط في الحفرة، ويغوص حلق المغفر في وجنته [ص] الأمر الذي لا يقوم بوزنه شيء في نفوس المسلمين.
ويسبق استعراض غزوة أحد وأحداثها في السورة قطاع كبير تستغرقه كله توجيهات متشعبة لتصفية التصور الإسلامي من كل شائبة، ولتقرير حقيقة التوحيد جلية ناصعة، والرد على الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب، سواء منها ما هو ناشئ من انحرافاتهم هم في معتقداتهم، وما يتعمدون إلقاءه في الصف المسلم من شبهات ماكرة لخلخلة العقيدة وخلخلة الصف من وراء خلخلة العقيدة.
وتذكر عدة روايات أن الآيات من 1- 83 نزلت في الحوار مع وفد نصارى نجران اليمَن الذي قدم المدينة في السنة التاسعة للهجرة. ونحن نستبعد أن تكون السنة التاسعة هي زمن نزول هذه الآيات، فواضح من طبيعتها وجوها أنها نزلت في الفترة الأولى من الهجرة، حيث كانت الجماعة المسلمة بعد ناشئة، وكان لدسائس اليهود وغيرهم أثر شديد في كيانها وفي سلوكها.
وسواء صحت رواية أن الآيات نزلت في وفد نجران أم لم تصح، فإنه واضح من الموضوع الذي تعالجه أنها تواجه شبهات النصارى، وبخاصة ما يتعلق منها بعيسى عليه السلام، وتدور حول عقيدة التوحيد الخالص كما جاء به الإسلام. وتصحح لهم ما أصاب عقائدهم من انحراف وخلط وتشويه، وتدعوهم إلى الحق الواحد الذي تضمنته كتبهم الصحيحة التي جاء القرآن بصدقها.
ولكن هذا الفصل يتضمن كذلك إشارات وتقريعات لليهود، وتحذيرات للمسلمين من دسائس أهل الكتاب، وما كان يجاورهم في المدينة من أهل الكتاب ممن يمثل مثل هذا الخطر إلا اليهود.
وعلى أية حال، فإن هذا الفصل الذي يستغرق حوالي نصف السورة، يصور جانبا من جوانب الصراع بين العقيدة الإسلامية والعقائد المنحرفة في الجزيرة كلها.. وهو ليس صراعا نظريا، إنما هو الجانب النظري من المعركة الكبيرة الشاملة بين الجماعة المسلمة الناشئة وكل أعدائها الذين كانوا يتربصون بها، ويتحفزون من حولها، ويستخدمون في حربها كل الأسلحة وكل الوسائل، وفي أولها زعزعة العقيدة! وهي في صميمها المعركة التي ما تزال ناشبة إلى هذه اللحظة بين الأمة المسلمة وأعدائها.. إنهم هم هم: الملحدون المنكرون، والصهيونية العالمية، والصليبية العالمية!!!
ومن مراجعة نصوص السورة، يتبين أن الوسائل هي الوسائل كذلك، والأهداف هي الأهداف. ويتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة، ومرجع هذه الأمة -اليوم وغدا- كما كان قرآنها ومرجعها بالأمس في نشأتها الأولى، وأنه لا يعرض عن استنصاح هذا الناصح واستشارة هذا المرجع في المعركة الناشبة اليوم إلا مدخول يعرض عن سلاح النصر في المعركة، ويخدع نفسه أو يخدع الأمة، لخدمة أعدائها القدامى المحدثين في غفلة بلهاء أو في خبث لئيم.
ومن خلال المناقشات والجدل والاستعراض والتوجيه في هذا المقطع الأول، يتبين موقف أهل الكتاب المنحرفين عن كتابهم، من الجماعة المسلمة والعقيدة الجديدة، ممثلا في أمثال هذه النصوص:
(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله...)..
(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون؟)..
(يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده).
(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم..)..
(يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون؟)..
(يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟)..
(وقالت طائفة من أهل الكتاب: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون)، (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم!..)..
(ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما. ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل! ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون)..
(وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب -وما هو من الكتاب – (ويقولون: هو من عند الله وما هو من عند الله. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون)..
(قل: يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون)..
(قل: يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء؟).
(ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله. وإذا لقوكم قالوا: آمنا. وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ)..
(إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها)..
وهكذا نرى أن أعداء الجماعة المسلمة لم يكونوا يحاربونها في الميدان بالسيف والرمح فحسب، ولم يكونوا يؤلبون عليها الأعداء ليحاربوها بالسيف والرمح فحسب.. إنما كانوا يحاربونها أولا في عقيدتها، كانوا يحاربونها بالدس والتشكيك، ونثر الشبهات وتدبير المناورات، كانوا يعمدون أولا إلى عقيدتها الإيمانية التي منها انبثق كيانها، ومنها قام وجودها، فيعملون فيها معاول الهدم والتوهين. ذلك أنهم كانوا يدركون كما يدركون اليوم تماما- أن هذه الأمة لا تؤتى إلا من هذا المدخل، ولا تهن إلا إذا وهنت عقيدتها، ولا تهزم إلا إذا هزمت روحها، ولا يبلغ أعداؤها منها شيئا وهي ممسكة بعروة الإيمان، مرتكنة إلى ركنه، سائرة على نهجه، حاملة لرايته، ممثلة لحزبه، منتسبة إليه، معتزة بهذا النسب وحده.
ومن هنا، يبدو أن أعدى أعداء هذه الأمة هو الذي يلهيها عن عقيدتها الإيمانية، ويحيد بها عن منهج الله وطريقه، ويخدعها عن حقيقة أعدائها وحقيقة أهدافهم البعيدة.
إن المعركة بين الأمة المسلمة وبين أعدائها هي قبل كل شيء معركة هذه العقيدة. وحتى حين يريد أعداؤها أن يغلبوها على الأرض والمحصولات والاقتصاد والخامات، فإنهم يحاولون أولا أن يغلبوها على العقيدة، لأنهم يعلمون بالتجارب الطويلة أنهم لا يبلغون مما يريدون شيئا والأمة المسلمة مستمسكة بعقيدتها، ملتزمة بمنهجها، مدركة لكيد أعدائها.. ومن ثم يبذل هؤلاء الأعداء وعملاؤهم جهد الجبارين في خداع هذه الأمة عن حقيقة المعركة، ليفوزوا منها بعد ذلك بكل ما يريدون من استعمار واستغلال، وهم آمنون من عزمة العقيدة في الصدور!
وكلما ارتقت وسائل الكيد لهذه العقيدة، والتشكيك فيها، والتوهين من عراها، استخدم أعداؤها هذه الوسائل المترقية الجديدة. ولكن لنفس الغاية القديمة: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم!!!).. فهذه هي الغاية الثابتة الدفينة!
لهذا كان القرآن يدفع هذا السلاح المسموم أولا.. كان يأخذ الجماعة المسلمة بالتثبيت على الحق الذي هي عليه؛ وينفي الشبهات والشكوك التي يلقيها أهل الكتاب؛ ويجلو الحقيقة الكبيرة التي يتضمنها هذا الدين؛ ويقنع الجماعة المسلمة بحقيقتها وقيمتها في هذه الأرض، ودورها ودور العقيدة التي تحملها في تاريخ البشرية.
وكان يأخذها بالتحذير من كيد الكائدين، ويكشف لها نواياهم المستترة ووسائلهم القذرة، وأهدافهم الخطرة، وأحقادهم على الإسلام والمسلمين، لاختصاصهم بهذا الفضل العظيم..
وكان يأخذها بتقرير حقيقة القوى وموازينها في هذا الوجود. فيبين لها هزال أعدائها، وهوانهم على الله، وضلالهم وكفرهم بما أنزل الله إليهم من قبل وقتلهم الأنبياء. كما يبين لها أن الله معها، وهو مالك الملك المعز المذل وحده بلا شريك. وأنه سيأخذ الكفار [وهو تعبير هنا عن اليهود] بالعذاب والنكال؛ كما أخذ المشركين في بدر منذ عهد قريب.
وكانت هذه التوجيهات تتمثل في أمثال هذه النصوص:
(الله لا إله إلا هو الحي القيوم. نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، وأنزل الفرقان. إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد، والله عزيز ذو انتقام. إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء)..
(إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار. كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب. قل للذين كفروا: ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد. قد كان لكم آية في فئتين التقتا: فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين. والله يؤيد بنصره من يشاء. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار)..
(إن الدين عند الله الإسلام، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب)..
(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)..
(قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير)..
(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه، وإلى الله المصير)..
(إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين)..
(أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون).
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين. وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم)..
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا. واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوانا. وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون...)..
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله. ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون. لن يضروكم إلا أذى، وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون. ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا -إلا بحبل من الله وحبل من الناس- وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة. ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)..
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا. ودوا ما عنتم. قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر. قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم، وتؤمنون بالكتاب كله. وإذا لقوكم قالوا: آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ. قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور. إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها. وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا. إن الله بما يعملون محيط).
ومن هذه الحملة الطويلة التي اقتطفنا منها هذه الآيات، وتنوع توجيهاتها وتلقيناتها تتبين عدة أمور:
أولها: ضخامة الجهد الذي كان يبذله أهل الكتاب في المدينة وغيرها، وعمق الكيد وتنوع أساليبه، واستخدام جميع الوسائل لزعزعة العقيدة وخلخلة الصف المسلم من ورائها.
وثانيها: ضخامة الآثار التي كان هذا الجهد يتركها في النفوس وفي حياة الجماعة المسلمة، مما اقتضى هذا البيان الطويل المفصل المنوع المقاطع والأساليب.
وثالثها: هو ما نلمحه اليوم من وراء القرون الطويلة. من أن هؤلاء الأعداء هم الذين يلاحقون هذه الدعوة وأصحابها في الأرض كلها؛ وهم الذين تواجههم هذه العقيدة وأهلها. ومن ثم اقتضت إرادة الحكيم الخبير أن يقيم هذا المشعل الهادي الضخم البعيد المطارح لتراه الأجيال المسلمة قويا واضحا عميق التركيز على كشف الأعداء التقليديين لهذه الأمة ولهذا الدين!
أما القطاع الثاني في السورة فهو خاص بغزوة أحد. وهو يشتمل كذلك على تقريرات في حقائق التصور الإسلامي والعقيدة الإيمانية. وعلى توجيهات في بناء الجماعة المسلمة على أساس تلك الحقائق. إلى جانب استعراض الأحداث والوقائع، والخواطر والمشاعر، استعراضا يتبين منه بجلاء حالة الجماعة المسلمة يومها وقطاعاتها المختلفة التي أشرنا إليها في أول هذا التمهيد.
وعلاقة هذا المقطع بالمقطع الأول في السورة ظاهرة. فهو يتولى عملية بناء التصور الإسلامي وتجليته -في مجال المعركة والحديد ساخن!- كما يتولى عملية تثبيت هذه الجماعة على التكاليف المفروضة على أصحاب دعوة الحق في الأرض. مع تعليمهم سنة الله في النصر والهزيمة. ويربيهم بالتوجيهات القرآنية كما يربيهم بالأحداث الواقعية.
وإنه ليصعب استيفاء الحديث هنا عن طبيعة هذا المقطع ومحتوياته وقيمته في بناء العقيدة وبناء الجماعة.. ولما كان هذا المقطع يقع بجملته في الجزء الرابع [من الظلال] فلنرجئ الحديث عنه إلى هذا الجزء [إن شاء الله]..
ونمضي إلى ختام السورة -بعد فصل غزوة أحد- فإذا هو تلخيص لموضوعاتها الأساسية، يبدأ بإشارة موحية إلى دلالة هذا الكون [كتاب الله المنظور] وإيحاءاته للقلوب المؤمنة.. ويأخذ في دعاء رخي ندي من هذه القلوب، على مشهد الآيات في كتاب الكون المفتوح: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض. ربنا ما خلقت هذا باطلا، سبحانك! فقنا عذاب النار. ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته. وما للظالمين من أنصار. ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا. ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة. إنك لا تخلف الميعاد...).. وهو يمثل نصاعة التصور ووضوحه. وخشوع القلب وتقواه.
ثم تجيء الاستجابة من الله -سبحانه- فيذكر فيها الهجرة والجهاد والإيذاء في سبيل الله:
(فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض. فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم، وأوذوا في سبيلي، وقاتلوا وقتلوا، لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله. والله عنده حسن الثواب..).. وفيه إشارة وعلاقة بغزوة أحد وأحداثها وآثارها.
ثم يذكر أهل الكتاب -الذين استغرق الحديث عنهم مقطع السورة الأول- ليقول للمسلمين إن الحق الذي بأيديهم لا يجحده أهل الكتاب كلهم. فإن منهم من يؤمن به ويشهد بأحقيته: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم، وما أنزل إليهم، خاشعين لله، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا...).
وتختم السورة بدعوة المسلمين -بإيمانهم- إلى الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون).. وهو ختام يناسب جو السورة وموضوعاتها جميعا..
ولا يتم التعريف المجمل بهذه السورة حتى نلم بثلاثة خطوط عريضة فيها، تتناثر نقطها في السورة كلها، وتتجمع وتتركز في مجموعها، حتى ترسم هذه الخطوط العريضة بوضوح وتوكيد..
أول هذه الخطوط بيان معنى "الدين" ومعنى "الإسلام".. فليس الدين -كما يحدده الله- سبحانه -ويريده ويرضاه- هو كل اعتقاد في الله.. إنما هي صورة واحدة من صور الاعتقاد فيه -سبحانه- صورة التوحيد المطلق الناصع القاطع: توحيد الألوهية التي يتوجه إليها البشر كما تتوجه إليها سائر الخلائق في الكون بالعبودية. وتوحيد القوامة على البشر وعلى الكون كله. فلا يقوم شيء إلا بالله تعالى، ولا يقوم على الخلائق إلا الله تعالى. ومن ثم يكون الدين الذي يقبله الله من عباده هو" الإسلام "وهو في هذه الحالة: الاستسلام المطلق للقوامة الإلهية، والتلقي من هذا المصدر وحده في كل شأن من شؤون الحياة، والتحاكم إلى كتاب الله المنزل من هذا المصدر، واتباع الرسل الذين نزل عليهم الكتاب. وهو في صميمه كتاب واحد، وهو في صميمه دين واحد.. الإسلام.. بهذا المعنى الواقعي في ضمائر الناس وواقعهم العملي على السواء. والذي يلتقي عليه كل المؤمنين أتباع الرسل.. كل في زمانه.. متى كان معنى إسلامه هو الاعتقاد بوحدة الألوهية والقوامة؛ والطاعة والاتباع في منهج الحياة كله بلا استثناء.
ويتكئ سياق السورة على هذا الخط ويوضحه في أكثر من ثلاثين موضعا من السورة بشكل ظاهر ملحوظ.. نضرب له بعض الأمثلة في هذا التعريف المجمل:
(الله لا إله إلا هو الحي القيوم).. (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم).. (إن الدين عند الله الإسلام).. (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن. وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين: أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا..).. (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون).. (قل: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله...).. (قل: أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين).. (قال الحواريون: نحن أنصار الله، آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون. ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين).. (قل: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله. فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون).. (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين).. (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون؟).. (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه).. وغيرها كثير..
فأما الخط الثاني الذي يركز عليه سياق السورة فهو تصوير حال المسلمين مع ربهم واستسلامهم له، وتلقيهم لكل ما يأتيهم منه بالقبول والطاعة والاتباع الدقيق.. ونضرب له كذلك بعض الأمثلة في هذا التعريف بالسورة حتى نواجهه مفصلا عند استعراض النصوص بالتفصيل:
(والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا -وما يذكر إلا أولوا الألباب -) (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد).. (الذين يقولون: ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار. الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار).. (قال الحواريون: نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون. ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين).. (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).. (من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين). (وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين، وما كان قولهم إلا أن قالوا: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين).. (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم. الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل).. (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض. ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك! فقنا عذاب النار. ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته، وما للظالمين من أنصار. ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا. ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، ولا تخزنا يوم القيامة. إنك لا تخلف الميعاد).. (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم، وما أنزل إليهم خاشعين لله، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا).. وغيرها كثير..
والخط الثالث العريض في سياق السورة هو التحذير من ولاية غير المؤمنين، والتهوين من شأن الكافرين مع هذا التحذير، وتقرير أنه لا إيمان ولا صلة بالله مع تولي الكفار الذين لا يحتكمون لكتاب الله، ولا يتبعون منهجه في الحياة.. وقد أشرنا إلى هذا الخط من قبل ولكنه يحتاج إلى إبراز هنا بقدر ما هو بارز وأساسي في سياق السورة، وهذه نماذج من هذا الخط العريض:
(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء- إلا أن تتقوا منهم تقاة -ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير. قل. إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض. والله على كل شيء قدير).. (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون)..
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين. وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله. ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا...) إلخ.. (لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون. ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا...) إلخ.. (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا. ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر...) إلخ.. (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين. بل الله مولاكم وهو خير الناصرين. سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين).. (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد).. وغيرها كثير..
وهذه الخطوط الثلاثة العريضة متناسقة فيما بينها متكاملة، في تقرير التصور الإسلامي، وتوضيح حقيقة التوحيد ومقتضاه في حياة البشر وفي شعورهم بالله، وأثر ذلك في موقفهم من أعداء الله الذي لا موقف لهم سواه.
والنصوص في مواضعها من السياق أكثر حيوية وأعمق إيحاء.. لقد نزلت في معمعان المعركة. معركة العقيدة، ومعركة الميدان. المعركة في داخل النفوس، والمعركة في واقع الحياة.. ومن ثم تضمنت ذلك الرصيد الحي العجيب، من الحركة والتأثير والإيحاء..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة، في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة: سورة آل عمران، ففي صحيح مسلم، عن أبي أمامة: قال سمعت رسول الله يقول اقرأوا الزهراوين؛ البقرة وآل عمران. وفيه عن النواس بن سمعان: قال سمعت النبي يقول يؤتى بالقرآن يوم القيامة تقدمه سورة البقرة وآل عمران. وروى الدارمي في مسنده، أن عثمان بن عفان قال: من قرأ سورة آل عمران في ليلة، كتب له قيام ليلة. وسماها ابن عباس في حديثه في الصحيح، قال: بت في بيت رسول الله، فنام رسول الله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، استيقظ رسول الله فقرأ الآيات من آخر سورة آل عمران.
ووجه تسميتها بسورة آل عمران أنها ذكرت فيها فضائل آل عمران، وهو عمران بن ماتان أبو مريم، وآله هم زوجه حنة وأختها زوجة زكريا النبي، وزكريا كافل مريم، إذ كان أبوها عمران توفي وتركها حملا فكفلها زوج خالتها.
ووصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزهراء في حديث أبي أمامة المتقدم.
وذكر الآلوسي أنها تسمى: الأمان، والكنز، والمجادلة، وسورة الاستغفار. ولم أره لغيره، ولعله اقتبس ذلك من أوصاف وصفت بها هذه السورة مما ساقه القرطبي، في المسألة الثالثة والرابعة من تفسير أول السورة...
واشتملت هذه السورة، من الأغراض على: الابتداء بالتنويه بالقرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وتقسيم آيات القرآن، ومراتب الأفهام في تلقيها، والتنويه بفضيلة الإسلام وأنه لا يعدله دين، وأنه لا يقبل دين عند الله، بعد ظهور الإسلام، غير الإسلام، والتنويه بالتوراة والإنجيل، والإيماء إلى أنهما أنزلا قبل القرآن، تمهيدا لهذا الدين فلا يحق للناس أن يكفروا به، وعلى التعريف بدلائل إلهية الله تعالى، وانفراده، وإبطال ضلالة الذين اتخذوا آلهة من دون الله؛ من جعلوا له شركاء، أو اتخذوا له أبناء، وتهديد المشركين بأن أمرهم إلى زوال، وألا يغرهم ما هم فيه من البذخ، وأن ما أعد للمؤمنين خير من ذلك، وتهديدهم بزوال سلطانهم، ثم الثناء على عيسى عليه السلام وآل بيته، وذكر معجزة ظهوره، وأنه مخلوق لله. وذكر الذين آمنوا به حقا، وإبطال إلهية عيسى، ومن ثم أفضى إلى قضية وفد نجران ولجاجتهم، ثم محاجة أهل الكتابين في حقيقة الحنفية وأنهم بعداء عنها، وما أخذ الله من العهد على الرسل كلهم؛ أن يؤمنوا بالرسول الخاتم، وأن الله جعل الكعبة أول بيت وضع للناس، وقد أعاد إليه الدين الحنيف كما ابتدأه فيه، وأوجب حجه على المؤمنين، وأظهر ضلالات اليهود، وسوء مقالتهم، وافترائهم في دينهم وكتمانهم ما أنزل إليهم. وذكر المسلمين بنعمته عليهم بدين الإسلام، وأمرهم بالاتحاد والوفاق، وذكرهم بسابق سوء حالهم في الجاهلية، وهون عليهم تظاهر معانديهم من أهل الكتاب والمشركين، وذكرهم بالحذر من كيدهم وكيد الذين أظهروا الإسلام ثم عادوا إلى الكفر فكانوا مثلا لتمييز الخبيث من الطيب، وأمرهم بالاعتزاز بأنفسهم، والصبر على تلقي الشدائد، والبلاء، وأذى العدو، ووعدهم على ذلك بالنصر والتأييد وإلقاء الرعب منهم في نفوس عدوهم، ثم ذكرهم بيوم أحد، ويوم بدر، وضرب لهم الأمثال بما حصل فيهما، ونوه، بشأن الشهداء من المسلمين، وأمر المسلمين بفضائل الأعمال: من بذل المال في مواساة الأمة، والإحسان، وفضائل الأعمال، وترك البخل، ومذمة الربا وختمت السورة بآيات التفكير في ملكوت الله...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن هذه السورة الكريمة: (1) فيها تنويه بذكر القرآن و أقسامه، و إشارة إلى محكمه و المتشابه منه، و أقسام الناس في تلقي ذلك الهدى الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.
(2) و فيها قصة آل عمران، و ولادة مريم البتول، و يحيى النبي، و عيسى الرسول، و ما اكتنف ولادتهم من آيات تدل على كمال إرادة الله تعالى في خلقه.
(3) و فيها إشارات إلى معجزات عيسى عليه السلام، و كفر من دعاهم بعد هذه المعجزات الظاهرة القاطعة، و إن ذلك يدل على أن العناد يضع غشاء على العين فلا تبصر، و على البصيرة فلا تدرك.
(4) و فيها مجادلة النبي صلى الله عليه و سلم مع النصارى و اليهود، و بيان طائفة من أخلاق اليهود و اعتقادهم أن الإيمان احتكار المذهب، و تغليق القلوب عن غيره، إذ قالوا: {و لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم 73} إلى آخر كلامه العزيز في تلك العبرة.
(5) و فيها بيان أن الإسلام في لبه ومعناه هو دين كل الأنبياء السابقين، لأنه دين الله السرمدي، سبق بالدعوة إلى حقيقته النبيون، و ختم الله الدعوة بخاتم النبيين محمد الأمين.
(6) و فيها بيان فريضة الحج المحكمة و بيان الوحدة الإسلامية، و في جمعها مع الحج في موضع واحد إشارة إلى أن الحج من وسائلها، و أعقب ذلك ببيان فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و أنها ركن الوحدة الإسلامية و دعامتها، و الذريعة لجعل هذه الوحدة على أسس فضيلة مشتقة من هدى الدين الحكيم.
(7) و فيها بيان واجب قادة المؤمنين من ألا يتخذوا بطانة من غير المؤمنين، إذ هم في حقيقة أمرهم لا يألون المؤمنون خبالا و يودون عنتهم، ثم فيها تفصيل محكم لغزوة أحد، و بيان سبب الهزيمة و أعقابها، و العبرة في هذه الغزوة التي كانت فيها هزيمة و لكن لم يكن في ها خذلان، بل كانت العبرة فيها و الاعتبار بها باب الفتح المبين. و في أثناء القصة و ختامها بيان حال قتلى المؤمنين و أنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
(8) و فيها إشارة إلى أعمال المنافقين في النصر و الهزيمة، و اتباع ضعاف الإيمان لسوستهم، و صيانة الله لأقوياء الإيمان من أعمالهم.
(9) ثم فيها عزاء للنبي صلى الله عليه و سلم بذكر ما كذب به الأنبياء السابقون مع أنهم أتوا بالبينات و الأدلة الحسية القاطعة إذ قال سبحانه: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات و الزبر و الكتاب المنير 184}.
(10) و فيها بيان أن الله سبحانه سيبتلي المؤمنين و يختبرهم، و في الابتلاء صقل إيمانهم.
(11) و فيها بيان أخلاق المؤمنين و تفكرهم في خلق السماوات و الأرض و ما بينهما، و ضراعتهم إلى ربهم، و استجابة الله تعالى لهم، و جزاؤهم يوم القيامة، و المقابلة بينه و بين جزاء الكافرين الذين اغتروا بالحياة الدنيا مع أن متاعها قليل، و فيها إنصاف كريم لبعض أهل الكتاب الذين آمنوا و صدقوا و لم يسرفوا على أنفسهم بالإنكار و التكذيب مع قيام الدلائل الواضحة القاطعة.
(12) ثم ختم سبحانه بدعوة المؤمنين إلى مجاهدة المشركين بالتقوى و بالصبر و بإعداد العدة، فقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و اربطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون}...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في هذه السورة ثلاثة فصول طويلة:
الأول: في صدد مناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب.
والثاني: في صدد مواقف اليهود ومكائدهم.
والثالث: في صدد وقعة حربية بين النبي والمسلمين والمشركين.
وقد تخلل كل فصل ما يناسب موضوعه من محاجات وتنديدات وتنويهات ومواعظ ومعالجات وتلقينات ومبادئ جليلة...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
هذه السورة التي هي أطول سورة في القرآن بعد سورة البقرة، يدور محور الحديث في آياتها حول ثلاثة موضوعات رئيسية:
- الموضوع الأول: تحديد معنى الدين ومعنى الإسلام، كقوله تعالى في هذه السورة {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}.
- الموضوع الثاني: وصف حال المسلمين مع ربهم وموقفهم من تعاليم الدين وتكاليفه، كقوله تعالى في هذه السورة أيضا {كُنتُم خَيرَ اُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ، تأمرون بالمَعرُوفِ وتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ، وَتُؤمِنُونَ باللهِ}.
- الموضوع الثالث: التحذير المستمر من الثقة بغير المسلمين، وتوضيح ما ينجر للمسلمين من الأخطار والمتاعب إذا والوهم ووثقوا بهم في شؤونهم، كقوله تعالى في نفس السورة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لعل قيمة هذه السورة في الجوّ القرآني أنها تنطلق في اتجاه صنع الشخصية الإنسانية الإسلامية، وهي تواجه هذا الواقع من موقع التنوّع الذي يجمع جانب التطلع الإيماني نحو الله في صفاته وأسمائه الحسنى التي تحيط بالإنسان والكون بالقيوميّة والرعاية، وجانب حركة هذا الإيمان في أعماق النفس في ما يواجه الإنسان من تحديات الرغبة والرهبة، وبذلك لا يعود الإيمان مجرّد خلجات في المشاعر وخطرات في الأفكار، بل ينطلق ليكون موقفاً متحركاً في اتجاهين؛ اتجاهٍ يبني النفس على الأسس الروحية الأخلاقية الصحيحة، لتكون مثالاً للشخصية الإسلامية الصابرة على تحديات نوازعها الذاتية الغريزية في أوضاعها المنحرفة، واتجاهٍ يطلق الشخصية في مواجهة الشخصيات غير الإسلامية في أجواء الصراع الفكري الذي يثير الشبهات ويخلق الانحرافات، وفي مجالات التحديات العملية في حالة الحرب والسلم، لتكون قوية في حلبة الصراع، صابرة على مواطن الإثارة والتحدي التي تختلف أشكالها وأساليبها ونوازعها العامة والخاصة... وهذا ما يريده الإسلام في ما ينطلق فيه من تقرير الصبر كقيمة أخلاقية كبيرة، فهو يريد أن يؤكد دوره الفاعل المتحرك الذي يبني للشخصية روحيتها وللذات حركة مسيرتها، لتكون مصدر إغناء للتجربة الواقعية للحياة والإنسان... وقد أثارت السورة في هذا الجو الكثير من الحديث عن أهل الكتاب في ما أثاروه أمام الإسلام والمسلمين من قضايا ومشاكل وتحديات، كما انطلقت في أجواء التاريخ الديني في نطاق الأديان السابقة في قصص آل عمران، لتواجه به النوازع السوداء لأهل الكتاب من اليهود، وتصور لهم كيف كان التاريخ الناصع المتمثل في هذه النماذج البشرية التي استطاعت أن تعيش الإخلاص لله كأعمق ما يكون الإخلاص، ليتمثلوا ذلك في واقعهم إذا كانوا صادقين في ارتباطهم بذلك التاريخ.
وانطلقت السورة بعد ذلك، لتطرح على أهل الكتاب دعوة اللقاء والمباهلة ليتبين لهم الحقّ من الباطل. وقد أوردت صوراً عن أجواء معارك الإسلام وفي طليعتها معركة أحد التي عاش المسلمون فيها زهو الانتصار في بدايتها كما عاشوا مرارة الهزيمة في نهايتها... وكان القرآن الكريم في هذه السورة يضع النقاط على الحروف ليأخذ من الهزيمة درساً عملياً من أجل المستقبل الذي لا يريد للمسلمين أن يعيشوا فيه ثقل الهزيمة، ليتحرروا من سلبيات الماضي بهذا الخصوص. وأعتقد أن دراسة معركة أحد في هذا الجو القرآني يفوق أية دراسة أخرى تعتمد على تفاصيل القصة في السيرة، لأن قيمة القرآن في نقل القصة، أنه يحشد أمامنا الأجواء الروحية التي كان يعيشها المسلمون كما لو كنا نعيشها في ذلك العصر. إنه ينقل لنا التجربة حيّة وينقدها وهي تتحرك في مراحلها المتقدمة. وهكذا نجد في هذه السورة الكثير من الإيحاءات الروحية والعملية وطريقة التعامل مع الآخرين من أهل الكتاب، وذلك في ما ترصده من حركاتهم وأوضاعهم، من أجل أن تخلق في نفوس المؤمنين المزيد من الوعي العملي عندما يتحركون في ساحة العمل معهم ومع غيرهم، ثم توحي للمؤمنين بأن سبيل الانتصار والنجاح في الحياة، لا يحصل بالاسترخاء والتواكل والكسل والاستغراق في غيبوبة صوفية بعيدة عن الواقع، بل بالعمل الجاد المتحرك الذي يلاحق الحياة من خلال أسبابها الطبيعية التي أودعها الله فيها في ما أودعه من قوانين الحركة في هذه الحياة...
وتبقى للآية أجواؤها الروحية القرآنية التي تجعل الإنسان في حركة مع الروح وهو يفكر، كما تدفعه إلى مرافقتها وهو يعمل ويخطط ويتعاون ويؤيّد ويرفض، ليعرف أن الله يحيط به من جميع الجهات، وأن قيمة أيَّ عمل يعمله تتمثل بمقدار ما يكون قريباً من الله، فهو مع كل شيء وغاية كل شيء في الدنيا والآخرة وهو ولي الأمور...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ذهب بعض المفسّرين المعروفين أنّ هذه السورة نزلت بين السنة الثانية والثالثة للهجرة، أي بين غزوة بدر وأحد، فهي تعكس في طيّاتها فترة من أشد الفترات حساسيّة في صدر الإسلام. وعلى كلّ حال، فإنّ المحاور الأصلية في أبحاث هذه السورة عبارة عن:
إنّ قسماً مهمّاً من هذه السورة يرتبط بمسألة التوحيد وصفات الله والمعاد والمعارف الإسلامية الأخرى.
وقسم آخر منها يتعلّق بمسألة الجهاد وأحكامه المهمّة والدقيقة، وكذلك الدروس المستفادة من غزوتي بدر واُحد، وبيان الإمداد الإلهي للمؤمنين، والحياة الخالدة الأخروية للشهداء في سبيل الله.
وفي قسم من هذه السورة يدور الحديث حول سلسلة من الأحكام الإسلامية في ضرورة وحدة صفوف المسلمين وفريضة الحجّ وبيت الله الحرام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتولّي والتبرّي ومسألة الأمانة والإنفاق في سبيل الله وترك الكذب وضرورة الاستقامة والصبر في مقابل الأعداء والمشكلات والامتحانات الإلهيّة المختلفة وذكر الله على كلّ حال.
وتطرّقت هذه السورة إلى تكملة للأبحاث التي تتحدّث عن تاريخ الأنبياء (عليهم السلام) ومنهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء وقصّة مريم وكرامتها ومنزلتها عند الله، وكذلك المؤامرات التي كان يحوكها أتباع الديانة اليهوديّة والمسيحيّة ضدّ الإسلام والمسلمين. إنّ مواضيع هذه السورة منسجمة ومتناغمة بشكل كأنّها نزلت في وقت واحد...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قوله تعالى: {الم} هو اسم السورة على المختار، كما تقدم في أول سورة البقرة ويقال: قرأت الم البقرة، والم آل عمران، والم السجدة. ويقرأ بأسماء الحروف لا بمسمياتها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ألم).. هذه الأحرف المقطعة: ألف. لام. ميم. نختار في تفسيرها -على سبيل الترجيح لا الجزم- ما اخترنا في مثلها في أول سورة البقرة: إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف، وهي في متناول المخاطبين به من العرب. ولكنه -مع هذا- هو ذلك الكتاب المعجز، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله... إلخ"... وهذا الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور -على سبيل الترجيح لا الجزم- يتمشى معنا بيسر في إدراك مناسبات هذه الإشارة في شتى السور. ففي سورة البقرة كانت الإشارة تتضمن التحدي الذي ورد في السورة بعد ذلك: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) إلخ.. فأما هنا في سورة "آل عمران "فتبدو مناسبة أخرى لهذه الإشارة.. هي أن هذا الكتاب منزل من الله الذي لا إله إلا هو، وهو مؤلف من أحرف وكلمات شأنه في هذا شأن ما سبقه من الكتب السماوية التي يعترف بها أهل الكتاب -المخاطبون في السورة- فليس هناك غرابة في أن ينزل الله هذا الكتاب على رسوله بهذه الصورة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{الم} هذا الاسم القرآني الذي سمى به القرآن هذه السورة، و هذه حروف تقرأ في القرآن الكريم بأسمائها، و هي ألف. لام. ميم. و المعنى الذي تدل عليه هذه الحروف غير معلوم على وجه اليقين، كما أسلفنا في سورة البقرة، و الله أعلم بمراده منها، ولا يستطيع عالم يعتمد على الحقائق العلمية أن يقرر المراد من هذه الحروف، والمعنى المحرر لها، و أقصى ما ذكره العلماء لها حكم يدل عليها ذكرها... و من أحسن ما يقال:... أن النبي الأمي كان ينطق بهذه الحروف التي كان لا يعرفها إلا من يقرأ و يكتب، فاشتمال القرآن عليها مع أميته – عليه السلام – دليل على أنه من عند الله. و من ذلك أيضا ما قيل من هذه الحروف الصوتية التي اشتملت عليها بعض أوائل السور إذا أنطق بها الناطق مع ما فيها من مد طويل أو قصير، استرعى ذلك الأسماع فاتجهت إليه، و إن لم يرد السامعون. و يروى في ذلك أن المشركين من فرط تأثير القرآن قد تفاهموا على ألا يسمعوا لهذا القرآن: {و قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه لعلكم تغلبون 26} (فصلت)...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
بدأت السورة بالحروف المتقطعة الثلاثة للتنبيه واسترعاء الذهن إلى ما يأتي بعدها على ما رجحناه في أمثالها. ثم أخذت الآيات بعدها تقرر صفات الله وتنوه بكتبه: فهو الذي لا إله إلا هو الحي القيوم يأمر الكون وما فيه. وهو الذي نزّل الكتاب على النبي والخطاب موجه إليه صدقا وحقا ومصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية ومتطابقا معها كما أنه هو الذي أنزل التوراة والإنجيل من قبله هدى للناس. وقد أنزل الفرقان كذلك هدى للناس. وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو الذي يصور الناس والخطاب موجه إلى السامعين في أرحام أمهاتهم كيف تشاء حكمته. وهو العزيز القوي الذي لا تطاوله قوة والحكيم الذي يفعل ما فيه الحكمة والصواب. ومن أجل ذلك لا يصح أن تكون الألوهية لأحد غيره ولا يصح أن يكون إله إلا هو. والذين يكفرون بآياته ويجحدونها يذوقون عذابه الشديد. وهو القادر المنتقم ممن يقف منه ومن آياته موقف الكفر والجحود...
وجمهور المفسرين على أن المقصد من كلمة الفرقان وصف القرآن بأنه نزل ليكون الفارق بين الحق والباطل والفاصل في ما وقع من اختلاف بين أهل الكتب السماوية السابقة وفيما طرأ عليها من تحريف. وهو وجيه؛ لأن القرآن قد ذكر بلفظ الكتاب في الآية الثانية. تعليق على الآيات الست الأولى... من السورة... وعلى كل حال فالمتبادر أن هذه الآيات الست هي بمثابة مقدمة أو مدخل بين يدي ذكر ما كان من المناظرة أو تعقيب عليها. وهذا استلهم من فحوى الآيات التي أشير فيها إلى التوراة والإنجيل ثم إلى القرآن الذي جاء فرقانا بين الحق والباطل بأسلوب ينطوي على تقرير كونه جاء ليبين ما وقع من تحريف في التوراة والإنجيل وانحراف عنهما، ثم إلى تصوير الله تعالى الناس في الأرحام كيف يشاء مما قد ينطوي فيه إشارة إلى حادث ولادة عيسى عليه السلام بأمر الله وتصويره ومعجزته...
وفي بعض آيات السلسلة ما يؤيد بعض ما جاء في الروايات كما أن في سور أخرى آيات تؤيد ما كان من مماراة الكتابيين ومكابرتهم في أمر النبي والقرآن وهم يعرفون أنه الحق والصدق مما مرّ بعضه في سورة البقرة وما سوف يأتي شيء منه في هذه السورة وغيرها بعدها. وفي سورة التوبة آية صريحة تذكر ما كان من صد كثير من الأحبار والرهبان عن سبيل الله وأكلهم أموال الناس بالباطل وبمعنى آخر حرصهم على مناصبهم وما تدره عليهم من منافع وهي الآية [34]. وإذا كان من شيء يحسن استدراكه فهو ما نبهنا عليه ورجحناه في مقدمة السورة من أن نصارى نجران أرسلوا وفدا مرتين مرة قبل فتح مكة بعد وقعة بدر حيث ناظروا النبي وامتنعوا عن الاستجابة إلى التلاعن معه ووادعوه على ما جاء في رواية ابن هشام، ومرة بعد فتح مكة حيث أخذوا منه عهدا بذمته وفرض عليهم فيه الجزية. والله تعالى أعلم...
وإتماما للفائدة وكنموذج لكتب عهد النبي صلى الله عليه وسلم للوافدين عليه وما فيها من مظاهر الحق والعدل والتسامح والتشريع السياسي نورد في ما يلي نص العهد نقلا عن كتاب الخراج للإمام أبي يوسف:"بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما كتب محمد النبي رسول الله لأهل نجران إذ كان عليهم حكمه في كل ثمرة وفي كل صفراء وبيضاء ورقيق فأفضل ذلك عليهم وترك ذلك كله لهم. على ألفي حلة من حلل الأواقي في كل رجب ألف حلة، وفي كل صفر ألف حلة مع كل حلة أوقية من الفضة فما زادت على الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب، وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاز أو عرض أخذ منهم بالحساب. وعلى نجران مؤونة رسلي ومنعتهم ما بين عشرين يوما فما دون ذلك. ولا تحبس رسلي فوق شهر. وعليهم عارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا إذا كان كيد باليمن ومعرة، وما هلك مما أعاروه رسلي من دروع أو خيل أو ركاب أو عرض فهو ضمن على رسلي حتى يؤدوه لهم. ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم. وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته وليس عليهم دية ولا دم جاهلية. ولا يسخرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش. ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين. ومن أكل ربا منهم فذمتي منه بريئة. ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر. وعلى ما في هذا الكتاب جواز الله وذمة محمد النبي رسول الله حتى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم غير منفلتين بظلم. شهد أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو ومالك بن عوف من بني نصر والأقرع بن حابس الحنظلي والمغيرة بن شعبة. وكتب هذا الكتاب عبد الرحمن بن أبي بكر". وقد يثير هذا الانسجام والسبك شبهة في صحة الكتاب. ولكنا نرجح أن هذا مما كان متداولا منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولا ينفيه ما يمكن أن يكون طرأ عليه من تنميق وسبك أو بعض زيادة ونقص. والله تعالى أعلم...
{الم} وجاءت أيضاً في سور أخرى، في سورة العنكبوت، وفي سورة الروم، ولقمان، والسجدة، وزاد عليها راءً في بعض السور، وزاد عليها صاداً في بعض السور "المص "و "المر" كل ذلك جاء تأكيداً للمعاني أو تأكيداً للسر الذي وضعه الله في هذه الحروف، وإن لم نكن ندرك ذلك السر...
والإنسان ينتفع بأسرار الأشياء التي وضعها من أوجد الأشياء وإن لم يعلم هذه الأشياء فهو منتفع بها، وضربنا المثل وقلنا: إن الريفي الذي ليس عنده ثقافة في الكهرباء، أيستفيد بالكهرباء أم لا؟ إنه يستفيد بها ويحرك زر المصباح لينيره أو ليطفئه، أهو يعلم سر ذلك؟ لا، لكنه إنما انتفع به، فكذلك المؤمن حين يقول: "ألف لام ميم"، يأخذ سرها من قائلها، فهمها أم لم يفهمها، إذن فالمسألة لا تحتاج إلى أن نفلسفها، صحيح أن العقل البشري يحول حول شيء ليستأنس به، ولكن عطاء الله وحكمة العطاء فوق ما يستأنس به وفوق ما نستوحش منه. وقول الحق سبحانه في ختام سورة البقرة: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} يناسب أيضاً سورة آل عمران، لماذا؟ لأن الإسلام سيأتي ليواجه معسكر كفر ومعسكر أهل الكتاب، فحتى لا تتشقق دعوة الله التي صدرت عن الله بمواكب الرسل جميعاً الذين سبقوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأن هذا جاء ليناقض شيئاً منه، إنه قد جاء ليعزز دعوة الله، ولتكون هذه الأمم التي تبعت هذه الديانات في صف الإسلام. ولذلك حينما أنكر العرب رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله لهم: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أي أن من عنده علم الكتاب يشهد أنك رسول الله. {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43]. فكان المفروض في أهل الكتاب أنهم حينما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكونوا هم أول المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه جاء ليؤكد موكب الإيمان ويأتي لهم بسورة يسميها آل عمران حتى يعلم الجميع أنك يا محمد لم تأتي لتهدم ديانة عيسى، ولكن لتبقى ديانة عيسى ولتؤيد ديانة عيسى، فإن كنتم يا من آمنتم بعيسى مؤمنين بعيسى فاهرعوا حالاً إلى الإيمان بمحمد؛ فقد سماها الله آل عمران، وجعل لهم سورة في القرآن. إن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم تأت للعصبية، أو لتمحو ما قبلها كما تأتي عصبيات البشر؟؟ين يأتي قوم على أنقاض قوم، ويهدمون كل ما يتصل بهؤلاء القوم حتى التاريخ يمحونه، والأشياء يمسخونها؛ لأنهم يريدون أن ينشئوا تاريخاً جديداً. لا إن هذا القرآن يريد أن يصوب التاريخ، فيأتي بسورة اسمها" آل عمران "وذلك تكريم عال لهذه الديانة ولتابعيها. وبعد ذلك يأتي الحق فيستهلها: بقوله جل شأنه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}...