{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي : ونعاقبهم ، إذا لم يؤمنوا أول مرة يأتيهم فيها الداعي ، وتقوم عليهم الحجة ، بتقليب القلوب ، والحيلولة بينهم وبين الإيمان ، وعدم التوفيق لسلوك الصراط المستقيم .
وهذا من عدل الله ، وحكمته بعباده ، فإنهم الذين جنوا على أنفسهم ، وفتح لهم الباب فلم يدخلوا ، وبين لهم الطريق فلم يسلكوا ، فبعد ذلك إذا حرموا التوفيق ، كان مناسبا لأحوالهم .
وقوله { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } معطوف على { لاَ يُؤْمِنُونَ } وداخل معه فى حكم { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } مقيد بما قيد به .
أى : وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يفقهونه ، وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه ، كشأنهم فى عدم إيمانهم بما جاءهم أول رمة من آيات . وهدايات على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقترحوا عليه تلك المقترحات الباطلة .
إنكم إيها المؤمنون لا تدرون ذلك ولا تشعرون به لأنه علمه عند الله وحده .
قال الآلوسى : وهذا التقليب ليس مع توجه الأفئدة والأبصار إلى الحق واستعدادها له ، بل لكمال نبوها عنه وإعراضها بالكلية ، ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعارا بأصالتهم فى الكفر ، وحسما لتوهم أن عدم إيمانهم ناشىء من تقليبه - تعالى - مشاعرهم بطريق الإجبار " .
وقوله { وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } معطوف على { لاَ يُؤْمِنُونَ } .
والعمه : التردد فى الأمر مع الحيرة فيه ، يقال : عمه كفرح ومنع - عمها إذا تردد وتحير .
أى : ونتركهم فى تجاوزهم الحد فى العصيان يترددون متحيرين ، لا يعرفون لهم طريقا ، ولا يهتدون إلى سبيل .
( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ، كما لم يؤمنوا به أول مرة ، ونذرهم في طغيانهم يعمهون . ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ، وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا - إلا أن يشاء الله - ولكن أكثرهم يجهلون ) . .
إن القلب الذي لا يؤمن بآيات الله المبثوثة في هذا الوجود - بعد توجيهه إليها على هذا النحو العجيب الذي تكفل به هذا الكتاب العجيب - ولا توحي آيات الله المبثوثة في الأنفس والآفاق إليه أن يبادر إلى ربه ، ويثوب إلى كنفه . . إن هذاالقلب هو قلب مقلوب . . والذي عاق هؤلاء عن الإيمان في أول الأمر ، ما الذي يدري المسلمين الذين يقترحون إجابة طلبهم ، أن يعوقهم عن الإيمان بعد ظهور الخارقة ؟ إن الله هو الذي يعلم حقيقة هذه القلوب . . وهو يذر المكذبين في طغيانهم يعمهون ، لأنه يعلم منهم أنهم يستحقون جزاء التكذيب ؛ كما يعلم عنهم أنهم لا يستجيبون . . لا يستجيبون ولو نزل إليهم الملائكة كما يقترحون ! ولو بعث لهم الموتى يكلمونهم - كما اقترحوا كذلك ! - ولو حشر الله عليهم كل شيء في هذا الوجود يواجههم ويدعوهم إلى الإيمان ! . . إنهم لا يؤمنون - إلا أن يشاء الله - والله سبحانه لا يشاء ، لأنهم هم لا يجاهدون في الله ليهديهم الله إليه . . وهذه هي الحقيقة التي يجهلها أكثر الناس عن طبائع القلوب . .
إنه ليس الذي ينقص الذين يلجون في الضلال أنه لا توجد أمامهم دلائل وبراهين . . إنما الذي ينقصهم آفة في القلب ، وعطل في الفطرة ، وانطماس في الضمير . .
وإن الهدى جزاء لا يستحقه إلا الذين يتجهون إليه ، والذين يجاهدون فيه . .
{ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } عطف على لا يؤمنون أي : وما يشعركم أنا حينئذ يقلب أفئدتهم عن الحق فلا يفقهونه ، وأبصارهم فلا ينصرونه فلا يؤمنون بها . { كما لم يؤمنوا به } أي بما أنزل من الآيات . { أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } وندعهم متحيرين لا نهديهم هداية المؤمنين . وقرئ . " ويقلب " و " يذرهم " على الغيبة ، و " تقلب " على البناء للمفعول والإسناد إلى الأفئدة .
وقوله تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا } المعنى على ما قالت فرقة ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في النار وفي لهيبها في الآخرة لما لم يؤمنوا في الدنيا ثم استأنف على هذا ونذرهم في الدنيا { في طغيانهم يعمهون }{[5057]} .
وقالت فرقة إنما المراد بالتقليب التحويل عن الحق والهدى ، والترك في الضلالة والكفر ، ومعنى الآية أن هؤلاء الذين أقسموا أنهم يؤمنون إن جاءت آية نحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم أن لو جاءت فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من عبادة الله ، فأخبر الله تعالى على هذا التأويل بصورة فعله بهم{[5058]} ، وقرأ أبو رجاء «يذرهم » بالياء ورويت عن عاصم ، وقرأ إبراهيم النخعي [ ويقلب ] [ ويذرهم ] بالياء فيهما كناية عن الله تبارك وتعالى ، وقرأ أيضاً فيما روى عنه مغيرة «وتَقلَب » بفتح التاء واللام بمعنى وتنقلب أفئدتهم وأبصارهم بالرفع فيهما{[5059]} ، «ويذرْهم » بالياء وجزم الراء ، وقالت فرقة قوله { كما } في هذه الآية إنما هي بمعنى المجازاة أي لما لم يؤمنوا أول مرة نجازيهم بأن نقلب أفئدتهم عن الهدى ونطبع على قلوبهم فكأنه قال ونحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم جزاء لما لم يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من الشرع ، والضمير في «به » يحتمل أن يعود على الله عز وجل أو على القرآن أو على النبي عليه السلام ، و { نذرهم } معناه نتركهم ، وقرأ الأعمش والهمداني «ويذرهم » بالياء وجزم الراء على وجه التخفيف ، والطغيان : التخبط في الشر والإفراط فيما يتناوله المرء ، والعمى التردد والحيرة .
يجوز أن يكون عطفاً على جملة { أنّها إذا جاءت لا يؤمنون } [ الأنعام : 109 ] فتكون بياناً لقوله { لا يؤمنون } [ الأنعام : 109 ] ، أي بأن نعطِّل أبصارَهم عن تلك الآية وعقولهم عن الاهتداء بها فلا يبصُرون ما تحتوي عليه الآية من الدّلائل ولا تفقه قلوبهم وجه الدّلالة فيتعطَّل تصديقهم بها ، وذلك بأن يحرمهم الله من إصلاح إدراكهم ، وذلك أنّهم قد خُلقت عقولهم نابية عن العلم الصّحيح بما هيّأ لها ذلك من انسلالها من أصول المشركين ، ومن نشأتها بين أهل الضّلال وتلقّي ضلالتهم ، كما بيّنتُه آنفاً . فعبّر عن ذلك الحال المخالف للفطرة السّليمة بأنّه تقليب لعقولهم وأبصارهم ، ولأنّها كانت مقلوبة عن المعروف عند أهل العقول السّليمة ، وليس داعي الشّرك فيها تقليباً عن حالة كانت صالحة لأنّها لم تكن كذلك حيناً ، ولكنّه تقليب لأنّها جاءت على خلاف ما الشّأن أن تجيء عليه .
وضمير { به } عائد إلى القرآن المفهوم من قوله : { لئن جاءتهم آية } [ الأنعام : 109 ] فإنّهم عَنوا آية غير القرآن .
والكاف في قوله : { كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة } لتشبيه حالة انتفاء إيمانهم بعد أن تجيئهم آية ممّا اقترحوا . والمعنى ونقلِّب أيديهم وأبصارهم فلا يؤمنون بالآية الّتي تجيئهم مثلَما لم يؤمنوا بالقرآن من قبلُ ، فتقليب أفئدتهم وأبصارهم على هذا المعنى يحصل في الدّنيا ، وهو الخذلان .
ويجوز أن تكون جملة { ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم } مستأنفة والواو للاستئناف ، أو أن تكون معطوفة على جملة { لا يؤمنون } [ الأنعام : 109 ] . والمعنى : ونحن نقلّب أفئدتهم وأبصارهم ، أي في نار جهنّم ، كناية عن تقليب أجسادهم كلّها . وخصّ من أجسادهم أفئدتُهم وأبصارهُم لأنّها سبب إعراضهم عن العبرة بالآيات ، كقوله تعالى : { سحروا أعْيُن النّاس } [ الأعراف : 116 ] ، أي سحروا النّاسَ بما تُخيِّلُه لهم أعينهم .
والكاف في قوله : { كما لم يؤمنوا به } على هذا الوجه للتّعليل كَقوله : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] .
وأقول : هذا الوجه يناكده قوله { أوّل مرّة } إذ ليس ثمّة مرّتان على هذا الوجه الثّاني ، فيتعيّن تأويل { أوّل مرّة } بأنّها الحياة الأولى في الدّنيا .
والتّقليب مصدر قلّب الدالّ على شدّة قلب الشّيء عن حاله الأصليّة . والقلب يكون بمعنى جعل المقابل للنظر من الشيء غير مقابل ، كقوله تعالى : { فأصبح يُقلِّب كفَّيْه على ما أنفق فيها } [ الكهف : 42 ] ، وقولهم : قَلَب ظَهْر المِجَن ، وقريب منه قوله : { قد نرى تقلّب وجهك في السّماء } [ البقرة : 144 ] ؛ ويكون بمعنى تغيير حالة الشيء إلى ضدّها لأنّه يشبه قلب ذات الشّيء .
والكاف في قوله : { كما لم يؤمنوا به } الظّاهر أنّها للتّشبيه في محلّ حال من ضمير { لا يؤمنون } [ الأنعام : 109 ] ، و« ما » مصدريّة . والمعنى : لا يؤمنون مثل انتفاء إيمانهم أوّل مرّة . والضّمير المجرور بالباء عائد إلى القرآن لأنّه معلوم من السّياق كما في قوله : { وكذّب به قومك } [ الأنعام : 66 ] ، أي أنّ المكابرة سجيّتهم فكما لم يؤمنوا في الماضي بآية القرآن وفيه أعظم دليل على صدق الرّسول عليه الصّلاة والسّلام لا يؤمنون في المستقبل بآيةٍ أخرى إذا جاءتهم .
وعلى هذا الوجه يكون قوله : { ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم } معترضاً بالعطف بين الحال وصاحبها . ويجوز أن يجعل التّشبيه للتقليب فيكون حالاً من الضّمير في { نقلّب } ، أي نقلّب أفئدتهم وأبصارهم عن فطرة الأفئدة والأبصار كما قلّبناها فلم يؤمنوا به أوّل مرّة إذ جمحوا عن الإيمان أوّلَ ما دعاهم الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ، ويصير هذا التّشبيه في قوّة البيان للتّقليب المجعول حالاً من انتفاء إيمانهم بأنّ سبب صدورهم عن الإيمان لا يزال قائماً لأنّ الله حرمهم إصلاح قلوبهم .
وجوّز بعض المفسّرين أن تكون الكاف للتّعليل على القول بأنّه من معانيها ، وخُرّج عليه قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] . فالمعنى : نقلّب أفئدتهم لأنّهم عصوا وكابروا فلم يؤمنوا بالقرآن أوّلَ ما تحدّاهم ، فنجعلُ أفئدتهم وأبصارهم مستمرّة الانقلاب عن شأن العقول والأبصار ، فهو جزاء لهم على عدم الاهتمام بالنّظر في أمر الله تعالى وبعثة رسوله ، واستخفافهم بالمبادرة إلى التّكذيب قبل التّأمّل الصّادق .
وتقديم الأفئدة على الأبصار لأنّ الأفئدة بمعنى العقول ، وهي محلّ الدّواعي والصّوارف ، فإذا لاح للقلب بارق الاستدلال وجّه الحواس إلى الأشياء وتأمّل منها . والظّاهر أنّ وجه الجمع بين الأفئدة والأبصار وعدم الاستغناء بالأفئدة عن الأبصار لأنّ الأفئدة تختصّ بإدراك الآيات العقليّة المحضة ، مثل آية الأمِّية وآيةِ الإعجاز . ولمّا لم تكفهم الآيات العقليّة ولم ينتفعوا بأفئدتهم لأنّها مقلَّبة عن الفطرة وسألوا آيات مرئيّة مبصَرة ، كأنْ يرقى في السّماء وينزلَ عليهم كتاباً في قرطاس ، أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأنّهم لو جاءتهم آية مبصرة لَمَا آمنوا لأنّ أبصارهم مقلّبة أيضاً مثل تقليب عقولهم .
وذُكِّر { أوّل } مع أنّه مضاف إلى { مرّة } إضافة الصفة إلى الموصوف لأنّ أصل « أوّل » اسمُ تفضيل . واسم التّفضيل إذا أضيف إلى النّكرة تعيّن فيه الإفراد والتّذكير ، كما تقول : خَديجَةُ أوّل النّساء إيماناً ولا تقول أولى النّساء .
والمراد بالمرّة مرّة من مَرّتَيْ مجيء الآيات ، فالمرّة الأولى هي مَجيء القرآن ، والمرّة الثّانية هي مجيء الآية المقترحة ، وهي مرّة مفروضة .
{ ونَذَرُهم } عطف على { نُقلّب } . فحُقِّق أنّ معنى { نقلّب أفئدتهم } نتركها على انقلابها الّذي خلقت عليه ، فكانت مملوءة طغياناً ومكابرة للحقّ ، وكانت تصرف أبصارهم عن النّظر والاستدلال ، ولذلك أضاف الطّغيان إلى ضميرهم للدّلالة على تأصّله فيهم ونشأتهم عليه وأنّهم حرموا لين الأفئدة الّذي تنشأ عنه الخشيةُ والذّكرى .
والطّغيان والعَمَه تقدّماً عند قوله تعالى : { ويمُدّهم في طغيانهم يعمهون } في سورة [ البقرة : 15 ] .
والظّرفيّة من قوله : { في طغيانهم } مجازية للدّلالة على إحاطة الطّغيان بهم ، أي بقلوبهم . وجملة : { ونذرهم } معطوفة على { نقلّب } . وجملة { يعمهون } حال من الضّمير المنصوب في قوله : { ونذرهم } . وفيه تنبيه على أنّ العمَه ناشيء عن الطّغيان .