{ 57 - 58 } { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ }
يبين تعالى أثرا من آثار قدرته ، ونفحة من نفحات رحمته فقال : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي : الرياح المبشرات بالغيث ، التي تثيره بإذن اللّه من الأرض ، فيستبشر الخلق برحمة اللّه ، وترتاح لها قلوبهم قبل نزوله .
{ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ } الرياح { سَحَابًا ثِقَالًا } قد أثاره بعضها ، وألفه ريح أخرى ، وألحقه ريح أخرى { سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ } قد كادت تهلك حيواناته ، وكاد أهله أن ييأسوا من رحمة اللّه ، { فَأَنْزَلْنَا بِهِ } أي : بذلك البلد الميت { الْمَاءُ } الغزير من ذلك السحاب وسخر اللّه له ريحا تدره وتفرقه بإذن اللّه .
{ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } فأصبحوا مستبشرين برحمة اللّه ، راتعين بخير اللّه ، وقوله : { كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : كما أحيينا الأرض بعد موتها بالنبات ، كذلك نخرج الموتى من قبورهم ، بعد ما كانوا رفاتا متمزقين ، وهذا استدلال واضح ، فإنه لا فرق بين الأمرين ، فمنكر البعث استبعادا له - مع أنه يرى ما هو نظيره - من باب العناد ، وإنكار المحسوسات .
وفي هذا الحث على التذكر والتفكر في آلاء اللّه والنظر إليها بعين الاعتبار والاستدلال ، لا بعين الغفلة والإهمال .
بعد كل ذلك تحدث - سبحانه - عن بعض مظاهر رحمته التي تتجلى في إرسال الرياح ، وإنزال المطر ، وعن بعض مظاهر قدرته التي تتجلى في بعث الموتى للحساب ، وفى هداية من يريد هدايته وإضلال من يريد ضلالته فقال - تعالى - : { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ . . . } .
قوله - تعالى - : { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } معطوف على ما سبق من قوله - تعالى - : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض } لبيان مظاهر قدرته ورحمته . وقرأ حمزة والكسائى " الريح " بالافراد :
و { بُشْراً } - بضم الباس فسكون الشين - مخفف و { بُشُراً } - بضمتين - جمع بشير كنذر ونذير ، أى : مبشرات بنزول الغيث المستتبع لمنفعة الخلق .
وقرأ أهل المدينة والبصرة " نشرا " - بضم النون والشين - جمع نشور - كصبور وصبر - بمعنى ناشر من النشر ضد الطى ، وفعول بمعنى فاعل يطرد جمعه .
والمعنى وهو - سبحانه - الذي يرسل الرياح مبشرات عباده بقرب نزول الغيث الذي به حياة الناس .
وقوله : { بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أى بين يدى المطر الذي هو من أبرز مظاهر رحمة الله بعباده .
قال تعالى : { وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الولي الحميد } وقال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ } قال الإمام الرازى : وقوله : { بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } من أحسن أنواع المجاز ، والسبب في ذلك أن اليدين يستعملهما العرب في معنى التقدمة على سبيل المجاز . يقال : إن الفتن تحصل بين يدى الساعة يريدون قبيلها ، كذلك مما حسن هذا المجاز أن يدى الإنسان متقدمة ، فكل ما كان يتقدم شيئا يطلق عليه لفظ اليدين على سبيل المجاز لأجل هذه المشابهة ، فلما كانت الرياح تتقدم المطر ، لا جرم عبر عنه بهذا اللفظ .
وقوله : { حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } حتى : غاية لقوله : { يُرْسِلُ } . وأقلت : أى حملت . وحقيقة أقله وجده قليلا ثم استعمل بمعنى حمله . لأن الحامل لشىء يستقل ما يحمله بزعم أنه ما يحمله قليل .
و { سَحَاباً } أى : غيما ، سمى بذلك لانسحابه في الهواء ، وهو اسم جنس جمعى يفرق بينه وبين واحده بالتاء كتمر وتمرة ، وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ويجمع .
و { ثِقَالاً } جمع ثقيلة من الثقل - كعنب - ضد الخفة . يقال : ثقل الشىء - ككرم - ثقال وثقالة فهو ثقيل وهى ثقيلة .
والمعنى : أن الله - تعالى - هو الذي يرسل الرياح مبشرات بنزول الغيث ، حتى إذا حملت الرياح سحابا ثقالا من كثرة ما فيها من الماء ، سقناه - أى السحاب إلى " بلد ميت " أى إلى أرض لا نبات فيها ولا مرعى ، فاهتزت وربت وأخرجت النبات والمرعة . فأطلق - سبحانه - الموت على الأرض التي لا نبات فيها ، وأطلق الحياة على الأرض الزاخرة بالنبات والمرعى لأن حياتها بذلك .
قال - تعالى - : { والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النشور }
وقوله : { فَأَنْزَلْنَا بِهِ المآء } أى : فأنزلنا في هذا البلد الميت الماء الذي يحمله السحاب . فالباء في { بِهِ } للظرفية .
وقيل إن الضمير في { بِهِ } للسحاب ، أى : فأنزلنا بالسحاب الماء وعليه فتكون الباء للسببية .
وقوله : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات } أى : فأخرجنا بهذا الماء من كل أنواع الثمرات المعتادة في كل بلد ، تخرج به على الوجه الذي أجرى الله العادة بها ودبرها .
فليس المراد أن كل بلد ميت تخرج منه أنواع الثمار التي خلقها الله ، متى نزل به الماء ، وإنما المراد أن كل بلد تخرج منه الثمار التي تناسب تربته على حسب مشيئة الله وفضله وإحسانه ، إذ من المشاهد أن البلاد تختلف أرضها فيما تخرجه ، وهذا أدل على قدرة الله ، وواسع رحمته .
وقوله : { كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } إشارة إلى إخراج الثمرات ، أو إلى إحياء البلد الميت .
أى : مثل ما أحيينا الأرض بعد موتها وجعلناها زاخرة بأنواع الثمرات بسبب نزول الماء عليها ، نخرج الموتى من الأرض ونبعثهم أحياء في اليوم الآخر لنحاسبهم على أعمالهم ، فالتشبيه في مطلق الإخراج من العدم . وهذا رد على منكرى البعث بدليل ملزم ، لأن من قدر على إخراج النبات من الأرض بعد نزول الماء عليها ، قادر - أيضا - على إخراج الموتى من قبورهم .
وقوله : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } تذييل قصد به الحث على التدبر والتفكر ، أى : لعلكم تذكرون وتعتبرون بما وصفنا لكم فيزول إنكاركم للبعث والحساب .
قال الشيخ القاسمى : " من أحكام الآية كما قال الجشمى : أنها تدل على على عظم نعمة الله علينا بالمطر ، وتدل على الحجاج في إحياء الموتى بإحياء الارض بالنبات وتدل على أنه أراد من الجميع التذكر ، وتدل على أنه أجرى العادة بإخراج النبات بالماء . وإلا فهو قادر على إخراجه من غير ماء فأجرى العادة على وجوه دبرها عليها على ما نشاهده ، لضرب من المصلحة دينا ودنيا . . . "
{ ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .
إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة .
والمعنى : أن أهل النار - بعد أن أحاط بهم العذاب المهين - أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكى نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم .
وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .
وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .
فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .
وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }
ومرة أخرى يفتح السياق للقلب البشري صفحة من صفحات الكون المعروضة للأنظار ؛ ولكن القلوب تمر بها غافلة بليدة ؛ لا تسمع نطقها ، ولا تستشعر إيقاعها . . إنها صفحة يفتحها على ذكر رحمة الله في الآية السابقة ؛ نموذجاً لرحمة الله في صورة الماء الهاطل ، والزرع النامي ، والحياة النابضة بعد الموت والخمود :
( وهو الذي يرسل الرياح ، بشراً بين يدي رحمته ، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت ، فأنزلنا به الماء ، فأخرجنا به من كل الثمرات . . كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ) . .
إنها آثار الربوبية في الكون . آثار الفاعلية والسلطان والتدبير والتقدير . وكلها من صنع الله ؛ الذي لا ينبغي أن يكون للناس رب سواه . وهو الخالق الرازق بهذه الأسباب التي ينشئها برحمته للعباد .
وفي كل لحظة تهب ريح . وفي كل وقت تحمل الريح سحاباً . وفي كل فترة ينزل من السحاب ماء .
ولكن ربط هذا كله بفعل الله - كما هو في الحقيقة - هو الجديد الذي يعرضه القرآن هذا العرض المرتسم في المشاهد المتحركة ، كأن العين تراه .
إنه هو الذي يرسل الرياح مبشرات برحمته . والرياح تهب وفق النواميس الكونية التي أودعها الله هذا الكون - فما كان الكون لينشىء نفسه ، ثم يضع لنفسه هذه النواميس التي تحكمه ! - ولكن التصور الإسلامي يقوم على اعتقاد أن كل حدث يجري في الكون - ولو أنه يجري وفق الناموس الذي قدره الله - إنما يقع ويتحقق - وفق الناموس - بقدر خاص ينشئه ويبرزه في عالم الواقع . وأن الأمر القديم بجريان السنة ، لا يتعارض مع تعلق قدر الله بكل حادث فردي من الأحداث التي تجري وفق هذه السنة . فإرسال الرياح - وفق النواميس الإلهية في الكون - حدث من الأحداث ، يقع بمفرده وفق قدر خاص .
وحمل الرياح للسحاب يجري وفق نواميس الله في الكون أيضاً . ولكنه يقع بقدر خاص . ثم يسوق الله السحاب - بقدر خاص منه - إلى ( بلد ميت ) . . صحراء أو جدباء . . فينزل منه الماء - بقدر كذلك خاص - فيخرج من كل الثمرات - بقدر منه خاص - يجري كل أولئك وفق النواميس التي أودعها طبيعة الكون وطبيعة الحياة .
إن التصور الإسلامي في هذا الجانب ينفي العفوية والمصادفة في كل ما يجري في الكون . ابتداء من نشأته وبروزه ، إلى كل حركة فيه وكل تغيير وكل تعديل . كما ينفي الجبرية الآلية ، التي تتصور الكون كأنه آلة ، فرغ صانعها منها ، وأودعها القوانين التي تتحرك بها ، ثم تركها تتحرك حركة آلية جبرية حتمية وفق هذه القوانين التي تصبح بذلك عمياء !
إنه يثبت الخلق بمشيئة وقدر . ثم يثبت الناموس الثابت والسنة الجارية . ولكنه يجعل معها القدر المصاحب لكل حركة من حركات الناموس ولكل مرة تتحقق فيها السنة . القدر الذي ينشىء الحركة ويحقق السنة ، وفق المشيئة الطليقة من وراء السنن والنواميس الثابتة .
إنه تصور حي . ينفي عن القلب البلادة . بلادة الآلية والجبرية . ويدعها أبداً في يقظة وفي رقابة . . كلما حدث حدثٌ وفق سنة الله . وكلما تمت حركة وفق ناموس الله . انتفض هذا القلب ، يرى قدر الله المنفذ ، ويرى يد الله الفاعلة ، ويسبح لله ويذكره ويراقبه ، ولا يغفل عنه بالآلية الجبرية ولا ينساه !
هذا تصور يستحيي القلوب ، ويستجيش العقول ، ويعلقها جميعاً بفاعلية الخالق المتجددة ؛ وبتسبيح البارىء الحاضر في كل لحظة وفي كل حركة وفي كل حدث آناء الليل وأطراف النهار .
كذلك يربط السياق القرآني بين حقيقة الحياة الناشئة بإرادة الله وقدره في هذه الأرض ، وبين النشأة الآخرة ، التي تتحقق كذلك بمشيئة الله وقدره ؛ على المنهج الذي يراه الأحياء في نشأة هذه الحياة :
( كذلك نخرج الموتى ، لعلكم تذكرون ) . .
إن معجزة الحياة ذات طبيعة واحدة ، من وراء أشكالها وصورها وملابساتها . . هذا ما يوحي به هذا التعقيب . . وكما يخرج الله الحياة من الموات في هذه الأرض ، فكذلك يخرج الحياة من الموتى في نهاية المطاف . . إن المشيئة التي تبث الحياة في صور الحياة وأشكالها في هذه الأرض ، هي المشيئة التي ترد الحياة في الأموات . وإن القدر الذي يجري بإخراج الحياة من الموات في الدنيا ، لهو ذاته القدر الذي يجري بجريان الحياة في الموتى مرة أخرى . .
فالناس ينسون هذه الحقيقة المنظورة ؛ ويغرقون في الضلالات والأوهام !
{ وهو الذي يرسل الرياح } وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي " الريح " على الوحدة . { نُشرا } جمع نشور بمعنى ناشر ، وقرأ ابن عامر " نشرا " بالتخفيف حيث وقع وحمزة والكسائي " نشرا " بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات ، أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان . وعاصم { بُشرا } وهو تخفيف بشر جمع بشير وقد قرئ به و{ بشرا } بفتح الباء مصدر بشره بمعنى باشرات ، أو للبشارة وبشرى . { بين يدي رحمته } قدام رحمته ، يعني المطر فإن الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه . { حتى إذا أقلّت } أي حملت ، واشتقاقه من القلة فإن المقل للشيء يستقله . { سحابا ثقالا } بالماء جمعه لأن السحاب جمع بمعنى السحائب . { سقناه } أي السحاب وإفراد الضمير باعتبار اللفظ . { لبلد ميّت } لأجله أو لإحيائه أو لسقيه . وقرئ { ميت } . { فأنزلنا به الماء } بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق أو بالريح وكذلك . { فأخرجنا به } ويحتمل فيه عود الضمير إلى { الماء } وإذا كان ل { لبلد } فالباء للإلصاق في الأول وللظرفية في الثاني ، وإذا كان لغيره فهي للسببية فيهما . { من كل الثمرات } من كل أنواعها . { كذلك نخرج الموتى } الإشارة فيه إلى إخراج الثمرات ، أو إلى إحياء البلد الميت أي كما نحييه بإحداث القوة النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات ، نخرج الموتى من الأجداث ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواس . { لعلكم تذكّرون } فتعلمون أن من قدر على ذلك قدر على هذا .
هذه آية اعتبار واستدلال ، وقرأ نافع وأبو عمرو «الرياح » بالجمع «نُشُراً » بضم النون والشين ، قال أبو حاتم ، وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء ، واختلف عنهم الأعرج ، وأبي جعفر ونافع وأبي عمرو وعيسى بن عمر وأبي يحيى وأبي نوفل الأعرابيين ، وقرأ ابن كثير «الريح » واحدة «نُشْراً » بضمها أيضاً ، وقرأ ابن عامر «الرياح » جمعاً «نُشْراً » بضم النون وسكون الشين ، قال أبو حاتم : ورويت عن الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء وقتادة وأبي عمرو ، وقرأ حمزة والكسائي ، «الريح » واحدة ، «نَشْراً » بفتح النون وسكون الشين ، قال أبو حاتم وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وزر بن حبيش وابن وثاب وإبراهيم وطلحة والأعمش ومسروق بن الأجدع ، وقرأ ابن جني قراءة مسروق «نَشَرا » بفتح النون والشين ، وقرأ عاصم «الرياح » جماعة «بُشْراً » بالباء المضمومة والشين الساكنة ، وروي عنه «بُشُراً » بضم الباء والشين ، وقرأ بها ابن عباس والسلمي وابن أبي عبلة ، وقرأ محمد بن السميفع وأبو قطيب «بُشرى » على وزن فعل بضم الباء ، ورويت عن أبي يحيى وأبي نوفل ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «بَشْرا » بفتح الياء وسكون الشين ، قال الزهراوي : ورويت هذه عن عاصم .
ومن جمع الريح في هذه الآية فهو أسعد ، وذلك أن الرياح حيث وقعت في القرآن فهي مقترنة بالرحمة كقوله { ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } وقوله { وأرسلنا الرياح لواقح } وقوله { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً } وأكثر ذكر الريح مفردة ، إنما هو بقرينة عذاب ، كقوله { وفي عاد إذا أرسلنا عليهم الريح العقيم } وقوله { وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية } وقوله { بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها } نحا هذا المنحى يحيى بن يعمر وأبو عمرو بن العلاء وعاصم ، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت الريح يقول «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » .
قال القاضي أبو محمد : والمعنى في هذا كله بين ، وذلك أن ريح السقيا والمطر أنها هي منتشرة لينة تجيء من هاهنا وتتفرق فيحسن من حيث هي منفصلة الأجزاء متغايرة المهب يسيراً أن يقال لها رياح ، وتوصف بالكثرة ريح الصر والعذاب فهي عاصفة صرصر جسد واحد ، شديدة الَمِّر ، مهلكة بقوتها وبما تحمله أحياناً من الصر المحرق ، فيحسن من حيث هي شديدة الاتصال أن تسمى ريحاً مفردة ، وكذلك أفردت الريح في قوله تعالى : { وجرين بهم بريح طيبة } من حيث جري السفن إنما جرت بريح متصلة كأنها شيء واحد فأفردت لذلك ووصفت بالطيب إزالة الاشتراك بينها وبين الريح المكروهة ، وكذلك ريح سليمان عليه السلام إنما كانت تجري بأمره أو تعصف في قفوله وهي متصلة ، وبعد فمن قرأ في هذه الآية الريح بالإفراد فإنما يريد به اسم الجنس ، وأيضاً فتقيدها ب «نشر » يزيل الاشتراك .
والإرسال في الريح هو بمعنى والإجراء والإطلاق والإسالة ومنه الحديث فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ، والريح تجمع في القليل أرواح وفي الكثير رياح لأن العين من الريح واو انقلبت في الواحد ياء للكسر الذي قبلها ، وكذلك في الجمع الكثير ، وصحت في القليل لأنه لا شيء فيه يوجب الإعلال ، وأما «نُشُراً » بضم النون والشين فيحتمل أن يكون جمع ناشر على النسب أي ذات نشر من الطي أو نشور من الحياة ، ويحتمل «نَشُراً » أن يكون جمع نشور بفتح النون وضم الشين كرسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر ، ويحتمل «نشرا » أن يكون كالمفعول بمعنى منشور كركوب بمعنى مركوب ، ويحتمل أن يكون من أبنية اسم الفاعل لأنها تنشر الحساب ، وأما مثلا الأول في قولنا ناشر ونشر فشاهد وشهد ونازل ونزل ، كما قال الشاعر :
. . . . . . . . . . . . . . . *** أو تنزلون فإنّا معشر نزل
وقاتل وقتل ومنه قول الأعشى : [ البسيط ]
. . . . . . . . . . . . *** إنا لمثلكم يا قومنا قتل
وأما من قرأ «نُشْراً » بضم النون وسكون الشين فإنما خفف الشين من قوله { نشراً } وأما من قرأ «نَشْراً » بفتح النون وسكون الشين فهو مصدر في موضع الحال من الريح ، ويحتمل في المعنى أن يراد به من النشر الذي هو خلاف الطيّ كل بقاء الريح دون هبوب طيّ ، ويحتمل أن يكون من أن النشر الذي هو الإحياء كما قال الأعشى : [ السريع ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يا عجبا للميّت الناشر
وأما من قرأ «نَشَراً » بفتح النون والشين وهي قراءة شاذة فهو اسم وهو على النسب ، قال أبو الفتح أي ذوات نشر ، والنَّشَر أن تنتشر الغنم بالليل فترعى ، فشبه السحاب ، في انتشاره وعمومه بذلك ، وأما «بُشُراً » بضم الباء والشين فجمع بشير كنذير ونذر ، و «بشْراً » بسكون الشين مخفف منه و «بَشْراً » بفتح الباء وسكون الشين مصدر و «بشرى » مصدر أيضاً في موضع الحال . و «الرحمة » في هذه الآية المطر ، و { بين يدي } أي أمام رحمته وقدامها وهي هنا استعارة وهي حقيقة فيما بين يدي الإنسان من الأجرام .
و { أقلت } معناه : رفعت من الأرض واستقلت بها ، ومنه القلة وكأن المقل يرد ما رفع قليلاً إذا قدر عليه ، و { ثقالاً } معناه من الماء ، والعرب تصف السحاب بالثقل والَّدْلح ، ومنه قول قيس بن الخطيم : [ المتقارب ]
بأحسنَ منها ولا مزنة*** دلوح تكشف أدجانها
والريح تسوق السحاب من وارئها فهو سوق حقيقة ، والضمير في { سقناه } عائد على السحاب ، واستند الفعل إلى ضمير اسم الله تعالى من حيث هو إنعام ، وصفه البلد بالموت ، استعارة بسبب سعته وجدوبته وتصويح نباته ، وقرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش : «لبلد ميْت » بسكون الياء وشدها الباقون والضمير في قوله : { فأنزلنا به } يحتمل أن يعود على السحاب أي منه ، ويحتمل أن يعود على البلد ، ويحتمل أن يعود على الماء وهو أظهرها ، وقال السدي في تفسير هذه الآية : إن الله تعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين طرف السماء والأرض حيث يلتقيان فتخرجه من َثَّم ، ثم تنشره فتبسطه في السماء ثم تفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم تمطر السحاب بعد ذلك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التفصيل لم ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله تبارك وتعالى { كذلك نخرج الموتى } يحتمل مقصدين أحدهما أن يراد كهذه القدرة العظيمة في إنزال الماء وإخراج الثمرات به من الأرض المحدبة هي القدرة على إحياء الموتى من الأجداث وهذه مثال لها ، ويحتمل أن يراد أن هكذا يصنع بالأموات من نزول المطر عليهم حتى يحيوا به فيكون الكلام خبراً لا مثلاً ، وهذا التأويل إنما يستند إلى الحديث الذي ذكره الطبري عن أبي هريرة أن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى مطر عليهم مطر من ماء تحت العرش يقال له ماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع ، فإذا كملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ، ثم تلقى عليهم نومة فينامون فإذا نفخ في الصور الثانية قاموا وهم يجدون طعم النوم ، فيقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ، فيناديهم المنادي هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن ربكم الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره «هُوَ الّذِي يُرْسِلُ الرّياحُ نَشْرا بينَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ». والنشر -بفتح النون وسكون الشين- في كلام العرب من الرياح الطيبة اللينة الهبوب التي تنشئ السحاب، وكذلك كلّ ريح طيبة عندهم فهي نشر. وبهذه القراءة قرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين خلا عاصم بن أبي النجود، فإنه كان يقرأه:"بُشْرا" على اختلاف عنه فيه، فروى ذلك بعضهم عنه: بُشْرا بالباء وضمها وسكون الشين، وبعضهم بالباء وضمها وضمّ الشين، وكان يتأوّل في قراءته ذلك كذلك قوله: "وَمِنْ آياتِه أن يُرْسِلَ الرّياحَ مُبَشّراتٍ": تبشر بالمطر، وأنه جمع بشير بُشُرا، كما يجمع النذير نُذُرا. وأما قرّاء المدينة وعامة المكيين والبصريين، فإنهم قرأوا ذلك: «وَهُوَ الّذِي يُرْسِلُ الرّيَاحَ نُشُرا» بضم النون والشين، بمعنى جمع نشور جمع نشرا...
وأما قوله:"بين يدي رحمته "فإنه يقول: قدام رحمته وأمامها، والعرب كذلك تقول لكل شيء حدث قدام شيء وأمامه: جاء بين يديه، لأن ذلك من كلامهم، جرى في إخبارهم عن بني آدم وكثر استعماله فيهم حتى قالوا ذلك في غير ابن آدم وما لا يد له.
والرحمة التي ذكرها جلّ ثناؤه في هذا الموضع المطر. فمعنى الكلام إذن: والله الذي يرسل الرياح لينا هبوبها، طيبا نسيمها، أمام غيثه الذي يسوقه بها إلى خلقه، فينشئ بها سحابا ثقالاً، حتى إذا أقلّتها، والإقلال بها: حملها، كما يقال: استقلّ البعير بحمله وأقلّه: إذا حمله فقام به. ساقه الله لإحياء بلد ميت قد تعفت مزارعه ودرست مشاربه وأجدب أهله، فأنزل به المطر وأخرج به من كلّ الثمرات...
"كذلكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ" فإنه يقول تعالى ذكره: كما نحيي هذا البلد الميت بما ننزل به من الماء الذي ننزله من السحاب، فنخرج به من الثمرات بعد موته وجدوبته وقحوط أهله، كذلك نخرج الموتى من قبورهم أحياء بعد فنائهم ودروس آثارهم. "لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ" يقول تعالى ذكره للمشركين به من عبدة الأصنام، المكذّبين بالبعث بعد الممات، المنكرين للثواب والعقاب: ضربت لكم أيها القوم هذا المثل الذي ذكرت لكم من إحياء البلد الميت بقطر المطر الذي يأتي به السحاب، الذي تنشره الرياح التي وصفت صفتها لتعتبروا فتذكروا وتعلموا أن من كان ذلك من قدرته فيسير في إحياء الموتى بعد فنائها وإعادتها خلقا سويّا بعد دروسها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... يذكّرهم عز وجل في هذا حكمته وقدرته ونعمه ليحتجّ بها عليهم بالبعث. أما حكمته [ففي ما] يرسل الرياح والأمطار، ويسوقها إلى المكان الذي يريد أن يمطر فيه ما لم يعلموا ذلك، ولا شاهدوه، وما عرفوا أن كيف يرسل المطر من السماء؟ وكيف يرسل الرياح، ويسوق السحاب؟ ففي ذلك تذكير حكمته إياهم. وأما نعمه [فهي ما يسوق من] السحاب بالريح إلى المكان الذي فيه حاجة إلى المطر؛ وذلك من عظيم نعمه ليعلم أن ذلك كان برحمته، لا لأنهم كانوا مستوجبين لذلك. وأما ما ذكّرهم من قدرته فهو ما ذكر من إحياء الأرض بعد ما كانت ميتة ليعلم أن الذي قدر على إحياء الأرض وإخراج النبات والثمر بعد ما كان ميّتا قادر على إحياء الموتى وبعثهم بعد موتهم...
والنشر هو من جمع نشور، والنشر هو من الإحياء، ومن التفريق،... ثم قيل في قوله تعالى: {نشرا} الله عز وجل هو الذي يفرّق، ويسوق ذلك السحاب،... {لعلكم تذكّرون} وتتفكرون، وتعرفون قدرته وسلطانه على الإحياء بعد الموت، أو تذكّرون، وتتّعظون ...
وبعد فإن إعادة الشيء في عقول الخلق أهون وأيسر من ابتداء الإنشاء ...
... وهو أهون عليه أي في عقولكم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... "كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ "فيؤدّيكم التذكر إلى أنه لا فرق بين الإخراجين، إذ كل واحد منهما إعادة للشيء بعد إنشائه.
في تقرير النظم، أنه تعالى لما أقام الدلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم، أقام الدلالة في هذه الآية على صحة القول بالحشر والنشر والبعث والقيامة ليحصل بمعرفة هاتين الآيتين كل ما يحتاج إليه في معرفة المبدأ والمعاد.
{بين يدي رحمته} أي بين يدي المطر الذي هو رحمته والسبب في حسن هذا المجاز أن اليدين يستعملهما العرب في معنى التقدمة على سبيل المجاز يقال: إن الفتن تحدث بين يدي الساعة، يريدون قبيلها، والسبب في حسن هذا المجاز، أن يدي الإنسان متقدماته فكل ما كان يتقدم شيئا يطلق عليه لفظ اليدين على سبيل المجاز لأجل هذه المشابهة فلما كانت الرياح تتقدم المطر، لا جرم عبر عنه بهذا اللفظ. فإن قيل: فقد نجد المطر ولا تتقدمه الرياح فنقول: ليس في الآية ان هذا التقدم حاصل في كل الأحوال، فلم يتوجه السؤال، وأيضا فيجوز أن تتقدمه هذه الرياح وإن كنا لا نشعر بها.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
أخبر سبحانه أنهما إحياءان، وأن أحدهما معتبر بالآخر مقيس عليه.
ثم ذكر قياسا آخر: أن من الأرض ما يكون أرضا طيبة، فإذا أنزلنا عليها الماء أخرجت نباتها بإذن ربها، ومنها ما تكون أرضا خبيثة، لا تخرج نباتها إلا نكدا، أي قليلا غير منتفع به فهذه إذا أنزل عليها الماء لم تخرج ما أخرجت الأرض الطيبة فشبه سبحانه الوحي الذي أنزله من السماء على القلوب بالماء الذي أنزله على الأرض، بحصول الحياة بهذا وهذا.
وشبه القلوب بالأرض، إذا هي محل الأعمال، كما أن الأرض محل النبات، وأن القلب الذي لا ينتفع بالوحي، ولا يزكو عليه، ولا يؤمن به كالأرض التي لا تنتفع بالمطر، ولا تخرج نباتها به إلا قليلا، لا ينفع..
وأن القلب الذي آمن بالوحي وزكا عليه، وعمل بما فيه كالأرض التي أخرجت نباتها بالمطر.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
لما ذكر تعالى أنه خالق 24 السموات والأرض، وأنه المتصرف الحاكم المدبِّر المسخِّر، وأرشد إلى دعائه؛ لأنه على ما يشاء قادر -نبه تعالى على أنه الرزّاق، وأنه يعيد الموتى يوم القيامة فقال:"وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نشْرًا" أي: ناشرة بين يدي السحاب الحامل للمطر
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومرة أخرى يفتح السياق للقلب البشري صفحة من صفحات الكون المعروضة للأنظار؛ ولكن القلوب تمر بها غافلة بليدة؛ لا تسمع نطقها، ولا تستشعر إيقاعها.. إنها صفحة يفتحها على ذكر رحمة الله في الآية السابقة؛ نموذجاً لرحمة الله في صورة الماء الهاطل، والزرع النامي، والحياة النابضة بعد الموت والخمود: (وهو الذي يرسل الرياح، بشراً بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت، فأنزلنا به الماء، فأخرجنا به من كل الثمرات.. كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون).. إنها آثار الربوبية في الكون. آثار الفاعلية والسلطان والتدبير والتقدير. وكلها من صنع الله؛ الذي لا ينبغي أن يكون للناس رب سواه. وهو الخالق الرازق بهذه الأسباب التي ينشئها برحمته للعباد. وفي كل لحظة تهب ريح. وفي كل وقت تحمل الريح سحاباً. وفي كل فترة ينزل من السحاب ماء. ولكن ربط هذا كله بفعل الله -كما هو في الحقيقة- هو الجديد الذي يعرضه القرآن هذا العرض المرتسم في المشاهد المتحركة، كأن العين تراه. إنه هو الذي يرسل الرياح مبشرات برحمته. والرياح تهب وفق النواميس الكونية التي أودعها الله هذا الكون -فما كان الكون لينشئ نفسه، ثم يضع لنفسه هذه النواميس التي تحكمه!- ولكن التصور الإسلامي يقوم على اعتقاد أن كل حدث يجري في الكون -ولو أنه يجري وفق الناموس الذي قدره الله- إنما يقع ويتحقق -وفق الناموس- بقدر خاص ينشئه ويبرزه في عالم الواقع. وأن الأمر القديم بجريان السنة، لا يتعارض مع تعلق قدر الله بكل حادث فردي من الأحداث التي تجري وفق هذه السنة. فإرسال الرياح -وفق النواميس الإلهية في الكون- حدث من الأحداث، يقع بمفرده وفق قدر خاص. وحمل الرياح للسحاب يجري وفق نواميس الله في الكون أيضاً. ولكنه يقع بقدر خاص. ثم يسوق الله السحاب -بقدر خاص منه- إلى (بلد ميت).. صحراء أو جدباء.. فينزل منه الماء -بقدر كذلك خاص- فيخرج من كل الثمرات -بقدر منه خاص- يجري كل أولئك وفق النواميس التي أودعها طبيعة الكون وطبيعة الحياة. إن التصور الإسلامي في هذا الجانب ينفي العفوية والمصادفة في كل ما يجري في الكون. ابتداء من نشأته وبروزه، إلى كل حركة فيه وكل تغيير وكل تعديل. كما ينفي الجبرية الآلية، التي تتصور الكون كأنه آلة، فرغ صانعها منها، وأودعها القوانين التي تتحرك بها، ثم تركها تتحرك حركة آلية جبرية حتمية وفق هذه القوانين التي تصبح بذلك عمياء! إنه يثبت الخلق بمشيئة وقدر. ثم يثبت الناموس الثابت والسنة الجارية. ولكنه يجعل معها القدر المصاحب لكل حركة من حركات الناموس ولكل مرة تتحقق فيها السنة. القدر الذي ينشئ الحركة ويحقق السنة، وفق المشيئة الطليقة من وراء السنن والنواميس الثابتة. إنه تصور حي. ينفي عن القلب البلادة. بلادة الآلية والجبرية. ويدعها أبداً في يقظة وفي رقابة.. كلما حدث حدثٌ وفق سنة الله. وكلما تمت حركة وفق ناموس الله. انتفض هذا القلب، يرى قدر الله المنفذ، ويرى يد الله الفاعلة، ويسبح لله ويذكره ويراقبه، ولا يغفل عنه بالآلية الجبرية ولا ينساه! هذا تصور يستحيي القلوب، ويستجيش العقول، ويعلقها جميعاً بفاعلية الخالق المتجددة؛ وبتسبيح البارئ الحاضر في كل لحظة وفي كل حركة وفي كل حدث آناء الليل وأطراف النهار. كذلك يربط السياق القرآني بين حقيقة الحياة الناشئة بإرادة الله وقدره في هذه الأرض، وبين النشأة الآخرة، التي تتحقق كذلك بمشيئة الله وقدره؛ على المنهج الذي يراه الأحياء في نشأة هذه الحياة: (كذلك نخرج الموتى، لعلكم تذكرون).. إن معجزة الحياة ذات طبيعة واحدة، من وراء أشكالها وصورها وملابساتها.. هذا ما يوحي به هذا التعقيب.. وكما يخرج الله الحياة من الموات في هذه الأرض، فكذلك يخرج الحياة من الموتى في نهاية المطاف.. إن المشيئة التي تبث الحياة في صور الحياة وأشكالها في هذه الأرض، هي المشيئة التي ترد الحياة في الأموات. وإن القدر الذي يجري بإخراج الحياة من الموات في الدنيا، لهو ذاته القدر الذي يجري بجريان الحياة في الموتى مرة أخرى.. (لعلكم تذكرون).. فالناس ينسون هذه الحقيقة المنظورة؛ ويغرقون في الضلالات والأوهام!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وأطلق الإرسال على الانتقال على وجه الاستعارة، فإرسال الرّياح هبوبها من المكان الذي تهب فيه ووصولها، وحَسَّن هذه الاستعارةَ أنّ الرّيح مسخّرة إلى المكان الذي يريد الله هبوبها فيه فشُبهت بالعاقل المرسَل إلى جهة مَّا، ومن بدائع هذه الاستعارة أنّ الرّيح لا تفارق كُرَة الهواء كما تقدّم عند قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} الآية في سورة [البقرة: 164]. فتصريفُ الرّياح من جهة إلى جهة أشبَهُ بالإرسالِ مِنْه بالإيجاد...
... والنَّشور الرّياح الحيّة الطيّبة لأنّها تنثر السّحاب، أي تبثُّه وتكثره في الجوّ، كالشّيء المنشور، ويجوز أن يكون فَعولاً بمعنى مفعول، أي منشورة، أي مبْثوثة في الجهات، متفرّقة فيها، لأنّ النّشر هو التّفريق في جهات كثيرة.
ومعنى ذلك أنّ ريح المَطر تكون ليّنة، تجيء مرّة من الجنوب ومرّة من الشّمال، وتتفرّق في الجهات حتّى ينشأ بها السّحاب ويتعدّد سحابات مبثوثة...
فحصل من مجموع هذه القراءات أنّ الرّياح تنشر السّحاب، وأنّها تأتي من جهات مختلفة تتعاقب فيكون ذلك سبب امتلاء الأسحبة بالماء وأنّها تحيي الأرض بعد موتها، وأنّها تبشّر النّاس بهبوبها، فيدخل عليهم بها سرور.
.. والرّحمة هذه أريد بها المطر، فهو من إطلاق المصدر على المفعول، لأنّ الله يرحم به. والقرينة على المراد بقيّة الكلام، وليست الرّحمة من أسماء المطر في كلام العرب فإنّ ذلك لم يثبت، وإضافة الرّحمة إلى اسم الجلالة في هذه الآية تبعد دعوى من ادعاها من أسماء المطر. والمقصد الأوّل من قوله: {وهو الذي يرسل الرياح} تقريع المشركين وتفنِيد إشراكهم، ويتبعه تذكير المؤمنين وإثارة اعتبارهم، لأنّ الموصول دلّ على أنّ الصّلة معلومة الانتساب للموصول، لأنّ المشركين يعلمون أنّ للرّياح مُصرّفاً وأنّ للمطر مُنْزلاً، غير أنّهم يذهلون أو يتذاهلون عن تعيين ذلك الفاعل، ولذلك يجيئون في الكلام بأفعال نزول المطر مبنيّة إلى المجهول غالباً، فيقولون: مُطرنا بنَوْء الثّريا ويقولون: غِثْنَا مَا شِئْنَا.
مبنياً للمجهول أي أُغثنا، فأخبر الله تعالى بأنّ فاعل تلك الأفعال هو الله، وذلك بإسناد هذا الموصول إلى ضمير الجلالة في قوله: {وهو الذي يرسل الرياح} أي الذي علمتم أنّه يرسل الرّياح وينزل الماء، هو اللَّهُ تعالى كقوله {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16]، فالخبر مسوق لتعيين صاحب هذه الصّلة. فهو بمنزلة الجواب عن استفهام مقصود منه طلب التّعيين في نحو قولهم: أرَاحل أنت أم ثاوٍ، ولذلك لم يكن في هذا الإسناد قصر لأنّه لم يقصد به رد اعتقاد، فإنّهم لم يكونوا يزعمون أنّ غير الله يرسل الرّياح، ولكنّهم كانوا كمن يجهل ذلك من جهة إشراكهم معه غيرَه، فروعي في هذا الإسناد حالُهم ابتداء، ويَحصل رعي حال المؤمنين تبعاً، لأنّ السّياق مناسب لمخاطبة الفريقين كما تقدّم في الآية السّابقة.
.. الثّقال: البطيئة التّنقّل لما فيها من رطوبة الماء، وهو البخار، وهو السّحاب المرجوّ منه المطر..
ومعنى {أقلت}، حملت مشتق من القلّة لأنّ الحامل يَعُد محموله قليلاً فالهمزة فيه للجعل.
وإقلال الرّيح السّحاب هو أنّ الرّياح تمرّ على سطح الأرض فيتجمّع بها ما على السّطح من البخار، وترفعه الرّياح إلى العلوّ في الجوّ، حتّى يبلغ نقطة باردة في أعلى الجوّ، فهنالك ينقبض البخار وتتجمّع أجزاؤه فيصير سحابات، وكلّما انضمّت سحابة إلى أخرى حصلت منهما سحابة أثقلُ من إحداهما حينَ كانت منفصلة عن الأخرى، فيقلّ انتشارها إلى أن تصير سحاباً عظيماً فيثقل، فينماع، ثمّ ينزل مطراً. وقد تبيّن أنّ المراد من قوله: {أقلت} غير المراد من قوله في الآية الأخرى {فتثير سحاباً} [الروم: 48]...
... وحقيقة السَّوْق أنّه تسيير مَا يمشي ومُسَيِّرُه وراءه يُزجيه ويَحثُّه، وهو هنا مستعار لتسير السّحاب بأسبابه التي جعلها الله، وقد يجعل تمثيلاً إذا رُوعي قوله: {أقلت سحاباً} أي: سقناه بتلك الرّيح إلى بلد، فيكون تمثيلاً لحالة دفع الرّيح السّحاب بحالة سوق السّائق الدّابة.
واللاّم في قوله: {لبلد} لام العلّة، أي لأجل بلد ميّت، وفي هذه اللاّم دلالة على العناية الرّبانية بذلك البلد فلذلك عدل عن تعدية (سقناه) بحرف (إلى).
والبلد: السّاحة الواسعة من الأرض.
والميّت: مجاز أطلق على الجانب الذي انعدم منه النّبات، وإسناد الموت المجازي إلى البلد هو أيضاً مجاز عقلي، لأنّ الميّت إنّما هو نباتُه وثَمره، كما دلّ عليه التّشبيه في قوله: {كذلك نخرج الموتى}.