ومن آرائهم السخيفة أنهم يجعلون بعض الأنعام ، ويعينونها –محرما ما في بطنها على الإناث دون الذكور ، فيقولون : { مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا } أي : حلال لهم ، لا يشاركهم فيها النساء ، { وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } أي : نسائنا ، هذا إذا ولد حيا ، وإن يكن ما [ في ] بطنها يولد ميتا ، فهم فيه شركاء ، أي : فهو حلال للذكور والإناث .
{ سَيَجْزِيهِمْ } الله { وَصْفَهُمْ } حين وصفوا ما أحله الله بأنه حرام ، ووصفوا الحرام بالحلال ، فناقضوا شرع الله وخالفوه ، ونسبوا ذلك إلى الله . { إِنَّهُ حَكِيمٌ } حيث أمهل لهم ، ومكنهم مما هم فيه من الضلال . { عَلِيمٌ } بهم ، لا تخفى عليه خافية ، وهو تعالى يعلم بهم وبما قالوه عليه وافتروه ، وهو يعافيهم ويرزقهم جل جلاله .
ثم يحكى القرآن الرذيلة الرابعة من رذائلهم وملخصها : أنهم زعموا أن الأجنة التى فى بطون هذه الأنعام المحرمة ، ما ولد منها حياً فهو حلال للرجال ومحرم على النساء ، وما ولد ميتاً اشترك فى أكله الرجال والنساء .
استمع إلى القرآن وهو يفضح زعمهم هذا فيقول : { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ } ومرادهم بما فى بطون هذه الأنعام أجنة البحائر والسوائب .
أى : ومن فنون كفرهم أنهم قالوا ما فى بطون هذه الأنعام المحرمة إذا نزل منها حياً فأكله حلال للرجال دون النساء ، وإذا نزل ميتاً فأكله حلالا للرجال والنساء على السواء .
وفى رواية العوفى عن ابن عباس أن المراد بما فى بطونها اللبن ، فقد كانوا يحرمونه على إناثهم ويشربه ذكرانهم وكانت الشاة إذاولدت ذكراً ذبحوه ، وكان للرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح ، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء .
قال بعضهم : " ومن مباحث اللفظ فى الآية أن قوله " خالصة " فيه وجوه :
أحدها : أن التاء قيد للمبالغة فى الوصف كراوية وداهية فلا يقال إنه غير مطابق للمبتدأ على القول بأنه خبر .
وثانيا : أن المبتدأ وهو { مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام } مذكر اللفظ مؤنث المعنى ، لأن المراد به الأجنة فيجوز تذكير خبره باعتبار اللفظ وتأنيثه باعتبار المعنى .
وثالثها : أنه مصدر فتكون العبارة مثل قولهم : عطاؤك عافية والمطر رحمة والرخصة نعمة .
ورابعها : أنه مصدر مؤكد أو حال من المستكن فى الظرف وخبر المبتدأ { لِّذُكُورِنَا } .
وقوله : { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ } تهديد لهم أى : سيجزيهم بما هم أهله من العذاب المهين جزاء وصفهم أو بسبب وصفهم الكذب على الله فى أمر التحليل والتحريم على سبيل التحكم والتهجم بالباطل على شرعه . إنه - سبحانه - حكيم فى أقواله وأفعاله وشرعه ، عليم بأعمال عباده من خير أو شر وسيجازيهم عليها .
قال الآلوسى : ونصب { وَصْفَهُمْ } - على ما ذهب إليه الزجاج - لوقوعه موقع مصدر { سَيَجْزِيهِمْ } فالكلام على تقدير مضاف . أى : جزاء وصفهم . وقيل : التقدير . سيجزيهم العقاب بوصفهم أى : بسببه فلما سقطت الباء نصب وصفهم .
ثم قال : وهذا كما قال بعض المحققين من بليغ الكلام وبديعه ، فإنهم يقولون ، كلامه يصف الكذب إذا كذب ، وعينه تصف السحر ، أى ساحرة ، وقد يصف الرشاقة ، بمعنى رشيق . مبالغة ، حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له " .
وإلى هنا تكون الآيات الأربعة التى بدأت بقوله - تعالى - { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً } . . . إلخ . قد قصت علينا أربع رذائل من أفعال المشركين وأقوالهم .
وإن العاقل ليعجب وهو يستعرض هذه الضلالات - التى حكتها الآيات . يعجب لما تحملوه فى سبيل ضلالاتهم من أعباء مادية وخسائر وتضحيات ، يعجب للعقيدة الفاسدة وكيف تكلف أصحابها الكثير ومع ذلك فهم مصرون على اعتناقها ، وعلى التقيد بأغلالها ، وأوهامها ، وتبعاتها .
لكأن القرآن وهو يحكى تلك الرذائل وما تحمله أصحابها فى سبيلها يقول لأتباعه - من بين ما يقول - إذا كان أصحاب العقائد الفاسدة قد ضحوا حتى بقلذات أكبادهم إرضاء لشركائهم . . . فأولى بكم ثم أولى أن تضحوا فى سبيل عقيدتكم الصحيحة ، وملتكم الحنيفية السمحاء بالأنفس والأموال .
( وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . سيجزيهم وصفهم ، إنه حكيم عليم ) . .
لقد استطردوا في أوهام التصورات والتصرفات ، النابعة من انحرافات الشرك والوثنية ، ومن ترك أمر التحليل والتحريم للرجال ؛ مع الادعاء بأن ما يشرعه الرجال هو الذي شرعه الله . استطردوا في هذه الأوهام فقالوا عن الأجنة التي في بطون بعض الأنعام - ولعلها تلك المسماة البحيرة والسائبة والوصيلة - إنها خالصة للذكور منهم حين تنتج ، محرمة على الإناث ، إلا أن تكون ميتة فيشارك فيها الإناث الذكور . . هكذا بلا سبب ولا دليل ولا تعليل ، إلا أهواء الرجال التي يصوغون منها دينا غامضاً ملتبسا في الأفهام .
ويعقب السياق القرآني تعقيب التهديد ؛ لمن صاغوا هذه الشرائع وكذبوا على الله فوصفوها بأنها من شرع الله :
يعلم حقائق الأحوال ، ويتصرف فيها بحكمة ، لا كما يتصرف هؤلاء المشركون الجهال .
قال أبو إسحاق السبيعي ، عن عبد الله بن أبي الهُذَيل ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا } الآية ، قال : اللبن .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا } [ الآية ]{[11259]} : فهو اللبن ، كانوا يحرمونه على إناثهم ، ويشربه ذكرانهم . وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه ، وكان للرجال دون النساء . وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح ، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء . فنهى الله عن ذلك . وكذا قال السُّدِّي .
وقال الشعبي : " البحيرة " لا يأكل من لبنها إلا الرجال ، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء ، وكذا قال عِكْرِمة ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقال مجاهد في قوله : { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } قال : هي السائبة والبحيرة .
وقال أبو العالية ، ومجاهد ، وقتادة [ في قول ]{[11260]} { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } أي : قولهم الكذب في ذلك ، يعني قوله{[11261]} تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ } الآية [ النحل : 116 ، 117 ] .
إنه { حَكِيمٌ } أي : في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره ، { عَلِيمٌ } بأعمال عباده من خير وشر ، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء .
عطف على قوله : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر } [ الأنعام : 138 ] . وأعيد فعل : { قالوا } لاختلاف غرض المقول .
والإشارة إلى أنعام معروفة بينهم بصفاتها ، كما تقدّم ، أو إلى الأنعام المذكورة قبل . ولا يتعلّق غرض في هذه الآية بأكثر من إجمال الأشياء الّتي حرموها لأنّ المقصود التّعجيب من فساد شرعهم كما تقدّم آنفاً ، وهذا خبر عن دينهم في أجنّة الأنعام التي حجروها أو حرّموا ظهورها ، فكانوا يقولون في أجنّة البحيرة والسّائبة : إذا خرجت أحياء يحلّ أكلها للذكور دون النّساء ، وإذا خرجت ميّتة حلّ أكلها للذّكور والنّساء ، فالمراد بما في البطون الأجنة لا محالة لقوله : { وإن يكن ميتة } وقد كانوا يقولون في ألبان البحيرة والسّائبة : يشربها الرّجال دون النّساء ، فظنّ بعض المفسّرين أنّ المراد بما في بطون الأنعام ألبانها ، وروي عن ابن عَبّاس ، ولا ينبغي أن يكون هو معنى الآية ولكن محمل كلام ابن عبّاس أنّ ما في البطون يشمل الألبان لأنَّها تابعة للأجنّة وناشئة عن ولادتها .
والخالصة : السّائغة ، أي المباحة ، أي لا شائبةَ حَرج فيها ، أي في أكلها ، ويقابله قوله : { ومحرم } .
وتأنيث { خالصة } لأنّ المراد بمَا الموصولة { الأجِنَّة } فروعي معنى ( ما ) وروعي لفظ ( ما ) في تذكير { محرّم } .
والمحرّم : الممنوع ، أي ممنوع أكله ، فإسناد الخلوص والتّحريم إلى الذّوات بتأويل تحريم ما تقصد له وهو الأكل أو هو والشرب بدلالة الاقتضاء .
والأزواج جمع زوج ، وهو وصف للشّيء الثّاني لغيره ، فكلّ واحد من شيئين اثنين هو زوج ، ولذلك سمّي حليل المرأة زوجاً وسمّيت المرأة حليلةُ الرّجل زوجاً ، وهو وصف يلازم حالة واحدة فلا يُؤنث ولا يثنّى ولا يجمع . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة } في سورة البقرة ( 35 ) .
وظاهر الآية أن المراد أنّه محرّم على النساء المتزوّجات لأنّهم سمّوهنّ أزواجاً ، وأضافوهنّ إلى ضميرهم ، فتعيّن أنَّهن النّساء المتزوّجات بهم كما يقال : امرأة فلان . وإذا حملناه على الظاهر وهو الأوْلى عندي كان ذلك دالاً على أنّهم كانوا يتشاءمون بأكل الزّوجات لشيء ذي صفة كانوا يكرهون أن تصيب نساءَهم : مثللِ العقم ، أو سوءِ المعاشرة مع الأزواج ، والنّشوز ، أو الفراق ، أو غير ذلك من أوهام أهل الجاهليّة وتكاذيبهم ، أو لأنّه نَتاج أنعام مقدّسة ، فلا تحلّ للنّساء ، لأنّ المرأة مرموقة عند القدماء قبل الإسلام بالنّجاسة والخباثة ، لأجل الحيض ونحو ذلك ، فقد كانت بنو إسرائيل يمنعون النّساء دخول المساجد ، وكان العرب لا يؤاكلون الحائض ، وقالت كبشة بنت معديكرب تعيّر قومها :
ولا تَشرَبُوا إلاّ فُضُولَ نسائكم *** إذا ارتَمَلَتْ أعقابُهن منَ الدّم
وقال جمهور المفسّرين : أطلق الأزواج على النّساء مطلقاً ، أي فهو مجاز مرسل بعلاقة الإطلاق والتّقييد ، فيشمل المرأة الأيّم ولا يشمل البناتِ ، وقال بعضهم : أريد به البنات أي بمجاز الأوْل فلعلّهم كانوا يتشاءمون بأكل البنات منه أن يصيبهن عسر التّزوّج ، أو ما يتعيَّرون منه ، أو نحو ذلك .
وكانت الأحوال الشّائعة بينهم دالّة على المراد .
وأمّا قوله : { وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء } أي إنْ يولدْ ما في بطون الأنعام ميّتا جاز أكله للرّجال والأزواج ، أو للرّجال والنّساء ، أو للرّجال والنّساء والبنات ، وذلك لأنّ خروجه ميّتا يبطل ما فيه من الشّؤم على المرأة ، أو يذهب قداسته أو نحو ذلك .
وقرأ الجمهور : { وإن يكن } بالتحتيّة ونصب { ميتة } . وقرأ ابنُ كثير برفع { ميتة } ، على أنّ كان تامّة ، وقد أجري ضمير : { يَكُن } على التّذكير : لأنّه جائز في الخبر عن اسم الموصول المفرد اعتبار التّذكير لتجرّد لفظه عن علامة تأنيث ، وقد يراعى المقصود منه فيجري الإخبار على اعتباره ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : { ومنهم من يستمع إليك حتّى إذا خرجوا من عندك } [ محمد : 16 ] . وقرأ ابنُ عامر بالفوقيّة على اتّباع تأنيث { خالصة } ، أي إن تكن الأجنّة ، وقرأ { ميتة } بالنّصب ، وقرأه أبو بكر عن عاصم بالتّأنيث والنّصب .
وجملة : { سيجزيهم وصفهم } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، كما قلتُ في جملة : { سيجزيهم بما كانوا يفترون } [ الأنعام : 138 ] آنفاً .
والوصف : ذكر حالات الشّيء الموصوف وما يتيمّز به لمن يريد تمييزه في غرض ما ، وتقدّم في قوله : { سبحانه وتعالى عمّا يصفون } في هذه السّورة ( 100 ) . والوصف ، هنا : هو ما وصفوا به الأجنّة من حِلّ وحرمَة لفريق دون فريق ، فذلك وصف في بيان الحرام والحلال منه كقوله تعالى : { ولا تَقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } [ النحل : 116 ] .
وجزاؤهم عنه هو جزاء سوءٍ بقرينة المقام ، لأنّه سمّى مزاعمهم السّابقة افتراء على الله . وجُعل الجزاء متعدّيا للوصف بنفسه على تقدير مضاف ، أي : سيجْزيهم جزاءَ وصفهم . ضمّن { يجزيهم } معنى يُعطيهم ، أي جزاء وفاقاً له .
وجملة : { إنه حكيم عليم } تعليل لكون الجزاء موافقا لجرُم وصفهم . وتؤذن ( إنّ ) بالربط والتّعليل ، وتُغني غناء الفاء ، فالحكيم يضع الأشياء مواضعها ، والعليم يطّلع على أفعال المجزيين ، فلا يضيع منها ما يستحقّ الجزاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عنهم، فقال: {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا}، يعني من الولد والألبان، {ومحرم على أزواجنا}، يعني البحيرة، والسائبة، والوصيلة، فكانوا إذا أنتجوه حيا ذبحوه فأكله الرجال دون النساء، وكذلك الألبان، وإن وضعته ميتا اشترك في أكله الرجال والنساء، فذلك قوله: {وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم} الله العذاب في الآخرة، {وصفهم}، ذلك بالتحليل والتحريم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في المعنىّ بقوله:"ما فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعامِ"؛ فقال بعضهم: عنى بذلك اللبن... عن قتادة: "وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الأنْعام خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ومُحَرّمٌ على أزْوَاجِنا": ألبان البحائر كانت للذكور دون النساء، وإن كانت ميتة اشترك فيها ذكورهم وإناثهم...
وقال آخرون: بل عنى بذلك ما في بطون البحائر والسوائب من الأجنة... وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الكفرة أنهم قالوا في أنعام بأعيانها: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا دون إناثنا. واللبن مما في بطونها، وكذلك أجنتها، ولم يخصص الله بالخبر عنهم أنهم قالوا بعض ذلك حرام عليهنّ دون بعض. وإذ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يقال: إنهم قالوا ما في بطون تلك الأنعام من لبن وجنين حلّ لذكورهم خالصة دون إناثهم، وإنهم كانوا يؤثرون بذلك رجالهم، إلا أن يكون الذي في بطونها من الأجنة ميتا فيشترك حينئذٍ في أكله الرجال والنساء...
وأما قوله: "ومُحَرّمٌ على أزْوَاجِنا "فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنّي بالأزواج؛ فقال بعضهم: عنى بها النساء.
وقال آخرون: بل عنى بالأزواج: البنات...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء المشركين أنهم كانوا يقولون لما في بطون هذه الأنعام، يعني أنعامهم: هذا محرّم على أزواجنا، والأزواج إنما هي نساؤهم في كلامهم، وهن لا شكّ بنات من هن أولاده، وحلائل من هنّ أزواجه...
وقوله: "فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ" فإنه يعني أن الرجال وأزواجهم شركاء في أكله لا يحرّمونه على أحد منهم...
"سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إنّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ" يقول جلّ ثناؤه: سيجزي: أي سيثيب ويكافئ هؤلاء المفترين عليه الكذب في تحريمهم ما لم يحرّمه الله، وتحليلهم ما لم يحلله الله، وإضافتهم كذبهم في ذلك إلى الله.
وقوله: "وَصْفَهُمْ" يعني بوصفهم الكذب على الله، وذلك كما قال جلّ ثناؤه في موضع آخر من كتابه: "وَتَصِفُ ألْسِنَتُهُمْ الكَذِبَ"... عن مجاهد، في قوله: "سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ" قال: قولهم الكذب في ذلك...
وأما قوله: "حَكِيمٌ عَلِيمٌ" فإنه يقول جلّ ثناؤه: إن الله في مجازاتهم على وصفهم الكذب وقيلهم الباطل عليه، حكيم في سائر تدبيره في خلقه، عليم بما يصلحهم وبغير ذلك من أمورهم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وفي الآية دليل على أن العالم ينبغي له أن يتعلم قول من خالفه وإن لم يأخذ به، حتى يعرف فساد قوله، ويعلم كيف يرد عليه؛ لأن الله تعالى أعلم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قول من خالفهم من أهل زمانهم، ليعرفوا فساد قولهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء. سيجزيهم وصفهم، إنه حكيم عليم).. لقد استطردوا في أوهام التصورات والتصرفات، النابعة من انحرافات الشرك والوثنية، ومن ترك أمر التحليل والتحريم للرجال؛ مع الادعاء بأن ما يشرعه الرجال هو الذي شرعه الله. استطردوا في هذه الأوهام فقالوا عن الأجنة التي في بطون بعض الأنعام -ولعلها تلك المسماة البحيرة والسائبة والوصيلة- إنها خالصة للذكور منهم حين تنتج، محرمة على الإناث، إلا أن تكون ميتة فيشارك فيها الإناث الذكور.. هكذا بلا سبب ولا دليل ولا تعليل، إلا أهواء الرجال التي يصوغون منها دينا غامضاً ملتبسا في الأفهام. ويعقب السياق القرآني تعقيب التهديد؛ لمن صاغوا هذه الشرائع وكذبوا على الله فوصفوها بأنها من شرع الله: (سيجزيهم وصفهم).. (إنه حكيم عليم).. يعلم حقائق الأحوال، ويتصرف فيها بحكمة، لا كما يتصرف هؤلاء المشركون الجهال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على قوله: {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر} [الأنعام: 138]. وأعيد فعل: {قالوا} لاختلاف غرض المقول.
والإشارة إلى أنعام معروفة بينهم بصفاتها، كما تقدّم، أو إلى الأنعام المذكورة قبل. ولا يتعلّق غرض في هذه الآية بأكثر من إجمال الأشياء الّتي حرموها لأنّ المقصود التّعجيب من فساد شرعهم كما تقدّم آنفاً، وهذا خبر عن دينهم في أجنّة الأنعام التي حجروها أو حرّموا ظهورها، فكانوا يقولون في أجنّة البحيرة والسّائبة: إذا خرجت أحياء يحلّ أكلها للذكور دون النّساء، وإذا خرجت ميّتة حلّ أكلها للذّكور والنّساء، فالمراد بما في البطون الأجنة لا محالة لقوله: {وإن يكن ميتة} وقد كانوا يقولون في ألبان البحيرة والسّائبة: يشربها الرّجال دون النّساء، فظنّ بعض المفسّرين أنّ المراد بما في بطون الأنعام ألبانها، وروي عن ابن عَبّاس، ولا ينبغي أن يكون هو معنى الآية ولكن محمل كلام ابن عبّاس أنّ ما في البطون يشمل الألبان لأنَّها تابعة للأجنّة وناشئة عن ولادتها.
والخالصة: السّائغة، أي المباحة، أي لا شائبةَ حَرج فيها، أي في أكلها، ويقابله قوله: {ومحرم}...
والمحرّم: الممنوع، أي ممنوع أكله، فإسناد الخلوص والتّحريم إلى الذّوات بتأويل تحريم ما تقصد له وهو الأكل أو هو والشرب بدلالة الاقتضاء.
والأزواج جمع زوج، وهو وصف للشّيء الثّاني لغيره، فكلّ واحد من شيئين اثنين هو زوج، ولذلك سمّي حليل المرأة زوجاً وسمّيت المرأة حليلةُ الرّجل زوجاً، وهو وصف يلازم حالة واحدة فلا يُؤنث ولا يثنّى ولا يجمع. وقد تقدّم عند قوله تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة} في سورة البقرة (35).
وظاهر الآية أن المراد أنّه محرّم على النساء المتزوّجات لأنّهم سمّوهنّ أزواجاً، وأضافوهنّ إلى ضميرهم، فتعيّن أنَّهن النّساء المتزوّجات بهم كما يقال: امرأة فلان. وإذا حملناه على الظاهر وهو الأوْلى عندي كان ذلك دالاً على أنّهم كانوا يتشاءمون بأكل الزّوجات لشيء ذي صفة كانوا يكرهون أن تصيب نساءَهم... أو لأنّه نَتاج أنعام مقدّسة، فلا تحلّ للنّساء، لأنّ المرأة مرموقة عند القدماء قبل الإسلام بالنّجاسة والخباثة، لأجل الحيض ونحو ذلك...وكانت الأحوال الشّائعة بينهم دالّة على المراد.
وأمّا قوله: {وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء} أي إنْ يولدْ ما في بطون الأنعام ميّتا جاز أكله للرّجال والأزواج، أو للرّجال والنّساء، أو للرّجال والنّساء والبنات، وذلك لأنّ خروجه ميّتا يبطل ما فيه من الشّؤم على المرأة، أو يذهب قداسته أو نحو ذلك.
...جملة: {سيجزيهم وصفهم} مستأنفة استئنافاً بيانياً، كما قلتُ في جملة: {سيجزيهم بما كانوا يفترون} [الأنعام: 138] آنفاً.
والوصف: ذكر حالات الشّيء الموصوف وما يتيمّز به لمن يريد تمييزه في غرض ما، وتقدّم في قوله: {سبحانه وتعالى عمّا يصفون} في هذه السّورة (100). والوصف، هنا: هو ما وصفوا به الأجنّة من حِلّ وحرمَة لفريق دون فريق، فذلك وصف في بيان الحرام والحلال منه كقوله تعالى: {ولا تَقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} [النحل: 116].
وجزاؤهم عنه هو جزاء سوءٍ بقرينة المقام، لأنّه سمّى مزاعمهم السّابقة افتراء على الله. وجُعل الجزاء متعدّيا للوصف بنفسه على تقدير مضاف، أي: سيجْزيهم جزاءَ وصفهم. ضمّن {يجزيهم} معنى يُعطيهم، أي جزاء وفاقاً له.
وجملة: {إنه حكيم عليم} تعليل لكون الجزاء موافقا لجرُم وصفهم. وتؤذن (إنّ) بالربط والتّعليل، وتُغني غناء الفاء، فالحكيم يضع الأشياء مواضعها، والعليم يطّلع على أفعال المجزيين، فلا يضيع منها ما يستحقّ الجزاء.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإنه يجب أن ننبه هنا إلى أنهم في هذا الإفك الذي يأفكون يجعلون للمرأة من الطعام الشيء الذي يعاف ويجعلون للرجل الطيب من الطعام ولا يحرمونه مما يخص النساء...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولكن عبارة (وإِن يكن ميتة) تبيّن أنّ المقصود هو الجنين الذي إِذا ولد حيّاً فهو للذكور، وإِنّ ولد ميتاً وهو ما لم يكن مرغوباً عندهم فهم جميعاً شركاء فيه بالتساوي. هذا الحكم لا يقوم أوّلا على أي دليل، وهو ثانياً قبيح وبشع فيما يتعلق بالجنين الميت، لأنّ لحم الحيوان الميت يكون في الغالب فاسداً ومضراً، ثمّ هو ثالثاً نوع من التمييز بين الرجل والمرأة، بجعل الطيب للرجال فقط، وبجعل المرأة شريكة في الفاسد فقط...