{ وقال لهم نبيهم } مجيبا لطلبهم { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا } فكان هذا تعيينا من الله الواجب عليهم فيه القبول والانقياد وترك الاعتراض ، ولكن أبوا إلا أن يعترضوا ، فقالوا : { أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال } أي : كيف يكون ملكا وهو دوننا في الشرف والنسب ونحن أحق بالملك منه . ومع هذا فهو فقير ليس عنده ما يقوم به الملك من الأموال ، وهذا بناء منهم على ظن فاسد ، وهو أن الملك ونحوه من الولايات مستلزم لشرف النسب وكثرة المال ، ولم يعلموا أن الصفات الحقيقية التي توجب التقديم مقدمة عليها ، فلهذا قال لهم نبيهم : { إن الله اصطفاه عليكم } فلزمكم الانقياد لذلك { وزاده بسطة في العلم والجسم } أي : فضله عليكم بالعلم والجسم ، أي : بقوة الرأي والجسم اللذين بهما تتم أمور الملك ، لأنه إذا تم رأيه وقوي على تنفيذ ما يقتضيه الرأي المصيب ، حصل بذلك الكمال ، ومتى فاته واحد من الأمرين اختل عليه الأمر ، فلو كان قوي البدن مع ضعف الرأي ، حصل في الملك خرق وقهر ومخالفة للمشروع ، قوة على غير حكمة ، ولو كان عالما بالأمور وليس له قوة على تنفيذها لم يفده الرأي الذي لا ينفذه شيئا { والله واسع } الفضل كثير الكرم ، لا يخص برحمته وبره العام أحدا عن أحد ، ولا شريفا عن وضيع ، ولكنه مع ذلك { عليم } بمن يستحق الفضل فيضعه فيه ، فأزال بهذا الكلام ما في قلوبهم من كل ريب وشك وشبهة لتبيينه أن أسباب الملك متوفرة فيه ، وأن فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده ، ليس له راد ، ولا لإحسانه صاد .
ثم بين القرآن ما أخبرهم به نبيهم ليحملهم على الطاعة والامتثال فقال- تعالى - : { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } .
أي وقال لهم بعد أو أوحى إليه بما يوحى : إن الله - تعالى - وهو العليم الخبير بأحوال عباده قد بعث لكم ومن أجل مصلحتكم طالوت ليكون ملكاً عليكم ، وقائدا لكم في قتالكم لأعدائكم ، فأطيعوه واتبعوا ما يأمركم به .
و { طَالُوتَ } اسم أعجمي قيل هو المسمى في التوراة باسم " شاول " وقيل إن هذا الاسم لقب له من الطول كملكوت من الملك ، لأن طالوت كان طويلا جسيما .
ولقد كان الذي يقتضيه العقل أن يطيعوا أمر نبيهم ، ولكنهم لجوا في جدالهم وطغيانهم وقالوا لنبيهم معترضين على من اختراه الله قائدا لهم . { أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال } .
{ أنى } أداة استفهام بمعنى كيف ، والاستفهام هنا للتعجب من جعل طالوت ملكاً عليهم . أي قالوا لنبيهم منكرين ومتعجبين من اختيار طالوت ملكاً عليهم : كيف يكون له الملك علينا والحال أننا أحق بالملك منه لأننا أشرف منه نسباً ، إذ منا من هو نسل الملوك أما طالوت فليس من نسلهم ، وفضلا عن ذلك فهو لا يملك من المال ما يملكه بعضنا فكيف يكون هذا الشخص ملكاً علينا ؟
فأنت تراهم لانعدام المقاييس الصحيحة عندهم ظنوا أن المؤهلات الحقيقية لاستحقاق الملك والقيادة إنما تكون بالنسب وكثرة المال أما الكفاءة العقلية ، والقوة البدنية ، والقدرة الشخصية فلا قيمة لها عندهم لانطماس بصيرتهم ، وسوء تفكيرهم .
قال بعضهم : " وسبب هذا الاستبعاد أن النبوة كانت مخصوصة بسبط معين من أسباط بني إسرائيل وهو سبط لاوى بن يعقوب . وسبط المملكة . بسبط يهوذا ، ولم يكن طالوت من أحد هذين السبطين بل من ولد بنيامين . والواو في قوله : { وَنَحْنُ أَحَقُّ } للحال ، والواو الثانية في قوله : { وَلَمْ يُؤْتَ } عاطفة جامعة للجملتين في الحكم .
ثم حكى القرآن ما رد به نبيهم عليهم فقال : { قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } .
أي قال لهم نبيهم مدللا على أحقية طالوت بالقيادة : إن الله - تعالى - { اصطفاه عَلَيْكُمْ } أي اختاره وفضله عليكم واختياره يجب أن يقابل بالإِذعان والتسليم . وثانيا : { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم } أي أن الله - تعالى - منحه سعة في العلم والمعرفة والعقل والإِحكام في التفكير المستقيم لم يمنحها لكم ، وثالثاً : في { والجسم } بأن أعطاه جسماً قوياً ضخماً مهيباً . وهذه الصفات ما وجدت في شخص إلا وكان أهلا للقيادة والريادة وفضلا عن كل ذلك فمالك الملك هو الذي اختاره فكيف تعترضون يا من تدعون أنكم تريدون القتال في سبيل الله ؟ لذا نراه - سبحانه - يضيف الملك الحقيقي إليه فيقول : { والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ } أي : يعطي ملكه لمن يشاء من عباده لحكمة يعلمها . فلا يجوز لأحد أن يعترض على اختياره ، والله واسع الفضل والعطاء " عليم " .
( وقال لهم نبيهم : إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا . قالوا : أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ، ولم يؤت سعة من المال ؟ قال : إن الله اصطفاه عليكم ، وزاده بسطة في العلم والجسم . والله يؤتي ملكه من يشاء . والله واسع عليم ) . .
وفي هذه اللجاجة تتكشف سمة من سمات إسرائيل التي وردت الإشارات إليها كثيرة في هذه السورة . . لقد كان مطلبهم أن يكون لهم ملك يقاتلون تحت لوائه . ولقد قالوا : إنهم يريدون أن يقاتلوا ( في سبيل الله ) . فها هم أولاء ينغضون رؤوسهم ، ويلوون اعناقهم ، ويجادلون في اختيار الله لهم كما أخبرهم نبيهم ؛ ويستنكرون أن يكون طالوت - الذي بعثه الله لهم - ملكا عليهم . لماذا ؟ لأنهم أحق بالملك منه بالوراثة . فلم يكن من نسل الملوك فيهم ! ولأنه لم يؤت سعة من المال تبرر التغاضي عن أحقية الوراثة ! . . وكل هذا غبش في التصور ، كما أنه من سمات بني إسرائيل المعروفة . .
ولقد كشف لهم نبيهم عن أحقيته الذاتية ، وعن حكمة الله في اختياره :
( قال : إن الله اصطفاه عليكم ، وزاده بسطة في العلم والجسم . والله يؤتي ملكه من يشاء . والله واسع عليم ) . .
إنه رجل قد اختاره الله . . فهذه واحدة . . وزاده بسطة في العلم والجسم . . وهذه أخرى . . والله ( يؤتي ملكه من يشاء ) . . فهو ملكه ، وهو صاحب التصرف فيه ، وهو يختار من عباده من يشاء . . ( والله واسع عليم ) . . ليس لفضله خازن وليس لعطائه حد . وهو الذي يعلم الخير ، ويعلم كيف توضع الأمور في مواضعها . .
أي : لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكًا منهم فعين لهم طالوت وكان رجلا من أجنادهم ولم يكن من بيت الملك فيهم ؛ لأن الملك فيهم كان في سبط يهوذا ، ولم يكن هذا من ذلك السبط فلهذا قالوا : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا } أي : كيف يكون ملكًا علينا { وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ } أي : ثم هو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك ، وقد ذكر بعضهم أنه كان سقاء وقيل : دباغًا . وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت وكان الأولى بهم طاعة وقول معروف ثم قد أجابهم النبي قائلا { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ } أي : اختاره لكم من بينكم والله أعلم به منكم . يقول : لست أنا الذي عينته من تلقاء نفسي بل الله أمرني به لما طلبتم مني ذلك { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } أي : وهو مع هذا أعلم منكم ، وأنبل وأشكل منكم وأشد قوة وصبرًا{[4232]} في الحرب ومعرفة بها أي : أتم علمًا وقامة منكم . ومن هاهنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه ثم قال : { وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ } أي : هو الحاكم الذي ما شاء فعل ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون لعلمه [ وحكمته ]{[4233]} ورأفته بخلقه ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي : هو واسع الفضل يختص برحمته من يشاء عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه .
أعاد الفعل في قوله : { وقال لهم نبيهم } للدلالة على أن كلامه هذا ليس من بقية كلامه الأول ، بل هو حديث آخر متأخر عنه وذلك أنه بعد أن حذرهم عواقب الحكومة الملكية وحذرهم التولي عن القتال ، تكلم معهم كلاماً آخَرَ في وقت آخر .
وتأكيدُ الخبر بإنَّ إيذان بأن من شأن هذا الخبر أن يُتلقى بالاستغراب والشك ، كما أنبأ عنه قولهم : { أنى يكون له الملك علينا } .
ووقع في سفر صمويل في الإصحاح التاسع أنه لما صمم بنو إسرائيل في سؤالهم أن يعين لهم مِلكاً ، صلى لله تعالى فأوحى الله إليه أنْ أجبْهم إلى كل ما طلبوه ، فأجابهم وقال لهم : اذهبوا إلى مدنكم ، ثم أوحى الله إليه صفة الملك الذي سيعينه لهم ، وأَنه لقيه رجل من بنيامين اسمه شَاول بن قيس ، فوجد فيه الصفة وهي أنه أطول القوم ، ومسَحَهُ صمويلُ ملكاً على إسرائيل ، إذْ صب على رأسه زيتاً ، وقبَّله وجمع بني إسرائيل بعد أيام في بلد المصفاة وأحضره وعينه لهم ملكاً ، وذلك سنة 1095 قبل المسيح .
وهذا الملك هو الذي سمي في الآية طالوت وهو شاول وطالوت لقبهُ ، وهو وزن اسم مصدر من الطول ، على وزن فعَلُوت مثل جَبَروت ومَلكوت ورَهَبوت ورغَبوت ورحموت ، ومنه طاغوت أصله طَغَيُوت فوقع فيه قلب مكاني ، وطالوت وصف به للمبالغة في طول قامته ، ولعله جعل لقباً له في القرآن للإِشارة إلى الصفة التي عرف بها لصمويل في الوحي الذي أوحى الله إليه كما تقدم ، ولمراعاة التنظير بينه وبين جالوت غريمه في الحرب ، أو كان ذلك لقباً له في قومه قبلَ أن يؤتى الملك ، وإنما يلقب بأمثال هذا اللقب من كان من العموم . ووزن فَعَلوت وزن نادر في العربية ولعله من بقايا العربية القديمة السامية ، وهذا هو الذي يؤذن به منعه من الصرف ، فإن منعه من الصرف لا علة له إلاّ العلمية والعجمة ، وجزم الراغب بأنه اسم عجمي ولم يُذكر في كتب اللغة لذلك ولعله عومل معاملة الاسم العجمي لمَّا جُعل علماً على هذا العَجمي في العربية ، فعُجمته عارضة وليس هو عجمياً بالأصالة ، لأنه لم يعرف هذا الاسم في لغة العبرانيين كداوود وشاوول ، ويجوز أن يكون منعه من الصرف لمصيره بالإبدال إلى شبه وزن فاعُول ، ووزنُ فاعول في الأعلام عجمي ، مثل هاروت وماروت وشاوول وداوود ، ولذلك منعوا قابوس من الصرف ، ولم يعتدوا باشتقاقه من القبس ، وكأنَّ عدول القرآن عن ذكره باسمه شاول لثقل هذا اللفظ وخفة طالوت .
وأَنَّى في قوله : { أنى يكون له الملك علينا } بمعنى كيف ، وهو استفهام مستعمل في التعجب ، تعجبوا من جعل مِثله ملكاً ، وكان رجلاً فلاحاً من بيت حقير ، إلاّ أنه كان شجاعاً ، وكان أطول القوم ، ولما اختاره صمويل لذلك ، فتح الله عليه بالحكمة ، وتنبأ نبوءات كثيرة ، ورضيت به بعض إسرائيل ، وأباه بعضهم ، ففي سفر صمويل أن الذين لم يرضَوا به هم بنو بليعال والقرآن ذكر أن بني إسرائيل قالوا : أنى يكون له الملك علينا وهو الحق ؛ لأنهم لا بد أن يكونوا قد ظنوا أن مَلكهم سيكون من كبرائهم وقوادهم .
والسر في اختيار نبيئهم لهم هذا الملك أنه أراد أن تبقى لهم حالتهم الشورية بقدر الإمكان ، فجعل مَلِكهم من عامتهم لا من سادتهم ، لتكون قدمه في الملك غير راسخة ، فلا يخشى منه أن يشتد في استعباد أمته ، لأن الملوك في ابتداء تأسيس الدول يكونون أقرب إلى الخير لأنهم لم يعتادوا عظمة الملك ولم ينسوا مساواتَهم لأمثالهم ، وما يزالون يتوقعون الخلع ، ولهذا كانت الخلافة سُنَّةَ الإسلام ، وكانت الوراثة مبدأ الملك في الإسلام ، إذ عهد معاوية ابن أبي سفيان لابنه يزيد بالخلافة بعده ، والظن به أنه لم يكن يسعه يومئذٍ إلاّ ذلك ؛ لأن شيعة بني أمية راغبون فيه ، ثم كانت قاعدة الوراثة للملك في دول الإسلام وهي من تقاليد الدول من أقدم عصور التاريخ ، وهي سنة سيئة ولهذا تجد مؤسسي الدول أفضل ملوك عائلاتهم ، وقواد بني إسرائيل لم يتفطنوا لهذه الحكمة لقصر أنظارهم ، وإنما نظروا إلى قلة جدته ، فتوهموا ذلك مانعاً من تمليكه عليهم ، ولم يعلموا أن الاعتبار بالخلال النفسانية ، وأن الغنى غنى النفس لا وفرة المال وماذا تجدي وفرته إذا لم يكن ينفقه في المصالح ، وقد قال الراجز :
قدني من نصر الخُبَيْبين قَدِي *** ليسَ الإمامُ بالشحيح المُلحد
فقولهم : { ونحن أحق بالملك } جملة حالية ، والضمير من المتكلمين ، وهم قادة بني إسرائيل وجعلوا الجملة حالاً للدلالة على أنهم لما ذكروا أحقيتهم بالملك لم يحتاجوا إلى الاستدلال على ذلك ؛ لأن هذا الأمر عندهم مسلم معروف ، إذ هم قادة وعرفاء ، وشاوول رجل من السوقة ، فهذا تسجيل منهم بأرجحيتهم عليه ، وقوله : { ولم يؤت سعة من المال } معطوفة على جملة الحال فهي حال ثانية . وهذا إبداء مانع فيه من ولايته الملك في نظرهم ، وهو أنه فقير ، وشأن الملك أن يكون ذا مال ليكفي نوائب الأمة فينفق المال في العدد والعطاء وإغاثة الملهوف ، فكيف يستطيع من ليس بذي مال أن يكون ملكاً ، وإنما قالوا هذا لقصورهم في معرفة سياسة الأمم ونظام الملك ؛ فإنهم رأوا الملوك المجاورين لهم في بذخة وسعة ، فظنوا ذلك من شروط الملك . ولذا أجابهم نبيئهم بقوله : { إن الله اصطفاه عليكم } رادّاً على قولهم : { ونحن أحق بالملك منه } فإنهم استندوا إلى اصطفاء الجمهور إياهم فأجابهم بأنه أرجح منهم لأن الله اصطفاه ، وبقوله : { وزاده بسطة في العلم والجسم } راداً عليهم قولهم : { ولم يؤت سعة من المال } أي زاده عليكم بسطة في العلم والجسم ، فأعلمهم نبيئهم أن الصفات المحتاج إليها في سياسة أمر الأمة ترجع إلى أصالة الرأي وقوة البدن ؛ لأنه بالرأي يهتدي لمصالح الأمة ، لا سيما في وقت المضائق ، وعند تعذر الاستشارة أو عند خلاف أهل الشورى وبالقوة يستطيع الثبات في مواقع القتال فيكون بثباته ثبات نفوس الجيش .
وقدم النبي في كلامه العلم على القوة لأن وقعه أعظم ، قال أبو الطيب :
الرأي قبلَ شجاعةِ الشجعان **** هو أَوَّلٌ وهي المحل الثاني
فالعلم المراد هنا ، هو علم تدبير الحرب وسياسة الأمة ، وقيل : هو علم النبوءة ، ولا يصح ذلك لأن طالوت لم يكن معدوداً من أنبيائهم .
ولم يجبهم نبيئهم عن قوله : { ولم يؤت سعة من المال } اكتفاء بدلالة اقتصاره على قوله : { وزاده بسطة في العلم والجسم } فإنه ببسطة العلم وبالنصر يتوافر له المال ؛ لأن « المال تجلبه الرعية » كما قال أرسططاليس ، ولأن الملك ولو كان ذا ثروة ، فثروته لا تكفي لإقامة أمور المملكة ولهذا لم يكن من شرط ولاة الأمور من الخليفة فما دونه أن يكون ذا سعة ، وقد ولي على الأمة أبو بكر وعمر وعلي ولم يكونوا ذوي يسار ، وغنى الأمة في بيت مالها ومنه تقوم مصالحها ، وأرزاق ولاة أمورها .
والبسطة اسم من البسط وهو السعة والانتشار ، فالبسطة الوفرة والقوة من الشيء ، وسيجيء كلام عليها عند قوله تعالى : { وزادكم في الخلق } في الأعراف ( 69 ) .
وقوله : { والله يؤتي ملكه من يشاء } يحتمل أن يكون من كلام النبي ، فيكون قد رجع بهم إلى التسليم إلى أمر الله ، بعد أن بين لهم شيئاً من حكمة الله في ذلك . ويحتمل أن يكون تذييلاً للقصة من كلام الله تعالى ، وكذلك قوله : { والله واسع عليم } .