ثم ساقت لنا السورة الكريمة بعد ذلك قصة دخول يوسف - عليه السلام - السجن ، مع ثبوت براءته ، مما نسب إليه ، وكيف أنه وهو في السجن لم ينس الدعوة إلى عبادة الله - تعالى - وحده ، وترك عبادة ما سواه ، وكيف أنه أقام الأدلة على صحة ما يدعو إليه ، وفسر لصاحبيه في السجن رؤياهما تفسيرا صادقا صحيحا .
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول :
{ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ . . . } .
قوله - سبحانه - { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ } بيان لما فعله العزيز وحاشيته مع يوسف - عليه السلام - بعد أن ثبتت براءته .
وبدا هنا من البداء - بالفتح - وهو - كما يقول الإِمام الرازى - عبارة عن تغير الرأى عما كان عليه في السابق .
والضمير في " لهم " يعود إلى العزيز وأهل مشورته .
والمراد بالآيات : الحجج والبراهين الدالة على براءة يوسف ونزاهته ، كانشقاق قميصه من دبر ، وقول امرأة العزيز ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ، وشهادة الشاهد بأن يوسف هو الصادق وهى الكاذبة . . . والحين : الزمن غير المحدد بمدة معينة .
والمعنى : ثم ظهر للعزيز وحاشيته ، من بعد ما راوا وعاينوا البراهين المتعددة الدالة على صدق يوسف - عليه السلام - وطهارة عرضه . . بدا لهم بعد كل ذلك أن يغيروا رأيهم في شأنه ، وأن يسجنوه في المكان المعد لذلك ، إلى مدة غير معلومة من الزمان .
واللام في قوله " ليسجننه " جواب القسم محذوف على تقدير القول أى : ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات قائلين ، والله ليسجننه حتى حين .
ولا شك أن الأمر بسجن يوسف - عليه السلام - كان بتأثير من امرأة العزيز ، تنفيذا لتهديدها بعد أن صمم يوسف - عليه السلام - على عصيانها فيما تدعوه إليه ، فقد سبق أن حكى القرآن عنها قولها { وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين } ولا شك - أيضا - أن هذا القرار بسجن يوسف يدل على أن المرأة العزيز كانت مالكة لقياد زوجها صاحب المنصب الكبير ، فهى تقوده حيث تريد كما يقود الرجل دابته .
ولقد عبر عن هذا المعنى صاحب الكشاف فقال ما ملخصه : قوله { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات . . . }
وهى الشواهد على براءته ، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها ، وفتلها منه في الذروة والغارب ، وكان مطواعا لها ، وجملا ذلولا زمامه في يدها ، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات ، وعمل برأيها في سجنه ، لإِلحاق الصغار به كما أوعدته ، وذلك لما أيست من طاعته لها ، وطمعت في أن يذلله السجن ويسخره لها .
( ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ) . .
وهكذا جو القصور ، وجو الحكم المطلق ، وجو الأوساط الأرستقراطية ، وجو الجاهلية ! فبعد أن رأوا الآيات الناطقة ببراءة يوسف . وبعد أن بلغ التبجح بامرأة العزيز أن تقيم للنسوة حفل استقبال تعرض عليهن فتاها الذي شغفها حبا ، ثم تعلن لهم أنها به مفتونة حقا . ويفتتن هن به ويغرينه بما يلجأ إلى ربه ليغيثه منه وينقذه ، والمرأة تعلن في مجتمع النساء - دون حياء - أنه إما أن يفعل ما يؤمر به ، وإما أن يلقى السجن والصغار ، فيختار السجن على ما يؤمر به !
بعد هذا كله ، بدا لهم أن يسجنوه إلى حين !
ولعل المرأة كانت قد يئست من محاولاتها بعد التهديد ؛ ولعل الأمر كذلك قد زاد انتشارا في طبقات الشعب الأخرى . . وهنا لابد أن تحفظ سمعة " البيوتات " ! وإذا عجز رجال البيوتات عن صيانة بيوتهن ونسائهن ، فإنهم ليسوا بعاجزين عن سجن فتى بريء كل جريمته أنه لم يستجب ، وأن امرأة من " الوسط الراقي ! " قد فتنت به ، وشهرت بحبه ، ولاكت الألسن حديثها في الأوساط الشعبية !
يقول تعالى : ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين ، أي : إلى مدة ، وذلك بعدما عرفوا براءته ، وظهرت الآيات - وهي الأدلة - على صدقه في عفته ونزاهته . فكأنهم - والله أعلم - إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاما{[15162]} أن هذا راودها عن نفسها ، وأنهم سجنوه على ذلك . ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة ، امتنع من الخروج حتى تتبين براءته مما نسب إليه من الخيانة ، فلما تقرر ذلك خرج وهو نَقِيّ العرض ، صلوات الله عليه وسلامه .
وذكر السُّدِّي : أنهم إنما سجنوه لئلا يشيع ما كان منها{[15163]} في حقه ، ويبرأ عرضه فيفضحها .
لما أبى يوسف المعصية ، ويئست منه امرأة العزيز طالبته بأن قالت لزوجها : إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره ، وأنا محبوسة محجوبة ، فإما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته ، وإما حبسته كما أنا محبوسة . فحينئذ بدا لهم سجنه . قال ابن عباس : فأمر به فحمل على حمار ، وضرب بالطبل ونودي عليه في أسواق مصر إن يوسف العبراني أراد سيدته فهذا جزاؤه أن يسجن ؛ قال أبو صالح : ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكى .
و { بدا } معناه : ظهر ، والفاعل ب { بدا } محذوف تقديره بدو - أو - رأي{[6679]} . وجمع الضمير في { لهم } والساجن الملك وحده من حيث كان في الأمر تشاور . و { يسجننه } جملة دخلت عليها لام القسم . ولا يجوز أن يكون الفاعل ب { بدا } ل { يسجننه } لأن الفاعل لا يكون جملة بوجه ، هذا صريح مذهب سيبويه . وقيل الفاعل { ليسجننه } وهو خطأ ، وإنما هو مفسر للفاعل .
و { الآيات } ذكر فيها أهل التفسير أنها قد القميص ، قاله مجاهد وغيره ، وخمش الوجه الذي كان مع قد القميص ، قاله عكرمة ، وحز النساء أيديهن ، قاله السدي .
قال القاضي أبو محمد : ومقصد الكلام إنما هو أنهم رأوا سجنه بعد بدو الآيات المبرئة له من التهمة ، فهكذا يبين ظلمهم له وخمش الوجه وحز النساء أيديهن ليس فيهما تبرية ليوسف ، ولا تتصور تبرية إلا في خبر القميص ، فإن كان المتكلم طفلاً - على ما روي - فهي آية عظيمة ، وإن كان رجلاً فهي آية فيها استدلال ما ، والعادة أنه لا يعبر بآية إلا فيما ظهوره في غاية الوضوح ، وقد تقع { الآيات } أيضاً على المبينات كانت في أي حد اتفق من الوضوح .
ويحتمل أن يكون معنى قوله : { من بعد ما رأوا الآيات } أي من بعد ما ظهر لهم من وجوه الأمر وقرائنه أن يوسف برىء ، فلم يرد تعيين آية بل قرائن جميع القصة .
و «الحين » في كلام العرب وفي هذه الآية الوقت من الزمن غير محدود يقع للقليل والكثير ، وذلك بين موارده في القرآن ؛ وقال عكرمة «الحين » - هنا - يراد به سبعة أعوام ، وقيل : بل يراد بذلك سنة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بحسب ما كشف الغيب في سجن يوسف .
وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يقرأ «عتى حين » بالعين - وهي لغة هذيل - فقال له : من أقرأك ؟ قال : ابن مسعود ، فكتب عمر إلى ابن مسعود : إن الله أنزل القرآن عربياً بلغة قريش ، فبها أقرىء الناس ، ولا تقرئهم بلغة هذيل ، وروي عن ابن عباس أنه قال : عثر يوسف عليه السلام ثلاث عثرات :
{ همّ } [ يوسف : 24 ] فسجن ، وقال : { اذكرني عند ربك } [ يوسف : 42 ] { فأنساه الشيطان ذكر ربه } [ يوسف : 42 ] فطول سجنه ، وقال : { إنكم لسارقون } [ يوسف : 70 ] فروجع : { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } [ يوسف : 77 ] .
{ ثم } هنا للترتيب الرتبي ، كما هو شأنها في عطف الجمل فإن ما بدا لهم أعجب بعد ما تحققت براءته . وإنما بدا لهم أن يسجنوا يوسف عليه السّلام حين شاعت القالة عن امرأة العزيز في شأنه فكان ذلك عقب انصراف النسوة لأنها خشيت إنْ هُنّ انصرفن أن تشيع القالة في شأنها وشأن براءة يوسف عليه السّلام فرامت أن تغطي ذلك بسجن يوسف عليه السّلام حتى يظهر في صورة المجرمين بإرادته السوء بامرأة العزيز ، وهي ترمي بذلك إلى تطويعه لها . ولعلها أرادت أن تُوهم الناسَ بأن مراودته إيّاها وقعت يوم ذلك المجمع ، وأن تُوهم أنّهن شواهد على يوسف عليه السّلام .
والضمير في { لهم } لجماعة العزيز من مشير وآمر .
وجملة { ليسجننه } جواب قسم محذوف ، وهي معلّقة فعلَ { بدَا } عن العمل فيما بعده لأجل لام القسم لأن ما بعد لام القسم كلام مستأنف . وفيه دليل للمعمول المحذوف إذ التحقيق أن التعليق لا يختص بأفعال الظن ، وهو مذهب يونس بن حبيب ، لأن سبب التعليق وجود أداة لها صَدر الكلام . وفي هذه الآية دليله .
والتقدير : بدا لهم ما يدل عليه هذا القسَم ، أي بدا لهم تأكيد أن يسجنوه .
وذكر في « المغني » في آخر الجمل التي لها محل من الإعراب : وقوع الخلاف في الفاعل ونائب الفاعل ، هل يكون جملة ؟ فأجازه هشام وثعلب مطلقاً ، وأجازهُ الفراء وجماعة إذا كان الفعل قلبياً ووجد معلّق ، وحملوا الآية عليه ، ونسب إلى سيبويه . وهو يؤول إلى معنى التعليق ، والتعليق أنسب بالمعنى .
والحين : زمن غير محدود ، فإن كان { حتى حينٍ } من كلامهم كان المعنى : أنهم أمروا بسجنه سجناً غير مؤجل المدة . وإن كان من الحكاية كان القرآن قد أبهم المدة التي أذنوا بسجنه إليها إذ لا يتعلق فيها الغرض من القصة .