{ 6 - 12 } { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }
يقول تعالى معاتبا للإنسان المقصر في حق ربه ، المتجرئ على مساخطه{[1372]} : { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } أتهاونا منك في حقوقه ؟ أم احتقارا منك لعذابه ؟ أم عدم إيمان منك بجزائه ؟
أتبع ذلك بنداء للإِنسان فقال - تعالى - : { ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم } والغرور : الخداع . يقال : غر فلان فلانا ، إذا خدعه وأطمعه بالباطل . والخطاب لجنس الإِنسان ، وقيل للكافر .
و " ما " استفهامية ، والمقصود بالاستفهام : الإِنكار والتعجيب من حال هذا الإِنسان المخدوع .
أى : يا أيها الإِنسان المخلوق بقدرة ربك وحده ، أى شئ غرك وخدعك وجعل جانبا من جنسك يكفر بخالقه ، ويعبد غيره ، وجانبا آخر يعصى ربه ، ويقصر فى أداء حقوقه ؟
قال الإِمام ابن كثير : قوله - تعالى - : { ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم } : هذا تهديد ، لا كما يتوهمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى الجواب ، حيث قال : { الكريم } ، حتى يقول قائلهم : غره كرمه . بل المعنى فى الآية : ما غرك يا بن آدم بربك الكريم - ، أى : العظيم - حتى أقدمت على معصيته ، وقابلته بما لا يليق ؟ كما جاء فى الحديث : " يقول الله يوم القيامة : يا بن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟ " . .
وهذا الذى تخيله هذا القائل ليس تحته طائل ، لأنه إنما أتى باسمه الكريم لينبه على أنه لا ينبغى أن يقابل الكريم بالأفعال القبيحة ، وأعمال السوء . .
والمقصود بالنداء هنا : التنبيه إلى ما سيأتى بعده من توجيهات ، وليس المقصود به طلب الإِقبال على شئ معين .
وإيثار تعريف الله - تعالى - بصفة الرب ، لما فى معنى الرب من التربية والرعاية والملكيمة ، والإِيجاد من العدم . . ففى هذا الوصف تذكير للإِنسان بنعم خالقه الذى أنشأه من العدم ، وتعهده بالرعاية والتربية .
وكذلك الوصف بالكريم ، فيه - أيضاً - تذكير لهذا الإِنسان بكرم ربه عليه ، إذ مقتضى هذا الكرم منه - تعالى - ، أن يقابل المخلوق ذلك بالشكر والطاعة .
وبعد هذا المطلع الموقظ المنبه للحواس والمشاعر والعقول والضمائر ، يلتفت إلى واقع الإنسان الحاضر ، فإذا هو غافل لاه سادر . . هنا يلمس قلبه لمسة فيها عتاب رضي ، وفيها وعيد خفي ، وفيها تذكير بنعمة الله الأولى عليه : نعمة خلقه في هذه الصورة السوية على حين يملك ربه أن يركبه في أي صورة تتجه إليها مشيئته . ولكنه اختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة . . وهو لا يشكر ولا يقدر :
( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك ) . .
إن هذا الخطاب : ( يا أيها الإنسان )ينادي في الإنسان أكرم ما في كيانه ، وهو " إنسانيته " التي بها تميز عن سائر الأحياء ؛ وارتفع إلى أكرم مكان ؛ وتجلى فيها إكرام الله له ، وكرمه الفائض عليه .
ثم يعقبه ذلك العتاب الجميل الجليل : ( ما غرك بربك الكريم ? )يا أيها الإنسان الذي تكرم عليك ربك ، راعيك ومربيك ، بإنسانيتك الكريمة الواعية الرفيعة . . يا أيها الإنسان ما الذي غرك بربك ، فجعلك تقصر في حقه ، وتتهاون في أمره ، ويسوء أدبك في جانبه ? وهو ربك الكريم ، الذي أغدق عليك من كرمه وفضله وبره ؛ ومن هذا الإغداق إنسانيتك التي تميزك عن سائر خلقه ، والتي تميز بها وتعقل وتدرك ما ينبغي وما لا ينبغي في جانبه ?
وقوله : { يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } ؟ هذا تهديد ، لا كما يتوهمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى الجواب ؛ حيث قال : { الْكَرِيمِ } حتى يقول قائلهم : غره كرمه . بل المعنى في هذه الآية : ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم - أي : العظيم - حتى أقدمت على معصيته ، وقابلته بما لا يليق ؟ كما جاء في الحديث : " يقول الله يوم القيامة : ابن{[29804]} آدم ، ما غرك بي ؟ ابن آدم ، ماذا أجبتَ المرسلين ؟ " .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان : أن عمر سمع رجلا يقرأ : { يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } فقال عمر : الجهل{[29805]} .
وقال أيضا : حدثنا عمر بن شَبَّة ، حدثنا أبو خلف ، حدثنا يحيى البكاء ، سمعت ابن عمر يقول وقرأ هذه الآية : { يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } قال ابن عمر : غره - والله - جهله .
قال : ورُوي عن ابن عباس ، والربيع بن خُثَيم{[29806]} والحسن ، مثل ذلك .
وقال قتادة : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } شيءٌ ، ما غَرّ ابن آدم غير هذا العدو الشيطان .
وقال الفضيل بن عياض : لو قال لي : " ما غرك بي{[29807]} لقلت : سُتُورك المُرخاة .
وقال أبو بكر الوراق : لو قال لي : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } لقلت : غرني كرم الكريم .
قال البغوي : وقال بعض أهل الإشارة : إنما قال : { بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } دون سائر أسمائه وصفاته ، كأنه لقنه الإجابة{[29808]} .
وهذا الذي تخيله هذا القائل ليس بطائل ؛ لأنه إنما أتى باسمه { الْكَرِيم } ؛ لينبه{[29809]} على أنه لا ينبغي أن يُقَابَل الكريم بالأفعال القبيحة ، وأعمال السوء .
و [ قد ]{[29810]} حكى البغوي ، عن الكلبي ومقاتل أنهما قالا نزلت هذه الآية في الأسود بن شَريق ، ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقب في الحالة الراهنة ، فأنزل الله : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } ؟{[29811]} .
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه وذكر الكريم للمبالغة في المنع عن الاغترار فإن محض الكرم لا يقتضي إهمال الظالم وتسوية الموالي والمعادي والمطيع والعاصي فكيف إذا انضم إليه صفة القهر والانتقام والإشعار بما به يغره الشيطان فإنه يقول له افعل ما شئت فربك كريم لا يعذب أحدا ولا يعاجل بالعقوبة والدلالة على أن كثرة كرمه تستدعي الجد في طاعته لا الانهماك في عصيانه اغترارا بكرمه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.