{ 9 - 12 } { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ *قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ }
يقول تعالى مخوفا عباده ما أحله بالأمم المكذبة حين جاءتهم الرسل ، فكذبوهم ، فعاقبهم بالعقاب العاجل الذي رآه الناس وسمعوه فقال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ } وقد ذكر الله قصصهم في كتابه وبسطها ، { وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ } من كثرتهم وكون أخبارهم اندرست .
فهؤلاء كلهم { جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالأدلة الدالة على صدق ما جاءوا به ، فلم يرسل الله رسولا إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر ، فحين أتتهم رسلهم بالبينات لم ينقادوا لها بل استكبروا عنها ، { فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } أي : لم يؤمنوا بما جاءوا به ولم يتفوهوا بشيء مما يدل على الإيمان كقوله { يجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ }
{ وَقَالُوا } صريحا لرسلهم : { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } أي : موقع في الريبة ، وقد كذبوا في ذلك وظلموا . ولهذا { قَالَتِ } لهم { رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ }
ثم حكى - سبحانه - جانبا من أحوال بعض الرسل مع أقوامهم ، ومن المحاورات التى دارت بين الرسل وبين من أرسلوا إليهم فقال - تعالى - :
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ . . . }
قوله - سبحانه - : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ . . . } يرى بعض المفسرين أنه من تتمة كلام موسى - عليه السلام - فيكون المعنى : أن موسى - عليه السلام - بعد أن ذكر بأيام الله - تعالى - ، وبنعمه عليهم ، وبسننه - سبحانه - فى خلقه . . .
بعد كل ذلك شرع فى تذكيرهم وتخويفهم عن طريق ما حل بالمكذبين من قبلهم ، فقال لهم - كما حكى القرآن عنه - : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ . . }
ومنهم من يرى أن الآية الكريمة كلام مستأنف ، والخطاب فيه لأمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيكون المعنى : أن الله - تعالى - بعد أن ين للناس أنه قد أنزل كتابه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - لإِخراجهم من الظلمات إلى النور ، وبين - سبحانه - أن له ما فى السموات وما فى الأرض وهدد الكافرين بالعذاب الشديد ، وحكى ما قاله موسى لقومه .
بعد كل ذلك وجه - سبحانه - الخطاب إلى مشركى مكة وإلى كل من كان على شاكلتهم فقال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ . . . } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : " يحتمل أن يكون هذا خطابا من موسى لقومه ، والمقصود منه أنه - عليه السلام - كان يخوفهم بمثل هلاك من تقدم .
ويجوز أن يكون مخاطبة من الله - تعالى - على لسان موسى لقومه ، يذكرهم أمر القرون الأولى . والمقصود إنما هو حصول العبرة بأحوال المتقدمين ، وهذا المقصود حاصل على التقديرين ، إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ومع أننا نؤيد الإِمام الرازى فى أن المقصود إنما حصول العبرة بأحوال المتقدمين إلا أننا نميل مع الأكثرين إلى الرأى الثانى ، لأن قوم رسول - صلى الله عليه وسلم - هم المقصودون قصدا أوليا بالخطاب القرآنى ، ولأن الإِمام ابن كثير - يرى أنه لم يرد ذكر فى التوراة لقوم عاد وثمود ، فقد قال :
قال ابن جرير : " هذا من تمام قول موسى لقومه . . . وفيما قال ابن جرير نظر والظاهر أنه خبر مستأنف من الله - تعالى - لهذه الأمة ، فإنه قد قيل إن قصة عاد وثمود ليست فى التوراة ، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقصه عليهم ، فلا شك حينئذ أن تكون هاتان القصتان فى التوراة .
والاستفهام فى قوله { أَلَمْ يَأْتِكُمْ . . . } للتقرير لأنهم قد بلغتهم أخبارهم ، فقوم نوح بلغتهم أخبارهم بسبب خبر الطوفان الذى كان مشهورا بينهم ، وقوم عاد وثمود بلغتهم أخبارهم لأنهم من العرب ، ومساكنهم فى بلادهم ، وهم يمرون على ديار قوم صالح فى أسفارهم إلى بلاد الشام للتجارة .
والمراد بالذين من بعدهم : أولئك الأقوام الذين جاءوا من بعد قوم نوح وعاد وثمود ، كقوم إبراهيم وقوم لوط وغيرهم .
وقوله : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } أى : لا يعلم عدد الأقوام الذين جاءوا بعد قوم نوح وعاد وثمود ولا يعلم ذواتهم وأحوالهم إلا الله تعالى .
وقوله { والذين مِن بَعْدِهِمْ } مبتدأ ، وقوله { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } خبره ، والجملة اعتراض بن المفسر - بفتح السين - وهو { نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ } وتفسيره وهو { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات } .
والمعنى : لقد علمتم يا أهل مكة ما حل بقوم نوحو عاد وثمود ، كما علمتم ما حل بالمكذبين من بعدهم كقوم لوط وقوم شعيب ، وكغيرهم ممن لا يعلم أحوالهم وعددهم إلا الله - تعالى - وما دام الأمر كذلك فاعتبروا واتعظوا واتبعوا هذا الرسول الكريم الذى جاء لسعادتكم ، لكى تنجوا من العذاب الأليم الذى حل بالمظالمين من قبلكم .
وجملة { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات } مستأنفة فى جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل ما قصة هؤلاء الأقوام وما خبرهم ؟
فكان الجواب : جاء كل رسول إلى قومه بالحجج الواضحات ، وبالمعجزات الظاهرات ، الدالة على صدقه فيما يبلغه عن ربه .
وقوله { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ وقالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ . . . } .
بيان لموقف الأقوام المكذبين من رسلهم الذين أرسلهم الله لهدايتهم .
والضمائر فى " ردوا " و " أيديهم " و " أفواههم " تعود على الأقوام الذين جاءتهم رسلهم بالبينات ، وهذه الجملة الكريمة ذكر المفسرون فى معناها وجوها متعددة أوصلها بعضهم إلى عشرة أقوال :
منها : أن الكفار وضعوا أنامهم فى أفواههم فعضوها غيضا وبغضا مما جاء به الرسل ، وقالوا لهم بغضب وضجر : إنا كفرنا بما أرسلتم به وبما جئتمونا به من معجزات ، فاغربوا عن وجوهنا ، واتركونا وشأننا .
ومن المفسرين الذين رجحوا هذا الوجه الإِمام ابن جرير ، فقد قال : " وقوله : { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ . . . } اختلف أهل التأويل فى تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك ، فعضوا على أصابعهم تغيظا عليهم فى دعائهم إياهم إلى ما دعوهم إليه . . روى ذلك عن ابن مسعود وغيره .
ثم قال بعد أن ساق عددا من الأقوال الأخرى : وأشبه هذه الأقوال عندى الصواب فى تأويل هذه الآية ، القول الذى ذكرناه عن عبد الله بن مسعود أنهم ردوا أيديهم فى أفواههم ، فعضوا عليها غيظا على الرسل ، كما وصف الله عز وجل به إخوانهم من المنافقين فقال : { وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } فهذا هو الكلام المعروف ، والمعنى المفهوم من رد الأيدى إلى الأفواه .
ومنها : أن الكفار وضعوا أيديهم على أفواههم إشارة منهم إلى أنفسهم وإلى ما يصدر عنها ، وقالوا للرسل على سبيل التحدى والتكذيب . { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أى : لا جواب لكم عندنا سوى ما قلناه لكم بألسنتنا هذه .
ومن المفسرين الذين رجحوا هذا القول الإِمام الآلوسى ، فقد صدر الأقوال التى ذكرها به ، فقال ما ملخصه : قوله { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ } أى : أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به ، وقالوا لهم { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أى : على زعمكم ، وهى البينات التى أظهرها حجة على صحة رسالتهم ، ومرادهم بالكفر بها : الكفر بدلالتها على صحة رسالتهم . . .
ثم قال بعد أن ساق عددا من الأقوال : والذى يطابق المقام ، وتشهد له البلاغة : هو الوجه الأول ، ونص غير واحد على أنه الوجه القوى ، لأنهم حالوا الإِنكار على الرسل كل الإِنكار ، حيث جمعوا على الإِنكارين : الفعل والقول ، ولذا أتى بالفاء تنبيها على أنهم لم يتمهلوا ، بل عقدوا دعوتهم بالتكذيب . . . " .
ومنها : أن الكفار لما سمعوا أقوال الرسل لهم ، وضعوا أيديهم على أفواههم استهزاء وتعجبا .
وقد رجح هذا الوجه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور فقال : " وهذا التركيب لا أعهد مثله فى كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن : ومعنى { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ } .
يحتمل عد وجو أنها فى الكشاف إلى سبعة ، وفى بعضها بعد ، وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى : أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل ، كراهية أن تظهر دواخل أفواههم ، وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل .
ومنها : أن الكفار لما سمعوا أقوال الرسل لهم ، لم يردوا عليهم ، بل تركوهم إهمالا لشأنهم .
وقد رجح الشوكانى هذا الاتجاه فقال ما ملخصه : " وقال أبو عبيدة - ونعم ما قال - هو ضرب مثل . أى : لم يؤمنوا ولم يجيبوا . والعرب تقول الرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت : قد رد يده فى فيه . وهذكا قال الأخفش ، واعترض على ذلك القتيبى فقال : لم يسمع أحد من العرب يقول : رد يده فى فيه ، إذا ترك ما أمر به وإنما المعنى عضوا على الأيدي حنفا وغيظا . .
فإن صح ما ذكره أبو عبيدة والأخفش فتفسير الآية به أقرب . . .
وهذه الأقوال جميعها وإن كانت تتفق فى أن الآية الكريمة ، قد أخبرت بأبلغ عبارة عما قابل به الأقوام المكذبين رسلهم من سوء أدب .
إلا أننا نميل إلى ما ذهب إليه الإِمام ابن جرير ، لأنه أظهر الأقوال فى معناها ، وقد استشهد له بعضهم بأشعار العرب ، ومنها قول الشاعر :
ترون فى فيه غش الحسو . . . د حتى يعض على الأكفا
وقوله - سبحانه - { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } معطوف على قوله { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } .
ومريب : اسم فاعل من أراب . تقول : أربت فلانا فأنا أريبه ، إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة ، فمعنى مريب : موقع فى الريبة أى : فى القلق والاضطراب .
أى : قال المكذبون لرسلهم إنا كفرنا بما جئتم به من المعجزات والبينات .
وإنا لفى شك كبير موقع فى الريبة مما تدعوننا إليه من الإِيمان بوحدانية الله ، وبإخلاص العبادة له .
قال الجمل ما ملخصه : " فإن قيل : إنهم أكدوا كفرهم بما أرسل به الرسل .
ثم ذكروا بعد ذلك أنهم شاكون مرتابون فى صحة قولهم فكيف ذلك .
فالجواب : كأنهم قالوا أنا كفرنا بما أرسلتم به أيها الرسل فإنه لم نكن كذلك ، فال أقل من أن نكون شاكين مرتابين فى صحة نبوتكم .
أو يقال : المراد بقولهم { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أى بالمعجزات والبينات ، وبقولهم : { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } وهو الإِيمان والتوحيد .
أو يقال : إنهم كانوا فرقتين إحداهما جزمت بالكفر ، والأخرى شكت . . .
ويستمر موسى في بيانه وتذكيره لقومه . ولكنه يتوارى عن المشهد لتبرز المعركة الكبرى بين أمة الأنبياء والجاهليات المكذبة بالرسل والرسالات . وذلك من بدائع الأداء في القرآن ، لإحياء المشاهد ، ونقلها من حكاية تروى إلى مشهد ينظر ويسمع ، وتتحرك فيه الشخوص ، وتتجلى فيه السمات والانفعالات . .
والآن إلى الساحة الكبرى التي يتلاشى فيها الزمان والمكان :
( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم ، قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ؟ جاءتهم رسلهم بالبينات ، فردوا أيديهم في أفواههم ، وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به ، وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) . .
هذا التذكير من قول موسى . ولكن السياق منذ الآن يجعل موسى يتوارى ليستمر في عرض قصة الرسل والرسالات في جميع أزمانها . قصة الرسل والرسالات وحقيقتها في مواجهة الجاهلية ، وعاقبة المكذبين بها على اختلاف الزمان والمكان . . وكأن موسى " راوية " يبدأ بالإشارة إلى أحداث الرواية الكبرى . ثم يدع أبطالها يتحدثون بعد ذلك ويتصرفون . . وهي طريقة من طرق العرض للقصة في القرآن ، تحول القصة المحكية إلى رواية حية كما أسلفنا . وهنا نشهد الرسل الكرام في موكب الإيمان ، يواجهون البشرية متجمعة في جاهليتها . حيث تتوارى الفواصل بين أجيالها وأقوامها . وتبرز الحقائق الكبرى مجردة عن الزمان والمكان . كما هي في حقيقة الوجود خلف حواجز الزمان والمكان :
( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم : قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ؟ ) . .
فهم كثير إذن ، وهناك غير من جاء ذكرهم في القرآن . ما بين ثمود وقوم موسى . والسياق هنا لا يعني بتفصيل أمرهم ، فهناك وحدة في دعوة الرسل ووحدة فيما قوبلت به :
الواضحات التي لا يلتبس أمرها على الإدراك السليم .
( فردوا أيديهم في أفواههم ، وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به ؛ وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) . .
ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل من يريد تمويج الصوت ليسمع عن بعد ، بتحريك كفه أمام فمه وهو يرفع صوته ذهابا وإيابا فيتموج الصوت ويسمع . يرسم السياق هذه الحركة التي تدل على جهرهم بالتكذيب والشك ، وإفحاشهم في هذا الجهر ، وإتيانهم بهذه الحركة الغليظة التي لا أدب فيها ولا ذوق ، إمعانا منهم في الجهر بالكفر .
قال ابن جرير : هذا من تمام قيل{[15760]} موسى لقومه{[15761]} .
يعني : وتذكاره إياهم بأيام الله ، بانتقامه من الأمم المكذبة للرسل .
وفيما قال{[15762]} ابن جرير نظر ؛ والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة ، فإنه قد قيل :
إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة ، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقَصَه عليهم ذلك فلا شك{[15763]} أن تكون هاتان القصتان في " التوراة " ، والله أعلم . وبالجملة فالله تعالى قد قص علينا خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل ، مما لا يحصي عددهم{[15764]} إلا الله عز وجل أتتهم رسلهم بالبينات ، أي : بالحجج والدلائل الواضحات الباهرات القاطعات .
وقال ابن{[15765]} إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله أنه قال في قوله : { لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ } كذب النسابون .
وقال عروة بن الزبير : ما وجدنا أحدا يعرف ما بعد معد بن عدنان .
وقوله : { فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } اختلف المفسرون في معناه ، فقيل : معناه : أنهم أشاروا إلى أفواه الرسل يأمرونهم{[15766]} بالسكوت عنهم ، لما دعوهم إلى الله ، عز وجل .
وقيل : بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيبًا لهم .
وقيل : بل هو عبارة عن سكوتهم عن جواب الرسل .
وقال مجاهد ، ومحمد بن كعب ، وقتادة : معناه : أنهم كذبوهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم .
قال ابن جرير : وتوجيهه{[15767]} أن " في " ها هنا بمعنى " الباء " ، قال : وقد سمع من العرب : " أدخلك الله بالجنة " يعنون : في الجنة ، وقال الشاعر :
وَأَرْغَبُ فِيهَا عَن لَقيطٍ ورهْطه *** عَن سِنْبس لَسْتُ أرْغَب
يريد : أرغب بها{[15768]} .
قلت : ويؤيد قول مجاهد تفسير ذلك بتمام الكلام : { وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } فكأن هذا [ والله أعلم ]{[15769]} تفسير لمعنى رَدِّ أيديهم في أفواههم .
وقال سفيان الثوري ، وإسرائيل ، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قوله : { فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } قال : عضوا عليها غيظا .
وقال شعبة ، عن أبي إسحاق ، أبي هُبَيرَْة ابن مريم ، عن عبد الله أنه قال ذلك أيضا . وقد اختاره عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ووجهه ابن جرير مختارًا له ، بقوله تعالى عن المنافقين : { وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } [ آل عمران : 119 ] .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : لما سمعوا كتاب{[15770]} الله عَجبوا ، ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم .
وقالوا : { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } يقولون : لا نصدقكم فيما جئتم به ؛ فإن عندنا فيه شكا قويا .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاّ اللّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَرَدّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فِيَ أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوَاْ إِنّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنّا لَفِي شَكّ مّمّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل موسى لقومه : يا قوم ألَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يقول : خبر الذين من قبلكم من الأمم التي مضت قبلكم ، قَوْمِ نُوحِ وعادٍ وَثُمودَ وقوم عاد فبين بهم عن «الذين » ، وعاد معطوف بها على قوم نوح . وَالّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني : من بعد قوم نوح وعاد وثمود . لا يَعْلَمُهُمْ إلاّ اللّهُ يقول : لا يحصي عددهم ولا يعلم مبلغهم إلا الله . كما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ابن ميمون : وَعادٍ وَثمُودَ وَالّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إلاّ اللّهُ قال : كذب النسابون .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود بمثل ذلك .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، قال : حدثنا ابن مسعود ، أنه كان يقرؤها : «وعادا وثَمُودَ وَالّذِينَ مِنْ بَعْدَهِمْ لا يَعْلَمُهُم إلاّ اللّهُ » ثم يقول : كذب النسابون .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عيسى بن جعفر ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله ، مثله .
وقوله : جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبَيّناتِ يقول : جاءت هؤلاء الأمم رسلهم الذين أرسلهم الله إليهم بدعائهم إلى إخلاص العبادة له بالبينات ، يعني بالحجج الواضحات والدلالات البينات الظاهرات على حقيقة ما دعوهم إليه من معجزات .
وقوله : فَرَدّوا أيْدِيَهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : فعضوا على أصابعهم تغيظا عليهم في دعائهم إياهم ما دعوهم إليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا عبد الرحمن ، قال حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله : فَرَدّوا أيْدِيَهُمْ في أفْوَاهِهِمْ قال : عضوا عليها تغيظا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، في قوله : فَرَدّوا أيْدِيَهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ قال : غيظا هكذا . وعض يده .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله : فَرَدّوا أيْدِيَهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ قال : عضوها ،
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن رجاء البصري ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قول الله عزّ وجلّ : فَرَدّوا أيْدِيَهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ قال : عضوا على أصابعهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله : فَرَدّوا أيْدِيَهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ قال : عضوا على أطراف أصابعهم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن هبيرة عن عبد الله أنه قال في هذه الاَية : فَرَدّوا أيْدِيَهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ قال : أن يجعل إصبعه في فيه .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا أبو قطن ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن هبيرة ، عن عبد الله في قول الله عزّ وجلّ : فَرَدّوا أيْدِيَهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ ووضع شعبة أطراف أنامله اليسرى على فيه .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا يحيى بن عبّاد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرنا أبو إسحاق ، عن هبيرة ، قال : قال عبد الله : فَرَدّوا أيْدِيَهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ قال : هكذا ، وأدخل أصابعه في فيه .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا شعبة ، قال أبو إسحاق : أنبأنا عن هبيرة ، عن عبد الله أنه قال في هذه الاَية : فَرَدّوا أيْدِيَهُمْ فِي أفْواهِهِمْ قال أبو عليّ : وأرانا عفان ، وأدخل أطراف أصابع كفه مبسوطة في فيه ، وذكر أن شعبة أراه كذلك .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله : فَرَدّوا أيْدِيَهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ قال : عضوا على أناملهم . وقال سفيان : عضوا غيضا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَرَدّوا أيْدِيَهُمْ في أفْوَاهِهِمْ فقرأ : عَضّوا عَلَيْكُمْ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ قال : ومعنى : رَدّوا أيْدِيَهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ فقرأ : عَضّوا عَلَيْكُمْ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ قال : ومعنى : رَدّوا أيْدِيَهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ قال : أدخلوا أصابعهم في أفواههم ، وقال : إذا اغتاظ الإنسان عضّ يده .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهم لما سمعوا كتاب الله عجبوا منه ، ووضعوا أيديهم على أفواههم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فَرَدّوا أيْدِيَهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ قال : لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك أنهم كذّبوهم بأفواههم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد «ح » وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : فَرَدّوا أيْدِيِهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ قال : ردّوا عليهم قولهم وكذبوهم .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
هذا الكلام استئناف ابتدائيّ رجع به الخطاب إلى المشركين من العرب على طريقة الالتفات في قوله : { ألم يأتكم } ، لأن الموجّه إليه الخطاب هنا هم الكافرون المعنيون بقوله : { وويل للكافرين من عذاب شديد } [ سورة إبراهيم : 2 ] ، وهم معظم المعنيّ من الناس في قوله : { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } [ سورة إبراهيم : 1 ] ، فإنهم بعد أن أُجمل لهم الكلام في قوله تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } [ سورة إبراهيم : 4 ] الآية ، ثم فُصّل بأن ضُرب المثل للإِرسال إليهم لغرض الإخراج من الظلمات إلى النور بإرسال موسى عليه السلام لإخراج قومه ، وقُضي حق ذلك عقبه بكلام جامع لأحوال الأمم ورسلهم ، فكان بمنزلة الحوصلة والتذييل مع تمثيل حالهم بحال الأمم السالفة وتشابه عقلياتهم في حججهم الباطلة وردّ الرسل عليهم بمثل ما رَدّ به القرآن على المشركين في مواضع ، ثم ختم بالوعيد .
والاستفام إنكاري لأنهم قد بلغتهم أخبارهم ، فأما قوم نوح فقد تواتر خبرهم بين الأمم بسبب خبر الطوفان ، وأما عاد وثمود فهم من العرب ومساكنهم في بلادهم وهم يمرون عليها ويخبر بعضهم بعضاً بها ، قال تعالى : { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم } [ سورة إبراهيم : 45 ] وقال : { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون } [ سورة الصافات : 137 ] .
و{ الذين من بعدهم } يشمل أهل مدين وأصحابَ الرس وقومَ تُبّع وغيرَهم من أمم انقرضوا وذهبت أخبارهم فلا يعلمهم إلا الله . وهذا كقوله تعالى : { وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا } [ سورة الفرقان : 38 ] .
وجملة لا يعلمهم إلا الله } معترضة بين { والذين من بعدهم } وبين جملة { جاءتهم رسلهم بالبينات } الواقعة حالاً من { والذين من بعدهم } ، وهو كناية عن الكثرة التي يستلزمها انتفاء علم الناس بهم .
ومعنى { جاءتهم رسلهم } جاءَ كلّ أمة رسولُها .
وضمائر { ردّوا } و { أيديهم } و { أفواههم } عائدٌ جميعها إلى قوم نوح والمعطوفات عليه .
وهذا التركيب لا أعهد سبق مثله في كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن .
ومعنى { فردوا أيديهم في أفواههم } يحتمل عدة وجوه أنهاهَا في « الكشاف » إلى سبعة وفي بعضها بُعدٌ ، وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى : أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل كراهية أن تظهر دواخل أفواههم . وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل .
والردّ : مستعمل في معنى تكرير جعل الأيدي في الأفواه كما أشار إليه « الراغب » . أي وضعوا أيديهم على الأفواه ثم أزالوها ثم أعادوا وضعها فتلك الإعادة رَدّ .
وحرف { في } للظرفية المجازية المراد بها التمكين ، فهي بمعنى { على } كقوله : { أولئك في ضلال مبين } [ سورة الزمر : 22 ] . فمعنى ردّوا أيديهم في أفواههم } جعلوا أيديهم على أفواههم .
وعطفه بفاء التعقيب مشير إلى أنهم بادروا بردّ أيديهم في أفواههم بفور تلقيهم دعوة رسلهم ، فيقتضي أن يكون ردّ الأيدي في الأفواه تمثيلاً لحال المتعجب المستهزىء ، فالكلام تمثيل للحالة المعتادة وليس المراد حقيقته ، لأن وقوعه خبراً عن الأمم مع اختلاف عوائدهم وإشاراتهم واختلاف الأفراد في حركاتهم عند التعجب قرينة على أنه ما أريد به إلاّ بيان عَربي .
ونظير هذا قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة : { وقالوا الحمد لله الذي صَدَقنا وعده وأورثنا الأرض } [ سورة الزمر : 74 ] ، فميراث الأرض كناية عن حسن العاقبة جرياً على بيان العرب عند تنافس قبائلهم أن حسن العاقبة يكون لمن أخذ أرض عدوّه .
وأكّدوا كفرهم بما جاءت به الرسل بما دلّت عليه { إنّ } وفعل المضيّ في قوله : { إنا كفرنا } . وسموا ما كفروا به مُرسلاً به تهكماً بالرسل ، كقوله تعالى : { وقالوا يا أيها الذي نُزّل عليه الذكر إنك لمجنون } [ سورة الحجر : 6 ] ، فمعنى ذلك : أنهم كفروا بأن ما جاءوا به مرسل به من الله ، أي كفروا بأن الله أرسلهم . فهذا مما أيقنوا بتكذيبهم فيه .
وأما قولهم : { وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه } فذلك شك في صحة ما يدعونهم إليه وسداده ، فهو عندهم معرض للنظر وتمييز صحيحه من سقيمه ، فمورد الشك مَا يدعونهم إليه ، ومورد التكذيب نسبة دعوتهم إلى الله . فمرادهم : أنهم وإن كانوا كاذبين في دعوى الرسالة فقد يكون في بعض ما يدعون إليه ما هو صدق وحقّ فإن الكاذب قد يقول حقّاً .
وجعلوا الشك قوياً فلذلك عبر عنه بأنهم مَظروفون فيه ، أي هو محيط بهم ومتمكن كمال التمكن .
و { مريب } تأكيد لمعنى { في شك } ، والمريب : المُتوقع في الريب ، وهو مرادف الشك ، فوصف الشك بالمريب من تأكيد ماهيته ، كقولهم : لَيل ألْيَل ، وشِعر شَاعر .
وحذفت إحدى النونين من قوله : { إنا } تخفيفاً تجنباً للثقل الناشىء من وقوع نونين آخرين بعد في قوله : { تدعوننا } اللازم ذكرهما ، بخلاف آية سورة هود ( 62 ) { وإننا لفي شك مما تدعونا } إذ لم يكن موجب للتخفيف لأن المخاطب فيها بقوله : تدعونا } واحد .