{ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا } أي : على أموالهم ، { فِي نَارِ جَهَنَّمَ } فيحمى كل دينار أو درهم على حدته .
{ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } في يوم القيامة كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، ويقال لهم توبيخا ولوما : { هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } فما ظلمكم ولكنكم ظلمتم أنفسكم وعذبتموها بهذا الكنز .
وذكر اللّه في هاتين الآيتين ، انحراف الإنسان في ماله ، وذلك بأحد أمرين :
إما أن ينفقه في الباطل الذي لا يجدي عليه نفعا ، بل لا يناله منه إلا الضرر المحض ، وذلك كإخراج الأموال في المعاصي والشهوات التي لا تعين على طاعة اللّه ، وإخراجها للصد عن سبيل اللّه .
وإما أن يمسك ماله عن إخراجه في الواجبات ، و { النهي عن الشيء ، أمر بضده }
وقوله : { يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ . . } تفصيل لهذا العذاب الأليم ، وبيان لميقاته ، حتى يقلع البخلاء عن بخلهم ، والأشحاء عن شحهم . .
والظرف { يَوْمَ } منصوب بقوله : { عَذَابٍ أَلِيمٍ } ؛ أو بفعل محذوف يدل عليه هذا القول .
أى : يعذبون يوم يحمى عليها ، أو بفعل مقدر ؛ أى : اذكر يوم يحمى عليها .
وقوله : { يحمى } يجوز أن يكون من حميت وأحميت - ثلاثيا ورباعيا - يقال : حميت الحديدة وأحميتها ، أى : أوقدت عليها لتحمى .
وقوله : { عَلَيْهَا } جار مجرور في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل . ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل مضمرا ، أى : يحمى الوقود أو الجمر عليها .
قال الآلوسى : وأصله تحمى بالنار من قولك : حميت الميسم وحميته فجعل الإِحماء للنار مبالغة ؛ لأن النار في ذاتها ذات حمى ، فإذا وصفت بأنها تحمى دل على شدة توقدها . ثم حذفت النار ، وحول الإِسناد إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود بأتم وجه فانتقل من صيغة التأنيث إلى التذكير كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير . فإذا طرحت القصة وأنسد الفعل إلى الجار والمجرور وقتل : رفع إلى الأمير ، وقرأ ابن عامر { تحمي } بالتاء بإسناده إلى النار كأصله . والمعنى : بشر - يا محمد - أولئك الذين يكنزون الأموال في الدنيا ولا ينفوقنها في سبيل الله ، بالعذاب الأليم يوم الحساب يوم تحمى النار المشتعلة على تلك الأموال التي لم يؤدوا حق الله فيها { فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ } أى : فتحرق بها جباههم التي كانوا يستقبلون بها الناس ، والتى طالما ارتفعت غرورا بالمال المكنوز ، وتحرق بها - ايضا - " جنوبهم " التي كثيرا ما انتفتحت من شدة الشبع وغيرها جائع ، وتحرق بها كذلك " ظهورهم " التي نبذت وراءها حقوق الله بجحود وبطر . .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم خصت هذه الأعضاء بالكى ؟
قلت : لأنهم لم يطلبوا بأموالهم - حيث لم ينفقوها في سبيل الله - إلا الأغراض الدنيوية من وجاهة عند الناس ، وتقدم ، وأن يكون ماء وجوههم مصونا عندهم ، يتلقون بالجميل ويحيون بالإِكرام ، ويجبلون ويحتمشون ، ومن أكل طيبات يتضلعون منها وينفخون جنوبهم ، ومن لبس عامة من الثياب يطرحونها على ظهورهم ، كما ترى أغنياء زمانك ، هذا أغراضهم وطلباتهم من أموالهم ، لا يخطر ببالهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ذهب أهل الدثور بالأجر كله " .
وقيل : لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا ، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه ، وتولوا بأركانهم ، وولوه ظهورهم .
وقوله : { هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } مقول لقول محذوف .
والتفسير : تقول لهم ملائكة العذاب على سبيل التبكيت والتوبيخ ، وهى تتولى حرق جباههم وجنوبهم وظهورهم : هذا العذاب الأليم النازل بكم في الآخرة هو جزاء ما كنتم تكنزونه في الدنيا من مال لمنفعة أنفسكم دون أن تؤدوا حق الله فيه .
فذوقوا وحدكم وبال كنزكم . وتجرعوا غصصه ، وتحملوا سوء عاقبته فأنتم الذين جنيتم على أنفسكم ، لأنكم لم تشكروا الله على هذه الأموال ، بل استعملتوها في غير ما خلقت له .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى .
1- التحذير من الانقياد لدعاة السوء ، ومن تقليدهم في رذائلهم وقبائحهم ووجوب السير على حسب ما جاء به الإِسلام من تعاليم وتشريعات . .
ولذا قال ابن كثير عند تفسيره للآية الأولى : والمقصود التحذير من علماء السوء ، وعباد الضلال ، كما قال سفيان بن عيينه : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من أحبار اليهود ، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من رهبان النصارى .
وفى الحديث الصحيح : " لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة " قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : " فمن " ؟ وفى رواية : فارس والروم ؟ قال : " فمن الناس إلا هؤلاء " والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم .
هذا ، ونص الحديث الصحيح الذي ذكره الإِمام ابن كثير - كما رواه الشيخان - هكذا عن أبى سعيد الخدرى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " لتتبعن سنن من قبلكم شبرا يشبر وذارعا بذراع ، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، قلنا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن " .
أما الحديث الذي جاء فيه حذو القذة بالقذة ، فقد أخرجه الإِمام أحمد عن شداد بن أوس ونصه : " ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم . أهل الكتاب ، حذو القذة بالقذة " .
2- يرى جمهور العلماء أن المقصود بالكنز في قوله ، تعالى ، { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا } . . . ألخ المال الذي لم تؤد زكاته ، أما إذا أديت زكاته في يسمى كنزا ، ولا يدخل صاحبه تحت الوعيد الذي اشتملت عليه الآية .
وقد وضح الإِمام القرطبى هذه المسألة فقال : واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا أولا ؟ .
فقال قوم : نعم . رواه أبو الضحا عن جعدة بين هبيرة عن على قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما كثر فهو كنز وإن أديت زكاته . . ولا يصح .
وقال قوم : ما أديت زكاته مئة أو من غيره عنه فليس بكنز ، قال ابن عمر : ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كانت تحت سبع أرضين ، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض . ومثله عن جابر ، وهو الصحيح .
وروى البخارى عن أبى هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من آتاه الله ما لا فلم يؤد زكاته ، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، ثم يأخذ بلهمزميته - يعنى شدقيه - ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك . . " .
وفيه أيضا عن أبى ذر قال : انتهيت إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " والذى نفسى بيده ، ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم ، لا يؤدى حقها ، إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه ، تطؤه بأخفافها ، وتنطحه بقرونها ، كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس " .
فدل دليل خطاب هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا . وقد بين ابن عمر في صحيح البخارى هذا المعنى . قال له أعرابى : أخبرنى عن قول الله - تعالى - { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة . . } الآية فقال ابن عمر : من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له ، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال .
وروى أبو داود " عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة . . } كبر ذلك على المسلمين ، فقال عمر : أنا أفرج عنكم ، فانطلق فقال : يا نبى الله ، إنه كبر على أصحابك هذه الآية . فقال - صلى الله عليه وسلم - " إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقى من أموالكم ، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم " قال : فكبر عمر . ثم قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة ، إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته " " .
3- أخذ بعض الصحابة من هذه الآية تحريم اكتناز الأموال التي تفيض عن حاجات الإِنسان الضرورية .
قال ابن كثير : كان من مذهب أبى ذر - رضى الله عنه - تحريم إدخار ما زاد على نفقة العيال ، وكن يفتى بذلك ، ويحثهم عليه ويأمرهم به ، ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته ، فخشى أن يضر بالناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان ، وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة وأزله بالربذة - وهى بلدة قريبة من المدينة - وبها مات - رضى الله عنه - في خلافة عثمان .
وروى البخارى في تفسير هذه الآية عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة ، فإذا بأبى ذر ، فقلت له : ما أنزلك بهذه الأرض ؟ قال : كنا بالشام فقرأت { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . فقال معاوية : ما هذه فينا ما هذه إلا في أهل الكتاب . قال : قلت : إنها لفينا وفيهم .
ثم قال ابن كثير : وفى الصحيح " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبى ذر : " ما يسرنى أن عندى مثل أحد ذهباً يمر على ثلاثة أيام وعندى منه شئ إلا دينار أرصده لدين " فهذا - والله أعلم - هو الذي حدا أباذر على القول بهذا " " .
وقال الشيخ القاسمى : قال ابن عبد البر : وردت عن أبى ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش ، فهو كنز يذم فاعله ، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك .
وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم ، وحملوا الوعيد على ما نعى الزكاة ، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابى حيث قال : هل على غيرها ؟ قال : لا إلا أن تطوع .
وحديث طلحة الذي أشار إليه ابن عبد البر ، قد جاء في صحيح البخارى ونصه : " عن طلحة بن عبيد الله قال : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوى صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإِسلام .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " خمس صلوات في اليوم والليلة ، فقال : هل على غيرها ؟ .
قال : " لا . . إلا أن تطوع ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وصيام رمضان " قال : هل على غيره ؟ قال : " لا إلا أن تطوع " ، قال . وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة ، قال . هل على غيرها ؟ قال " لا إلا أن تطوع " .
قال ، فأدبر الرجل وهو يقول . والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص . فقال ، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أفلح إن صدق " " .
هذا ؛ ومما استدل به جمهور الصحابة ومن بعدهم من العلماء ، على عدم حرمة اقتناء الأموال التي تفيض عن الحاجة - ما دام قد أدى حق الله فيها - ما يأتى :
( أ ) أن قواعد الشرع لا تحرم ذلك ، وإلا لما شرع الله المواريث لأنه لو وجب إنفاق كل ما زاد عن الحاجة ، لما كان لمشروعية المواريث فائدة .
( ب ) تثبت في الحديث الصحيح " أن سعد بن أبى وقاص عندما كان مريضاً ، وزاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : يا رسول الله : أأوصى بمالى كله ؟ قال : " لا . قال سعد : فالشطر ؟ قال : لا . قال سعد : فالثلث ؟ فقال له - صلى الله عليه وسلم - فالثلث والثلثَ كثير . إنك لإن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس . . " " .
ولو كان جمع المال واقتناؤه محرما ، لأقر النبى - صلى الله عليه وسلم - سعدا على التصدق بجميع ماله ، ولأمر المسلمين أن يحذوا حذو سعد ، ولكنه صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك ، بل قال لسعد :
" إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس . . " .
وقد كان في عهده - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة من يملكون الكثير من الأموال - كعثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما - ومع هذا فلم يأمرهم بإنفاق كل ما زاد عن حاجتهم الضرورية .
قال القرطبى : قرر الشرع ضبط الأموال وأداء حقها ، ولو كان ضبط المال ممنوعا ، لكان حقه أن يخرج كله ، وليس في الأمة من يلزم هذا . وحسبك حال الصحابة وأموالهم - رضوان الله عليهم - وأما ما ذكر عن أبى ذر فهو مذهب له .
( ج ) ما ورد من آثام في ذم الكنز و الكانزين كان قبل أن تفرض الزكاة أو هو في حق من امتنع عن أداء حق الله في ماله .
قال صاحب الكشاف . فإن قلت فما تصنع في قوله - صلى الله عليه وسلم - " من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها " .
قلت : كان هذا قبل أن تفرض الزكاة ، فأما بعد فرضيتها ، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالا من حيث أذن له فيه ، ويؤدى عنه ما أوجب عليه فيه ، ثم يعاقبه .
ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبدي الله يقتنون الأموال ويتصرفون فيها ، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية لأن الإِعراض اختيار للأفضل ، والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه ، ولك شئ حد .
4- أن الإِسلام وإن كان قد أباح للمسلم اقتناء المال - بعد أداء حق الله فيه - إلا أنه أمر أتباعه أن يكونوا متوسطين في حبهم لهذا الاقتناء ، حتى يشغلهم حب المال عن طاعة الله .
ورحم الله الإِمام الرازى ، فقد قال عند تفسيره لهذه الآيات ما ملخصه ، اعلم أن الطريق الحق أن يقال ، الأولى أن لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير ، إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع ، فالأول محمول على التقوى والثانى على ظاهر الفتوى .
أما بيان أن الأولى الاحتراز عن طلب المال الكثير فلوجوه منها :
أن كثرة المال سبب لكثرة الحرص في الطلب ، والحرص متعب للروح والنفس والقلب . . والعاقل هو الذي يحترز عما يتعب روحه ونفسه وقلبه . وأن كسب المال شاق شديد ؛ وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب ، فيبقى الإِنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل ؛ وأخرى في تعب الحفظ وأن كثرة الجاه والمال تورث الطغيان ، كما قال - تعالى - { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى } هذا ، وقد ساق الإِمام ابن كثير جملة من الأحاديث في ذم التكثر من الذهب والفضة ، ومن ذلك ما رواه الإِمام أحمد عن حسان بن عطية قال :
كان شداد بن أوس - رضى الله عنه - في سفر ، فنزل منزلا فقال لغلامه : ائتنا بالسفرة نعبث بها ، فأنكرت عليه ذلك .
فقال ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت لا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتى هذه فلا تحفظوها عنى واحفظوا ما أقول لكم : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا كنز الناس الذهب والفضلة ، فاكنزوا هؤلاء الكلمات : اللهم إنى أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ؛ وأسألك شكر نعمتك ، وأسألك حسن عبادتك ، وأسألك قلبا سليما ، وأسألك لسانا صادقا ، واسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم . إنك أنت علام الغيوب " .
وبعد : فهذه سبع آيات عن أهل الكتاب ، بدأت - بقوله تعالى { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } وانتهت بقوله تعالى : { فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } .
وقد بينت هذه الآيات ما يجب أن يكون عليه موقف المؤمنين منهم ، وكشفت عن أقوالهم الباطلة ، وعن جحود رؤسائهم للحق ، وعن انقياد : عامتهم للضلال ، وعن استحلال كثير من أحبارهم ورهبانهم لمحارم الله . .
والسياق القرآني يصور عذابهم في الآخره بما كنزوا ، وعذاب كل من يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل اللّه ، في مشهد من المشاهد التصويرية الرائعة المروعة :
( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشرهم بعذاب أليم . يوم يحمى عليها في نار جهنم ، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ) . .
إن رسم المشهد هكذا في تفصيل ؛ وعرض مشهد العملية منذ خطواتها الأولى إلى خطواتها الأخيرة ، ليطيل المشهد في الخيال والحس . . وهي إطالة مقصودة :
( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشرهم بعذاب أليم ) . .
ويسكت السياق : وتنتهي الآية على هذا الإجمال والإبهام في العذاب . .
ثم يأخذ في التفصيل بعد الإجمال :
( يوم يحمى عليها في نار جهنم ) .
ثم ها هي ذي حميت واحمرت . وها هي ذي معدة مهيأة . فليبدأ العذاب الأليم . . . ها هي ذي الجباه تكوى . . . لقد انتهت عملية الكي في الجباه ، فليداروا على الجنوب . . . ها هي ذي الجنوب تكوى . . . لقد انتهت هذه فليداروا على الظهور . . . ها هي ذي الظهور تكوى . . . لقد انتهى هذا اللون من العذاب ؛ فليتبعه الترذيل والتأنيب :
هذا هو بذاته الذي كنزتموه للذة ، فانقلب أداة لهذا اللون الأليم من العذاب !
ذوقوه بذاته ، فهو هو الذي تذوقون منه مسه للجنوب والظهور والجباه !
ألا إنه لمشهد مفزع مروع ، يعرض في تفصيل وتطويل وأناة !
وهو يعرض أولاً لتصوير مصائر الكثير من الأحبار والرهبان . . ثم لتصوير مصائر الكانزين للذهب والفضة لا ينفقونها في سبيل اللّه . . والسياق يمهد لغزوة العسرة كذلك حينذاك !
وقوله تعالى : { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنزتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنزونَ } أي : يقال لهم هذا الكلام تبكيتا وتقريعا وتهكما ، كما في قوله : { ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [ الدخان : 48 ، 49 ] أي : هذا بذاك ، وهو{[13431]} الذي كنتم تكنزون لأنفسكم ؛ ولهذا يقال : من أحب شيئا وقدمه على طاعة الله ، عذب به . وهؤلاء لما كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عنهم ، عذبوا بها ، كما كان أبو لهب ، لعنه الله ، جاهدًا في عداوة الرسول ، صلوات الله [ وسلامه ]{[13432]} عليه{[13433]} وامرأته تعينه في ذلك ، كانت يوم القيامة عونًا على عذابه أيضا { فِي جِيدِهَا } أي : [ في ]{[13434]} عنقها { حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } [ المسد : 5 ] أي : تجمع من الحطب في النار وتلقي عليه ، ليكون ذلك أبلغ في عذابه ممن هو أشفق عليه - كان - في الدنيا ، كما أن هذه الأموال لما كانت أعز الأشياء على أربابها ، كانت أضر الأشياء عليهم في الدار الآخرة ، فيحمى عليها في نار جهنم ، وناهيك بحرها ، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم .
قال سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود : والله الذي لا إله غيره ، لا يكوى عبد بكنز فيمس دينار دينارًا ، ولا درهم درهما ، ولكن يوسَّع جلده ، فيوضع كل دينار ودرهم على حدته{[13435]} {[13436]}
وقد رواه ابن مرْدُويه ، عن أبي هريرة مرفوعا ، ولا يصح رفعه ، والله أعلم .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : بلغني أن الكنز يتحول يوم القيامة شجاعا يتبع صاحبه ، وهو يفر منه ويقول : أنا كنزك ! لا يدرك منه شيئا إلا أخذه .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجَعْد ، عن مَعْدَان بن أبي طلحة ، عن ثوبان أن نبي{[13437]} الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " من ترك بعده كنزا مَثَل له يوم القيامة شُجاعًا أقرع له زبيبتَان ، يتبعه ، يقول : ويلك ما أنت ؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركته{[13438]} بعدك ! ولا يزال يتبعه حتى يُلقمه يده فَيُقَصْقِصَها{[13439]} ثم يتبعها سائر جسده " .
ورواه ابن حبان في صحيحه ، من حديث يزيد ، عن سعيد به{[13440]} وأصل هذا الحديث في الصحيحين من رواية أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه{[13441]}
وفي صحيح مسلم ، من حديث سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل{[13442]} يوم القيامة صفائح من نار يكوى{[13443]} بها جنبه وجبهته وظهره ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس ، ثم يَرَى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " وذكر تمام الحديث{[13444]} وقال البخاري في تفسير هذه الآية : حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن حُصَيْن ، عن زيد بن وهب قال : مررت على أبي ذر بالرَّبَذة ، فقلت : ما أنزلك بهذه الأرض ، قال{[13445]} كنا بالشام ، فقرأت : { وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فقال معاوية : ما هذه فينا{[13446]} ما هذه إلا في أهل الكتاب . قال : قلت : إنها لفينا وفيهم{[13447]} ورواه ابن جرير من حديث عبثر بن القاسم ، عن حصين ، عن زيد بن وهب ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، فذكره وزاد : فارتفع في ذلك بيني وبينه القول ، فكتب إلى عثمان يشكوني ، فكتب إليَّ عثمان أن أقبل إليه ، قال : فأقبلت ، فلما قدمت المدينة ركبني{[13448]} الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فقال لي : تَنَحَّ قريبا . قلت : والله لن أدع ما كنت أقول{[13449]}
قلت : كان من مذهب أبي ذر ، رضي الله عنه ، تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ، وكان يفتي [ الناس ]{[13450]} بذلك ، ويحثهم عليه ، ويأمرهم به ، ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته ، فخشي أن يضر بالناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان ، وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة ، وأنزله بالربذة وحده ، وبها مات ، رضي الله عنه ، في خلافة عثمان . وقد اختبره معاوية ، رضي الله عنه{[13451]} وهو عنده ، هل يوافق عمله قوله ؟ فبعث إليه بألف دينار ، ففرقها من يومه ، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال : إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت ، فهات الذهب ! فقال : ويحك ! إنها خرجت ، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك{[13452]} به .
وهكذا روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنها عامة :
وقال السدي : هي في أهل القبلة .
وقال الأحنف بن قيس : قدمت المدينة ، فبينا أنا في حلقة فيها مَلأ من قريش ، إذ جاء رجل أخشن الثياب ، أخشن الجسد ، أخشن الوجه ، فقام عليهم فقال : بشر الكانزين برَضْف يحمى عليه في
نار جهنم ، فيوضع على حَلمة ثَدْي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل - قال : فوضع القوم رءوسهم ، فما رأيت أحدا منهم رَجَع إليه شيئا - قال : وأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية ، فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم . فقال : إن هؤلاء لا يعلمون شيئا .
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذَرّ : " ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمر عليه ثالثة وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين " {[13453]} فهذا - والله أعلم - هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن سعيد بن أبي الحسن ، عن عبد الله بن الصامت ، رضي الله عنه ، أنه كان مع أبي ذر ، فخرج عطاؤه ومعه جارية له ، فجعلت تقضي حوائجه ، ففضلت معها سبعة ، فأمرها أن تشتري به فلوسا . قال : قلت : لو ادخرته للحاجة تَنُوبك وللضيف ينزل بك ! قال : إن خليلي عهد إليَّ أنْ أيما ذهب أو فضة أوكِي{[13454]} عليه ، فهو جمر على صاحبه ، حتى يفرغه في سبيل الله ، عز وجل{[13455]} ورواه عن يزيد ، عن همام ، به وزاد : إفراغا{[13456]} وقال الحافظ ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الشبلي في ترجمته ، عن محمد بن مهدي : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن صدقة بن عبد الله ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي فَرْوَة الرّهاوي ، عن عطاء ، عن أبي سعيد ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الق الله فقيرًا ولا تلقه غنيا " . قال : يا رسول الله ، كيف لي بذلك ؟ قال : " ما سُئِلتَ فلا تَمْنَع ، وما رُزقْت فلا تَخْبَأ " ، قال : يا رسول الله ، كيف لي بذلك ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو ذاك وإلا فالنار " {[13457]} إسناده ضعيف .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا عتيبة ، عن بريد بن أصرم{[13458]} قال : سمعت عليًا ، رضي الله عنه ، يقول : مات رجل من أهل الصُّفَّة ، وترك دينارين - أو : درهمين - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيَّتان ، صلوا على صاحبكم " {[13459]}
وقد روي هذا من طرف أخر{[13460]}
وقال قتادة ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أبي أمامة صُدَي بن عَجْلان قال : مات رجل من أهل الصُّفَّة ، فوجد في مئزره دينار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيَّة " . ثم تُوفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيتان " {[13461]} وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الفراديسي ، حدثنا معاوية بن يحيى الأطرابلسي ، حدثني أرطاة ، حدثني أبو عامر الهَوْزَني ، سمعت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض ، إلا جعل الله بكل قيراط صفحة من نار يكوى بها من قدمه إلى ذقنه .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن خداش ، حدثنا سيف بن محمد الثوري ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يوضع الدينار على الدينار ، ولا الدرهم على الدرهم ، ولكن يُوَسَّع جلده فيكوى{[13462]} بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون " {[13463]} سيف - هذا - كذاب ، متروك .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ يُحْمَىَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنّمَ فَتُكْوَىَ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هََذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فبشر هؤلاء الذين يكنزون الذهب والفضة ، ولا يخرجون حقوق الله منها يا محمد بعذاب أليم يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا في نارِ جَهَنّم فاليوم من صلة العذاب الأليم ، كأنه قيل : يبشرهم بعذاب أليم يعذّبهم الله به في يوم يحمى عليها . ويعني بقوله : يُحْمَى عَلَيْهَا تدخل النار فيوقد عليها أي على الذهب والفضة التي كنزوها في نار جهنم ، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، وكل شيء أدخل النار فقد أُحمي إحماء ، يقال منه : أحميت الحديدة في النار أحميها إحماء . وقوله : فَتُكْوَى بها جبِاهُهُمْ يعني بالذهب والفضة المكنوزة . يحمى عليها في نار جهنم يكوي الله بها ، يقول : يحرق الله جباه كانزيها وجنوبهم وظهورهم . هَذَا ما كَنَزْتُمْ ومعناه : ويقال لهم : هذا ما كنزتم في الدنيا أيها الكافرون الذين منعوا كنوزهم من فرائض الله الواجبة فيها لأنفسكم فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ يقول : فيقال لهم : فأطعموا عذاب الله بما كنتم تمنعون من أموالكم حقوق الله وتكنزونها مكاثرة ومباهاة . وحذف من قوله «هذا ما كنزتم » و «يقال لهم » لدلالة الكلام عليه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن حميد بن هلال ، قال : كان أبو ذرّ يقول : بشر الكنازين بكي في الجباه وكيّ في الجنوب وكيّ في الظهور ، حتى يلتقي الحرّ في أجوافهم .
قال : حدثنا ابن علية ، عن الجريري ، عن أبي العلاء بن الشخير ، عن الأحنف بن قيس ، قال : قدمت المدينة ، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الثياب ، خشن الجسد ، خشن الوجه ، فقام عليهم ، فقال : بشر الكنازين برَضْفٍ يُحْمَى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل قال : فوضع القوم رءوسهم ، فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا . قال : وأدبر فاتبعته ، حتى جلس إلى سارية ، فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت فقال : إن هؤلاء لا يعقلون شيئا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم ، قال : ثني عمرو بن قيس ، عن عمرو بن مرة الجملي ، عن أبي نصر عن الأحنف بن قيس ، قال : رأيت في مسجد المدينة رجلاً غليظ الثياب رثّ الهيئة ، يطوف في الحلق وهو يقول : بشر أصحاب الكنوز بكيّ في جنوبهم ، وكيّ في جباههم ، وكيّ في ظهورهم ثم انطلق وهو يتذمر يقول : ما عسى تصنع بي قريش ؟ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قال أبو ذرّ : بشر أصحاب الكنوز بكيّ في الجباه ، وكيّ في الجنوب ، وكيّ في الظهور .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا في نارِ جَهَنّم قال : حية تنطوي على جبينه وجبهته ، تقول : أنا مالك الذي بخلت به .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن ثوبان ، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «مَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ كَنْزا مُثّلَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعا أقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتانِ ، يَتْبَعُهُ يَقُولُ : وَيْلَكَ ما أنْتَ ؟ فَيَقُولُ : أنا كِنْزُكَ الّذِي تَرَكْتُهُ بَعْدَكَ فَلا يَزَالُ يَتْبَعُهُ حتى يُلْقِمَهُ يَدَهُ فَيَقْضِمَها ثُمّ يَتْبَعَهُ سائِرُ جَسَدِهِ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن طاوس ، عن أبيه : قال : بلغني أن الكنوز تتحوّل يوم القيامة شجاعا يتبع صاحبه ، وهو يفرّ منه ويقول : أنا كنزك لا يدرك منه شيئا إلا أخذه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : والذي لا إله إلا غيره ، لا يكوى عبد بكنز فيمسّ دينار دينارا ولا درهم درهما ، ولكن يوسع جلده فيوضع كلّ دينار ودرهم على حدته .
قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : ما مِنْ رجل يكوى بكنز فيوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ، ولكن يوسع جلده .
انتصب { يوم يحمى } على الظرفية لِ { عذاب } [ التوبة : 34 ] ، لما في لفظ عَذاب من معنى يُعذّبون . وضمير { عليها عائد إلى الذهب والفضة } [ التوبة : 34 ] بتأويلهما بالدنانير والدراهم ، أو عائد إلى { أمْوالَ الناس } [ التوبة : 34 ] و { الذهبَ والفضةَ } [ التوبة : 34 ] ، إن كان الضمير في قوله : { فبشرهم } [ التوبة : 34 ] عائداً إلى { الأحبار والرهبان والذين يكنزون } [ التوبة : 34 ] . m
والحَمْيُ شدّة الحرارة . يقال : حَمِيَ الشيء إذا اشتدّ حرّه .
والضمير المجرور بعلَى عائد إلى { الذهب والفضة } [ التوبة : 34 ] باعتبار أنّها دنانير أو دراهم ، وهي متعدّدة وبني الفعل للمجهول لعدم تعلّق الغرض بالفاعل ، فكأنّه قيل : يوم يحمي الحَامون عليها ، وأسند الفعل المبني للمجهول إلى المجرور لعدم تعلّق الغرض بذكر المفعول المحمي لظهوره : إذ هو النار التي تُحمى ، ولذلك لم يقرن بعلامة التأنيث ، عُدّي بعلَى الدالّة على الاستعلاء المجازي لإفادة أنّ الحَمْي تمكّن من الأموال بحيث تكتسب حرارة المحمي كلها ، ثم أكّد معنى التمكّن بمعنى الظرفية التي في قوله : { في نار جهنم } فصارت الأموال محمية عليها النارُ وموضوعة في النار . وبإضافة النار إلى جهنّم علم أنّ المحمي هو نار جهنّم التي هي أشدّ نار في الحرارة فجاء تركيباً بديعاً من البلاغة والمبالغةِ في إيجاز .
والكَيُّ : أن يوضع على الجلد جمرٌ أو شيء مشتعل .
والجِباه : جمع جَبْهَة وهي أعلى الوجه ممّا يلي الرأس .
والجنُوب : جمع جَنْب وهو جانب الجسد من اليمين واليسار .
والظُّهور : جمع ظَهْر وهو ما بين العنفقة إلى منتهى فقار العظم .
والمعنى : تعميم جهات الأجساد بالكَي فإنّ تلك الجهات متفاوتة ومختلفة في الإحساس بألَم الكي ، فيحصل مع تعميم الكي إذاقة لأصنافٍ من الآلام .
وسُلك في التعبير عن التعميم مسلكُ الإطناب بالتعداد لاستحضار حالة ذلك العقاب الأليم ، تهويلاً لشأنه ، فلذلك لم يقل : فتكوى بها أجسادهم .
وكيفيةُ إحضار تلك الدراهم والدنانير لتُحمى من شؤون الآخرة الخارقة للعادات المألوفة فبقدرة الله تحضر تلك الدنانير والدراهم أو أمثالها كما ورد في حديث مانع الزكاة في « الموطأ » و« الصحيحين » أنّه يمثّل له ماله شُجاعاً أقرَع يأخذ بلهزمتيه يقول : « أنا مالك أنا كنزلك » وبقدرة الله يكوى الممتنعون من إنفاقها في سبيل الله ، وإن كانت قد تداول أعيانَها خلقٌ كثير في الدنيا بانتقالها من يد إلى يد ، ومن بلد إلى بلد ، ومن عصَر إلى عصر .
وجملة { هذا ما كنزتم لأنفسكم } مقول قول محذوف ، وحَذْف القول في مثله كثير في القرآن ، والإشارة إلى المحمي ، وزيادة قوله : { لأنفسكم } للتنديم والتغليظ ولام التعليل مؤذنة بقصد الانتفاع لأنّ الفعل الذي علّل بها هو من فعل المخاطب ، وهو لا يفعل شيئاً لأجل نفسه إلاّ لأنّه يريد به راحتها ونفعها ، فلمّا آل بهم الكنز إلى العذاب الأليم كانوا قد خابوا وخسروا فيما انتفعوا به من الذهب والفضة ، بما كان أضعافاً مضاعفة من ألم العذاب وجملة { فذوقوا ما كنتم تكنزون } توبيخ وتنديم .
والفاء في { فذوقوا } لتفريع مضمون جملة التوبيخ على جملة التنديم الأولى .
والذوْق مجاز في الحسّ بعلاقة الإطلاق ، وتقدم عند قوله تعالى : { ليذوق وبال أمره } في سورة العقود ( 95 ) .
{ وما كنتم تكنزون } مفعول لفعل الذوق على تقدير مضاف يعلم من المقام : أي ذوقوا عذابَ ما كنتم تكنزون .
وعُبِّر بالموصولية في قوله : { ما كنتم تكنزون } للتنبيه على غلطهم فيما كنزوا لقصد التنديم .