وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ أي : رجع بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ أي : مقره جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ .
وهذا يدل على أن الفرار من الزحف من غير عذر من أكبر الكبائر ، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة وكما نص هنا على وعيده بهذا الوعيد الشديد .
ومفهوم الآية : أن المتحرف للقتال ، وهو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى ، ليكون أمكن له في القتال ، وأنكى لعدوه ، فإنه لا بأس بذلك ، لأنه لم يول دبره فارا ، وإنما ولى دبره ليستعلي على عدوه ، أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته ، أو ليخدعه بذلك ، أو غير ذلك من مقاصد المحاربين ، وأن المتحيز إلى فئة تمنعه وتعينه على قتال الكفار ، فإن ذلك جائز ، فإن كانت الفئة في العسكر ، فالأمر في هذا واضح ، وإن كانت الفئة في غير محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين والتجائهم إلى بلد من بلدان المسلمين أو إلى عسكر آخر من عسكر المسلمين ، فقد ورد من آثار الصحابة ما يدل على أن هذا جائز ، ولعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون أن الانهزام أحمد عاقبة ، وأبقى عليهم .
أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم ، فيبعد - في هذه الحال -أن تكون من الأحوال المرخص فيها ، لأنه - على هذا - لا يتصور الفرار المنهي عنه ، وهذه الآية مطلقة ، وسيأتي في آخر السورة تقييدها بالعدد .
17 - 19 فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ * إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ .
ثم بين - سبحانه - أن تولية الأدبار محرمة إلا في حالتين فقال - تعالى - : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } .
وقوله : { مُتَحَرِّفاً } من التحرف بمعنى الميل والانحراف من جهة إلى جهة بقصد المخادعة في القتال وهو منصوب على الحالية .
وقوله { أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ } من التحيز بمعنى الانضمام . تقول : حزت الشئ أحوزه إذا ضممته إليك . وتحوزت الحية أي انطوت على نفسها .
والفئة : الجماعة من الناس . سميت بذلك لرجوع بعضهم إلى بعض في التعاضد والتناصر . من الفئ بمعنى الرجوع إلى حالة محمودة .
والمعنى : أن تولية الأدبار محرمة إلا في حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون المؤمن عند توليته منحازا إلى جماعة أخرى من الجيش ومنضما إليها للتعاون معها على القتال ، حيث إنها في حاجة إليه .
وهذا كله من أبواب خدع الحرب ومكايدها .
وقد توعد - سبحانه - الذي ينهزم أمام الأعداء في غير هاتين الحالتين بقوله : { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } .
أى : ومن يول الكافرين يوم لفائهم دبره غير متحرف ولا متحيز فقد رجع متلبسا بغضب شديد كائن من الله - تعالى - ومأواه الذي يأوى إليه في الآخرة جهنم وبئس المصير هى .
وقوله : { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله . . . } جواب الشرط لقوله ، ومن يولهم .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى :
1- وجوب مصابرة العدو ، والثبات في وجهه عند القتال ، وتحريم الفرار منه .
قال الآلوسى : في الآية دلالة على تحريم الفرار من الزحف على غير المتحرف أو المتحيز . أُخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة - رضى الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اجتنبوا السبع الموبقات - أي المهلكات - قالوا : يا رسول الله وما هن قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولى يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " .
ثم قال : وجاء وعد - التولى الزحف - من الكبائر في غير ما حديث .
2- أن الخطاب في الآيتين لجميع المؤمنين وليس خاصاً بأهل بدر . قال الفخر الرازى ما ملخصه : اختلف المفسرون في أن هذا الحكم - وهو تحريم التولى أمام الزحف - هل هو مختص بيوم بدر أو هو حاصل على الإِطلاق ؟
فنقل عن أبى سعيد الخدرى والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بمن كان انهزم يوم بدر . قالوا : والسبب في اختصاص بدر بهذا الحكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان حاضراً يوم بدر . . وأنه - سبحانه - شدد الأمر على أهل بدر ، لأنه كان أول الجهاد ، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه لزم منه الخلل العظيم .
والقول الثانى : أن الحكم المذكور في هذه الآية كان عاماً في جميع الحروب بديل أن قوله - تعالى - { يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ } عام فيتناول جميع الصور . أقصى ما في الباب أنه نزل في واقعة بدر ، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وهذا القول الثانى هو الذي نرجحه ، لأن ظاهر الآية يفيد العموم لكل المؤمنين في كل زمان ومكان ، ولأن سورة الأنفال كلها قد نزلت بعد الفراغ من غزوة بدر لا قبل الدخول فيها .
3- أن الآيتين محكمتان وليستا منسوختين . أي أن تحريم التولى يوم الزحف على غير المتحرف أو لمتحيز ثابت لم ينسخ .
وقد رجح ذلك الإِمام ابن جرير فقال ما ملخصه : " سئل عطاء بن أبى رباح عن قوله { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } فقال : هذه الآية منسوخة بالآية التي في الأنفال بعد ذلك وهى قوله - تعالى - : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ . . . } وليس لقوم أن يفروا من مثليهم .
وقال آخرون : بل هذه الآية حكمها عام في كل من ولى الدبر عن العدو منهزما .
وأولى التأويلين بالصواب في هذه الآية عندى : قول من قال : حكمها محكم ، وأنها نزلت في أهل بدر . وحكمها ثابت في جميع المؤمنين . وأن الله حرم على المؤمنين إذا لقوا العدو أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرف القتال ، أو التحيز إلى فئة من المؤمنين ، حيث كانت من أرض الإِسلام ، وأن من ولادهم الدبر بعد الزحف لقتال منهزما - بغير نية إحدى الخلتيين اللتين أباح الله التولية بهما - فقد استوجب من الله وعيده ، إلا أن يتفضل عليه بعفوه .
وإنما قلنا : هى محكمة غير منسوخة ، لما قد بينا في غير موضع ، أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ وله في غير النسخ وجه ، إلا بحجة التسليم لها : من خبر يقطع العذر ، أو حجة عقل ، ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قوله - تعالى - { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله } .
قال الله تعالى : ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة ) روى أبو نضرة عن أبي سعيد أن ذلك إنما كان يوم بدر . قال أبو نضرة لأنهم لو انحازوا يومئذ لأنحازوا إلى المشركين ، ولم يكن يومئذ مسلم غيرهم . . وهذا الذي قاله أبو نضرة ليس بسديد ، لأنه قد كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار ، ولم يأمرهم النبي عليه السلام بالخروج ، ولم يكونوا يرون أنه يكون قتال ، وإنما ظنوا أنها العير ، فخرج رسول الله [ ص ] فيمن خف معه . فقول أبي نضرة إنه لم يكن هناك مسلم غيرهم وإنهم لو انحازوا ، انحازوا إلى المشركين ، غلط لما وصفنا . . وقد قيل : إنه لم يكن جائزاً لهم الانحياز يومئذ لأنهم كانوا مع رسول الله [ ص ] ولم يكن الانحياز جائزاً لهم عنه ، قال الله تعالى : ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) : فلم يكن يجوز لهم أن يخذلوا نبيهم [ ص ] وينصرفوا عنه ويسلموه ، وإن كان الله قد تكفل بنصره وعصمه من الناس ، كما قال الله تعالى : ( والله يعصمك من الناس )وكان ذلك فرضاً عليهم ، قلت أعداؤهم أو كثروا ، وأيضاً فإن النبي [ ص ] كان فئة المسلمين يومئذ ، ومن كان بمنحاز عن القتال فإنما كان يجوز له الانحياز على شرط أن يكون انحيازه إلى فئة ، وكان النبي [ ص ] فئتهم يومئذ ، ولم تكن فئة غيره . قال ابن عمر : كنت في جيش ، فحاص الناس حيصة واحدة ورجعنا إلى المدينة ، فقلنا : نحن الفرارون . فقال النبي [ ص ] : " أنا فئتكم " . فمن كان بالبعد من النبي [ ص ] إذا انحاز عن الكفار فإنما كان يجوز له الانحياز إلى فئة النبي [ ص ] وإذا كان معهم في القتال لم يكن هناك فئة غيره ينحازون إليه ، فلم يكن يجوز لهم الفرار . وقال الحسن في قوله تعالى : ( ومن يولهم يومئذ دبره )قال : شددت على أهل بدر . وقال الله تعالى : ( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا )وذلك لأنهم فروا عن النبي [ ص ] وكذلك يوم حنين فروا عن النبي [ ص ] فعاقبهم الله على ذلك في قوله تعالى : ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم . فلم تغن عنكم شيئاً ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ، ثم وليتم مدبرين ) . . فهذا كان حكمهم إذا كانوا مع النبي [ ص ] قل العدو أو كثر ، إذا لم يجد الله فيه شيئاً . . وقال الله تعالى في آية أخرى : ( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا )وهذا - والله أعلم - في الحال التي لم يكن النبي [ ص ] حاضرا معهم ، فكان على العشرين أن يقاتلوا المائتين لا يهربوا عنهم ، فإذا كان عدد العدو أكثر من ذلك أباح لهم التحيز إلى فئة من المسلمين فيهم نصرة لمعاودة القتال ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً ، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله )فروي عن ابن عباس أنه قال : كتب عليكم ألا يفر واحد من عشرة : ثم قلت : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) . . . الآية . فكتب عليكم ألا يفر مئة من مئتين . وقال ابن عباس : إن فر رجل من رجلين فقد فر ، وإن فر من ثلاثة فلم يفر - قال الشيخ يعني بقوله : فقد فر : الفرار من الزحف المراد بالآية ، والذي في الآية إيجاب فرض القتال على الواحد لرجلين من الكفار ، فإن زاد عدد الكفار على اثنين فجائز حينئذ للواحد التحيز إلى فئة من المسلمين فيها نصرة ، فأما إن أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد المذكور في قوله تعالى : ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله )ولذلك قال النبي [ ص ] : " أنا فئة كل مسلم " . وقال عمر بن الخطاب لما بلغه أن أبا عبيد بن مسعود استقتل يوم الجيش حتى قتل ولم ينهزم : " رحم الله أبا عبيد ! لو انحاز إليّ لكنت له فئة " . فلما رجع إليه أصحاب أبي عبيد قال : " أنا فئة لكم " ولم يعنفهم . . وهذا الحكم عندنا [ يعني عند الحنفية ] ثابت ، ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفاً لا يجوز لهم أن ينهزموا عن مثليهم إلا متحرفين لقتال ، وهو أن يصيروا من موضع إلى غيره مكايدين لعدوهم ، ونحو ذلك ، مما لا يكون فيه انصراف عن الحرب ، أو متحيزين إلى فئة من المسلمين يقاتلونهم معهم . فإذا بلغوا اثني عشر ألفاً فإن محمد بن الحسن ذكر أن الجيش إذا بلغوا كذلك فليس لهم أن يفروا من عدوهم ، وإن كثر عددهم ، ولم يذكر خلافاً بين أصحابنا فيه [ يعني الحنفية ] واحتج بحديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله ، أن ابن عباس قال : قال رسول الله [ ص ] : " خير الأصحاب أربعة . وخير السرايا أربع مائة . وخير الجيوش أربعة آلاف . ولن يؤتى اثنا عشر ألفاً من قلة ولن يغلبوا " وفي بعضها : " ما غلب قوم يبلغون اثني عشر ألفا إذا اجتمعت كلمتهم " . وذكر الطحاوي أن مالكاً سئل ، فقيل له : أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله وحكم بغيرها ? فقال مالك : إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف ، وإلا فأنت في سعة من التخلف . . وكان السائل له عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر . وهذا المذهب موافق لما ذكر محمد بن الحسن . والذي روي عن النبي [ ص ] في اثني عشر ألفا فهو أصل في هذا الباب ، وإن كثر عدد المشركين فغير جائز لهم أن يفروا منهم وإن كانوا أضعافهم لقوله [ ص ] " إذا اجتمعت كلمتهم " . وقد أوجب عليهم بذلك جمع كلمتهم " . . . انتهى .
كذلك أورد " ابن العربي في أحكام القرآن " تعقيبا على الخلاف في المقصود بهذا الحكم قال :
" اختلف الناس : هل الفرار يوم الزحف مخصوص بيوم بدر ، أم عام في الزحوف كلها إلى يوم القيامة ?
" فروى ابن سعيد الخدري أن ذلك يوم بدر ، لم يكن لهم فئة إلا رسول الله ، وبه قال نافع ، والحسن ، وقتادة ، ويزيد بن حبيب ، والضحاك .
" ويروى عن ابن عباس وسائر العلماء أن الآية باقية إلى يوم القيامة ؛ وإنما شذ من شذ بخصوص ذلك يوم بدر بقوله : ( ومن يولهم يومئذ دبره )فظن قوم أن ذلك إشارة إلى يوم بدر . وليس به . وإنما ذلك إشارة إلى يوم الزحف .
" والدليل عليه أن الآية نزلت بعد القتال ، وانقضاء الحرب ، وذهاب اليوم بما فيه . وقد ثبت عن النبي [ ص ] حسبما قدمناه في الحديث الصحيح أن الكبائر كذا . . . وعدّ الفرار يوم الزحف . وهذا نص في المسألة يرفع الخلاف ، ويبين الحكم ، وقد نبهنا على النكتة التي وقع الإشكال فيها لمن وقع باختصاصه بيوم بدر " . .
ونحن نأخذ بهذا الذي ذكره ابن العربي من رأي " ابن عباس وسائر العلماء " . . ذلك أن التولي يوم الزحف على إطلاقه يستحق هذا التشديد لضخامة آثاره الحركية من ناحية ؛ ولمساسه بأصل الاعتقاد من ناحية . .
إن قلب المؤمن ينبغي أن يكون راسخا ثابتا لا تهزمه في الأرض قوة ، وهو موصول بقوة الله الغالب على أمره ، القاهر فوق عباده . . وإذا جاز أن تنال هذا القلب هزة - وهو يواجه الخطر - فإن هذه الهزة لا يجوز أنتبلغ أن تكون هزيمة وفرارا . والآجال بيد الله ، فما يجوز أن يولي المؤمن خوفا على الحياة . وليس في هذا تكليف للنفس فوق طاقتها . فالمؤمن إنسان يواجه عدوه إنسانا . فهما من هذه الناحية يقفان على أرض واحدة . ثم يمتاز المؤمن بأنه موصول بالقوة الكبرى التي لا غالب لها . ثم إنه إلى الله إن كان حياً ، وإلى الله إن كتبت له الشهادة . فهو في كل حالة أقوى من خصمه الذي يواجهه وهو يشاق الله ورسوله . . ومن ثم هذا الحكم القاطع :
( ومن يولهم يومئذ دبره - إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة - فقد باء بغضب من الله ، ومأواه جهنم وبئس المصير ) .
ولا بد أن نقف هنا عند التعبير ذاته ؛ وما فيه من إيماءات عجيبة : ( فلا تولوهم الأدبار ) . . ( ومن يولهم يومئذ دبره ) . . فهو تعبير عن الهزيمة في صورتها الحسية ، مع التقبيح والتشنيع ، والتعريض بإعطاء الأدبار للأعداء ! . . ثم : ( فقد باء بغضب من الله ) . . فالمهزوم مولٍّ ومعه ( غضب من الله ) يذهب به إلى مأواه : ( ومأواه جهنم وبئس المصير )
وهكذا تشترك ظلال التعبير مع دلالته في رسم الجو العام ؛ وتثير في الوجدان شعور الاستقباح والاستنكار للتولي يوم الزحف والفرار .
يقول تعالى متوعدًا على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا } أي : تقاربتم منهم ودنوتم إليهم ، { فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ } أي : تفروا وتتركوا أصحابكم ، { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ } أي : يفر بين يدي قرنه مكيدة ؛ ليريه أنه [ قد ]{[12746]} خاف منه فيتبعه ، ثم يكر عليه فيقتله ، فلا بأس عليه في ذلك . نص عليه سعيد بن جبير ، والسدي .
وقال الضحاك : أن يتقدم عن أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها .
{ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ } أي : فر من هاهنا إلى فئة أخرى من المسلمين ، يعاونهم ويعاونوه{[12747]} فيجوز له ذلك ، حتى [ و ]{[12748]} لو كان في سرية ففر إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم ، دخل في هذه الرخصة .
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا زُهَيْر ، حدثنا يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص الناس حيصة - وكنت فيمن حاص - فقلنا : كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ؟ ثم قلنا : لو دخلنا المدينة فبتنا ؟ ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا ؟ فأتيناه قبل صلاة الغداة ، فخرج فقال : " من القوم ؟ " فقلنا : نحن الفرارون . فقال : " لا بل أنتم العَكَّارون ، أنا فئتكم ، وأنا فئة المسلمين " قال : فأتيناه حتى قَبَّلنا يده .
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من طرق عن يزيد بن أبي زياد{[12749]} وقال الترمذي : حسن لا نعرفه إلا من حديثه .
ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث يزيد بن أبي زياد به . وزاد في آخره : وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ }
قال أهل العلم : معنى قوله : " العَكَّارون " أي : العطافون . وكذلك قال عمر بن الخطاب . رضي الله عنه ، في أبي عبيد لما قتل على الجسر بأرض فارس ، لكثرة الجيش من ناحية المجوس ، فقال عمر : لو انحاز إليّ كنت له فئة . هكذا رواه محمد بن سيرين ، عن عمر{[12750]}
وفي رواية أبي عثمان النهدي ، عن عمر قال : لما قتل أبو عبيد قال عمر : يا أيها الناس ، أنا فئتكم .
وقال مجاهد : قال عمر : أنا فئة كل مسلم .
وقال عبد الملك بن عُمَيْر ، عن عمر : أيها الناس ، لا تغرنكم هذه الآية ، فإنما كانت يوم بدر ، وأنا{[12751]} فئة لكل مسلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حسان بن عبد الله المصري ، حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي ، حدثنا نافع : أنه سأل ابن عمر قلت : إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا ، ولا ندري من الفئة : إمامنا أو عسكرنا ؟ فقال : إن الفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت إن الله يقول : { إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ }{[12752]} فقال : إنما نزلت هذه الآية في يوم بدر ، لا قبلها ولا بعدها .
وقال الضحاك في قوله : { أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ } المتحيز : الفار إلى النبي وأصحابه ، وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه .
فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب ، فإنه حرام وكبيرة من الكبائر ، لما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجتنبوا السبع الموبقات " . قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتَّوَلِّي يوم الزحف ، وقَذْفِ المحصنات الغافلات المؤمنات " {[12753]}
ولهذا الحديث شواهد من وجوه أخر ؛ ولهذا قال تعالى : { فَقَدْ بَاءَ } أي : رجع { بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ } أي : مصيره ومنقلبه يوم ميعاده : { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عَدِيّ ، حدثنا عبيد الله بن عمرو الرَّقِّي ، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة ، حدثنا جبلة بن سُحَيْم ، عن أبي المثنى العبدي ، سمعت السدوسي - يعني ابن الخصاصية ، وهو بشير بن معبد - قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه ، فاشترط علي : " شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن أقيم الصلاة ، وأن أؤدي الزكاة ، وأن أحج حَجَّة الإسلام ، وأن أصوم شهر رمضان ، وأن أجاهد في سبيل الله " . فقلت : يا رسول الله ، أما اثنتان فوالله لا أطيقهما : الجهاد ، فإنهم زعموا أنه من ولى الدُّبُر فقد باء بغضب من الله ، فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي وكرهت الموت . والصدقة ، فوالله ما لي إلا غُنَيْمَةٌ وعشر ذَوْدٍ هُنَّ رَسَل أهلي وحَمُولتهم . فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، ثم حرك يده ، ثم قال : " فلا جهاد ولا صدقة ، فيم تدخل الجنة إذا ؟ " فقلت : يا رسول الله ، أنا أبايعك . فبايعته عليهنَّ كلهنَّ .
هذا حديث{[12754]} غريب{[12755]} من هذا الوجه{[12756]} ولم يخرجوه في الكتب الستة .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر ، حدثنا يزيد بن ربيعة ، حدثنا أبو الأشعث ، عن ثوبان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة لا ينفع معهن عمل : الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف " . {[12757]}
وقال الطبراني أيضا : حدثنا العباس بن الفضل الأسْفَاطِيّ ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حفص بن عمر الشَّنِّي ، حدثني عمرو بن مرة قال : سمعت بلال بن يسار بن زيد - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : سمعت أبي حدث عن جدي قال : قال رسول الله : " من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه ، غفر له وإن كان قد فر من الزحف " .
وهكذا رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل ، به . وأخرجه الترمذي ، عن البخاري ، عن موسى بن إسماعيل به . وقال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه{[12758]}
قلت : ولا يعرف لزيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، عنه سواه .
وقد ذهب ذاهبون إلى أن الفرار إنما كان حراما على الصحابة ؛ لأنه - يعني الجهاد - كان فرض عين عليهم . وقيل : على الأنصار خاصة ؛ لأنهم بايعوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره . وقيل : [ إنما ]{[12759]} المراد بهذه الآية أهل بدر خاصة ، يروى هذا عن عمر ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، وأبي نضرة ، ونافع مولى ابن عمر ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم .
وحجتهم في هذا : أنه لم تكن عصابة لها شوكة يفيئون إليها سوى عصابتهم تلك ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " ؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن في قوله : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } قال : ذلك يوم بدر ، فأما اليوم : فإن انحاز إلى فئة أو مصر - أحسبه قال : فلا بأس عليه .
وقال ابن المبارك أيضا ، عن ابن لَهِيعَة : حدثني يزيد بن أبي حبيب قال : أوجب الله تعالى لمن فر يوم بدر النار ، قال : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ] }{[12760]} { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } [ آل عمران : 155 ] ، ثم كان يوم حُنَيْن بعد ذلك بسبع سنين ، قال : { ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] { ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } [ التوبة : 27 ] .
وفي سنن أبي داود ، والنسائي ، ومستدرك الحاكم ، وتفسير ابن جرير ، وابن مَرْدُوَيه ، من حديث داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد أنه قال في هذه الآية : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } إنما{[12761]} أنزلت في أهل بدر{[12762]} وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراما على غير أهل بدر ، وإن كان سبب النزول فيهم ، كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم ، من أن الفرار من الزحف من الموبقات ، كما هو مذهب الجماهير ، والله [ تعالى ]{[12763]} أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَآأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلّوهُمُ الأدْبَارَ * وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَىَ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } . .
يعني تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُوا في القِتالِ زَحْفا يقول : متزاحفا بعضكم إلى بعض ، والتزاحف : التداني والتقارب . فَلا تُوَلّوهُمُ الأدْبارَ يقول : فلا تولوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم ، ولكن اثبتوا لهم فإن الله معكم عليهم . وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ يقول : ومن يولهم منكم ظهره إلا مُتَحَرّفا لِقتَالٍ يقول : إلا مستطردا لقتال عدوّه بطلب عورة له يمكنه إصابتها فيكرّ عليه أو مُتَحَيّزا إلى فِئَةٍ أو إلا أن يوليهم ظهره متحيزا إلى فئة ، يقول : صائرا إلى حيز المؤمنين الذين يفيئون به معهم إليهم لقتالهم ويرجعون به معهم إليهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : إلاّ مُتَحَرّفا لِقِتالٍ أوْ مُتَحيّزا إلى فِئَةٍ قال : المتحرّف : المتقدّم من أصحابه ليرى غرّة من العدوّ فيصيبها . قال : والمتحيز : الفارّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وكذلك من فرّ اليوم إلى أميره أو أصحابه . قال الضحاك : وإنما هذا وعيد من الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يفرّوا ، وإنما كان النبيّ عليه الصلاة والسلام فئتهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَحَرّفا لِقِتالٍ أوْ مُتَحَيّزًا إلى فِئَةٍ أما المتحرّف يقول : إلاّ مستطردا ، يريد العودة . أوْ مُتَحيّزا إلى فِئَةٍ قال : المتحيز إلى الإمام وجنده إن هو كرّ فلم يكن له بهم طاقة ، ولا يعذر الناس وإن كثروا أن يولوا عن الإمام .
واختلف أهل العلم في حكم قول الله عزّ وجلّ : وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَحَرّفا لِقِتالٍ أوْ مُتَحَيّزًا إلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ ومَأْوَاهُ جَهَنّمُ هل هو خاصّ في أهل بدر ، أم هو في المؤمنين جميعا ؟ فقال قوم : هو لأهل بدر خاصة ، لأنه لم يكن لهم أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدوّه وينهزموا عنه فأما اليوم فلهم الانهزام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن أبي نضرة ، في قول الله عزّ وجلّ : وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال : ذاك يوم بدر ، ولم يكن لهم أن ينحازوا ، ولو انحاز أحد لم ينحز إلاّ إليّ . قال أبو موسى : يعني إلى المشركين .
حدثنا إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد ، عن داود ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، قوله عزّ وجلّ : وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ثم ذكر نحوه ، إلاّ أنه قال : ولو انحازوا انحازوا إلى المشركين ، ولم يكن يومئذٍ مسلم في الأرض غيرهم .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن مفضل ، قال : حدثنا داود ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، قال : نزلت في يوم بدر : وَمَنْ يُوَلهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ .
حدثني ابن المثنى ، وعليّ بن مسلم الطوسي ، قال ابن المثنى : ثني عبد الصمد ، وقال عليّ : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن داود ، يعني ابن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد : وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال : يوم بدر . قال أبو موسى : حُدثت أن في كتاب غندر هذا الحديث ، عن داود ، عن الشعبي ، عن أبي سعيد .
حدثنا أحمد بن محمد الطوسي ، قال : حدثنا عليّ بن عاصم ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال : إنما كان ذلك يوم بدر لم يكن للمسلمين فئة إلاّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما بعد ذلك ، فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن أبي نضرة : وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال : هذه نزلت في أهل بدر .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، قال : كتبت إلى نافع أسأله ، عن قوله : وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ أكان ذلك اليوم أم هو بعد ؟ قال : وكتب إليّ : إنما كان ذلك يوم بدر .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا زيد ، عن سفيان ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : إنما كان الفرار يوم بدر ، ولم يكن لهم ملجأ يلجئون إليه ، فأما اليوم فليس فرار .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الربيع ، عن الحسن : وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال : كانت هذه يوم بدر خاصة ، ليس الفرار من الزحف من الكبائر .
قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الضحاك وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال : كانت هذه يوم بدر خاصة ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، عن حبيب بن الشهيد ، عن الحسن وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال : نزلت في أهل بدر .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال : ذلكم يوم بدر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك عن المبارك بن فضالة ، عن الحسن وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال : ذلك يوم بدر ، فأما اليوم فإن انحاز إلى فئة أو مصر أحسبه قال : فلا بأس به .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن عون ، قال : كتبت إلى نافع وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ؟ قال : إنما هذا يوم بدر .
حدثني المثتى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، قال : ثني يزيد بن أبي حبيب ، قال : أوجب الله لمن فرّ يوم بدر النار ، قال : وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَحَرّفا لِقِتالٍ أوْ مُتَحَيّزا إلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ فلما كان يوم أُحد بعد ذلك قال : إنّمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفا اللّهُ عَنْهُمْ ثم كان حنين بعد ذلك بسبع سنين ، فقال ثُمّ وَلّيتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمّ يَتُوبُ اللّهُ مِنْ بَعْدِ ذلكَ عَلى مَنْ يَشاءُ .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ابن عون ، عن محمد ، أن عمر رضي الله عنه بلغه قتل أبي عبيد ، فقال : لو تحيز إليّ لكنت له فئة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن جرير بن حازم ، قال : ثني قيس بن سعيد ، قال : سألت عطاء بن أبي رباح ، عن قوله : وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ قال : هذه منسوخة بالاَية التي في الأنفال : الاَنَ خَفّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أنّ فِيكُمْ ضَعْفا فإنْ يَكُنْ مِنْكُم مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ قال : وليس لقوم أن يفروا من مثليهم . قال : ونسخت تلك إلاّ هذه العدّة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، قال : لما قتل أبو عبيد جاء الخبر إلى عمر ، فقال : يا أيها الناس أنا فئتكم .
قال ابن المبارك ، عن معمر وسفيان الثوري وابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قال عمر رضي الله عنه : أنا فئة كلّ مسلم .
وقال آخرون : بل هذه الاَية حكمها عام في كلّ من ولى الدبر عن العدوّ منهزما . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : أكبر الكبائر : الشرك بالله ، والفرار من الزحف لأن الله عزّ وجل يقول : وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ . . . فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَمأْوَاهُ جَهَنّمُ وَبِئْسَ المَصِير .
وأولى التأويلين في هذه الاَية بالصواب : عندي قول من قال : حكمها محكم ، وأنها نزلت في أهل بدر ، وحكمها ثابت في جميع المؤمنين ، وأن الله حرّم على المؤمنين إذا لقوا العدوّ أن يولوهم الدبر منهزمين ، إلاّ لتحرّف القتال ، أو لتحيز إلى فئة من المؤمنين حيث كانت من أرض الإسلام ، وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتال منهزما بغير نية إحدى الخلتين اللتين أباح الله التولية بهما ، فقد استوجب من الله وعيده إلاّ أن يتفضل عليه بعفوه .
وإنما قلنا هي محكمة غير منسوخة ، لما قد بيّنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ وله في غير النسخ وجه إلاّ بحجة يجب التسليم لها من خبر يقطع العذر أو حجة عقل ، ولا حجة من هذين المعنيين تدلّ على نسخ حكم قول الله عزّ وجلّ : وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَحَرفا لِقِتالٍ أوْ مُتَحَيّزا إلى فِئَةٍ .
وأما قوله : فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ يقول : فقد رجع بغضب من الله ، ومَأْوَاهُ جَهَنّمُ يقول : ومصيره الذي يصير إليه في معاده يوم القيامة جهنم وبئس المصير ، يقول : وبئس الموضع الذي يصير إليه ذلك المصير .
{ ومن يولّهم يومئذ دبره إلا متحرّفا لقتالٍ } يريد الكر بعد الفر وتغرير العدو ، فإنه من مكايد الحرب . { أو متحيّزاً إلى فئة } أو منحازا إلى فئة أخرى من المسلمين على القرب ليستعين بهم ، ومنهم من لم يعتبر القرب لما روى ابن عمر رضي الله عنهما : أنه كان في سرية بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ففروا إلى المدينة فقلت : يا رسول الله نحن الفرارون فقال : " بل أنتم العكارون وأنا فئتكم " . وانتصاب متحرفا ومتحيزا على الحال وإلا لغو لا عمل لها ، أو الاستثناء من المولين أي إلا رجلا متحرفا أو ومتحيزا ، ووزن متحير متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوزا لأنه من حاز يحوز . { فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } هذا إذا لم يزد العدو على الضعف لقوله : { الآن خفف الله عنكم } الآية ، وقيل الآية مخصوصة بأهل بيته والحاضرين معه في الحرب .
وأمر الله عز وجل في هذه الآية أن لا يولي المؤمنون أمام الكفار ، وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في ِمْثَلْي المؤمنين ، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنة من المشركين فالفرض أن لا يفروا أمامهم ، فالفرار هناك كبيرة موبقة بظاهر القرآن والحديث وإجماع الأكثر من الأمة ، والذي يراعى العدد حسب ما في كتاب اله عز وجل : وهذا قول جمهور الأمة ، وقالت فرقة منهم ابن الماجشون في الواضحة : يراعى أيضاً الضعف والقوة والعدة فيجوز على قولهم أن تفر مائة فارس إذا علموا أن عند المشركين من العدة والنجدة والبسالة ضعف ما عندهم ، وأمام أقل أو أكثر بحسب ذلك وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا أمام ما زاد على مائتين والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة ، لأنها بشعة على الفار ذامة له ، وقرأ الجمهور «دبُره » بضم الباء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «دبْره » بسكون الباء ، واختلف المتأولون في المشار إليه بقوله { يومئذ } فقالت فرقة الإشارة إلى يوم بدر وما وليه ، وفي ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فر ، ونسخ بعد ذلك حكم الآية بآية الضعف{[5262]} ، وبقي الفرار من الزحف ليس بكبيرة وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله عنهم ، وقال فيهم يوم حنين :
{ ثم وليتم مدبرين }{[5263]} ولم يقع على ذلك تعنيف .
قال القاضي أبو محمد : وقال الجمهور من الأمة : الإشارة ب { يومئذ } إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله { إذا لقيتم } وحكم الآية باق لى يوم القيامة بشرط الضعف الذي بينه الله تعالى في آية أخرى ، وليس في الآية نسخ ، وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من ضعفهم ومع ذلك عنفوا لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وفرارهم عنه ، وأما يوم حنين فكذلك من فر إنما انكشف أمام الكثرة ، ويحتمل أن عفو الله عمن فر يوم أحد كان عفواً عن كبيرة ، و { متحرفاً لقتال } يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدو وأعود عليه بالشر ، ونصبه على الحال ، وكذلك نصب متحيز ، وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم { من } ، وقال قوم : الاستثناء هو من أنواع التولي .
قال القاضي أبو محمد : ولو كان ذلك لوجب أن يكون إلا تحرفاً وتحيزاً ، والفئة ها هنا الجماعة من الناس الحاضرة للحرب ، هذا على قول الجمهور في أن الفرار من الزحف كبيرة ، وأما على القول الآخر فتكون ( الفئة ) :المدينة والإمام وجماعة المسلمين حيث كانوا ، روي هذا القول عن عمر رضي الله عنه وأنه قال : أنا فئتكم أيها المسلمون{[5264]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا منه على جهة الحيطة على المؤمنين إذ كانوا في ذلك الزمن يثبتون لأضعافهم مراراً ، وفي مسند ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجماعة فرت في سرية من سراياه : «أنا فئة المسلمين »{[5265]} حين قدموا عليه ، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «اتقوا السبع الموبقات » وعدد فيها الفرار من الزحف{[5266]} ، و { باء } بمعنى نهض متحملاً للثقل المذكور في الكلام غضباً كان أو نحوه ، والغضب من صفات الله عز وجل إذا أخذ بمعنى الإرادة فهي صفات ذات ، وإذا أخذ بمعنى إظهار أفعال الغاضب على العبد فهي صفة فعل ، وهذا المعنى أشبه بهذه الآية ، والمأوى الموضع الذي يأوي إليه الإنسان .