{ 9-12 } { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا }
وهذا الاستفهام بمعنى النفي ، والنهي . أي : لا تظن أن قصة أصحاب الكهف ، وما جرى لهم ، غريبة على آيات الله ، وبديعة في حكمته ، وأنه لا نظير لها ، ولا مجانس لها ، بل لله تعالى من الآيات العجيبة الغريبة ما هو كثير ، من جنس آياته في أصحاب الكهف وأعظم منها ، فلم يزل الله يري عباده من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم ، ما يتبين به الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، وليس المراد بهذا النفي أن تكون قصة أصحاب الكهف من العجائب ، بل هي من آيات الله العجيبة ، وإنما المراد ، أن جنسها كثير جدا ، فالوقوف معها وحدها ، في مقام العجب والاستغراب ، نقص في العلم والعقل ، بل وظيفة المؤمن التفكر بجميع آيات الله ، التي دعا الله العباد إلى التفكير فيها ، فإنها مفتاح الإيمان ، وطريق العلم والإيقان . وأضافهم إلى الكهف ، الذي هو الغار في الجبل ، الرقيم ، أي : الكتاب الذي قد رقمت فيه أسماؤهم وقصتهم ، لملازمتهم له دهرا طويلا .
قال الإِمام الرازى : " اعلم أن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف ، وسألوا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الامتحان ، فقال - تعالى - : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } ؟ لا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب فإن من كان قادرا على خلق السموات والأرض ، وعلى تزيين الأرض بما عليها من نبات وحيوان ومعادن ، ثم يجعلها بعد ذلك صعيدا جرزا خالية من الكل ، كيف يستبعد من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة من الناس مدة ثلاثمائة سنة وأكثر فى النوم . . " .
وعلى ذلك يكون المقصود بهذه الآيات الكريمة ، بيان أن قصة أصحاب الكهف ليست شيئاً عجبا بالنسبة لقدرة الله - تعالى - .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول قصة أصحاب الكهف روايات ملخصها : أن قريشا بعثت النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبى معيط ، إلى أحبار اليهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم ، وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول . وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء .
فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره صلى الله عليه وسلم فقالوا لهما سلوه عن ثلاث نأمركم بهن . فإن أخبركم بهن ، فهو نبى مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول .
سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ماذا كان من خبرهم . فإنهم قد كان لهم حديث عجيب .
وسلوه عن رجل طواف طاف المشارق والمغارب ماذا كان من خبره ؟ وسلوه عن الروح ، ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبى فاتبعوه .
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش . فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور .
ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد أخبرنا ، ثم سألوه عما قالته لهم يهود .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سأجيبكم غدا بما سألتم عنه ولم يستثن - : أى . ولم يقل إن شاء الله - فانصرفوا عنه .
ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة . لا يحدث الله إليه فى ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبريل - عليه السلام - حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمسة عشر قد أصبحنا فيها ، لا يخبرنا بشئ عما سألناه عنه . وحتى أَحْزَن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحى عنه ، وشق عليه ما تكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف ، وقول الله - تعالى -
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } والخطاب فى قوله - تعالى - { أم حسبت . . . } للرسول صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره من المكلفين .
و " أم " فى هذه الآية هى المنقطعة ، وتفسر عند الجمهور بمعنى بل والهمزة ، أى : بل أحسبت ، وعند بعض العلماء تفسر بمعنى بل ، فتكون للانتقال من كلام إلى آخر ، أى : بل حسبت . ويرى بعضهم أنها هنا بمعنى الهمزة التى للاستفهام الإِنكارى أى : أحسبت أن أصحاب الكهف والرقيم .
والكهف : هو النقب المتسع فى الجبل ، فإن لم يكن فيه سعة فهو غار ، وجمعه كهوف .
والمراد به هنا : ذلك الكهف الذى اتخذه هؤلاء الفتية مستقرا لهم .
وأما الرقيم فقد ذكروا فى المراد به أقوالا متعددة منها : أنه اسم كلبهم ، ومنها أنه اسم الجبل أو الوادى الذى كان فيه الكهف ، ومنها أنه اسم القرية التى خرج منها هؤلاء الفتية .
ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن المراد به اللوح الذى كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقصتهم ، فيكون الرقيم بمعنى المرقوم - فهو فعيل بمعنى مفعول - ومأخوذ من رقمت الكتاب إذا كتبته .
ومنه قوله - تعالى - { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } أى مكتوب .
قال بعض العلماء : " والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم : طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين : أحدهما : معطوف على الآخر ، خلافا لمن قال أن أصحاب الكهف طائفة ، وأصحاب الرقيم طائفة أخرى ، وأن الله قص على نبيه فى هذه السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف ، ولم يذكر له شيئا عن أصحاب الرقيم . وخلافا لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عليهم صخرة فسدّت عليهم باب الكهف فدعوا الله بصالح أعمالهم فانفرجت ، وهم البار بوالديه ، والعفيف ، والمستأجر ، وقصتهم مشهورة ثابتة فى الصحيح ، إلا أن تفسير الآية بأنهم هم المراد بعيد كما ترى " .
والمعنى : أظننت - أيها الرسول الكريم - أن ما قصصناه عليك من شأن هؤلاء الفتية ، كان من بين آياتنا الدالة على قدرتنا شيئا عجبا ؟ لا ، لا تظن ذلك فإن قدرتنا لا يعجزها شئ .
إن الطريقة التي اتبعت في عرض هذه القصة من الناحية الفنية هي طريقة التلخيص الإجمالي أولا ، ثم العرض التفصيلي أخيرا . وهي تعرض في مشاهد وتترك بين المشاهد فجوات يعرف ما فيها من السياق . وهي تبدأ هكذا :
( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا . إذ أوى الفتية إلى الكهف ، فقالوا : ربنا آتنا من لدنك رحمة ، وهيء لنا من أمرنا رشدا . فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ، ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ) .
هذا إخبار عن قصة أصحاب{[17981]} الكهف [ والرقيم ]{[17982]} على سبيل الإجمال والاختصار ، ثم بسطها بعد ذلك فقال : { أَمْ حَسِبْتَ } يعني : يا محمد { أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } أي : ليس أمرهم عجيبا{[17983]} في قدرتنا وسلطاننا ، فإن خلْق السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر والكواكب ، وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى ، وأنه على ما يشاء قادر{[17984]} ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف [ والرقيم ]{[17985]} كما قال ابن جريج{[17986]} عن مجاهد : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } يقول : قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك !
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } يقول : الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب ، أفضل من شأن أصحاب{[17987]} الكهف والرقيم .
وقال محمد بن إسحاق : ما أظهرت{[17988]} من حججي على العباد ، أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم .
[ وأما " الكهف " فهو : الغار في الجبل ، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون . وأما " الرقيم " ]{[17989]} فقال العوفي ، عن ابن عباس : هو واد قريب من أيلَة . وكذا قال عطية العوفي ، وقتادة .
وقال الضحاك : أما " الكهف " فهو : غار الوادي ، و " الرقيم " : اسم الوادي .
وقال مجاهد : " الرقيم " : كان{[17990]} بنيانهم{[17991]} ويقول بعضهم : هو الوادي الذي فيه كهفهم .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن سِمَاك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " الرقيم " ، قال : يزعم كعب أنها القرية .
وقال ابن جريج عن ابن عباس : " الرقيم " الجبل الذي فيه الكهف .
وقال ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن [ مجاهد عن ]{[17992]} ابن عباس قال : اسم ذلك الجبل بنجلوس .
وقال ابن جريج : أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي : أن اسم جبل الكهف بنجلوس ، واسم الكهف حيزم ، والكلب حمران .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : القرآن أعلمه إلا حَنَانًا ، والأواه ، والرقيم .
وقال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، أنه سمع عكرمة يقول : قال ابن عباس : ما أدري ما الرقيم ؟ أكتاب أم بنيان ؟
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الرقيم : الكتاب . وقال سعيد بن جبير : [ الرقيم ]{[17993]} لوح من حجارة ، كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف{[17994]} ثم وضعوه على باب الكهف .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرقيم : الكتاب . ثم قرأ : { كِتَابٌ مَرْقُومٌ } [ المطففين : 9 ]
وهذا هو الظاهر من الآية ، وهو اختيار ابن جرير قال : " الرقيم " فعيل بمعنى{[17995]} مرقوم ، كما يقول للمقتول : قتيل ، وللمجروح : جريح . والله أعلم .