{ 17 - 33 } { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ }
إلى آخر القصة يقول تعال : إنا بلونا هؤلاء المكذبين بالخير وأمهلناهم ، وأمددناهم بما شئنا من مال وولد ، وطول عمر ، ونحو ذلك ، مما يوافق أهواءهم ، لا لكرامتهم علينا ، بل ربما يكون استدراجًا لهم من حيث لا يشعرون{[1194]} فاغترارهم بذلك نظير اغترار أصحاب الجنة ، الذين هم فيها شركاء ، حين زهت ثمارها أينعت أشجارها ، وآن وقت صرامها ، وجزموا أنها في أيديهم ، وطوع أمرهم ، [ وأنه ] ليس ثم مانع يمنعهم منها .
وبمناسبة الحديث السابق الذى فيه إشارة إلى المال والبنين ، اللذين كانا من أسباب بطر هؤلاء الكافرين وطغيانهم . . ساق القرآن بعد ذلك قصة أصحاب الجنة ، لتكون موعظة وعبرة كل عاقل ، فقال تعالى :
{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة . . . } .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : هذا مثل ضربة الله - تعالى - لكفار قريش ، فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة ، وأعطاهم من النعم الجسيمة ، وهو بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم إليهم ، فقابلوه بالتكذيب والمحاربة . .
وقد ذكر بعض السلف : أن أصحاب الجنة هؤلاء ، كانوا من أهل اليمن ، كانوا من قرية يقال لها : " ضَرَوان " على ستة أميال من صنعاء . . وكان أبوهم قد ترك لهم هذه الجنة ، وكانوا من أهل الكتاب ، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة ، فكان ما استغله منها يرد فيها ما يحتاج إليه ، ويدخر لعياله قوت سنتهم ، ويتصدق بالفاضل .
فلما مات وورثه أولاده ، قالوا : لقد كان أبونا أحمق ، إذ كان يصرف من هذه الجنة شيئا للفقراء ، ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك لنا ، فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم ، فقد أذهب الله ما بأيديهم بالكلية : أذهب رأس المال ، والربح . . فلم يبق لهم شئ . .
وقوله - سبحانه - : { بَلَوْنَاهُمْ } أي : اختبرناهم وامتحناهم ، مأخوذ من البلوى ، التي تطلق على الاختبار ، والابتلاء قد يكون بالخير وقد يكون بالشر ، كما قال - تعالى - : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } والمراد بالابتلاء هنا : الابتلاء بالشر بعد جحودهم لنعمة الخير .
أي : إنا امتحنا مشركي قريش بالقحط والجوع . حتى أكلوا الجيف ، بسبب كفرهم بنعمنا ، وتكذيبهم لرسولنا صلى الله عليه وسلم ، كما ابتلينا من قبلهم أصحاب الجنة ، بأن دمرناها تدميرا ، بسبب بخلهم وامتناعهم عن أداء حقوق الله منها . .
ويبدو أن قصة أصحاب الجنة ، كانت معروفة لأهل مكة ، ولذا ضرب الله - تعالى - المثل بها . حتى يعتبروا ويتعظوا . .
ووجه المشابهة بين حال أهل مكة ، وحال أصحاب الجنة . . يتمثل في أن كلا الطرفين قد منحه الله - تعالى - نعمة عظيمة ، ولكنه قابلها بالجحود وعدم الشكر .
و { إذ } في قوله : { إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِين . . } تعليلية .
والضمير في { أَقْسَمُواْ } يعود لمعظمهم ، لأن الآيات الآتية بعد ذلك ، تدل على أن أوسطهم قد نهاهم عما اعتزموه من حرمان المساكين ، ومن مخالفة ما يأمرهم شرع الله - تعالى - به . .
قال - تعالى - : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ . . } .
وقوله : { لَيَصْرِمُنَّهَا } من الصرم وهو القطع . يقال : صرم فلان زرعه - من باب ضرب - إذا جَزّه وقطعه ، ومنه قولهم : انصرم حبل المودة بين فلان وفلان ، إذا انقطع .
وقوله : { مُصْبِحِينَ } أي : داخلين في وقت الصباح المبكر .
أي : إنا امتحنا أهل مكة بالبأساء والضراء ، كما امتحنا أصحاب البستان الذين كانوا قبلهم ، لأنهم أقسموا بالأيمان المغلظة ، ليقطعن ثمار هذا البستان في وقت الصباح المبكر .
وبمناسبة الإشارة إلى المال والبنين ، والبطر الذي يبطره المكذبون ، يضرب لهم مثلا بقصة يبدو أنها كانت معروفة عندهم ، شائعة بينهم ، ويذكرهم فيها بعاقبة البطر بالنعمة ، ومنع الخير والاعتداء على حقوق الآخرين ؛ ويشعرهم أن ما بين أيديهم من نعم المال والبنين ، إنما هو ابتلاء لهم كما ابتلي أصحاب هذه القصة ، وأن له ما بعده ، وأنهم غير متروكين لما هم فيه :
إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ، ولا يستثنون . فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ، فأصبحت كالصريم . فتنادوا مصبحين : أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين . فانطلقوا وهم يتخافتون : ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين . وغدوا على حرد قادرين . فلما رأوها قالوا : إنا لضالون ، بل نحن محرومون . قال أوسطهم : ألم أقل لكم لولا تسبحون ! قالوا : سبحان ربنا إنا كنا ظالمين . فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون ، قالوا : يا ويلنا إنا كنا طاغين ، عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون . . كذلك العذاب ، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون . .
وهذه القصة قد تكون متداولة ومعروفة ، ولكن السياق القرآني يكشف عما وراء حوادثها من فعل الله وقدرته ، ومن ابتلاء وجزاء لبعض عباده . ويكون هذا هو الجديد في سياقها القرآني .
ومن خلال نصوصها وحركاتها نلمح مجموعة من الناس ساذجة بدائية أشبه في تفكيرها وتصورها وحركتها بأهل الريف البسطاء السذج . ولعل هذا المستوى من النماذج البشرية كان أقرب إلى المخاطبين بالقصة ، الذين كانوا يعاندون ويجحدون ، ولكن نفوسهم ليست شديدة التعقيد ، إنما هي أقرب إلى السذاجة والبساطة !
والقصة من ناحية الأداء تمثل إحدى طرق الأداء الفني في القرآن ؛ وفيه مفاجآت مشوقة كما أن فيه سخرية بالكيد البشري العاجز أمام تدبير الله وكيده . وفيه حيوية في العرض حتى لكأن السامع - أو القارئ - يشهد القصة حية تقع أحداثها أمامه وتتوالى . فلنحاول أن نراها كما هي في سياقها القرآني :
ها نحن أولاء أمام أصحاب الجنة - جنة الدنيا لا جنة الآخرة - وها هم أولاء يبيتون في شأنها أمرا . لقد كان للمساكين حظ من ثمرة هذه الجنة - كما تقول الروايات - على أيام صاحبها الطيب الصالح . ولكن الورثة يريدون أن يستأثروا بثمرها الآن ، وأن يحرموا المساكين حظهم . . فلننظر كيف تجري الأحداث إذن !
( إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ، ولا يستثنون ) .
لقد قر رأيهم على أن يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر ، دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين . وأقسموا على هذا ، وعقدوا النية عليه ، وباتوا بهذا الشر فيما اعتزموه . . فلندعهم في غفلتهم أو في كيدهم الذي يبيتوه ،
ولننظر ماذا يجري من ورائهم في بهمة الليل وهم لا يشعرون . فإن الله ساهر لا ينام كما ينامون ، وهو يدبر لهم غير ما يدبرون ، جزاء على ما بيتوا من بطر بالنعمة ومنع للخير ، وبخل بنصيب المساكين المعلوم . . إن هناك مفاجأة تتم في خفية . وحركة لطيفة كحركة الأشباح في الظلام . والناس نيام :
هذا مَثَل ضَرَبه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة ، وأعطاهم من النعم الجسيمة ، وهو بَعْثُهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم إليهم ، فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة ؛ ولهذا قال : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ } أي : اختبرناهم ، { كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ } وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه { إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } أي : حلفوا فيما بينهم لَيجُذَّنَ ثَمرها ليلا لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل ، ليتوفر ثمرها عليهم ولا يتصدقوا منه بشيء ،
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.