تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (27)

27 - 28 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ .

يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يؤدوا ما ائتمنهم اللّه عليه من أوامره ونواهيه ، فإن الأمانة قد عرضها اللّه على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولافمن أدى الأمانة استحق من اللّه الثواب الجزيل ، ومن لم يؤدها بل خانها استحق العقاب الوبيل ، وصار خائنا للّه وللرسول ولأمانته ، منقصا لنفسه بكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات ، وأقبح الشيات ، وهي الخيانة مفوتا لها أكمل الصفات وأتمها ، وهي الأمانة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (27)

ثم وجه - سبحانه - بعد ذلك نداء رابعا وخامسا إلى المؤمنين فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . الفضل العظيم } .

روى المفسرون في سبب نزول قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ } روايات منها :

ما جاء عن ابن عباس من أنها نزلت في أبى لبابة حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بنى قريظة فقالوا له : يا أبا لباية ما ترى ؟ أنزل على حكم سعد بن معاذ فينا ؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه . أي أن حكم سعد فيكم سيكون الذبح فلا تنزلوا .

قال أبو لبابة : والله ما زالت قدماى - عن مكانهما - حتى علمت أنى قد خنت الله ورسوله .

ومنها ما جاء عن جابر بن عبد الله من أنها نزلت في منافق كتب إلى أبى سفيان يطلعه على سر من أسرار المسلمين .

ومنها ما جاء عن السدى من أنها نزلت في قوم كانوا يسمعون الشئ عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ثم يحدثون به المشركين . .

قال ابن كثير : والصحيح أن الآية عامة وإن صح أنها وردت على سبب خاص ؛ فإن الأخذ بعمون اللفظ لا بخصوص السبب و المعتمد عند الجماهير من العلماء .

وقوله { لاَ تَخُونُواْ } من الخون بمعنى بمعنى النقص . يقال خونه تخويناً أى : نسبه إلى الخيانة ونقصه .

قال صاحب الكشاف : معنى الخون : النقص ، كما أن معنى الوفاء التام . ومنه تخونه إذا تنقصه ، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء ؛ لأنك إذا خنت الرجل في شئ فقد أدخلت عليه النقصان فيه . وقد استعير فقيل : خان الدلو الكرب - والكرب حبل يشد في رأس الدلو - وخان المشتار السبب . والمشتار مجتنى العسل والسبب الحبل - لأنه إذا انقطع به فكأنه لم يف له .

والمقصود بخيانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - : إهمال سسنه التي جاء بها وأمرنا بالتقدي بتعاليمها .

والمقصود بالأمانات : الأسرار والعهود والودائع وغير ذلك من الشئون التي تكون بينهم وبين غيرهم مما يجب أن يصان ويحفظ .

والمعنى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله } بأن تهملوا فرائضه ، وتتعدوا حدوده ، ولا تخونوا { والرسول } - صلى الله عليه وسلم - ، بأن تتركوا سنته وتتصرفوا إلى غيرها ، وتخالفوا ما أمركم به وتجترحوا ما نهاكم عنه ، ولا تخونوا { أَمَانَاتِكُمْ } بأن تفشوا الأسرار التي بينكم ، وتنقضوا العهود التي تعاهدتم على الوفاء بها ، وتنكروا الودائع التي أودعها لديكم غيركم ، وتستجيبوا ما يجب حفظه من سائر الحقوق المادية والمعنوية ، فقوله : { وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ } معطوف على قوله { لاَ تَخُونُواْ } .

وأعاد النهى للإِشعار بأن كل واحد من المنهى عنه مقصود بذاته اهتماما به .

وقوله : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } الواو للحال ، والمفعول محذوف . أى . والحال أنكم تعلمون سوء عاقبة الخائن لله ولرسوله وللأمانات التي اؤتمن عليها ، فعليكم أن تتجنبوا الخيانة في جميع صورها ؛ لتنالوا رضى الله ومئويته .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (27)

27

( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون . واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ، وأن الله عنده أجر عظيم ) . .

إن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض خيانة لله والرسول . فالقضية الأولى في هذا الدين هي قضية :

" لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " . . قضية إفراد الله - سبحانه - بالألوهية ؛ والأخذ في هذا بما بلغه محمد [ ص ] وحده . . والبشرية في تاريخها كله لم تكن تجحد الله البتة ؛ ولكنها إنما كانت تشرك معه آلهة أخرى . أحيانا قليلة في الاعتقاد والعبادة . وأحيانا كثيرة في الحاكمية والسلطان - وهذا هو غالب الشرك ومعظمه - ومن ثم كانت القضية الأولى لهذا الدين ليست هي حمل الناس على الاعتقاد بألوهية الله . ولكن حملهم على إفراده - سبحانه - بالألوهية ، وشهادة أن لا إله إلا الله ، اي إفراده بالحاكمية في حياتهم الأرضية - كما أنهم مقرّون بحاكميته في نظام الكون - تحقيقا لقول الله تعالى : ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) . . كذلك كانت هي حملهم على أن الرسول هو وحده المبلغ عن الله ؛ ومن ثم الالتزام بكل ما يبلغهم إياه . هذه هي قضية هذا الدين - اعتقادا لتقريره في الضمير ، وحركة لتقريره في الحياة - ومن هنا كان التخلي عنها خيانة الله لله والرسول ؛ يحذر الله منها العصبة المسلمة التي آمنت به وأعلنت هذا الإيمان ؛ فأصبح متعينا عليها أن تجاهد لتحقيق مدلوله الواقعي ؛ والنهوض بتكاليف هذا الجهاد في الأنفس والأموال والأولاد .

كذلك يحذرها خيانة الأمانة التي حملتها يوم بايعت رسول الله [ ص ] على الإسلام . فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان ، وليس مجرد عبارات وأدعيات . إنما هو منهج حياة كاملة شاملة تعترضه العقبات والمشاق . إنه منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة أن لا إله إلا الله ؛ وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق ؛ ورد المجتمع إلى حاكميته وشريعته ، ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء ؛ وتأمين الحق والعدل للناس جميعا ؛ وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت ؛ وتعمير الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله بمنهج الله

وكلها أمانات من لم ينهض بها فقد خانها ؛ وخاس بعهده الذي عاهد الله عليه ، ونقض بيعته التي بايع بها رسوله .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (27)

قال عبد الله بن أبي قتادة والزهري : أنزلت في أبي لُبابة بن عبد المنذر ، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قُرَيْظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستشاروه في ذلك ، فأشار عليهم بذلك - وأشار بيده إلى حلقه - أي : إنه الذبح ، ثم فطن أبو لبابة ، ورأى أنه قد خان الله ورسوله ، فحلف لا يذوق ذواقا حتى يموت أو يتوب الله عليه ، وانطلق إلى مسجد المدينة ، فربط نفسه في سارية منه ، فمكث كذلك تسعة أيام ، حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد ، حتى أنزل الله توبته على رسوله . فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه ، وأرادوا أن يحلوه من السارية ، فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه [ وسلم ]{[12848]} بيده ، فحله ، فقال : يا رسول الله ، إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة ، فقال{[12849]} يجزيك الثلث أن تصدق به " {[12850]}

وقال ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا يونس بن الحارث الطائفي ، حدثنا محمد بن عبيد الله أبو عون الثقفي ، عن المغيرة بن شعبة قال : نزلت هذه الآية في قتل عثمان ، رضي الله عنه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } الآية .

وقال ابن جرير أيضا : حدثنا القاسم بن بِشْر بن معروف ، حدثنا شَبَابة بن سَوَّار ، حدثنا محمد بن المحرم قال : لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال : حدثني جابر بن عبد الله ؛ أن أبا سفيان خرج من مكة ، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبا سفيان في كذا وكذا . فقال النبي{[12851]} صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " إن أبا سفيان في موضع{[12852]} كذا وكذا ، فاخرجوا إليه واكتموا " فكتب رجل من المنافقين إليه : إن محمدًا يريدكم ، فخذوا حذركم ، فأنزل الله [ عز وجل ]{[12853]} { لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ } الآية{[12854]}

هذا حديث غريب جدًّا ، وفي سنده وسياقه نظر .

وفي الصحيحين قصة " حاطب بن أبي بَلْتَعَة " أنه كتب إلى قريش يعلمهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عام الفتح ، فأطلع الله رسوله على ذلك ، فبعث في إثر الكتاب فاسترجعه ، واستحضر حاطبا فأقر بما صنع ، فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ، ألا أضرب عنقه ، فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ؟ فقال : " دعه ، فإنه قد شهد بدرا ، ما{[12855]} يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " {[12856]}

قلت : والصحيح أن الآية عامة ، وإن صح أنها وردت على سبب خاص ، فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء . والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدية .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ } الأمانة الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد - يعني الفريضة يقول : لا تخونوا : لا تنقضوها .

وقال في رواية : { لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } يقول : بترك سنته وارتكاب معصيته .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير في هذه الآية ، أي : لا تظهروا لله{[12857]} من الحق ما يرضى به منكم ، ثم تخالفوه في السر إلى غيره ، فإن ذلك هلاك لأماناتكم ، وخيانة لأنفسكم .

وقال السُّدِّيّ : إذا خانوا الله والرسول ، فقد خانوا أماناتهم .

وقال أيضا : كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين . وقال عبد الرحمن بن زيد [ بن أسلم ]{[12858]} نهاكم أن تخونوا الله والرسول ، كما صنع المنافقون .


[12848]:زيادة من د، ك، م، أ.
[12849]:في أ: "فقال له".
[12850]:رواه الطبري في تفسيره (13/481).
[12851]:في أ: "رسول الله".
[12852]:في أ: "بمكان".
[12853]:زيادة من د، ك، م.
[12854]:تفسير الطبري (13/480).
[12855]:في ك، م: "وما".
[12856]:انظر: تخريجه عند تفسير الآية: 9 من هذه السورة.
[12857]:في د، ك، م: "لا تظهروا له".
[12858]:زيادة من أ.