تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

{ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

أي : ولا تأخذوا أموالكم أي : أموال غيركم ، أضافها إليهم ، لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، ويحترم ماله كما يحترم ماله ، ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة .

ولما كان أكلها نوعين : نوعا بحق ، ونوعا بباطل ، وكان المحرم إنما هو أكلها بالباطل ، قيده تعالى بذلك ، ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية ، أو نحو ذلك ، ويدخل فيه أيضا ، أخذها على وجه المعاوضة ، بمعاوضة محرمة ، كعقود الربا ، والقمار كلها ، فإنها من أكل المال بالباطل ، لأنه ليس في مقابلة عوض مباح ، ويدخل في ذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة ، ونحوها ، ويدخل في ذلك استعمال الأجراء وأكل أجرتهم ، وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم يقوموا بواجبه ، ويدخل في ذلك أخذ الأجرة على العبادات والقربات التي لا تصح حتى يقصد بها وجه الله تعالى ، ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات ، والأوقاف ، والوصايا ، لمن ليس له حق منها ، أو فوق حقه .

فكل هذا ونحوه ، من أكل المال بالباطل ، فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه ، حتى ولو حصل فيه النزاع وحصل الارتفاع إلى حاكم الشرع ، وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة ، غلبت حجة المحق ، وحكم له الحاكم بذلك ، فإن حكم الحاكم ، لا يبيح محرما ، ولا يحلل حراما ، إنما يحكم على نحو مما يسمع ، وإلا فحقائق الأمور باقية ، فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة ، ولا شبهة ، ولا استراحة .

فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة ، وحكم له بذلك ، فإنه لا يحل له ، ويكون آكلا لمال غيره ، بالباطل والإثم ، وهو عالم بذلك . فيكون أبلغ في عقوبته ، وأشد في نكاله .

وعلى هذا فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه ، لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال تعالى : { وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

وبعد أن أنهى القرآن حديثه عن الصيام ، وما يتعلق به من أحكام ، أردف ذلك بالنهي عن أكل الحرام ، لأنه يؤدي إلى عدم قبول العبادات من صيام واعتكاف ودعاء وغير ذلك فقال - تعالى - : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام . . . }

الخطاب في الآية الكريمة موجه إلى المؤمنين كافة في كل زمان ومكان .

والمراد بالأكل مطلق الأخذ بغير وجه حق ، وعبر عنه بالأكل ، لأن الأكل أهم وسائل الحياة ، وفيه تصرف الأموال غالباً .

والباطل في اللغة : الزائل الذاهب ، يقال : بطل يبطل بطولا وبطلانا . أي ذهب ضياًعا وخسراً . وجمع الباطل أباطيل . ويقال : بطل الأجير يبطل بطالة إذا تعطل واتبع اللهو .

والمراد هنا : كل ما لم يبح الشرع أخذه من المال وإن طابت به النفس ، كالربا والميسر وثمن الخمر ، والرشوة ، وشهادة الزور ، والسرقة ، والغصب ، ونحو ذلك مما حرمه الله - تعالى - .

والباء للسببية ، والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله ، وكذلك قوله : { بَيْنَكُمْ } .

والمعنى : لا يأخذ بعضكم مال بعض ، ويستولي عليه بغير حق ، متذرعا بالأسباب الباطلة ، والحيل الزائفة ، وما إلى ذلك من وجوه التعدي والظلم .

وفي قوله - تعالى - : { أَمْوَالَكُمْ } - مع أن أكل المال يتناول مال الإِنسان ومال غيره - في هذا القول إشعار بوحدة الأمة وتكافلها ، وتنبيه إلى أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لمالك أنت ، ففي هذه الإضافة البليغة تعليل للنهي ، وبيان لحكمة الحكم ، إذا استحلال الإِنسان لمال غيره يجرئ هذا الغير على استحلال مال ذلك الإِنسان المتعدي ، وإذا فشا هذا السلوك في أمة من الأمم أدى بها إلى الضعف والتعادي والتباغض .

فما أحكم هذا التعبير ، وما أجمل هذا التصوير .

وقوله : { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام } معطوف على { وَلاَ تأكلوا } .

والإِدلاء في الأصل : إرسال الدلو في البئر للاستقاء . ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء ؛ ومنه أدلى فلان بحجته ، أي : أرسلها ليصل إلى مراده .

والمراد بالإِدلاء هنا : الدفع والإِلقاء بالأموال إلى الغير من أجل الوصول إلى أمر معين .

والحكام : جمع حاكم ، وهو الذي يتصدى للفصل بين الناس في خصوماتهم وقضاياهم .

والفرق : الطقعة المعزولة من جملة الشيء ، ومنه قيل للقطعة من الغنم تشذ عن معظمها فريق .

والإِثم : الفعل الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب . وجمعه آثام .

والمعنى : لا يأخذ بعضكم أموال بعض - أيها المسلمون - ولا يستولي عليها بغير حق ، ولا تدلوا بها الى الحكام ، أي ولا تلقوا أمرها والتحاكم فيها إلى القضاة ، لا من أجل الوصول إلى الحق ، وإنما من أجل أن تأخذوا عن طريق التحاكم قطعة من أموال غيركم متلبسين بالإِثم الذي يؤدي إلى عقابكم ، حال كونكم تعلمون أنكم على باطل ، ولا شك أن إتيان الباطل مع العلم بأنه باطل أدعى إلى التوبيخ من إتيانه على جهالة به .

فعلى هذا الوجه يكون المراد بالإِدلاء بالأموال إلى الحكام طرحها أمامهم ليقضوا فيها ، وليتوسل بعض الخصوم عن طريق هذا القضاء إلى أكل الأموال بالباطل حين عجزوا عن أكلها بالمغالبة .

وهناك وجه آخر تحتمله الآية احتمالا قريباً ، وبه قال كثير من العلماء وهو أن المراد بالإِدلاء بالأموال إلى الحكام ، إلقاءؤها إليهم على سبيسل الرشوة ليصلوا من وراء ذلك إلى أن يحكموا لصالحهم بالباطل ، وعليه يكون المعنى .

لا يأخذ بضعكم أموال بعض أيها المسلمون ، ولا تلقوا ببعضها إلى حكام السوء على سبيل الرشوة ، لتتوصلوا بأحكامهم الجائرة إلى أكل فريق من أموال الناس بغير حق . ولا غربة في أن يعني القرآن في سياسته الرشيدة بالتحذير من جريمة الرشوة ، فإنها المعول الذي يهدم صرح العدل من أساسه وبها تفقد مجالس القضاء حرمتها وكرامتها ، وتصير تلك المجالس موطنا للظلم لا للعدل .

وخص القرآن الكريم هذه الصورة بالنهي - وهي صورة الإِدلاء بالأموال إلى الحكام - مع أنه قد ذكر ما يشملها بقوله : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } لأنها على وجهي تفسيرها شديدة الشناعة ، جامعة لمنكرات كثيرة ، كالظلم ، والتباغض والرشوة ، والغصب وغير ذلك . والحق ، أن هذه الآية الكريمة أصل من الأصول التي يقوم عليها إصلاح المعاملات ، وقد أخذ العلماء منها حرمة أكل أموال الناس بالباطل ، وحرمة إرشاء الحكام ليقضي للراشي بمال غيره ، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الجميع في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله الراشي والمرتشي والرائش " وهو الواسطة الذي يمشي بينهما .

كما أخذوا منها أن حكم الحاكم على ما يقتضيه الظاهر من أمر القضية لا يحل في الواقع حراماً ، ولا يحرم حلالاً ، والدليل على ذلك ما أخرجه الشيخان عن أم سلمة - رضي الله عنها - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : " إنما أنا بشر وإنه ليأتيني الخصم . فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض ، فأحسب أنه قد صدق ، فأقضى له بذلك . فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها " .

قال الإِمام ابن كثير : فدلت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر ، فلا يحل في نفس الأمر حراماً ولا يحرم حلالا ، وإنماهو ملزم في الظاهر فإن طبق في نفس الأمر فذاك وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره . ولهذا قال - تعالى - في آخر الآية { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . أي تعلمون بطلان ما تدعونه وترجونه في كلامكم . وبذلك تكون الآية الكريمة قد رسمت طريق الحق لمن يريد أن يسير فيه { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

178

وفي ظل الصوم ، والامتناع عن المأكل والمشرب ، يرد تحذير من نوع آخر من الأكل : أكل أموال الناس بالباطل ، عن طريق التقاضي بشأنها أمام الحكام اعتمادا على المغالطة في القرائن والأسانيد ، واللحن بالقول والحجة . حيث يقضي الحاكم بما يظهر له ، وتكون الحقيقة غير ما بدا له . ويجيء هذا التحذير عقب ذكر حدود الله ، والدعوة إلى تقواه ، ليظللها جو الخوف الرادع عن حرمات الله :

( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ) .

ذكر ابن كثير في تفسير الآية : " قال علي بن أبي طلحة وعن ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال ، وليس عليه فيه بينة ، فيجحد المال ، ويخاصم إلى الحكام ، وهو يعرف أن الحق عليه ، وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام . وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير ، وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم أنهم قالوا : لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم . وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله [ ص ] قال : " إنما أنا بشر ، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار . فليحملها أو ليذرها " . .

وهكذا يتركهم لما يعلمونه من حقيقة دعواهم . فحكم الحاكم لا يحل حراما ، ولا يحرم حلالا . إنما هو ملزم في الظاهر . وإثمه على المحتال فيه .

وهكذا يربط الأمر في التقاضي وفي المال بتقوى الله . كما ربط في القصاص ، وفي الوصية وفي الصيام . فكلها قطاعات متناسقة في جسم المنهج الإلهي المتكامل . وكلها مشدودة إلى تلك العروة التي تربط قطاعات المنهج كله . . ومن ثم يصبح المنهج الإلهي وحدة واحدة . لا تتجزأ ولا تتفرق . ويصبح ترك جانب منه وإعمال جانب ، إيمانا ببعض الكتاب وكفرا ببعض . . فهو الكفر في النهاية . والعياذ بالله . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مّنْ أَمْوَالِ النّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

يعني تعالى ذكره بذلك : ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل . فجعل تعالى ذكره بذلك أكل مال أخيه بالباطل كالاَكل مال نفسه بالباطل ، ونظير ذلك قوله تعالى : { وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ }وقوله : { وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } بمعنى : لا يلمز بعضكم بعضا ، ولا يقتل بعضكم بعضا لأن الله تعالى ذكره جعل المؤمنين إخوة ، فقاتل أخيه كقاتل نفسه ، ولامزه كلامز نفسه ، وكذلك تفعل العرب تكني عن أنفسها بأخواتها ، وعن أخواتها بأنفسها ، فتقول : أخي وأخوك أينا أبطش ، تعني أنا وأنت نصطرع فننظر أينا أشد ، فيكني المتكلم عن نفسه بأخيه ، لأن أخا الرجل عندها كنفسه ومن ذلك قول الشاعر :

أخي وأخُوكَ بِبَطْن النّسَيْر ِلَيْسَ لنَا مِنْ مَعَدّ عَرِيْب

فتأويل الكلام : ولا يأكل بعضكم أموال بعض فيما بينكم بالباطل ، وأكله بالباطل أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه .

وأما قوله : { وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّام } فإنه يعني : وتخاصموا بها ، يعني بأموالكم إلى الحكام لتأكلوا فريقا ، طائفة من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون .

ويعني بقوله : بالإثْم بالحرام الذي قد حرمه الله عليكم ، وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي وأنتم تتعمدون أكل ذلك بالإثم على قصد منكم إلى ما حرم الله عليكم منه ، ومعرفة بأن فعلكم ذلك معصية لله وإثم . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ ، } فهذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة فيجحد المال فيخاصمهم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه ، وهو يعلم أنه آثم آكل حراما .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ قال : لا تخاصم وأنت ظالم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ }وكان يقال : من مشى مع خصمه وهو له ظالم فهو آثم حتى يرجع إلى الحقّ . واعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحلّ لك حراما ولا يحقّ لك باطلاً ، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى ويشهد به الشهود ، والقاضي بشر يخطىء ويصيب . واعلموا أنه من قد قضي له بالباطل ، فإن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة ، فيقضي على المبطل للمحق ، ويأخذ مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ } قال : لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم ، فإن قضاءه لا يحل لك شيئا كان حراما عليك .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ لتِأكُلُوا فَريقا مِنْ أمْوَالِ النّاسِ بالإثْمِ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ }أما الباطل ، يقول : يظلم الرجل منكم صاحبه ، ثم يخاصمه ليقطع ماله وهو يعلم أنه ظالم ، فذلك قوله : وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني خالد الواسطي ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة قوله : وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ قال : هو الرجل يشتري السلعة فيردّها ويردّ معها دراهم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ يقول : يكون أجدل منه وأعرف بالحجة ، فيخاصمه في ماله بالباطل ليأكل ماله بالباطل . وقرأ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا َلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } قال : هذا القمار الذي كان يعمل به أهل الجاهلية .

وأصل الإدلاء : إرسال الرجل الدلو في سبب متعلقا به في البئر ، فقيل للمحتجّ بدعواه أدلى بحجة كيت وكيت إذا كان حجته التي يحتجّ بها سببا له هو به متعلق في خصومته ، كتعلق المستقي من بئر بدلو قد أرسلها فيها بسببها الذي الدلو به متعلقة ، يقال فيها جميعا ، أعني من الاحتجاج ، ومن إرسال الدلو في البئر بسبب : أدلى فلان بحجته فهو يدلي بها إدلاء ، وأدلى دلوه في البئر فهو يدليها إدلاء .

فأما قوله : { وَتُدْلُوا بِها إلى الحُكّامِ } فإن فيه وجهين من الإعراب ، أحدهما : أن يكون قوله : وَتُدْلُوا جزما عطفا على قوله : { وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ } أي ولا تدلوا بها إلى الحكام ، وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبيّ بتكرير حرف النهي ، ولا تدلوا بها إلى الحكام . والاَخر منهما النصب على الظرف ، فيكون معناه حينئذ : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وأنتم تدلون بها إلى الحكام ، كما قال الشاعر :

لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأتِيَ مِثْلَهُ *** عارٌ عَلَيْكُ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ

يعني : لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله ، وهو أن يكون في موضع جزم على ما ذكر في قراءة أبيّ أحسن منه أن يكون نصبا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (188)

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 188 )

الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض ، فأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهياً عنه( {[1756]} ) ، وكما قال { تقتلون أنفسكم }( {[1757]} ) [ البقرة : 85 ] ، ويدخل في هذه الآية القمار والخداع والغصوب وجحد الحقائق وغير ذلك ، ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما يبيع لأن الغبن كأنه وهبه( {[1758]} ) .

وقال قوم : المراد بالآية { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } أي في الملاهي والقيان والشراب والبطالة ، فتجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين .

وقوله تعالى : { وتدلوا بها } الآية ، يقال أدلى الرجل بالحجة أو بالأمر الذي يرجو النجاح به تشبيهاً بالذي يرسل الدلو في البئر يرجو بها الماء .

قال قوم : معنى الآية( {[1759]} ) : تسارعون في الأموال إلى المخاصمة إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم ، إما بأن لا تكون على الجاحد بينة ، أو يكون مال أمانة كاليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قوله ، فالباء في { بها } باء السبب ، وقيل : معنى الآية ترشوا بها على أكل أكثر منها ، فالباء إلزاق مجرد( {[1760]} ) ، وهذا القول يترجح لأن الحكام مظنة الرشا إلا من عصم وهو الأقل ، وأيضاً فإن اللفظين متناسبتان ، { تدلوا } من أرسل الدلو والرشوة من الرشا ، كأنها يمد بها لتقضي الحاجة ، و { تدلوا } في موضع جزم عطفاً على { تأكلوا } ، وفي مصحف أبيّ «ولا تدلوا » بتكرار حرف النهي ، وهذه القراءة تؤيد جزم { تدلوا } في قراءة الجماعة ، وقيل : { تدلوا } في موضع نصب على الظرف ، وهذا مذهب كوفي أن معنى الظرف هو الناصب( {[1761]} ) ، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه «أن » مضمرة( {[1762]} ) ، والفريق : القطعة والجزء ، و { بالإثم } معناه بالظلم والتعدي ، وسمي ذلك إثماً لما كان الإثم معنى يتعلق بفاعله ، و { أنتم تعلمون } أي إنكم مبطلون آثمون ، وهذه مبالغة في المعصية والجرأة .


[1756]:- الإضافة في قوله: [أموالكم] يحتمل أن تكون حقيقة، بمعنى: لا تأكلوا أموالكم المملوكة لكم بالباطل، أي بالمعاصي والملاهي، فيكون الخطاب للمالكين – ويحتمل أن تكون مجازية للملابسة، أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالغصب والنهب والغش والخداع والربا وكل ما حرمه الشرع ولم يأذن به، فهذه الآية الكريمة عامة في الأشخاص وفي الأموال، وبهذا ينتفي الباطل في سائر المعاملات المالية وغير المالية. وإنما قال على الوجه الثاني: [أموالكم] لأن آكل مال أخيه بالباطل كالآكل مال نفسه بالباطل و[إنما المؤمنون إخوة].
[1757]:- أي كما قال الله تعالى: [ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتُخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان] من الآية (85) من سورة (البقرة).
[1758]:- هذا صحيح إذا كان عارفاً بحقيقة ما بيع كما إذا باع حجراً كريما وعرف أنه ياقوتة مثلا، وقوله قبل ذلك "وجحد الحقائق" يريد به الحقوق جمع حق – وإلا فالحقائق جمع حقيقة وهي لا تلائم التعبير هنا.
[1759]:- أي قوله تعالى: [وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون].
[1760]:- أي: إلصاق مجرد عن السببية.
[1761]:- قال (ح): لم يقم دليل قاطع من لسان العرب على الظرف ينصب فنقول به. وأما إعراب الأخفش هنا أن (تدلوا) منصوب على جواب النهي وتجويز الزمخشري ذلك فتلك مسألة: لا تأكل السمك وتشرب اللبن بالنصب، وقد قال النحاة: إذا نصبت كان الكلام نهيا عن الجمع بينهما وهذا المعنى لا يصح في الآية لأن النهي عن الجمع بينهما لا يستلزم النهي عن كل منهما على انفراده، والنهي عن كل واحد منهما يستلزم النهي عن الجمع بينهما لأن في الجمع بينهما حصول كل واحد مهما عنه ضرورة. أما ترى أن أكل المال بالباطل حرام سواء أفرد أم جمع مع غيره من المحرمات ؟، وأيضا قوله: (لتأكلوا) علة لما قبلها، فلو كان النهي عن الجمع لم تصلح العلة له لأنه مركب من شيئين لا تصلح العلة أن يترتب على وجودهما، بل إنما يترتب على وجود أحدهما.
[1762]:- كما في قول الشاعر: لا تَنْهَ عَنْ خُلٌقٍ وتَأْتِي مِثْلَـــهُ عَارٌ عليْكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيـــمُ