{ 44 } { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ }
يخبر تعالى عن فضله وكرمه ، حيث أنزل كتابا عربيًا ، على الرسول العربي ، بلسان قومه ، ليبين لهم ، وهذا مما يوجب لهم زيادة الاغتناء به ، والتلقي له والتسليم ، وأنه لو جعله قرآنا أعجميًا ، بلغة غير العرب ، لاعترض ، المكذبون وقالوا : { لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي : هلا بينت آياته ، ووضحت وفسرت . { أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } أي : كيف يكون محمد عربيًا ، والكتاب أعجمي ؟ هذا لا يكون فنفى الله تعالى كل أمر ، يكون فيه شبهة لأهل الباطل ، عن كتابه ، ووصفه بكل وصف ، يوجب لهم الانقياد ، ولكن المؤمنون الموفقون ، انتفعوا به ، وارتفعوا ، وغيرهم بالعكس من أحوالهم .
ولهذا قال : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } أي : يهديهم لطريق الرشد والصراط المستقيم ، ويعلمهم من العلوم النافعة ، ما به تحصل الهداية التامة وشفاء لهم من الأسقام البدنية ، والأسقام القلبية ، لأنه يزجر عن مساوئ الأخلاق وأقبح الأعمال ، ويحث على التوبة النصوح ، التي تغسل الذنوب وتشفي القلب .
{ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } بالقرآن { فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ } أي : صمم عن استماعه وإعراض ، { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } أي : لا يبصرون به رشدًا ، ولا يهتدون به ، ولا يزيدهم إلا ضلالاً فإنهم إذا ردوا الحق ، ازدادوا عمى إلى عماهم ، وغيًّا إلى غيَّهم .
{ أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } أي : ينادون إلى الإيمان ، ويدعون إليه ، فلا يستجيبون ، بمنزلة الذي ينادي ، وهو في مكان بعيد ، لا يسمع داعيًا ولا يجيب مناديًا . والمقصود : أن الذين لا يؤمنون بالقرآن ، لا ينتفعون بهداه ، ولا يبصرون بنوره ، ولا يستفيدون منه خيرًا ، لأنهم سدوا على أنفسهم أبواب الهدى ، بإعراضهم وكفرهم .
ثم رد - سبحانه - على بعض الشبهات التى أثاروها حول القرآن الكريم ردا يخرس ألسنتهم فقال : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ . . . } .
والأعجمى : يطلق على الكلام الذى لا يفهمه العربى ، كما يطلق على من لا يحسن النطق بالعربية . وقوله : { ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } خبر لمبتدأ محذوف .
أى : ولو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم كما قالوا : هلا أنزل هذا القرآن بلغة العجم .
لو فعلنا ذلك - كما أرادوا - لقالوا مرة أخرى على سبيل التعجب : فلا فصلت ووضحت آيات هذا الكتاب بلغة نفهمها ؟ ثم لأضافوا إلى التعجب والإِنكار ، تعجبا آخر فقالوا : أقرآن أعجمى ورسول عربى ؟
ومقصدهم من هذه الشبهة الداحضة ، إنما هو إنكار الإِيمان به سواء أنزل بلغة العرب أم بلغة العجم .
فهم عند نزوله عربيا قالوا من بين ما قالوا : لا تسمعوا لهذا القرآن والغو فيه ، ولو نزل بلسان أعجمى ، لاعترضوا وقالوا : هلا نزل بلسان عربى نفهمه .
ولو جعلنا بعضه أعجميا وبعضه عربيا لقالوا : أقرآن أعجمى ورسول عربى .
وهكذا المعاندون الجاحدون لا يقصدون من وراء جدالهم إلا التعنت والسفاهة .
ثم أمر الله - تعالى - رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بالرد الذى يكبتهم فقال : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ . . . }
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الجاحدين : هذا القرآن هو للذين آمنوا إيمانا حقا هداية إلى الصراط المستقيم ، وشفاء لما فى الصدور من أسقام .
كما قال - سبحانه - فى آية أخرى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ . . . } ثم بين - سبحانه - موقف للكافرين من هذا الكتاب فقال : { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ } أى : بهذا الكتاب ، وبمن نزل عليه الكتاب .
{ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ } أى : فى آذانهم صمم عن سماع ما ينفعهم .
{ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } أى : وهذا القرآن عميت قلوبهم عن تدبره وعن الاهتداء به .
وقوله - تعالى - { أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } ذم شنيع لهم على إعراضهم عن هذا القرآن الذى ما أنزله الله - تعالى - إلا لإِخراجهم من الظلمات إلى النور .
أى : أولئك الكافرون الذين لا ينتفعون بالقرآن مثلهم فى صممم وانطماس بصائرهم ، كمثل من يناديه مناد من مكان بعيد ، فهو لا يسمع منه شيئا ، ولا يعقل عنه شيئا ، لوجود السمافة الشاسعة بين المنادى ، وبين من وقع عليه النداء .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } يقال ذلك لمن لا يفهم من التمثيل .
وحكى أهل اللغة أنه يقال للذى يفهم : أنت تسمع من قريب ، ويقال للذى لا يفهم : أنت تنادى من بعيد أى : كأنه ينادى من موضع بعيد منه ، فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه .
وقال الضحاك : { يُنَادَوْنَ } يوم القيامة بأقبح أسمائهم { مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } فيكون ذلك لتوبيخهم وفضيحتهم .
ومن يتدبر هذه الآية الكريمة يرى مصداقها فى كل زمان ومكان ، فهناك من ينتفع بهذا القرآن قراءة وسماعا وتطبيقا . . وهناك من يستمعون إلى هذا القرآن ، فلا يزيدهم إلا صمما ، ورجسا إلى رجسهم وعمى على عماهم .
ثم يذكرهم بنعمة الله عليهم أن جعل هذا القرآن عربياً بلسانهم ؛ كما يشير إلى طريقتهم في العنت والإلحاد والجدل والتحريف :
( ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا : لولا فصلت آياته ! أأعجمي وعربي ? ) . .
فهم لا يصغون إليه عربياً ، وهم يخافون منه لأنه عربي يخاطب فطرة العرب بلسانهم . فيقولون : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . ولو جعله الله قرآنا أعجمياً لاعترضوا عليه أيضاً ، وقالوا لولا جاء عربياً فصيحاً مفصلاً دقيقاً ! ولو جعل بعضه أعجمياً وبعضه عربياً لاعترضوا كذلك وقالوا أأعجمي وعربي ? ! فهو المراء والجدل والإلحاد .
والحقيقة التي تخلص من وراء هذا الجدل حول الشكل ، هي أن هذا الكتاب هدى للمؤمنين وشفاء ، فقلوب المؤمنين هي التي تدرك طبيعته وحقيقته ، فتهتدي به وتشتفي . فأما الذين لا يؤمنون فقلوبهم مطموسة لا تخالطها بشاشة هذا الكتاب ، فهو وقر في آذانهم ، وعمى ً في قلوبهم . وهم لا يتبينون شيئاً . لأنهم بعيدون جداً عن طبيعة هذا الكتاب وهواتفه :
( قل : هو للذين آمنوا هدى وشفاء ، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ، وهو عليهم عمى ً ، أولئك ينادون من مكان بعيد ) . .
ويجد الإنسان مصداق هذا القول في كل زمان وفي كل بيئة . فناس يفعل هذا القرآن في نفوسهم فينشئها إنشاء ، ويحييها إحياء ؛ ويصنع بها ومنها العظائم في ذاتها وفيما حولها . وناس يثقل هذا القرآن على آذانهم وعلى قلوبهم ، ولا يزيدهم إلا صمماً وعمى . وما تغير القرآن . ولكن تغيرت القلوب . وصدق الله العظيم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيّ وَعَرَبِيّ قُلْ هُوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيَ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلََئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مّكَانٍ بَعِيدٍ } .
يقول تعالى ذكره : ولو جعلنا هذا القرآن الذي أنزلناه يا محمد أعجميا لقال قومك من قريش : لَوْلا فُصّلَتْ آياتُهُ يعني : هلا بينت أدلته وما فيه من آية ، فنفقهه ونعلم ما هو وما فيه ، أأعجميّ ، يعني أنهم كانوا يقولون إنكارا له : أأعجمي هذا القرآن ولسان الذي أُنزل عليه عربيّ ؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الاَية لَوْلا فُصّلَتْ آياتُهُ أأعْجَمِيّ وَعَرَبِيّ قال : لو كان هذا القرآن أعجميا لقالوا : القرآن أعجميّ ، ومحمد عربي .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثني محمد بن أبي عديّ ، عن داود بن أبي هند ، عن جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير في هذه الاَية : لَوْلا فُصّلَتْ آياتُهُ أأعْجَمِيّ وَعَرَبِيّ قال : الرسول عربيّ ، واللسان أعجمي .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : حدثنا أبو داود عن سعيد بن جبير في قوله : وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنا أعْجَمِيّا لَقالُوا لَوْلا فُصّلَتْ آياتُهُ أأعْجَمِيّ وَعَرَبِيّ قرآن أعجميّ ولسان عربيّ .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن محمد بن أبي موسى ، عن عبد الله بن مطيع بنحوه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لَوْلا فُصّلَتْ آياتُهُ فجعل عربيا ، أعجمي الكلام وعربيّ الرجل .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنا أعْجَمِيّا لَقالُوا لَوْلا فُصّلَتْ آياتُهُ يقول : بُينت آياته ، أأعجميّ وعربيّ ، نحن قوم عرب مالنا وللعُجْمة .
وقد خالف هذا القول الذي ذكرناه عن هؤلاء آخرون ، فقالوا : معنى ذلك لَوْلا فُصّلَتْ آياتُهُ بعضها عربيّ ، وبعضها عجميّ . وهذا التأويل على تأويل من قرأ أعْجَمِيّ بترك الاستفهام فيه ، وجعله خبرا من الله تعالى عن قيل المشركين ذلك ، يعني : هلا فصّلت آياته ، منها عجميّ تعرفه العجم ، ومنها عربي تفقهه العرب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : قالت قريش : لولا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا ، فأنزل الله وقَالُوا لَوْلا فُصّلَتْ آياتُهُ أعْجَمِيّ وَعَربِيّ ، قُلْ هُوَ للّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفاءً فأنزل الله بعد هذه الاَية كل لسان ، فيه حِجارَةٍ مِنْ سِجّيلٍ قال : فارسية ، أعربت : سنك وكَلّ .
وقرأت قرّاء الأمصار : أأعْجَمِيّ وَعَرَبِيّ على وجه الاستفهام ، وذُكر عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك : أعجمي بهمزة واحدة على غير مذهب الاستفهام ، على المعنى الذي ذكرناه عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا القراءة التي عليها قرّاء الأمصار لإجماع الحجة عليها على مذهب الاستفهام .
وقوله : قُلْ هُوَ للّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفاءٌ يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهم : هو ، ويعني بقوله هُوَ القرآن لِلّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله ، وصدّقوا بما جاءهم به من عند ربهم هُدًى يعني بيان للحقّ وَشِفاءٌ يعني أنه شفاء من الجهل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قُلْ هُوَ لِلّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشفاءٌ قال : جعله الله نورا وبركة وشفاء للمؤمنين .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قُلْ هُوَ لِلّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشفاءٌ قال : القرآن .
وقوله : والّذِينَ لا يُوءْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى يقول تعالى ذكره : والذين لا يؤمنون بالله ورسوله ، وما جاءهم به من عند الله في آذانهم ثقل عن استماع هذا القرآن ، وصمم لا يستمعونه ولكنهم يعرضون عنه ، وهو عليهم عمًى يقول : وهذا القرآن على قلوب هؤلاء المكذّبين به عمًى عنه ، فلا يبصرون حججه عليهم ، وما فيه من مواعظه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة والّذِينَ لا يُوءْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى عموا وصموا عن القرآن ، فلا ينتفعون به ، ولا يرغبون فيه .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ والّذِينَ لا يُوءْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ قال : صمم وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى قال : عميت قلوبهم عنه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى قال : العمى : الكفر .
وقرأت قرّاء الأمصار : وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى بفتح الميم . وذُكر عن ابن عباس أنه قرأ : «وهو عليهم عَمٍ » بكسر الميم على وجه النعت للقرآن .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار .
وقوله : أُولَئكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ اختلف أهل التأويل في معناه ، فقال بعضهم : معنى ذلك : تشبيه من الله جلّ ثناؤه ، لعمى قلوبهم عن فهم ما أنزل في القرآن من حججه ومواعظه ببعيد ، فهم سامع مع صوت من بعيد نودي ، فلم يفهم ما نودي ، كقول العرب للرجل القليل الفهم : إنك لُتنَادَى من بعيد ، وكقولهم للفَهِم : إنك لتأخذ الأمور من قريب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن بعض أصحابه ، عن مجاهد أُولَئكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال : بعيد من قلوبهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج عن مجاهد ، بنحوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أُولَئكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال : ضيّعوا أن يقبلوا الأمر من قريب ، يتوبون ويؤمنون ، فيقبل منهم ، فأبوا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنهم ينادون يوم القيامة من مكان بعيد منهم بأشنع أسمائهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن أجلح ، عن الضحاك بن مزاحم أُولَئكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال : ينادَى الرجل بأشنع اسمه .
واختلف أهل العربية في موضع تمام قوله : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بالذّكْر لَمّا جاءَهُمْ فقال بعضهم : تمامه : أُولَئكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وجعل قائلوا هذا القول خبر إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بالذّكْر أُولَئكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وقال بعض نحويي البصرة : ذلك ويجوز أن يكون على الأخبار التي في القرآن يستغنى بها ، كما استغنت أشياء عن الخبر إذا قال الكلام ، وعرف المعنى ، نحو قوله : وَلَوْ أنّ قُرْآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ وما أشبه ذلك .
قال : وحدثني شيخ أهل العلم ، قال : سمعت عيسى بن عمر يسأل عمرو بن عبيد إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بالذّكْرِ لَمّا جاءَهُمْ أين خبره ؟ فقال عمرو : معناه في التفسير : إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به وإنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ فقال عيسى : أجدت يا أبا عثمان .
وكان بعض نحويي الكوفة يقول : إن شئت جعلت جواب إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بالذّكْر أُولَئكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وإن شئت كان جوابه في قوله : وإنّهُ لَكِتابٌ عَزيزٌ ، فيكون جوابه معلوما ، فترك فيكون أعرب الوجهين وأشبهه بما جاء في القرآن .
وقال آخرون : بل ذلك مما انصرف عن الخبر عما ابتدىء به إلى الخبر عن الذي بعده من الذكر فعلى هذا القول ترك الخبر عن الذين كفروا بالذكر ، وجعل الخبر عن الذكر فتمامه على هذا القول وإنه لكتاب عزيز فكان معنى الكلام عند قائل هذا القول : إن الذكر الذي كفر به هؤلاء المشركون لما جاءهم ، وإنه لكتاب عزيز ، وشبهه بقوله : وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزْوَاجا يَتَربّصْنَ بأنْفُسِهِنّ .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : هو مما ترك خبره اكتفاء بمعرفة السامعين بمعناه لما تطاول الكلام .
الأعجمي : هو الذي لا يفصح عربياً كان أو غير عربي ، والعجمي : الذي ليس من العرب فصيحاً كان أو غير فصيح ، وهذه الآية نزلت بسبب تخليط كان من قريش في أقوالهم من أجل الحروف التي وقعت في القرآن ، وهي مما عرِّب من كلام العجم : كالسجين والإستبرق ونحوه ، فقال عز وجل : ولو جعلنا هذا القرآن أعجمياً لا يبين لقالوا واعترضوا لولا بينت آياته .
واختلف القراء في قوله : { أأعجمي وعربي } فقراءة الجمهور على الاستفهام وهمزة ممدودة قبل الألف . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعمش : «أأعجمي » بهمزتين ، وكأنهم كانوا ينكرون ذلك فيقولون : لولا بين أأعجمي وعربي مختلط هذا لا يحسن ، وتأول ابن جبير أن معنى قولهم : أتجيئنا عجمة ونحن عرب ؟ ما لنا وللعجمة ؟ وقرأ الحسن البصري وأبو الأسود والجحدري وسلام والضحاك وابن عباس وابن عامر بخلاف عنهما : «أعْجمي وعربي » دون استفهام وبسكون العين ، كأنهم قالوا عجمة وإعراب ، إن هذا لشاذ ، أو كأنهم قالوا لولا فصل فصلين ، فكان بعضه أعجمياً يفهمه العجم ، وبعضه عربياً يفهمه العرب ، وهذا تأويل لابن جبير أيضاً . وقرأ عمرو بن ميمون : «أعَجمي » بهمزة واحدة دون مد وبفتح العين ، فأخبر الله تعالى عنهم أنه لو كان على أي وجه تخيل لكان لهم قول واعتراض فاسد ، هذا مقصد الكلام .
وأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يقول لهم : إن القرآن { هدى وشفاء } للمؤمنين المبصرين للحقائق ، وأنه على الذين لا يؤمنون ولا يصرفون نظرهم وحواسهم في المصنوعات عمي ، لأنهم { في آذانهم وقر } وعلى قلوبهم أقفال وعلى أعينهم غشاوة .
واختلف الناس في قوله : { وهو عليهم } فقالت فرقة : يريد ب { هو } القرآن . وقالت فرقة : { وهو } يريد به الوقر . والوقر : الثقل في الآذن المانع من السمع ، وهذه كلها استعارات ، أي هم لما لم يفهموا ولا حصلوا كالأعمى وصاحب الوقر .
وقرأ ابن عباس ومعاوية وعمرو بن العاصي : «وهو عليهم عمٍ » بكسر الميم وتنوينه . وقال يعقوب : لا أدري أنونوا أم فتحوا الياء على الفعل الماضي ؟ وبغير ياء رواها عمرو بن دينار وسليمان بن قتة عن ابن عباس .
وهذه القراءة أيضاً فيها استعارة{[10091]} ، وكذلك قوله تعالى : { أولئك ينادون } يحتمل معنيين ، وكلاهما مفعول للمفسرين : أحدهما أنها استعارة لقلة فهمهم ، شبههم بالرجل ينادى على بعد يسمع منه الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه ، وهذا تأويل مجاهد ، والآخر أن الكلام على الحقيقة وأن معناه أنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف ، فتعظم السمعة عليهم ويحل المصاب ، وهذا تأويل الضحاك بن مزاحم .