{ وَقَالَ } لهم إبراهيم في جملة ما قاله من نصحه : { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : غاية ذلك ، مودة في الدنيا ستنقطع وتضمحل ، { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } أي : يتبرأ كل من العابدين والمعبودين من الآخر { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } فكيف تتعلقون بمن يعلم أنه سيتبرأ من عابديه ويلعنهم ؟ " و " أن مأوى الجميع ، العابدين والمعبودين " النَّار " وليس أحد ينصرهم من عذاب اللّه ، ولا يدفع عنهم عقابه .
ثم حكى - سبحانه - ما قاله إبراهيم - عليه السلام - لقومه بعد أن نجاه الله من شرورهم فقال : { وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدنيا ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } .
ولفظ " مودة " وردت فيه قراءات : فقد قرأه بعض القُراء السبعة بالنصب ، على أنه مفعول به لقوله : { اتخذتم } أو على أنه مفعول لأجله ، فيكون المعنى :
وقال إبراهيم لقومه : يا قوم إنكم لم تتخذوا هذه الأوثان معبودات لكم عن عقدية واقتناع بأحقية عبادتها . وإنما اتخذتموها معبودات من أجل فيما بينكم ، ومن أجل أن يجامل بعضكم بعضا فى عبادتها ، على حساب الحق والهدى .
وهذا شأنكم فى الدنيا ، أما فى يوم القيامة ، فهذه المودة ستزول لأنها مودة باطلة ، وسيكفر بعضكم ببعض ، ويلعن بعضكم بعضا ، حيث يتبرأ القادة من الأتباع ، والأتباع من القادة . { وَمَأْوَاكُمُ النار } أى : ومنزلكم الذى تأوون إليه أنتم وأصنامكم يوم القيامة النار { وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } يخلصونكم من هذه النار ، أو يخففون عسيرها عنكم .
وبعض القراء السبعة قرأ لفظ { مَّوَدَّةَ } بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف : أى : أن ما اتخذتموه من عبادة الأوثان ، هو مودة بينكم فى الحياة الدنيا ، أما فى الآخرة فسيكفر بعضكم ببعض ، ليعن بعضكم بعضا .
والمقصود من الآية الكريمة ، بيان أن هؤلاء المشركين لم يتخذوا الأصنام آلهة ، وهم يعتقدون صحة ذلك اعتقادا جازما ، وإنما اتخذوها فى الدنيا آلهة تارة على سيل التواد فيما بينهم ، وتارة على سبيل التقليد والمسايرة لغيرهم . . أما فى الآخرة فستتول تلك المودات والمسايرات والتقاليد إلى عداوات ومقاطعات وملاعنات . .
ويمضي في القصة بعد نجاة إبراهيم من النار . فلقد يئس من إيمان القوم الذين لم تلن قلوبهم للمعجزة الواضحة . فإذا هو يجبههم بحقيقة أمرهم ، قبل أن يعتزلهم جميعا :
( وقال : إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ، ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ، ويلعن بعضكم بعضا ، ومأواكم النار ، وما لكم من ناصرين ) . .
إنه يقول لهم : إنكم اتخذتم الأوثان من دون الله ، لا اعتقادا واقتناعا بأحقية هذه العبادة ؛ إنما يجامل بعضكم بعضا ، ويوافق بعضكم بعضا ، على هذه العبادة ؛ ولا يريد الصاحب أن يترك عبادة صاحبه - حين يظهر الحق له - استبقاء لما بينكم من مودة على حساب الحق والعقيدة ! وإن هذا ليقع في الجماعات التي لا تأخذ العقيدة مأخذ الجد ، فيسترضي الصاحب صاحبه على حساب العقيدة ؛ ويرى أمرها أهون من أن يخالف عليه صديقه ! وهي الجد كل الجد . الجد الذي لا يقبل تهاونا ولا استرخاء ولا استرضاء .
ثم يكشف لهم عن صفحتهم في الآخرة . فإذا المودة التي يخشون أن يمسوها بالخلاف على العقيدة ، والتي يبقون على عبادة الأوثان محافظة عليه . . إذا هي يوم القيامة عداء ولعن وانفصام :
( ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ) . .
يوم يتنكر التابعون للمتبوعين ، ويكفر الأولياء بالأولياء ، ويتهم كل فريق صاحبه أنه أضله ، ويلعن كل غوي صاحبه الذي أغواه !
ثم لا يجدي ذلك الكفر والتلاعن شيئا ، ولا يدفع عن أحد عذابا :
( ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ) . .
النار التي أرادوا أن يحرقوه بها ، فنصره الله منها ونجاه . فأما هم فلا نصرة لهم ولا نجاة !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ إِنّمَا اتّخَذْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً مّوَدّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النّارُ وَمَا لَكُمْ مّن نّاصِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل إبراهيم لقومه : وَقالَ إبراهيم لقومه : يا قوم إنّمَا اتّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أوْثانا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : مَوَدّةَ بَيْنِكُمْ فقرأته عامة قرّاء المدينة والشأم وبعض الكوفيين : «مَوَدّةً » بنصب مودة بغير إضافة بينكم بنصبها . وقرأ ذلك بعض الكوفيين : مَوَدّةَ بَيْنِكُمْ بنصب المودّة وإضافتها إلى قوله بَيْنِكُمْ ، وخفض بينِكم . وكأن هؤلاء الذين قرءوا قوله : مَوَدّةَ نصبا وجّهوا معنى الكلام إلى : إنما اتخذتم أيها القوم أوثانا مودة بينكم ، فجعلوا إنما حرفا واحدا ، وأوقعوا قوله اتّخَذْتمْ على الأوثان ، فنصبوها بمعنى : اتخذتموها مودّة بينكم في الحياة الدنيا ، تتحابّون على عبادتها ، وتتوادّون على خدمتها ، فتتواصلون عليها . وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل مكة والبصرة : «مَوَدّةُ بَيْنِكُمْ » برفع المودة وإضافتها إلى البين ، وخفض البين . وكأن الذين قرءوا ذلك كذلك ، جعلوا «إنّ مَا » حرفين ، بتأويل : إن الذين اتخذتم من دون الله أوثانا إنما هو مودّتكم للدنيا ، فرفعوا مودة على خبر إن . وقد يجوز أن يكونوا على قراءتهم ذلك رفعا بقوله «إنما » أن تكون حرفا واحدا ، ويكون الخبر متناهيا عند قوله إنّمَا اتّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أوْثانا ثم يبتدىءُ الخبر فيقال : ما مودتكم تلك الأوثان بنافعتكم ، إنما مودّة بينكم في حياتكم الدنيا ، ثم هي منقطعة ، وإذا أريد هذا المعنى كانت المودّة مرفوعة بالصفة بقوله فِي الحَياةِ الدّنْيا وقد يجوز أن يكونوا أرادوا برفع المودّة ، رفعها على ضمير هي .
وهذه القراءات الثلاث متقاربات المعاني ، لأن الذين اتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها ، اتخذوها مودة بينهم ، وكانت لهم في الحياة الدنيا مودة ، ثم هي عنهم منقطعة ، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب ، لتقارب معاني ذلك ، وشهرة القراءة بكلّ واحدة منهنّ في قرّاء الأمصار . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَقالَ إنّمَا اتّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أوْثانا مَوَدّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحَياةِ الدنْيا ، ثمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ ببَعْضٍ ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضا قال : صارت كلّ خُلّة في الدنيا عداوة على أهلها يوم القيامة إلاّ خُلّة المتقين .
وقوله : ثُمّ يَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضا يقول تعالى ذكره : ثم يوم القيامة أيها المتوادّون على عبادة الأوثان والأصنام ، والمتواصلون على خدماتها عند ورودكم على ربكم ، ومعاينتكم ما أعدّ الله لكم على التواصل ، والتوادّ في الدنيا من ألم العذاب يَكْفر بعضكم ببعض يقول : يتبرأ بعضكم من بعض ، ويلعن بعضُكم بعضا .
وقوله : ومَأْوَاكُمُ النّارُ يقول جلّ ثناؤه : ومصير جميعكم أيها العابدون الأوثان وما تعبدون النارُ ومَا لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يقول : وما لكم أيها القوم المتخذو الاَلهة ، من دون الله مودّة بينكم من أنصار ينصرونكم من الله حين يصليكم نار جهنم ، فينقذونكم من عذابه .
{ وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا } أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها ، وثاني مفعولي { اتخذتم } محذوف ويجوز أن تكون مودة المفعول الثاني بتقدير مضاف أي اتخذتم أوثان سبب المودة بينكم أو بتأويلها بالمودودة ، وقرأها نافع وابن عامر وأبو بكر منونة ناصبة بينكم والوجه ما سبق ، وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس مرفوعة مضافة على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي مودودة أو سبب مودة بينكم ، والجملة صفة { أوثانا } أو خبر إن على { إنما } مصدرية أو موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الأول ، وقرئت مرفوعة منونة ومضافة بفتح { بينكم } كما قرئ { لقد تقطع بينكم } وقرئ " إنما مودة بينكم " . { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا } أي يقوم التناكر والتلاعن بينكم ، أو بينكم وبين الأوثان على تغليب المخاطبين كقوله تعالى : { ويكونون عليهم ضدا } { ومأواكم النار وما لكم من ناصرين } يخلصونكم منها .
وفي قوله { اتخذتم } ضمير عائد على الذي ، وهذا الضمير هو مفعول أول ل { اتخذتم } ، و { أوثاناً } مفعول ثان ، و «مودة » خبر «إن » في قراءة من نونها ، وفي قراءة من لم ينونها ويجوز أن تكون «ما » كافة ولا يكون في قوله { اتخذتم } ضمير ويكون قوله { أوثاناً } مفعولاً لقوله { اتخذتم } ثم يقتصر عليه ، ويقدر الثاني آلهة أو نحوه ، كما يقدر قوله تعالى { إن الذين اتخذوا العجل } [ الأعراف : 152 ] أي إلهاً { سينالهم غضب من ربهم }{[9239]} [ الأعراف : 152 ] ، ويكون قوله «مودةٌ » خبر ابتداء تقديره هو مودة وفي هذه التأويلات مجاز واتساع في تسمية الأوثان «مودة » أو يكون ذلك على حذف مضاف ، وأما من نصب مودة فعلى أن «ما » كافة وعلى خلو { اتخذتم } من الضمير والاقتصار على المفعول الواحد كما تقدم ويكون نصب «المودة » على المفعول من أجله ، ومن أضاف «المودة » إلى «البين » في القراءتين بالنصب والرفع تجوز في ذلك وأجرى الظرف مجرى الأسماء ، ومن نصب «بينَكم » في قراءتي الرفع والنصب في «مودة » فكذلك يحتمل أن ينتصب انتصاب الظروف ويكون معلقاً ب «مودة » وكذلك { في الحياة الدنيا } ظرف أيضاً متعلق ب «مودة » وهو مصدر عمل في ظرفين من حيث افترقا بالمكان والزمان ولو كانا لواحد منهما لم يجز ذلك ، تقول رأيت زيداً أمس في السوق ولا تقول رأيت زيداً أمس البارحة اللهم إلا أن يكون أحد الظرفين جزءاً للآخر ، رأيت زيداً أمس عشية ، ويجوز أن ينتصب «بينكم » على أنه صفة ل «مودة »{[9240]} فهنا محذوف مقدر تقديره «مودة » ثابتة «بينكم » ، وفي الظرف ضمير عائد على «مودة » لما حذفت ثابتة استقر الضمير في الظرف نفسه ، وقوله { في الحياة الدنيا } ظرف في موضع الحال من الضمير الكائن في { بينكم } بعد حذف ثابتة فهذه الحال متعلقة ب «مودة » وجاز تعلقها بها ، وهي قد وصفت لأن معنى الفعل فيها ، وإن وصفت فلا يمتنع أن يعمل معنى الفعل إلا في المفعول ، فأما في الظرف والحال فيعمل ، قال مكي : ويجوز أن يكون { في الحياة } صفة ثابتة ل «مودة » ويكون فيها مقدر مستقر وفيها ضمير ثان عائد إلى «مودة » فالتقدير على هذا مودة ثابتة بينكم مستقرة في الحياة الدنيا . قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يكون قوله «مودة » في قراءة من نصب مفعولاً ثانياً لقوله { اتخذتم } ويكون في ذلك اتساع فتأمله ، وفي مصحف أبي بن كعب «مودة بينهم » بالهاء وفي مصحف ابن مسعود «إنما مودّة بينكم » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقال} لهم إبراهيم، عليه السلام: {إنما اتخذتم} الأوثان آلهة، {من دون الله} عز وجل، {أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا} يعني بين الأتباع والقادة مودة على عبادة الأصنام، {ثم} إذا كان {يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض}، يقول: تتبرأ القادة من الأتباع، {ويلعن بعضكم بعضا} يقول: ويلعن الأتباع القادة من الأمم الخالية وهذه الأمة، ثم قال لهم إبراهيم، عليه السلام: {ومأواكم النار} يعني مصيركم إلى النار، {وما لكم من ناصرين} يعني مانعين من العذاب يمنعونكم منه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل إبراهيم لقومه: وَقالَ إبراهيم لقومه:"يا قوم إنّمَا اتّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أوْثانا".
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: "مَوَدّةَ بَيْنِكُمْ "فقرأته عامة قرّاء المدينة والشأم وبعض الكوفيين: «مَوَدّةً» بنصب مودة بغير إضافة بينكم بنصبها. وقرأ ذلك بعض الكوفيين: "مَوَدّةَ بَيْنِكُمْ "بنصب المودّة وإضافتها إلى قوله "بَيْنِكُمْ"، وخفض "بينِكم". وكأن هؤلاء الذين قرأوا قوله: "مَوَدّةَ" نصبا وجّهوا معنى الكلام إلى: إنما اتخذتم أيها القوم أوثانا مودة بينكم، فجعلوا إنما حرفا واحدا، وأوقعوا قوله "اتّخَذْتمْ" على الأوثان، فنصبوها بمعنى: اتخذتموها مودّة بينكم في الحياة الدنيا، تتحابّون على عبادتها، وتتوادّون على خدمتها، فتتواصلون عليها. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل مكة والبصرة: «مَوَدّةُ بَيْنِكُمْ» برفع المودة وإضافتها إلى البين، وخفض البين. وكأن الذين قرأوا ذلك كذلك، جعلوا «إنّ مَا» حرفين، بتأويل: إن الذين اتخذتم من دون الله أوثانا إنما هو مودّتكم للدنيا، فرفعوا مودة على خبر إن. وقد يجوز أن يكونوا على قراءتهم ذلك رفعا بقوله «إنما» أن تكون حرفا واحدا، ويكون الخبر متناهيا عند قوله "إنّمَا اتّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أوْثانا" ثم يبتدئ الخبر فيقال: ما مودتكم تلك الأوثان بنافعتكم، إنما مودّة بينكم في حياتكم الدنيا، ثم هي منقطعة، وإذا أريد هذا المعنى كانت المودّة مرفوعة بالصفة بقوله "فِي الحَياةِ الدّنْيا" وقد يجوز أن يكونوا أرادوا برفع المودّة، رفعها على ضمير هي.
وهذه القراءات الثلاث متقاربات المعاني، لأن الذين اتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها، اتخذوها مودة بينهم، وكانت لهم في الحياة الدنيا مودة، ثم هي عنهم منقطعة، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب، لتقارب معاني ذلك، وشهرة القراءة بكلّ واحدة منهنّ في قرّاء الأمصار... عن قَتادة "وَقالَ إنّمَا اتّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ أوْثانا مَوَدّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحَياةِ الدنْيا، ثمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ ببَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضا" قال: صارت كلّ خُلّة في الدنيا عداوة على أهلها يوم القيامة إلاّ خُلّة المتقين.
وقوله: "ثُمّ يَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضا" يقول تعالى ذكره: ثم يوم القيامة أيها المتوادّون على عبادة الأوثان والأصنام، والمتواصلون على خدماتها عند ورودكم على ربكم، ومعاينتكم ما أعدّ الله لكم على التواصل، والتوادّ في الدنيا من ألم العذاب "يَكْفر بعضكم ببعض" يقول: يتبرأ بعضكم من بعض، "ويلعن بعضُكم بعضا".
وقوله: "ومَأْوَاكُمُ النّارُ" يقول جلّ ثناؤه: ومصير جميعكم أيها العابدون الأوثان وما تعبدون "النارُ ومَا لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ" يقول: وما لكم أيها القوم المتخذو الآلهة، من دون الله مودّة بينكم من أنصار ينصرونكم من الله حين يصليكم نار جهنم، فينقذونكم من عذابه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا}... كقوله: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} [الزخرف: 67].
وقال بعضهم: يتبرأ المتبوع من الأتباع كقوله: {ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار} [الأعراف: 38] وقوله: {سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا} [مريم: 82] ونحوه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قرئ على النصب بغير إضافة وبإضافة، وعلى الرفع كذلك، فالنصب على وجهين: على التعليل، أي لتتوادّوا بينكم وتتواصلوا، لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها وائتلافكم، كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم. وأن يكون مفعولاً ثانياً، كقوله: {اتخذ إلهه} [الفرقان: 43]، [الجاثية: 23] أي اتخذتم الأوثان سبب المودّة بينكم، على تقدير حذف المضاف. أو اتخذتموها مودّة بينكم، بمعنى مودودة بينكم، كقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ الله} [البقرة: 165]
لما خرج إبراهيم من النار عاد إلى عذل الكفار وبيان فساد ما هم عليه، وقال إذا بينت لكم فساد مذهبكم وما كان لكم جواب ولا ترجعون عنه، فليس هذا إلا تقليدا، فإن بين بعضكم وبعض مودة فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في السيرة والطريقة أو بينكم وبين آبائكم مودة فورثتموهم وأخذتم مقالتهم ولزمتم ضلالتهم وجهالتهم فقوله: {إنما اتخذتم... مودة بينكم} يعني ليس بدليل أصلا وفيه وجه آخر وهو تحقيق دقيق، وهو أن يقال قوله: {إنما اتخذتم... مودة بينكم} أي مودة بين الأوثان وبين عبدتها،... فهم كانوا قليلي العقل غلبت الجسمية عليهم فلم يتسع عقلهم لمعبود لا يكون فوقهم ولا تحتهم، ولا يمينهم ولا يسارهم، ولا قدامهم ولا وراءهم، ولا يكون جسما من الأجسام، ولا شيئا يدخل في الأوهام، ورأوا الأجسام المناسبة للغالب فيهم مزينة بجواهر فودوها فاتخاذهم الأوثان كان مودة بينهم وبين الأوثان، ثم قال تعالى: {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} يعني يوم يزول عمى القلوب وتتبين الأمور للبيب والغفول، يكفر بعضكم ببعض ويعلم فساد ما كان عليه...
ثم قال تعالى: {وما لكم من ناصرين} يعني ليس تلك النار مثل ناركم التي أنجى الله منها إبراهيم ونصره فأنتم في النار ولا ناصر لكم، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قال قبل هذا {وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} على لفظ الواحد، وقال ههنا على لفظ الجمع {وما لكم من ناصرين} والحكمة فيه أنهم لما أرادوا إحراق إبراهيم عليه السلام قالوا نحن ننصر آلهتنا كما حكى الله تعالى عنهم {حرقوه وانصروا آلهتكم} فقال أنتم ادعيتم أن لهؤلاء ناصرين فما لكم ولهم، أي للأوثان وعبدتها من ناصرين، وأما هناك ما سبق منهم دعوى الناصرين فنفى الجنس بقوله: {ولا نصير}.
المسألة الثانية: قال هناك {ما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} وما ذكر الولي ههنا فنقول: قد بينا أن المراد بالولي الشفيع يعني ليس لكم شافع ولا نصير دافع، وههنا لما كان الخطاب دخل فيه الأوثان أي ما لكم كلكم لم يقل شفيع لأنهم كانوا معترفين أن كلهم ليس لهم شافع لأنهم كانوا يدعون أن آلهتهم شفعاء، كما قال تعالى عنهم: {هؤلاء شفعاؤنا} والشفيع لا يكون له شفيع، فما نفى عنهم الشفيع لعدم الحاجة إلى نفيه لاعترافهم به، وأما هناك فكان الكلام معهم وهم كانوا يدعون أن لأنفسهم شفعاء فنفى.
المسألة الثالثة: قال هناك {ما لكم من دون الله} فذكر على معنى الاستثناء فيفهم أن لهم ناصرا ووليا هو الله وليس لهم غيره ولي وناصر وقال ههنا {ما لكم من ناصرين} من غير استثناء فنقول كان ذلك واردا على أنهم في الدنيا فقال لهم في الدنيا، لا تظنوا أنكم تعجزون الله فما لكم أحد ينصركم، بل الله تعالى ينصركم إن تبتم، فهو ناصر معد لكم متى أردتم استنصرتموه بالتوبة وهذا يوم القيامة كما قال تعالى: {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} وعدم الناصر عام لأن التوبة في ذلك اليوم لا تقبل فسواء تابوا أو لم يتوبوا لا ينصرهم الله ولا ناصر لهم غيره فلا ناصر لهم مطلقا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تقدم سلبه النفع عن هذه الأوثان، أشار هنا إلى نفع يعقب من الضر ما لا نسبة له منه، فليس حينئذ بنفع، فقال تعالى: {وقال} أي إبراهيم عليه الصلاة والسلام غير هائب لتهديدهم بقتل ولا غيره، مؤكداً لأجل ما أشار إليه مما ينكرونه من ضعف شركائهم وعجزها: {إنما اتخذتم} أي أخذتم باصطناع وتكلف، وأشار إلى عظمة الخالق وعلو شأنه بقوله: {من دون الله} أي الذي كل شيء تحت قهره، ولا كلفة -في اعتقاد كونه رباً- باحتياج إلى مقدمة جعل وصنعة ولا غير ذلك، وقال: {أوثاناً} إشارة إلى تكثرها الذي هو مناف لرتبة الإلهية؛ وأشار إلى ذلك النفع بقوله: {مودة}... {في الحياة الدنيا} بالاجتماع عندها والتواصل في أمرها بالتناصر والتعاضد كما يتفق ناس على مذهب فيكون ذلك سبب تصادقهم، وهذا دال على أن جمع الفسوق لأهل الدنيا هو العادة المستمرة، وأن الحب في الله والاجتماع له عزيز جداً، لما فيه من قطع علائق الدنيا وشهواتها التي زينت للناس، بما فيها من الإلباس، وعظيم البأس. ولما أشار إلى هذا النفع الذي هو في الحقيقة ضر، ذكر ما يعقبه من الضر البالغ، فقال معبراً بأداة البعد إشارة إلى عظيم ذلك اليوم، وإلى أنه جعل لهم في الحياة أمداً يمكنهم فيه السعي للتوقي من شر ذلك اليوم: {ثم يوم القيامة} ساقه مساق ما لا نزاع فيه لما قام عليه من الأدلة {يكفر بعضكم ببعض} فينكر كل منهم محاسن أخيه، ويتبرأ منه بلعن الأتباع القادة، ولعن القادة الأتباع، وتنكرون كلكم عبادة الأوثان تارة إذا تحققتم أنها لا ضر ولا نفع لها، وتقرون بها أخرى طالبين نصرتها راجين منفعتها، وتنكر الأوثان عبادتكم وتجحد منفعتكم {ويلعن بعضكم بعضاً} على ما ذكر {ومأواكم} جميعاً أنتم والأوثان {النار} لتزيد في عذابكم ويزداد بغضكم لها {وما لكم} وأعرق في النفي فقال: {من ناصرين} أصلاً يحمونكم منها، ويدخل في هذا كل من وافق أصحابه من أهل المعاصي أو البطالة على الرذائل ليعدوه حسن العشرة مهذب الأخلاق لطيف الذات، أو خوفاً من أن يصفوه بكثافة الطبع وسوء الصحبة، ولقد عم هذا لعمري أهل الزمان ليوصفوا بموافاة الإخوان ومصافاة الخلان، معرضين عن رضى الملك الديان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي في القصة بعد نجاة إبراهيم من النار. فلقد يئس من إيمان القوم الذين لم تلن قلوبهم للمعجزة الواضحة. فإذا هو يجبههم بحقيقة أمرهم، قبل أن يعتزلهم جميعا:
(وقال: إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا، ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض، ويلعن بعضكم بعضا، ومأواكم النار، وما لكم من ناصرين)..
إنه يقول لهم: إنكم اتخذتم الأوثان من دون الله، لا اعتقادا واقتناعا بأحقية هذه العبادة؛ إنما يجامل بعضكم بعضا، ويوافق بعضكم بعضا، على هذه العبادة؛ ولا يريد الصاحب أن يترك عبادة صاحبه -حين يظهر الحق له- استبقاء لما بينكم من مودة على حساب الحق والعقيدة! وإن هذا ليقع في الجماعات التي لا تأخذ العقيدة مأخذ الجد، فيسترضي الصاحب صاحبه على حساب العقيدة؛ ويرى أمرها أهون من أن يخالف عليه صديقه! وهي الجد كل الجد. الجد الذي لا يقبل تهاونا ولا استرخاء ولا استرضاء.
ثم يكشف لهم عن صفحتهم في الآخرة. فإذا المودة التي يخشون أن يمسوها بالخلاف على العقيدة، والتي يبقون على عبادة الأوثان محافظة عليه.. إذا هي يوم القيامة عداء ولعن وانفصام:
(ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا)..
يوم يتنكر التابعون للمتبوعين، ويكفر الأولياء بالأولياء، ويتهم كل فريق صاحبه أنه أضله، ويلعن كل غوي صاحبه الذي أغواه!
ثم لا يجدي ذلك الكفر والتلاعن شيئا، ولا يدفع عن أحد عذابا:
(ومأواكم النار وما لكم من ناصرين)..
النار التي أرادوا أن يحرقوه بها، فنصره الله منها ونجاه. فأما هم فلا نصرة لهم ولا نجاة!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يجوز أن تكون مقالته هذه سابقة على إلقائه في النار وأن تكون بعد أن أنجاه الله من النار. والأظهر من ترتيب الكلام أنها كانت بعد أن أنجاه الله من النار، أراد به إعلان مكابرتهم الحق وإصرارهم على عبادة الأوثان بعد وضوح الحجة عليهم بمعجزة سلامته من حرق النار. وتقدم ذكر الأوثان قريباً. ومحط القصر ب {إنما} هو المفعول لأجله؛ أما قصر المعبودات من دون الله على كونها أوثاناً فقد سبق في قوله {إنما تعبدون من دون الله أوثاناً} [العنكبوت: 17] أي ما اتخذتم أوثاناً إلا لأجل مودّة بعضكم بعضاً. ووجه الحصر أنه لم تبق لهم شبهة في عبادة الأوثان بعد مشاهدة دلالة صدق الرسول الذي جاء بإبطالها فتمحض أن يكون سبب بقائهم على عبادة الأوثان هو مودة بعضهم بعضاً الداعية لإباية المخالفة. والمودة: المحبة والإلف. ويتعين أن يكون ضمير {بينكم} شاملاً للأوثان. والمودة: المحبة. فهؤلاء القوم يحب بعضهم بعضاً فلا يخالفه وإن لاح له أنه على ضلال، ويحبون الأوثان فلا يتركون عبادتها وإن ظهرت لبعضهم دلالة بطلان إلهيتها قال تعالى {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبّونهم كحب الله} [البقرة: 165]...
وفعل {اتخذتم} مراد به الاستمرار والبقاء على اتخاذها بعد وضوح حجة بطلان استحقاقها العبادة...
ولما كان في قوله {مودة بينكم} شائبة ثبوت منفعة لهم في عبادة الأوثان إذ يكتسبون بذلك مودة بينهم تلذ لنفوسهم قرنه بقوله {في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} الخ تنبيهاً لسوء عاقبة هذه المودة وإزالة للغرور والغفلة، ليعلموا أن اللذات العاجلة لا عِبرة بها إن كانت تَعقِب ندامة آجلة...
ثم ذكر ما يعمهم جميعاً من انعدام النصير فقال {وما لكم من ناصرين} فنفى عنهم جنس الناصر. وهو من يزيل عنهم ذلك الخزي. وجيء في نفي الناصر بصيغة الجمع هنا خلافاً لقوله آنفاً {وما لكم من دون الله من وليّ ولا نصير} [العنكبوت: 22] لأنهم لما تألبوا على إبراهيم وتجمعوا لنصرة أصنامهم كان جزاؤهم حرمانهم من النصراء مطابقة بين الجزاء والحالة التي جوزوا عليها...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كيف تكون الأوثان أساساً للمودّة بين عبدة الأوثان؟! هذا السؤال يمكن الإجابة عليه من عدّة طرق:
الأوّل: أن عبادة الصنم أو الوثن كانت رمزاً للوحدة لكل قوم ولكل قبيلة، لأنّ كل جماعة اختارت لنفسها وثناً، كما ذكروا في شأن أصنام الجاهلية، إذ كان كل صنم يعود لقبيلة من القبائل العربية، فصنم «العزّى» كان لقريش، و«اللاّت» كان خاصاً بثقيف، أمّا «مناة» فكان خاصاً بالأوس والخزرج!.
الثّاني: أن عبادة الأوثان تربط بينهم وبين أسلافهم وغالباً ما كانوا يعتذرون بمثل هذا العذر ويقولون: إنّ هذه الأوثان كان عليها السلف ونحن نتبع السلف ونمضي على دين آبائنا. ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ سراة الكفار كانوا يدعون أتباعهم إلى عبادة الأوثان، وكان هذا الأمر بمثابة «حلقة الاتصال» بين السراة والأتباع...
في حين أنّ علاقة المحبّة بين المؤمنين قائمة على أساس التوحيد وعبادة اللّه وإطاعة أمر الحق في هذه الدنيا وهذه العلاقة سيكتب لها الدوام، وفي الآخرة تكون أكثر تماسكاً.. حين إنّه يستفاد من بعض الروايات أنّ المؤمنين يستغفر بعضهم لبعض ويتشفع بعضهم لبعض في يوم القيامة.. في وقت يتبرأ فيه المشركون بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً...