تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٞ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِهِمۡ عَرَضٞ مِّثۡلُهُۥ يَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡهِم مِّيثَٰقُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (169)

فلم يزالوا بين صالح وطالح ومقتصد ، حتى خلف من بعدهم خلف . زاد شرهم وَرِثُوا بعدهم الْكِتَابُ وصار المرجع فيه إليهم ، وصاروا يتصرفون فيه بأهوائهم ، وتبذل لهم الأموال ، ليفتوا ويحكموا ، بغير الحق ، وفشت فيهم الرشوة .

يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ مقرين بأنه ذنب وأنهم ظلمة : سَيُغْفَرُ لَنَا وهذا قول خال من الحقيقة ، فإنه ليس استغفارا وطلبا للمغفرة على الحقيقة .

فلو كان ذلك لندموا على ما فعلوا ، وعزموا على أن لا يعودوا ، ولكنهم - إذا أتاهم عرض آخر ، ورشوة أخرى - يأخذوه .

فاشتروا بآيات اللّه ثمنا قليلا واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير ، قال اللّه [ تعالى ] في الإنكار عليهم ، وبيان جراءتهم : أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ فما بالهم يقولون عليه غير الحق اتباعا لأهوائهم ، وميلا مع مطامعهم .

و الحال أنهم قد دَرَسُوا مَا فِيهِ فليس عليهم فيه إشكال ، بل قد أَتَوْا أمرهم متعمدين ، وكانوا في أمرهم مستبصرين ، وهذا أعظم للذنب ، وأشد للوم ، وأشنع للعقوبة ، وهذا من نقص عقولهم ، وسفاهة رأيهم ، بإيثار الحياة الدنيا على الآخرة ، ولهذا قال : وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ما حرم اللّه عليهم ، من المآكل التي تصاب ، وتؤكل رشوة على الحكم بغير ما أنزل اللّه ، وغير ذلك من أنواع المحرمات .

أَفَلا تَعْقِلُونَ أي : أفلا يكون لكم عقول توازن بين ما ينبغي إيثاره ، وما ينبغي الإيثار عليه ، وما هو أولى بالسعي إليه ، والتقديم له على غيره . فخاصية العقل النظر للعواقب .

وأما من نظر إلى عاجل طفيف منقطع ، يفوت نعيما عظيما باقيا فأنى له العقل والرأي ؟

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٞ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِهِمۡ عَرَضٞ مِّثۡلُهُۥ يَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡهِم مِّيثَٰقُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (169)

{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ . . . } .

قال الإمام القرطبى : الخلْف - بسكون اللام - الأولاد ، الواحد والجمع فيه سواء ، الخلف - بفتح اللام - البدل ، ولداً كان أو غريبا . وقال ابن الأعرابى : الخلف - بفتح اللام - الصالح ، وبسكونها الطالح ، ومنه قيل للردى من الكلام خلف - بسكون اللام - ومنه المثل السائر " سكت ألفا ونطق خلْفا " قال لبيد .

ذهب الذين يعاش في أكنافهم . . . وبقيت في خلف كجلد الأجرب

فخلْف في الذم بالإسكان ، وخَلَف بالفتح في المدح ، هذا هو المستعمل المشهور ، وفى الحديث الشريف " يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له " وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر .

والعرض - بفتح الراء - متاع الدنيا وحطامها من المال وغيره .

قال صاحب الكشاف : قوله تعالى : { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى } أى حطام هذا الشىء الأدنى ، يريد الدنيا وما يتمتع به منها ، وفى قوله هذا تخسيس وتحقير ، والأدنى إما من الدنو بمعنى القرب ، لأنه عاجل قريب ، وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم للتسهيل على العامة ) .

والضمير في قوله { مِن بَعْدِهِمْ } يعود إلى اليهود الذين وصفهم الله في الآية السابقة بقوله { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } والمعنى : فخلف من بعد أولئك القوم الذين قطعناهم في الأرض أمما خلف سوء ، ورثوا كتاب الله وهو التوراة فقرأوه وتعلموه ، ووقفوا على ما فيه من تحليل وتحريم وأمر ونهى ولكنهم لم يتأثروا به بل خالفوا أحكامه ، واستحلوا محارمه مع علمهم بها ، فهم يتهافتون على حطام الدنيا ومتاعها ويتقبلون المال الحرام بشراهة نفس . ويأكلون الحست أكلا لما ويقولون وهم والغون في المعاصى ومصرون على الذنوب : إن الله سيغفر لنا ذنوبنا ولا يؤاخذنا بما أكلنا من أموال ، لأننا من نسل أنبيائه ، فنحن شعبه الذي اصطفاه من سائر البشر ، إلى غير ذلك من الأقاويل التي يفترونها على الله وهم يعلمون .

وجملة { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى } مستأنفة لبيان ما يصنعون بالكتاب بعد وراثتهم إياه . وقيل : هى حال من الضمير في ورثوا .

ثم أخبر - سبحانه - عنهم بأنهم أهل إصرار على ذنوبهم ، وليسوا بأهل إنابة ولا توبة فقال تعالى : { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } أى : أنهم يأخذون عرض الحياة الدنيا ويعرضون عن شريعة الله التي أنزلها عليهم في التوراة ويزعمون أن الله لا يؤاخذهم بما فعلوا . ثم هم بعد ذلك لا يتوبون إلى الله ولا يستغفرونه ، وإنما حالهم أنهم إن لاح لهم عرض حرام آخر مثل الذي أخذوه أولا بالباطل ، تهافتوا عليه من جديد واستحلوه وأكلوه في بطونهم ، وبدون توبة أو ندم .

قال مجاهد قوله تعالى { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } لا يشرف لهم شىء من متاع الدنيا إلا أخذوه حلالاً كان أو حراما ، ويتمنون المغفرة { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } وإن يجدوا عرضا مثله يأخذوه .

وقال السدى : ( كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم وإن خيارهم اجتمعوا ، فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا ، فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى ، فيقال له ما شأنك ترتشى في الحكم ؟ فيقول شيغفر لى ، فيطعن عليه البقية الآخرون من بنى إسرائيل صنعه فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه قبل الرشوة ، يقول الله : ( وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه ) .

ثم أنكر - سبحانه - عليهم ما زعموه بقولهم : { سَيُغْفَرُ لَنَا } وهم مصرون على معصيتهم فقال تعالى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } .

والمعنى : لقد أخذ الله العهد في التوراة على هؤلاء المرتشين في أحكامهم : والقائلين سيغفر الله فعلنا هذا ألا يقولوا على الله إلا القول الحق ، ولا يخبروا عنه إلا بالصدق ولا يخالفوا أمره . ولا ينقضوا عهده ، ولا يتجاوزوا حدوده ، وقد درس هؤلاء الكتاب ، أى : قرأوه وفهموه ، ولكنهم لم يعملوا بما أخذ عليهم من عهود ولم يتبعوا أوامر كتابهم ونواهيه ، تلأنهم درسوه ولم يتأثروا به ، ولم تخالط تعاليمه شغاف قلوبهم ، فضيعون واشتروا به ثمناً قليلا فبئس ما يشترون .

وقوله { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } بدل من ميثاق الكتاب أو عطف بيان له . وقيل إنه مفعول لأجله أى : لئلا يقولوا .

وجملة { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } معطوفة في المعنى على قوله تعالى { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب } أى أن الله تعالى قد أخذ عليهم الميثاق في التوراة ودرسوه .

قال ابن دريد : ( كان يأتيهم المحق برشوة فيخرجون له كتاب الله فيحكمون له به ، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له .

ثم بين الله لهم أن ما أعده في الآخرة للمتقين الذين يتعففون عن السحت وعن أكل أموال الناس بالباطل خير من متاع الدنيا وزهرتها الذىآثره هؤلاء الذين يفترون علىالله الكذب فقال تعالى : { والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أى : والدار الآخرة وما أعده فيها من نعيم لأولئك الذين يتقونه حق تقاته في السر والعلن ، خير من عرض هذا الأدنى الذي استحله هؤلاء اليهود بدون حق وآثروه على ما عند الله من نعيم مقيم وثواب جزيل { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } - يا من أكلتم أموال الناس بالباطل وقلتم سيغفر الله لنا ذنوبنا - هذا الحكم الواضح ، الذي لا يخفى على ذى عقل سليم ، لم تطمسه الشهوات ، ولم يستحوذ عليه الشيطان .

وفى هذا إشارة إلى أن الطمع في متاع الحياة الدنيا هو الذي جعل بنى إسرائيل يقولون على الله غير الحق . ويتشبعون من المال الحرام بدون تعفف ويبيعون دينهم بدنياهم .

قال الإمام الآلوسى : ( والمراد من الآية توبيخ أولئك الورثة على بتهم القول بالمغفرة مع إصرارهم على الذنوب وجاء البت من السين فإنها للتأكيد كما نص عليه المحققون ، وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - إنهم وبخوا على إيجابهم على الله - تعالى - غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ثم لا يتوبون منها .

وقد أطبق أهل السنة على ذم المتمنى على الله ، ورووا ع شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانى " ومن هنا قيل : إن القوم ذموا بأكلهم أموال الناس بالباطل وبإتباعهم أنفسهم هواها وتمنيهم على الله - سبحانه - الأمانى ، ووبخوا على افترائهم على الله في الأحكام التي غيروها ، وأخذوا عرض هذا الأدنى على تغييرها ، وقالوا على الله ما ليس بحق من القول ) .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٞ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِهِمۡ عَرَضٞ مِّثۡلُهُۥ يَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡهِم مِّيثَٰقُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (169)

138

( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ، ويقولون : سيغفر لنا . وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ) . .

وصفة هذا الخلف الذي جاء بعد ذلك السلف من قوم موسى : أنهم ورثوا الكتاب ودرسوه . . ولكنهم لم يتكيفوا به ولم تتأثر به قلوبهم ولا سلوكهم . . شأن العقيدة حين تتحول إلى ثقافة تدرس وعلم يحفظ . . وكلما رأوا عرضاً من أعراض الحياة الدنيا تهافتوا عليه ، ثم تأولوا وقالوا : ( سيغفر لنا ) . . وهكذا كلما عرض لهم من أعراض الدنيا جديد تهافتوا عليه من جديد !

ويسأل سؤال استنكار :

ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ؟ ودرسوا ما فيه ؟ .

ألم يؤخذ عليهم ميثاق الله في الكتاب ألا يتأولوا ولا يحتالوا على النصوص ، وألا يخبروا عن الله إلا بالحق . . فما بالهم يقولون : ( سيغفر لنا )ويتهافتون على أعراض الحياة الدنيا ؟ ويبررون لأنفسهم هذا بالتقول على الله وتأكيد غفرانه لهم ، وهم يعلمون أن الله إنما يغفر لمن يتوبون حقاً ؛ ويقلعون عن المعصية فعلاً ؛ وليس هذا حالهم ، فهم يعودون كلما رأوا عرضاً من أعراض الحياة الدنيا ! وهم درسوا هذا الكتاب وعرفوا ما فيه ! بلى ! ولكن الدراسة لا تجدي مالم تخالط القلوب . وكم من دارسين للدين وقلوبهم عنه بعيد . إنما يدرسونه ليتأولوا ويحتالوا ، ويحرفوا الكلم عن مواضعه ، ويجدوا المخارج للفتاوى المغرضة التي تنيلهم عرض الحياة الدنيا . . وهل آفة الدين إلا الذين يدرسونه دراسة ؛ ولا يأخذونه عقيدة يتقون الله ولا يرهبونه ؟ !

( والدار الآخرة خير للذين يتقون . أفلا تعقلون ؟ ) .

نعم ! إنها الدار الآخرة ! إن وزنها في قلوب الذين يتقون هو وحده الذي يرجح الكفة ، وهو وحده الذي يعصم من فتنة العرض الأدنى القريب في هذه الدنيا . . نعم إنها هي التي لا يصلح قلب ولا تصلح حياة إلا بها ؛ ولا تستقيم نفس ولا تستقيم حياة إلا بملاحظتها . . وإلا فما الذي يعدل في النفس البشرية الرغبة الملحة في حيازة كل عرض يلوح لها من أعراض هذه الأرض ؟ وما الذي يحجزها عن الطمع ويكفها عن البغي ؟ وما الذي يهدىء فيها هياج الرغائب وسعار الشهوات وجنون المطامع ؟ وما الذي يطمئنها في صراع الحياة الدنيا على النصيب الذي لا يضيع بفوات الحياة الدنيا ؟ وما الذي يثبتها في المعركة بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، وأعراض الأرض تفر من بين يديها وتنأى ؟ والشر يتبجح والباطل يطغى ؟

لا شيء يثبت على الغير والأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضم الهائج وفي هذه المعركة الكبرى ؛ إلا اليقين في الآخرة ، وأنها خير للذين يتقون ، ويعفون ، ويترفعون ، ويثبتون على الحق والخير في وجه الزعازع والأعاصير والفتن ، ويمضون في الطريق لا يتلفتون . . مطمئنين واثقين ، ملء قلوبهم اليقين . .

وهذه الدار الآخرة غيب من الغيب الذي يريد دعاة " الاشتراكية العلمية " أن يلغوه من قلوبنا ومن عقيدتنا ومن حياتنا ؛ ويحلوا محله تصوراً كافراً جاهلاً مطموساً يسمونه : " العلمية " . .

ومن أجل هذه المحاولة البائسة تفسد الحياة ، وتفسد النفوس ؛ وينطلق السعار المجنون الذي لا يكبحه إلاَّ ذلك اليقين . . ينطلق سعار الرشوة والفساد والطمع والطغيان . وينتشر داء الإهمال وقلة المبالاة والخيانة في كل مجال . .

إن " العلمية " التي تناقض " الغيبية " جهالة من جهالات القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر . جهالة يرجع عنها " العلم البشري " ذاته ، ولا يبقى يرددها في القرن العشرين إلا الجهال ! جهالة تناقض فطرة " الإنسان " ومن ثم تفسد " الحياة " ذلك الإفساد الذي يهدد البشرية بالدمار ! ولكنه المخطط الصهيوني الرهيب الذي يريد أن يسلب البشرية كلها قوام حياتها وصلاحها ، ليسهل تطويعها لملك صهيون في نهاية المطاف ! والذي تردده الببغاوات هنا وهناك ، بينما الأوضاع التي أقامتها الصهيونية وكفلتها في أنحاء الأرض تمضي عن علم في تنفيذ المخطط الرهيب هنا وهناك !

ولأن قضية الآخرة ، وقضية التقوى قضيتان أساسيتان في العقيدة وفي الحياة ، يحيل السياق القرآني المخاطبين الذين يتهافتون على عرض هذا الأدنى . . عرض الحياة الدنيا . . إلى العقل :

( والدار الآخرة خير للذين يتقون . . أفلا تعقلون ؟ ) . .

ولو كان العقل هو الذي يحكم لا الهوى . . ولو كان العلم الحق لا الجهالة التي تسمى العلم هوالذي يقضي . . لكانت الدار الآخرة خيراً من عرض هذا الأدنى . ولكانت التقوى زاداً للدين والدنيا جميعاً :

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٞ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِهِمۡ عَرَضٞ مِّثۡلُهُۥ يَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡهِم مِّيثَٰقُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (169)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هََذَا الأدْنَىَ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ لّلّذِينَ يَتّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } . .

يقول تعالى ذكره : فخلف من بعد هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم خلْف يعني خلف سَوْء ، يقول : حدث بعدهم وخلافهم ، وتبدّل منهم بدل سوء ، يقال منه : هو خَلَفُ صدق ، وخَلْفُ سَوْءٍ ، وأكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذمّ بتسكينها ، وقد تحرّك في الذمّ وتسكن في المدح ، ومن ذلك في تسكينها في المدح قول حسان :

لنا القَدَمُ الأُولى إليكَ وخَلْفُنا ***لاِءَوّلِنا في طاعَةِ اللّهِ تابِعُ

وأحسب أنه إذا وجه إلى الفساد مأخوذ من قولهم : خلف اللبن : إذا حمض من طول تركه في السقاء حتى يفسد ، فكأنّ الرجل الفاسد مشبّه به ، وقد يجوز أن يكون منه قولهم : خَلَف فم الصائم : إذا تغيرت ريحه . وأما في تسكين اللام في الذمّ ، فقول لبيد :

ذَهَبَ الّذِينَ يُعاشُ فِي أكْنافِهِمْ ***وَبَقِيتُ فِي خَلْفِ كَجِلْدِ الأجْرَبِ

وقيل : إن الخلْف الذي ذكر الله في هذه الاَية أنهم خلَفوا من قبلهم هم النصارى . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ قال : النصارى .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى إنما وصف أنه خلَف القوم الذي قصّ قصصهم في الاَيات التي مضت خلف سوْء رديء ، ولم يذكر لنا أنهم نصارى في كتابه ، وقصتهم بقصص اليهود أشبه منها بقصص النصارى . وبعدُ ، فإن ما قبل ذلك خبر عن بني إسرائيل وما بعده كذلك ، فما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أشبه ، إذ لم يكن في الاَية دليل على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم ، ولا جاء بذلك دليل يوجب صحة القول به .

فتأويل الكلام إذن : فتبدّل من بعدهم بَدَلُ سوْء ، ورثوا كتاب الله : تعلموه ، وضيعوا العمل به فخالفوا حكمه ، يُرْشَوْنَ في حكم الله ، فيأخذون الرشوة فيه من عرض هذا العاجل الأدنى ، يعني بالأدنى : الأقرب من الاَجل الأبعد ، ويقولون إذا فعلوا ذلك : إن الله سيغفر لنا ذنوبنا تمنيا على الله الأباطيل ، كما قال جلّ ثناؤه فيهم : فَوَيْلٌ للّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بِأيْدِيهِمْ ثّم يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبونَ . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ يقول : وإن شرع لهم ذنب حرام مثله من الرشوة بعد ذلك أخذوه واستحلوه ، ولم يرتدعوا عنه . يخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم أهل إصرار على ذنوبهم ، وليسوا بأهل إنابة ولا توبة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت عنه عباراتهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ . قال : يعملون الذنب ثم يستغفرون الله ، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ قال : من الذنوب .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا قال : يعملون بالذنوب . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ : قال : ذنب آخر يعملون به .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : الذنوب . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ قال : الذنوب .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : ما أشرف لهم من شيء في اليوم من الدنيا حلال أو حرام يشتهونه أخذوه ، ويبتغون المغفرة ، فإن يجدوا الغد مثله يأخذوه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه ، إلا أنه قال : يتمنون المغفرة .

حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن مجاهد : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه حلالاً كان أو حراما ، ويتمنون المغفرة ، وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وإن يجدوا عرضا مثله يأخذوه .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ : أي والله لخلْف سَوْء ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم ، ورّثهم الله وعهد إليهم ، وقال الله في آية أخرى : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ وَاتّبَعُوا الشّهَوَاتِ قال : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا تمنوا على الله أماني وغرّة يغترّون بها . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه لا يشغلهم شيء عن شيء ولا ينهاهم عن ذلك ، كلما أشرف لهم شيء من الدنيا أكلوه لا يبالون حلالاً كان أو حراما .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : يأخذونه إن كان حلالاً وإن كان حراما . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه قال : إن جاءهم حلال أو حرام أخذوه .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ . . . إلى قوله : وَدَرَسُوا ما فِيهِ قال : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم . وإن خيارهم اجتمعوا فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا ، فجعل الرجل منهم إذا استُقْضِي ارتشى ، فقال له : ما شأنك ترتشي في الحكم ؟ فيقول : سيغفر لي فيطعن عليه البقية الاَخرون من بني إسرائيل فيما صنع . فإذا مات أو نُزِع ، وجُعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشي ، يقول : وإن يأت الاَخرين عرض الدنيا يأخذوه . وأما عَرَض الأدنى ، فعرض الدنيا من المال .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا يقول : يأخذون ما أصابوا ، ويتركون ما شاءوا من حلال أو حرام ، ويقولون : سيغفر لنا .

وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : الكتاب الذي كتبوه ، ويقولون : سَيُغْفَرُ لَنا لا نشرك بالله شيئا . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ يأتهم المحقّ برشوه ، فيخرجوا له كتاب الله ثم يحكموا له بالرشوة . وكان الظالم إذا جاءهم برشوة أخرجوا له المثناة ، وهو الكتاب الذي كتبوه ، فحكموا له بما في المثناة بالرشوة ، فهو فيها محقّ ، وهو في التوراة ظالم ، فقال الله : ألَمْ يُؤخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا عَلى اللّهِ إلاّ الحَقّ وَدَرَسوا ما فِيهِ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير ، قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ ورِثُوا الكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : يعملون الذنوب .

القول في تأويل قوله تعالى : ألَمْ يُؤخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ والدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ للّذِينَ يَتّقُونَ أفَلا تَعْقِلُونَ .

يقول تعالى ذكره : ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في أحكامهم ، القائلين : سيغفر الله لنا فعلنا هذا ، إذا عوتبوا على ذلك ميثاقُ الكتاب ، وهو أخذ الله العهود على بني إسرائيل بإقامة التوراة والعمل بما فيها . فقال جلّ ثناؤه لهؤلاء الذين قصّ قصتهم في هذه الاَية موبخا لهم على خلافهم أمره ونقضهم عهده وميثاقه : ألم يأخذ الله عليهم ميثاق كتابه ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ ولا يضيفوا إليه إلا ما أنزله على رسوله موسى صلى الله عليه وسلم في التوراة ، وأن لا يكذبوا عليه ؟ كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ألَمْ يُؤخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ قال : فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها .

وأما قوله : وَدَرَسُوا ما فِيهِ فإنه معطوف على قوله : وَرِثُوا الكِتابَ ومعناه : فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب ، ودرسوا ما فيه . ويعني بقوله : وَدَرَسُوا ما فِيهِ قرءوا ما فيه . يقول : ورثوا الكتاب فعلموا ما فيه ودرسوه ، فضيعوه وتركوا العمل به ، وخالفوا عهد الله إليهم في ذلك . كما :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَدَرَسُوا ما فِيهِ قال : علموه وعلموا ما في الكتاب الذي ذكر الله وقرأ : بِمَا كُنْتُمْ تُعَلّمُونَ الكِتابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ .

والدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ للّذِينَ يَتّقُونَ يقول جلّ ثناؤه : وما في الدار الاَخرة ، وهو ما في المعاد عند الله مما أعدّ لأوليائه والعاملين بما أنزل في كتابه المحافظين على حدوده ، خير للذين يتقون الله ويخافون عقابه ، فيراقبونه في أمره ونهيه ، ويطيعونه في ذلك كله في دنياهم . أفَلا تَعْقِلونَ يقول : أفلا يعقل هؤلاء الذين يأخذون عرض هذا الأدنى على أحكامهم ، ويقولون سيغفر لنا ، أن ما عند الله في الدار الاَخرة للمتقين العادلين بين الناس في أحكامهم ، خير من هذا العرض القليل الذي يستعجلونه في الدنيا على خلاف أمر الله والقضاء بين الناس بالجوار ؟

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٞ وَرِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِهِمۡ عَرَضٞ مِّثۡلُهُۥ يَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ يُؤۡخَذۡ عَلَيۡهِم مِّيثَٰقُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (169)

{ فخلف من بعدهم } من بعد المذكورين . { خلف } بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع . وقيل جمع وهو شائع في { ورثوا الكتاب } التوراة من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها . { يأخذون عرض هذا الأدنى } حطام هذا الشيء الأدنى يعني الدنيا ، وهو من الدنو أو الدناءة وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في الحكومة وعلى تحريف الكلم ، والجملة حال من الواو . { ويقولون سيُغفر لنا } لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه ، وهو يحتمل العطف والحال والفعل مسند إلى الجار والمجرور ، أو مصدر يأخذون . { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } حال من الضمير في { لنا } أي : يرجون المغفرة مصرين على الذنب عائدين إلى مثله غير تائبين عنه . { ألم يُؤخذ عليهم ميثاق الكتاب } أي في الكتاب . { أن لا يقولوا على الله إلا الحق } عطف بيان للميثاق ، أو متعلق به أي بأن يقولوا والمراد توبيخهم على البت بالمغفرة مع عدم التوبة والدلالة على أنه افتراء على الله وخروج عن ميثاق الكتاب . { ودرسوا ما فيه } عطف على { ألم يؤخذ } من حيث المعنى فإنه تقرير ، أو على { ورثوا } وهو اعتراض . { والدار الآخرة خير للذين يتقون } مما يأخذ هؤلاء . { أفلا يعقلون } فيعلموا ذلك ولا يستبدلوا الأدنى الدنيء المؤدي إلى العقاب بالنعيم المخلد ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء على التلوين .