ثم قال تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } أي : طلاقا رجعيا بواحدة أو ثنتين .
{ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي : قاربن انقضاء عدتهن .
{ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي : إما أن تراجعوهن ، ونيتكم القيام بحقوقهن ، أو تتركوهن بلا رجعة ولا إضرار ، ولهذا قال : { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } أي : مضارة بهن { لِتَعْتَدُوا } في فعلكم هذا الحلال ، إلى الحرام ، فالحلال : الإمساك بمعروف{[145]} والحرام : المضارة ، { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } ولو كان الحق يعود للمخلوق فالضرر عائد إلى من أراد الضرار .
{ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } لما بين تعالى حدوده غاية التبيين ، وكان المقصود ، العلم بها والعمل ، والوقوف معها ، وعدم مجاوزتها ، لأنه تعالى لم ينزلها عبثا ، بل أنزلها بالحق والصدق والجد ، نهى عن اتخاذها هزوا ، أي : لعبا بها ، وهو التجرؤ عليها ، وعدم الامتثال لواجبها ، مثل استعمال المضارة في الإمساك ، أو الفراق ، أو كثرة الطلاق ، أو جمع الثلات ، والله من رحمته جعل له واحدة بعد واحدة ، رفقا به وسعيا في مصلحته .
{ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } عموما باللسان ثناء وحمدا ، وبالقلب اعترافا وإقرارا ، وبالأركان بصرفها في طاعة الله ، { وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ } أي : السنة اللذين بيّن لكم بهما طرق الخير ورغبكم فيها ، وطرق الشر وحذركم إياها ، وعرفكم نفسه ووقائعه في أوليائه وأعدائه ، وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون .
وقيل : المراد بالحكمة أسرار الشريعة ، فالكتاب فيه ، الحكم ، والحكمة فيها ، بيان حكمة الله في أوامره ونواهيه ، وكلا المعنيين صحيح ، ولهذا قال { يَعِظُكُمْ بِهِ } أي : بما أنزل عليكم ، وهذا مما يقوي أن المراد بالحكمة ، أسرار الشريعة ، لأن الموعظة ببيان الحكم والحكمة ، والترغيب ، أو الترهيب ، فالحكم به ، يزول الجهل ، والحكمة مع الترغيب ، يوجب الرغبة ، والحكمة مع الترهيب يوجب الرهبة .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } في جميع أموركم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فلهذا بيّن لكم هذه الأحكام بغاية الإحكام والإتقان التي هي جارية مع المصالح في كل زمان ومكان ، [ فله الحمد والمنة ] .
وبعد أن بين - سبحانه - في الآية السابقة أن الزوج مخير بين الإِمساك والتسريح في مدة العدة ، عقب ذلك ببيان أن هذا التخيير من حقه حتى آخر وقت في العدة ، وذلك لتذكيره بأن الإِمساك أفضل من التسريح ، وأن عليه ألا يلجأ إلى الطلاق إلا إذا سدجت طرق الإِصلاح والمعالجة ، وأنه إذا اختار الطلاق فعليه أن يسلك فيه طريق الحق والعدل لا طريق الباطل والجور .
قال - تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } .
قال الراغب : الأجل : المدة المضروبة للشيء . قال - تعالى - { ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى . . } - أي مدة معينة - والبلوغ والبلاغ الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى مكاناً كان أو زماناً أو أمراً من الأمور المقدرة ، وربما يعبر به عن المشارفة عليه وإن لم يننه . فمن الانتهاء قوله - تعالى - : { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } وأما قوله : { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } فللمشارفة فإنها إذا انتهت إلى أقصى الأجل لا يصح للزوج مراجعتها وإمساكها " .
والمراد بالأجل هنا عدة المرأة . وببلوغها قرب انتهائها .
والضرار - كما يقول الرازي - هو المضارة . قال - تعالى - : { والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً } أي اتخذوا المسجد ضرراً ليضاروا المؤمنين ، ومعناه يرجع إلى إثارة العداوة ، وإزالة الألفة ، وإيقاع الوحشة ، وموجبات النفرة " .
والمعنى : وإذا طلقتم - أيها المؤمنون - نساءكم طلاقاً رجعياً ، { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي فشارفت عدتهن على الانتهاء ، وقاربت الانقضاء ، فعليكم أن تتدبروا مليا في أمركم ، فإن رأيتم الأصلح في بقائهن معكم فنفذوا ذلك وأمسكوهن بمعروف .
أي بما هو المعروف من شرع الله الحكيم ، وبما تقره الأخلاق الحسنة والعقول السليمة . وإن رأيتم أنه لا رغبة لكم في البقاء معهن فسرحوهن بمعروف أي فأمضوا الطلاق وتفارقوا بالطريقة التي يرضاها الحق - سبحانه - بأن تؤدوا لهن حقوقهن . ولا تذكروهن بسوء بعد انفصالكم عنهن ، فهذا شأن الأتقياء الصالحين فقد سئل بعضهم ، لم طلقت امرأتك ؟ فقال : إن العاقل لا يذكر ما بينه وبين أهله .
قال القرطبي : معنى ( بلغن ) قاربن بإجماع من العلماء ، ولأن المعنى يضطر إلى ذلك ، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإِمساك ، وهو في الآية التي بعدها بمعنى الانتهاء ، لأن المعنى يقتضي ذلك ، فهو حقيقة في الثانية ، مجاز في الأولى - أي التي معنا - " .
ثم نهى - سبحانه - عن الإِمساك الذي يكون معه الضرر فقال . { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ } أي لا تراجعوهن إرادة الضرر بهن والإيذاء لهن لتعتدوا عليهن ، والجملة الكريمة تأكيد للأمر بالإِمساك بمعروف ، وتوضيح لمعناه ، وزجر صريح عما كان يفعله يعضهم من مراجعته لامرأته قبل انتهاء عدتها لا لقصد الإِبقاء على الزوجية وإنما القصد إطاعة عدة الزوجة ، أو لقصد أن تفتدي نفسها منه بالمال : { ضِرَاراً } منصوب على الحال في تمسكوهن أو على أنه مفعول لأجله . واللام في قوله : { لِّتَعْتَدُواْ } هي لام العاقبة أي لتكون عاقبة أمركم الاعتداء وحذف متعلق " لتعتدوا " ليتناول الاعتداء عليهن وعلى أحكام الله - تعالى - .
وقوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } وعيد شديد لمن يقدم على ما نهى الله عنه . أي : ومن يراجع مطلقته بقصد الإِضرار بها والاعتداء عليها فقد ظلم نفسه ظلماً مؤكداً ، لأنه سيعرضها لعقاب الله وسخط الناس .
وجعل ظلمهم لنسائهم ظلماً لأنفسهم ، لأن عملهم هذا سيؤدي إلى اختللا المعاشرة الزوجية واضطرابها ، وشيوع العداوة والبغضاء بين الزوجين وبين أهلهما . ثم كرر - سبحانه - تحذير المخالفين لشريعته ، وذكرهم بألوان نعمه عليهم ليستجيبوا لأمره فقال : { وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ } .
آيات الله : أحكامه التي شرعها في شأن الطلاق وغيره .
والهزء - بضمتين - مصدر هزأ به إذا سخر ولعب وهو هنا مصدر بمعنى اسم المفعول أي : مهزوءاً بها . وقوله { هُزُواً } مفعول ثان لتتخذوا .
والمراد بالحكمة هنا . السنة النبوية المطهرة .
والموعظة والعظة : النصح والتذكير بالخير . بما يرقق القلوب ، ويحذر النفوس مما نهى الله عنه .
أي : ولا تتخذوا - أيها الناس - آيات الله التي شرعها لكم في شأن الطلاق وغيره مهزوءاً بها بأن تعرضوا عنها ، وتتهاونوا في المحافظة عليها ، والتمسك بتعاليمها ، ومن مظاهر ذلك أن بعض الناس كان يكثر من التلفظ بالطلاق متوهما أن ذلك لا يضر ، أو كان يتخذ المراجعة وسيلة لإيذاء المرأة .
قال القرطبي : وفي موطأ مالك أنه بلغه أن رجلا قال ابن عباس : " إني طلقت امرأتي مائة مرة فماذا ترى على ؟ فقال ابن عباس : طلقت منك بثلاث ، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا " .
والجملة الكريمة نهى أريد به الأمر بضده ، أي جدوا في العمل بأوامر الله وآياته ، وارعوها حق رعايتها .
وقوله : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ } إلخ أي تذكروها في هدايتكم إلى الإِسلام ، وفي مشروعية الزوجية وفي غير ذلك مما لا يصحى من النعم وتدبروا نعم الله عليكم فقابلوها بالشكر ، واستعملوها فيما خلقت له ، وتذكروا كذلك ما أنزل الله عليكم بواسطة رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب وهو القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم ، ومن الحكمة وهي السنة النبوية المطهرة ، بما جاء فيهما من توجيهات سامية ، وآداب عالية .
و " ما " في قوله : { وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ } موصولة والعائد محذوف أي ما أنزله و " من " في قوله : { مِّنَ الكتاب } بيانية ، وجملة { يَعِظُكُمْ بِهِ } حال من فاعل أنزل أو من مفعوله ، والضمير في { به } يعود على الكتاب والحكمة بعد تأويلهما بالمذكور . وجعل ضميرها واحداً لأنهما في مؤداهما وغايتهما شيء واحد ، فالسنة ليست نابعة إلا من الكتاب ومنه أخذت قوتها وسلطانها .
وقوله - سبحانه - : في ختام الآية { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تذكير لهم بتقوى الله وخشيته ومراقبته ، وتحذير لهم من مخالفة أمره .
أي : صونوا أنفسكم عن كل ما يغضب الله - تعالى - فيما يتعلق بأمور الزوجية وفي غيرها مما شرعه لكم ، واعلموا أنه - سبحانه - عليم بكل شيء ، عليم بما تسرونه وما تعلنونه ، وسيحاسب كل إنسان بما قدمت يداه { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }
بعد ذلك يجيء التوجيه الإلهي للأزواج المطلقين . توجيههم إلى المعروف واليسر والحسنى بعد الطلاق في جميع الأحوال :
( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ، ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ؛ ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه . ولا تتخذوا آيات الله هزوا ؛ واذكروا نعمة الله عليكم ، وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ؛ واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم ) .
( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ، ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر . ذلكم أزكى لكم وأطهر . والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) . .
إن المعروف والجميل والحسنى يجب أن تسود جو هذه الحياة . سواء اتصلت حبالها أو انفصمت عراها . ولا يجوز أن تكون نية الإيذاء والإعنات عنصرا من عناصرها . ولا يحقق هذا المستوى الرفيع من السماحة في حالة الانفصال والطلاق التي تتأزم فيها النفوس ، إلا عنصر أعلى من ملابسات الحياة الأرضية . عنصر يرفع النفوس عن الإحن والضغن ، ويوسع من آفاق الحياة ويمدها وراء الحاضر الواقع الصغير . . هو عنصر الإيمان بالله . والإيمان باليوم الآخر . وتذكر نعمة الله في شتى صورها ابتداء من نعمة الإيمان - أرفع النعم - إلى نعمة الصحة والرزق . واستحضار تقوى الله والرجاء في العوض منه عن الزوجية الفاشلة والنفقة الضائعة . . وهذا العنصر الذي تستحضره الآيتان اللتان تتحدثان هنا عن إيثار المعروف والجميل والحسنى ، سواء اتصلت حبال الحياة الزوجية أو انفصمت عراها .
ولقد كانت المرأة في الجاهلية تلاقي من العنت ما يتفق وغلظ الجاهلية وانحرافها . كانت تلقى هذا العنت طفلة توأد في بعض الأحيان ، أو تعيش في هون ومشقة وإذلال ! وكانت تلقاه زوجة هي قطعة من المتاع للرجل ، أغلى منها الناقة والفرس وأعز ! وكانت تلقاه مطلقة . تعضل فتمنع من الزواج حتى يسمح مطلقها ويأذن ! أو يعضلها أهلها دون العودة إلى مطلقها ، إن أرادا أن يتراجعا . . وكانت النظرة إليها بصفة عامة نظرة هابطة زرية ، شأنها في هذا شأن سائر الجاهليات السائدة في الأرض في ذلك الأوان .
ثم جاء الإسلام . . جاء ينسم على حياة المرأة هذه النسمات الرخية التي نرى هنا نماذج منها . وجاء يرفع النظرة إليها فيقرر أنها والرجل نفس واحدة من خلقة بارئها . . وجاء يرتفع بالعلاقات الزوجية إلى مرتبة العبادة عند الإحسان فيها . . هذا ولم تطلب المرأة شيئا من هذا ولا كانت تعرفه . ولم يطلب الرجل شيئا من هذا ولا كان يتصوره . إنما هي الكرامة التي أفاضها الله من رحمته للجنسين جميعا ، على الحياة الإنسانية جميعا . .
( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف . ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) . .
والمقصود ببلوغ الأجل هنا هو قرب انتهاء العدة التي قررها في آية سابقة . فإذا قرب الأجل فإما رجعة على نية الاصلاح - والمعاملة بالمعروف - وهذا هو الإمساك بالمعروف . . وإما ترك الأجل يمضي فتبين الزوجة - وهذا هو التسريح بإحسان ، بدون إيذاء ولا طلب فدية من الزوجة وبدون عضل لها عن الزواج بمن تشاء . .
( ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) . .
وذلك كالذي روي عن الأنصاري الذي قال لامرأته : والله لا آويك ولا أفارقك ! فهذا هو الإمساك بغير إحسان . إمساك الضرار الذي لا ترضاه سماحة الإسلام . وهو الإمساك الذي تكرر النهي عنه في هذا السياق ؛ لأنه فيما يبدو كان شائعا في البيئة العربية : ويمكن أن يشيع في أية بيئة لم الإسلام ، ولم يرفعها الإيمان . .
وهنا يستجيش القرآن أنبل المشاعر ؛ كما يستجيش عاطفة الحياء من الله ، وشعور الخوف منه في آن . ويحشد هذه المؤثرات كلها ليخلص النفوس من أوضاع الجاهلية وآثارها ؛ ويرتفع بها إلى المستوى الكريم الذي يأخذ بيدها إليه :
( ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه . ولا تتخذوا آيات الله هزوا . واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به . واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم ) . .
إن الذي يمسك المطلقة ضرارا واعتداء يظلم نفسه . فهي أخته . من نفسه . فإذا ظلمها فقد ظلم نفسه . وهو يظلم نفسه بإيرادها مورد المعصية ، والجموح بها عن طريق الطاعة . . وهذه هي اللمسة الأولى .
وآيات الله التي بينها في العشرة والطلاق واضحة مستقيمة جادة ، تقصد إلى تنظيم هذه الحياة وإقامتها على الجد والصدق ؛ فإذا هو استغلها في الحاق الإضرار والأذى بالمرأة ، متلاعبا بالرخص التي جعلها الله متنفسا وصمام آمن ، واستخدم حق الرجعة الذي جعله الله فرصة لاستعادة الحياة الزوجية وإصلاحها ، في إمساكالمراة لإيذائها وإشقائها . . إذا فعل شيئا من هذا فقد اتخذ آيات الله هزوا - وذلك كالذي نراه في مجتمعنا الجاهلي الذي يدعى الإسلام في هذه الأيام ، من استخدام الرخص الفقهية وسيلة للتحايل والإيذاء والفساد . ومن استخدام حق الطلاق ذاته أسوأ استخدام - وويل لمن يستهزيء بآيات الله دون حياء من الله .
ويستجيش وجدان الحياء والاعتراف بالنعمة . وهو يذكرهم بنعمة الله عليهم وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به . . وتذكير المسلمين يومذاك بنعمة الله عليهم كان يستجيش معاني ضخمة واقعة في حياتهم ، شاملة لهذه الحياة . .
وأول ما كان يخطر على بالهم من نعمة الله عليهم ، هو وجودهم ذاته كأمة . . فماذا كان أولئك العرب والأعراب قبل أن يأتيهم الإسلام ؟ أنهم لم يكونوا شيئا مذكورا . لم تكن الدنيا تعرفهم ولا تحس بهم . كانوا فرقا ومزقا لا وزن لها ولا قيمة . لم يكن لديهم شيء يعطونه للبشرية فتعرفهم به . بل لم يكن لديهم شيء يعطونه لأنفسهم فيغنيهم . لم يكن لديهم شيء على الإطلاق . لا مادي ولا معنوي . . كانوا فقراء يعيشون في شظف . إلا قلة منهم تعيش في ترف ، ولكنه ترف غليظ ساذج هابط أشبه شيء بترف الأوابد التي تكثر في أوكارها الفرائس ! وكانوا كذلك فقراء العقل والروح والضمير . عقيدتهم مهلهلة ساذجة سخيفة . وتصورهم للحياة بدائي قبلي محدود . واهتماماتهم في الحياة لا تتعدى الغارات الخاطفة ، والثارات الحادة ، واللهو والشراب والقمار ، والمتاع الساذج الصغير على كل حال !
ومن هذه الوهدة المغلقة أطلقهم الإسلام . بل أنشأهم إنشاء . أنشأهم ومنحهم الوجود الكبير ، الذي تعرفهم به الإنسانية كلها . أعطاهم ما يعطونه لهذه الإنسانية . أعطاهم العقيدة الضخمة الشاملة التي تفسر الوجود كما لم تفسره عقيدة قط ؛ والتي تمكنهم من قيادة البشرية قيادة راشدة رفيعة . وأعطاهم الشخصية المميزة بهذه العقيدة التي تجعل لهم وجودا بين الأمم والدول ، ولم يكن لهم قبلها أدنى وجود . وأعطاهم القوة التي تعرفهم بها الدنيا وتحسب لهم معها حسابا ، وكانوا قبلها خدما للإمبراطوريات من حولهم ، أو مهملين لا يحس بهم أحد . وأعطاهم الثروة كذلك بما فتح عليهم في كل وجهة . . وأكثر من هذا أعطاهم السلام ، سلام النفس . وسلام البيت وسلام المجتمع الذي يعيشون فيه . أعطاهم طمأنينة القلب وراحة الضمير والاستقرار على المنهج والطريق . . وأعطاهم الاستعلاء الذي ينظرون به إلى قطعان البشرية الضالة في أرجاء الجاهلية المترامية الأطراف في الأرض ؛ فيحسون أن الله آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين . .
فإذا ذكرهم الله بالنعمة هنا ، فهم يذكرون شيئا حاضرا في حياتهم لا يحتاج إلى طول تذكر . وهم هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية ثم عاشوا في الإسلام في جيل واحد . وشهدوا هذه النقلة البعيدة التي لا تحققها إلا خارقة فوق تصور البشر . . وهم يذكرون هذه النعمة ممثلة فيما أنزل الله عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به . . والقرآن يقول لهم : ( وما أنزل عليكم ) . . بضمير المخاطب ؛ ليشعروا بضخامة الإنعام وغزارة الفيض ولصوق النعمة بأشخاصهم ، والله ينزل عليهم هذه الآيات ، التي يتألف منها المنهج الرباني ، ومنه دستور الأسرة قاعدة الحياة . .
ثم يلمس قلوبهم اللمسة الأخيرة في هذه الآية ، وهو يخوفهم الله ويذكرهم أنه بكل شيء عليم :
( واتقوا الله ، واعلموا أن الله بكل شيء عليم ) . .
فيستجيش شعور الخوف والحذر ، بعد شعور الحياء والشكر . . ويأخذ النفس من أقطارها ، ليقودها في طريق السماحة والرفق والتجمل . .