ولما لام بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين في قطع النخيل والأشجار ، وزعموا أن ذلك من الفساد ، وتوصلوا بذلك{[1032]} إلى الطعن بالمسلمين ، أخبر تعالى أن قطع النخيل إن قطعوه أو إبقاءهم إياه إن أبقوه ، إنه بإذنه تعالى ، وأمره { وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } حيث سلطكم على قطع نخلهم ، وتحريقها ، ليكون ذلك نكالا لهم ، وخزيا في الدنيا ، وذلا يعرف به عجزهم التام ، الذي ما قدروا على استنقاذ نخلهم ، الذي هو مادة قوتهم . واللينة : اسم يشمل سائر النخيل على أصح الاحتمالات وأولاها ، فهذه حال بني النضير ، وكيف عاقبهم الله في الدنيا .
ثم ساق - سبحانه - ما يغرس الطمأنينة فى قلوب المؤمنين ، الذين اشتركوا فى تخريب ديار بنى النضير ، وفى قطع نخيلهم ، فقال - تعالى - : { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الفاسقين } .
و " ما " شرطية فى موضع نصب ، بقوله : { قَطَعْتُمْ } وقوله : { مِّن لِّينَةٍ } بيان لها . .
وقوله : { فَبِإِذْنِ الله } جزاء الشرط . واللام فى قوله - تعالى - : { وَلِيُخْزِيَ الفاسقين } متعلقة بمحذوف .
واللينةواحدة اللين ، وهو النخل كله ، أو كرام النخل فقط .
قال الآلوسى ما ملخصه : اللينة هى النخلة مطلقا . . . وهى فعلة من اللَّونِ ، وياؤها مقلوبة عن واو لكسر ما قبلها - فأصل لِينَة : لِوْنَة . .
وقيل : اللينة : النخلة مطلقا . . . وقيل : هى النخلة القصيرة ، وقيل : الكريمة من النخل . . ويمكن أن يقال : أراد باللينة النخلة الكريمة .
وقد ذكروا فى سبب نزول الآية روايات منها : أن المسلمين عندما أخذوا فى تقطيع نخيل اليهود ، قال اليهود للنبى - صلى الله عليه وسلم - : ( يا محمد إنك تنهى عن الفساد ، فما بالك تأمر بقطع النخيل ؟ )فأنزل الله هذه الآية .
وقيل : إن المسلمين بعد أن قطعوا بعض النخيل ، ظنوا أنهم قد أخطأوا فى ذلك ، فقالوا : لنسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية .
وقيل : إن المسلمين نهى بعضهم بعضا عن قطع النخيل ، وقالوا إنما هى مغانم للمسلمين ، فنزلت هذه الآية ؛ لتصديق من نهى عن القطع ، وتحليل من قطع من الإثم .
والمعنى : لا تختلفوا - ايها المؤمنون - فى شأن ما فعلتموه بنخيل بنى النضير ، فإن ذلك قطع شيئا من هذه النخيل لا إثم عليه ، والذى لم يقطع لا إثم عليه - أيضا - لأن كلا الأمرين بإذن الله - تعالى - ورضاه ، وفى كليهما مصلحة لكم .
لأن من قطع يكون قد فعل ما يغيظ العدو ويذله ، ويحمله على الاستسلام والخضوع لأمركم . . .
ومن ترك يكون قد فعل ما يعود بالخير عليكم ، لأن تلك النخيل الباقية ، منفعتها ستئول إليكم .
وقد شرع - سبحانه - لكم كلا الأمرين فى هذا المقام { وَلِيُخْزِيَ الفاسقين } عن أمره ، وهم يهود بنى النضير ، ومن ناصرهم ، وأيدهم ، وسار على طريقتهم فى الخيانة والغدر .
فالآية الكريمة المقصود بها : إدخال المسرة والبهجة فى قلوب المؤمنين ، حتى لا يتأثروا بما حدث منهم بالنسبة لنخيل بنى النضير ، وحتى يتركوا الخلاف فى شأن هذه المسألة ، بعد أن صدر حكم الله - تعالى - فيها ، وهو أن القطع والترك بإذنه ورضاه ، لأن كلا الأمرين يغرس الحسرة فى قلوب الأعداء .
وعبر - سبحانه - باللينة عن النخلة ، لأن لفظ " لينة " أخف لفظا ، وأدخل فى كونها نخلة من كرام النخل .
وقال - سبحانه - : { أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا } لتصوير هيئتها وحسنها وأن فروعها قد بقيت قائمة على أصولها ، التى هى جذورها وجذوعها .
قال الآلوسى : وقوله : { وَلِيُخْزِيَ الفاسقين } متعلق بمقدر على أنه علة له ، وذلك المقدر عطف على مقدر آخر . أى : ليعز المؤمنين ، وليخزى الفاسقين أى : ليذلهم . . .
والمراد بالفاسقين : أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب . ووضع الظاهر موضع المضمر ، إشعارا بعلة الحكم - أى أن فسقهم هو السبب فى إخزائهم .
هذا ، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية : أن تخريب ديار العدو ، وقطع الأشجار التى يملكها ، وهدم حصونه ومعسكراته . . جائز ما دام فى ذلك مصلحة تعود على المسلمين ، وما دامت هناك حرب بينهم وبين أعدائهم .
ثم يطمئن المؤمنين على صواب ما أوقعوه بهؤلاء الذين كفروا وشاقوا الله ورسوله من تقطيع نخيلهم وتحريقه ، أو تركه كذلك قائما ، وبيان حكم الله فيه . وقد دخل نفوس بعض المسلمين شيء من هذا :
( ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله ، وليخزي الفاسقين ) . . واللينة الجيدة من النخل ، أو نوع جيد منه معروف للعرب إذ ذاك . وقد قطع المسلمون بعض نخل اليهود ، وأبقوا بعضه . فتحرجت صدورهم من الفعل ومن الترك . وكانوا منهيين قبل هذا الحادث وبعده عن مثل هذا الاتجاه في التخريب والتحريق . فاحتاج هذا الاستثناء إلى بيان خاص ، يطمئن القلوب . فجاءهم هذا البيان يربط الفعل والترك بإذن الله . فهو الذي تولى بيده هذه الموقعة ؛ وأراد فيها ما أراد ، وأنفذ فيها ما قدره ، وكان كل ما وقع من هذا بإذنه . أراد به أن يخزي الفاسقين . وقطع النخيل يخزيهم بالحسرة على قطعه ؛ وتركه يخزيهم بالحسرة على فوته . وإرادة الله وراء هذا وذاك على السواء .
بذلك تستقر قلوب المؤمنين المتحرجة ، وتشفى صدورهم مما حاك فيها ، وتطمئن إلى أن الله هو الذي أراد وهو الذي فعل . والله فعال لما يريد . وما كانوا هم إلا أداة لإنفاذ ما يريد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.