{ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ ْ } في أبدانهم وأبصارهم ، الذين لا قوة لهم على الخروج والقتال . { وَلَا عَلَى الْمَرْضَى ْ }
وهذا شامل لجميع أنواع المرض الذي{[379]} لا يقدر صاحبه معه على الخروج والجهاد ، من عرج ، وعمى ، وحمى ، وذات الجنب ، والفالج ، وغير ذلك .
{ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ ْ } أي : لا يجدون زادا ، ولا راحلة يتبلغون بها في سفرهم ، فهؤلاء ليس عليهم حرج ، بشرط أن ينصحوا للّه ورسوله ، بأن يكونوا صادقي الإيمان ، وأن يكون من نيتهم وعزمهم أنهم لو قدروا لجاهدوا ، وأن يفعلوا ما يقدرون عليه من الحث والترغيب والتشجيع على الجهاد .
{ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ْ } أي : من سبيل يكون عليهم فيه تبعة ، فإنهم -بإحسانهم فيما عليهم من حقوق اللّه وحقوق العباد- أسقطوا توجه اللوم عليهم ، وإذا أحسن العبد فيما يقدر عليه ، سقط عنه ما لا يقدر عليه .
ويستدل بهذه الآية على قاعدة وهي : أن من أحسن على غيره ، في [ نفسه ]{[380]} أو في ماله ، ونحو ذلك ، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف ، أنه غير ضامن لأنه محسن ، ولا سبيل على المحسنين ، كما أنه يدل على أن غير المحسن -وهو المسيء- كالمفرط ، أن عليه الضمان .
{ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ْ } ومن مغفرته ورحمته ، عفا عن العاجزين ، وأثابهم بنيتهم الجازمة ثواب القادرين الفاعلين .
ثم ذكر - سبحانه - الأعذار الشرعية المقبولة عنده وعند رسوله ، والتى تجعل صاحبها لا حرج عليه إذا ما قعد معها عن القتال ، فقال ، تعالى : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء . . . . مَا يُنْفِقُونَ } .
ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات ، منها ما جاء عن زيد بن ثابت أنه قال كنت أكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنت أكتب " براءة " ، فإنى لواضح القلم على أذنى ، إذ أمرنا بالقتال ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه ، إذ جاء أعمى فقال : كيف بى يا رسول الله وأنا أعمى ؟ فنزلت { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى } الآية .
وروى العوفى عن ابن عباس " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس اني نبعثوا غازين معه . فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مقرن المزنى ، فقالوا : يا رسول الله ، احملنا . فقال لهم : " والله لا أجد ما أحملكم عليه " ، فتولوا وهم يبكون وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ، ولا يجدون نفقة ولا محلا ، فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله ، أنزل عذرهم في كتابه فقال : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى } . . " الآية .
وقال محمد بن إسحاق - في سياق غزوة تبوك - ثم : " إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم البكاءون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم . . فاستحملوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وكانوا أهل حاجة فقال : " لا أجد ما أحملكم عليه " تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون " .
والضعفاء : جمع ضعيف ، وهو من ليس عنده القوة على القيام بتكاليف الجهاد ، كالشيوخ والنساء والصبيان .
والمرضى : جمع مريض ، وهم الذين عرضت لهم أمراض حالت بينهم وبين الاشراك في القتال ، وهؤلاء عذرهم ينتهى بزوال أمراضهم .
والمعنى : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء } العاجزين عن القتال لعلة في تكوينهم ، أو لشيخوخة أقعدتهم ، { وَلاَ على المرضى } الذي حالت أمراضهم بينهم وبين الجهاد { وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } وهم الفقراء القادرون على الحرب ، ولكنهم لا يجدون المال الذين ينفقونه في مطالب الجهاد ، ولا يجدون الرواحل التي يسافرون عليها أرض المعركة ، ليس على هؤلاء جميعا { حَرَجٌ } أى : إثم أو ذنب بسبب عدم خروجهم مع النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك لقتال الكافرين . .
وقوله : { إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ } : بيان لما يجب عليهم في حال قعودهم .
قال الجمل : ومعنى النصح - هنا - أن يقيموا في البلد ، ويحترزوا عن إنشاء الأراجيف ، وإثارة الفتن ، ويسعوا في إيصال الخير إلى أهل المجاهدين الذين خرجوا إلى الغزو ، ويقوموا بمصالح بيوتهم ، ويخلصوا الإِيمان والعمل لله ؛ ويتابعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فجملة هذه الأمور تجرى مجرى النصح لله ورسوله .
وقوله : { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } استئناف مقرر لمضمون ما قبله .
والمحسنون . جمع محسن ، وهو الذي يؤدى ما كله الله به على وجه حسن .
والسبيل : الطريق السهل المهد الموصل إلى البغية . ومن ، زائدة لتأكيد النفى .
أى : ليس لأحد أى طريق يسكلها لمؤاخذة هؤلاء المحسنين ، بسبب تخلفهم عن الجهاد ، بعد أن نصحوا لله ولرسوله ، وبعد أن حالت الموانع الحقيقة بنيهم وبين الخروج للجهاد .
قال الآلوسى : والجملة استئناف مقرر مضمون ما سبق على أبلغ وجه : وألطف سبك ، وهو من بليغ الكلام ، لأن معناه ، لا سبيل لعاتب عليهم ، أى : لا يمر بهم العاتب ، ولا يجوز في أرضهم ، فما أبعد العتاب عنهم ، وهو جار مجرى المثل .
ويحتمل أن يكون تعليلا لنفى الحرج عنهم و { المحسنين } على عمومه . أى ليس عليهم حرج ، لأنه ما على جنس المحسنين سبيل ، وهم من جملتهم .
وقال صاحب المنار : " والشرع الإلهى يجازى المحسن بأضعاف إحسانه ، ولا يؤاخذ المسئ إلا بقدر إساءته ، فإذا كان أولئك المعذورون في القعود عن الجهاد محسنين في سائر أعمالهم بالنصح المذكور . انقطعت طرق المؤاخذة دونهم والإِحسان أعم من النصح المذكرو فالجملة الكريمة تتضمن تعليل رفع الحرج عنهم مقرونا بالدليل ، فكل ناصح لله ورسوله محسن ، ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه في الحرج وهذه المبالغة في أعلى مكانه من أساليب البلاغة .
وقوله : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أى ، والله تعالى - واسع المغفرة ، كثير الرحمة ، يستر على عباده المخلصين ما يصدر عنهم من تقصير تقتضيه طبيعتهم البشرية .
وأخيرا يحدد التبعة . فليس الخروج ضربة لازب على من يطيقون ومن لا يطيقون . فالإسلام دين اليسر ولا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها . والذين عجزوا عن النفرة لا تثريب عليهم ولا مؤاخذة لهم ، لأنهم معذورون :
( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ، ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا للّه ورسوله . ما على المحسنين من سبيل ، واللّه غفور رحيم . ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون ) .
ليس على الضعفاء العاجزين عن القتال لعلة في تكوينهم ، أو لشيخوخة تقعدهم ؛ ولا على المرضى الذين لا يستطيعون الحركة والجهد ؛ ولا على المعدمين الذين لا يجدون ما يتزودون به . . ليس على هؤلاء حرج إذا تخلفوا عن المعركة في الميدان ، وقلوبهم مخلصة للّه ورسوله ، لا يغشون ولا يخدعون ، ويقومون بعد ذلك بما يستطيعونه - دون القتال - من حراسة أو صيانة أو قيام على النساء والذرية في دار الإسلام ، أو أعمال أخرى تعود بالنفع على المسلمين . ليس عليهم جناح ، وهم يحسنون بقدر ما يستطيعون ، فلا جناح على المحسنين ، إنما الجناح على المسيئين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.