ثم قال تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }
كان في أول فرض الصيام ، يحرم على المسلمين في الليل بعد النوم الأكل والشرب والجماع ، فحصلت المشقة لبعضهم ، فخفف الله تعالى عنهم ذلك ، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجماع ، سواء نام أو لم ينم ، لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به .
{ فتاب } الله { عليكم } بأن وسع لكم أمرا كان - لولا توسعته - موجبا للإثم { وعفا عنكم } ما سلف من التخون .
{ فالآن } بعد هذه الرخصة والسعة من الله { باشروهن } وطأ وقبلة ولمسا وغير ذلك .
{ وابتغوا ما كتب الله لكم } أي : انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى والمقصود الأعظم من الوطء ، وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته ، وحصول مقاصد النكاح .
ومما كتب الله لكم ليلة القدر ، الموافقة لليالي صيام رمضان ، فلا ينبغي لكم أن تشتغلوا بهذه اللذة عنها وتضيعوها ، فاللذة مدركة ، وليلة القدر إذا فاتت لم تدرك .
{ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } هذا غاية للأكل والشرب والجماع ، وفيه أنه إذا أكل ونحوه شاكا في طلوع الفجر فلا بأس عليه .
وفيه : دليل على استحباب السحور للأمر ، وأنه يستحب تأخيره أخذا من معنى رخصة الله وتسهيله على العباد .
وفيه أيضا دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل أن يغتسل ، ويصح صيامه ، لأن لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر ، أن يدركه الفجر وهو جنب ، ولازم الحق حق .
{ ثم } إذا طلع الفجر { أتموا الصيام } أي : الإمساك عن المفطرات { إلى الليل } وهو غروب الشمس ولما كان إباحة الوطء في ليالي الصيام ليست إباحته{[126]} عامة لكل أحد ، فإن المعتكف لا يحل له ذلك ، استثناه بقوله : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } أي : وأنتم متصفون بذلك ، ودلت الآية على مشروعية الاعتكاف ، وهو لزوم المسجد لطاعة الله [ تعالى ] ، وانقطاعا إليه ، وأن الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد .
ويستفاد من تعريف المساجد ، أنها المساجد المعروفة عندهم ، وهي التي تقام فيها الصلوات الخمس .
وفيه أن الوطء من مفسدات الاعتكاف .
{ تلك } المذكورات - وهو تحريم الأكل والشرب والجماع ونحوه من المفطرات في الصيام ، وتحريم الفطر على غير المعذور ، وتحريم الوطء على المعتكف ، ونحو ذلك من المحرمات { حدود الله } التي حدها لعباده ، ونهاهم عنها ، فقال : { فلا تقربوها } أبلغ من قوله : " فلا تفعلوها " لأن القربان ، يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه ، والنهي عن وسائله الموصلة إليه .
والعبد مأمور بترك المحرمات ، والبعد منها غاية ما يمكنه ، وترك كل سبب يدعو إليها ، وأما الأوامر فيقول الله فيها : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } فينهى عن مجاوزتها .
{ كذلك } أي : بيَّن [ الله ] لعباده الأحكام السابقة أتم تبيين ، وأوضحها لهم أكمل إيضاح .
{ يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه ، وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه ، فإن الإنسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم ، ولو علم تحريمه لم يفعله ، فإذا بين الله للناس آياته ، لم يبق لهم عذر ولا حجة ، فكان ذلك سببا للتقوى .
{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ . . . }
روى بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية الكريمة أحاديث تفيد أن المسلمين كانوا عند ما فرض صيام شهر رمضان . إذا أفطروا يأكلون ويشربون ويقربون النساء ما لم يناموا ، فإذا ناموا حرم عليهم بعد ذلك الطعام والشراب وقربان النساء حتى يفطروا من الغد .
ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى ما أخرجه الإِمام أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه . قال : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حمر عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده ، فأراد امرأته فقالت إني قد نمت ، فقال ما نمت ثم واقعها ، وصنع كعب مثل ذلك . فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبهر فنزلت .
ومنها ما رواه البخاري عن البراء قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإِفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمس . وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما وفي رواية : كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما . فلما حضر الإِفطار أتى امرأته فقال لها : أعندك طعام ؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه فجاءته امرأته فما رأته قالت : خيبة لك . فلما انتصف النهار غشى عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } ففرحوا فرحاً شديداً ، ونزلت { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر } .
وجمهور المفسرين - كما يقول الإِمام الرازي - على أن هذه الآية من قبيل النسخ ، لأنها قد نسخت ما كان حاصلا في أول فرضية من أن الصائم إذا نام بعد فطره لا يحل له الأكل أو الشرب أو الجماع إلى أن يفطر من الغد .
ويرى بعض العلماء أن الآية ليست من قبيل النسخ وإنما هي إرشاد إلى ما شرعه الله - تعالى - لعباده خلال شهر الصوم من إباحة غشيان أزواجهن ليلا . ومن جواز الأكل والشرب ، حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وكأن الصحابة كانوا يتحرجون عن ذلك ظناً منهم أنه من تتمة الصوم ، ورأوا أن لا صبر لأنفسهم عن الأكل والشرب والجماع ليلا ، فبين الله لهم أن ذلك حلال لا حرج فيه .
وأصحاب هذا الرأي يستشهدون لذلك بما رواه البخاري عن البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله - تعالى - { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } فالمقصود من الآية الكريمة عند هؤلاء رفع ما توهمه بعض الصحابة من أن الأكل أو الشرب أو الجماع لا يجوز ما دامو قد ناموا بعد فطرهم ؛ لأن الله - تعالى - رءوف رحيم بهم ، ولم يشرع لهم ما فيه حرج أو مشقة عليهم .
وعلى كلا القولين فالآية الكريمة تسوق لنا لونا من ألوان رحمة الله - تعالى - بعباده فيما شرع لهم من فرائض وأحكام .
والمراد بليلة الصيام : الليلة التي يصبح فيها الإِنسان صائما دون تحديد ليلة معينة من شهر رمضان ، فالإِضافة لأدنى ملابسة .
قال الجمل وقوله : { لَيْلَةَ الصيام } منصوب على الظرف ، وفي الناصب له ثلاثة أقوال :
أحدها : وهو المشهور عند المعربين أنه أحل ، وليس بشئ ، لأن الإِحلال ثابت قبل ذلك الوقت .
الثاني : أنه مقدر مدلول عليه بلفظ الرفث تقديره : أحل لكم أن ترفثوا ليلة الصيام .
الثالث : أنه متعلق بالرفث وذلك على رأى من يرى الاتساع في الظرف والمجرورات " .
والرفث في الأصل : الفحش من القول ، وكلام النساء حين الجماع ، كنى به عن المباشرة للزومه لها غالباً . يقال رفث في لكامه - كنصر وفرح وكرم - وأرفث ، إذا أفحش فيه . والمراد به في الآية الجماع والمباشرة .
وعدي بإلى - مع أن المستعمل الشائع أن يقال : رفث بالمرأة - لتضمنه معنى الإِفضاء كما في قوله - تعالى - : { وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } والمعنى : أحل الله لكم في ليالي صومكم الإِفضاء إلى نسائكم ومباشرتهن وقوله - تعالى - { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } وارد مورد المقتضى لإِباحة مباشرة النساء في ليالي الصيام ، ذلك أن كلا مع الزوجين يسكن إلى صاحبه ، ويكون من شدة القرب منه كالثوب الملابس له وكانت العرب تسمى المرأة لباساً ، وهذه حال تقوى معها الدواعي إلى المباشرة ، فمن رفقه - تعالى - بعباده أن أحلها لهم ليلة الصيام .
قال الراغب : جعل اللباس كناية عن الزوج لكونه ستراً لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء ، كما أن اللباس ستر عنه أن يبدو منه السوء .
وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما موقع قوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } قلت : هو استئناف كالبيان لسبب الإِحلال ، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن وصعب عليكم اجتنابهن ، فلذلك رخص لكم في مباشرتهن " .
وفي هذا التعبير القرآني ما فيه من اللطافة والأدب وسمو التصوير لما بين الرجل وزوجه من شدة الاتصال والمودة واستتار كل واحد منهما بصاحبه .
وقوله - تعالى - : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } جملة معترضة بين قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام } وبين قوله : { فالآن بَاشِرُوهُنَّ } إلخ .
وقد جيء بها لبيان حالهم بالنسبة إلى ما فرط منهم ، ولبيان مظهر من مظاهر لطف الله بهم ، ورحمته إياهم .
وقوله : { تَخْتانُونَ } قال الراغب : الاختيان مراودة الخيانة ، ولم يقل تخونون أنفسكم لأنه لم تكن منهم الخيانة بل كان منهم الاختيان ، فإن الاختيان تحرك شهوة الإِنسان لتحري الخيانة وذلك هو المشار إليه بقوله - تعالى - : { إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء } والمعنى : علم الله - تعالى - أنكم كنتم تراودون أنفسكم على مباشرة نسائكم ليلا ، وعلى الأكل بعد النوم ، قبل أن يظهر الفجر الصادق ، بل إن بعضكم قد فعل ذلك ، فكان من رحمة الله بكم أن أباح الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم ، وأن قبل توبتكم وعفا عنكم ، أي : محا أثر ما فعلتموه من الأكل والجماع قبل أن يأذن لكم بذلك .
وجملة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } معطوفة على محذوف ، والتقدير : قتبتم فتاب عليكم .
والذين لا يرون أن الآية ناسخة لحكم سابق عبر عن وجهة نظرهم صاحب المنار فقال : وقوله - تعالى - : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } أي : تتنقصونها بعض ما أحل الله لها من اللذات توهما أن من قبلكم كان كذلك فيكون بمعنى التخون أي : النقص من الشيء أو معناه : تخونون أنفسكم إذ تعتقدون شيائً ثم لا تلتزمون العمل به فهو مبالغة من الخيانة التي هي مخالفة مقتضي الأدلة ولم يقل تختانون الله كما قال في آية أخرى : لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم " للإِشعار بأن الله - تعالى - لم يحرم عليهم بعد النوم في الليل ما حرمه على الصائم في النهار ، وإنما ذهب بهم اجتهادهم إلى ذلك فهم قد خانوا أنفسهم في اعتقادها ، فكانوا كمن يتغشى امرأته ظاناً أنها أجنبية ، فعصيانه بحسب اجتهاده لا بحسب الواقع ، فهم على أية حال كانوا عاصين بما فعلوا محتاجين إلى التوبة والعفو ولذلك قال { فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } .
وقوله - تعالى - : { فالآن بَاشِرُوهُنَّ } الأمر فيه للإِباحة وهو مرتب على قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } .
ولفظ { فالآن } يطلق حقيقة على الوقت أنت فيه ، وقد يقع على الماضي القريب منك وعلى المستقبل القريب الوقوع تنزيلا له منزلة الحاضر وهو المراد هنا .
{ بَاشِرُوهُنَّ } من المباشرة وأصلها اتصال البشرة بالبشرة ، وكنى بها القرآن عن الجماع الذي يستلزمها .
وقوله - تعالى - { وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } تأكيد لما قبله . والابتغاء الطلب والمعنى : لقد أبحنا لكم الإِفضاء إلى نسائكم في ليالي رمضان بعد أن كان محرماً عليكم فضلا منا ورحمة بكم فالآن باشروهن واطلبوا من وراء هذه المباشرة ما كتبه لكم الله من الذرية الصالحة ومن التعفف عن إتيان الحرام .
وفي هذا إشعار بأن النكاح شرع ليبتغي به النسل حتى يتحقق ما يريده الله - تعالى - من بقاء النوع الإِنساني ، ومن صيانة المرء نفسه عن الوقوع في فاحشة الزنا .
وقوله - تعالى - { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر } معطوف على باشروهن .
والمقصود من الخيط الأبيض : أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره .
والمقصود من الخيط الأسود : ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة الليل .
والمعنى : لقد أبحنا لكم مباشرة النساء في ليالي الصوم ، وأبحنا لكم كذلك أن تأكلوا وأن تشربوا في هذه الليالي حتى يتبين لكم بياض الفجر من سواد الليل .
قال الإِمام الرازي : { الفجر } مصدر قولك : فجرت الماء أفجره فجراً ، وفجرته تفجيراً قال الأزهري : الفجر أصله الشق ، فعلى هذا الفجر في آخر الليل هو انشقاق ظلمة الليل بنور الصبح .
وقد وردت روايات صحيحة تفيد أن قوله : { مِنَ الفجر } قد تأخر نزوله عن الجمل السابقة له . ففي الصحيحين عن سهل به سعد قال أنزلت { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر } فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ويأكل حتى يتبين له رؤيتها ، فأنزل الله بعده { مِنَ الفجر } فعلموا أنه يعني الليل والنهار .
ورويا أيضاً عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت هذه الآية { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر } عمدت إلى عقالين لي أسود وأبيض فجعلتهما تحت وسادتي وجعلت أنظر في الليل إليهما فلا يتبين لي ، فعمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فقال : " إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " ونزل قوله - تعالى - : { مِنَ الفجر } .
وشبه بياض النهار وسواد الليل بالخيطين : الأبيض والأسود لأن أول ما يبدوا من الفجر المعترض في الأفق وما يمتد معه من غبش الليل يكون كالخيط الممدود .
وفي الإتيان بلفظ التفعل في قوله : { حتى يَتَبَيَّنَ . . . } إشعار بأنه لا يكفي إلا التبين الوضاح لا مجرد التوهم ، فقد روى الإِمام مسلم في صحيحه عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر - أو قال - حتى ينفجر الفجر " .
وقوله : { مِنَ الفجر } بيان للخيط الأبيض . واكتفى به عن بيان الخيط الأسود ، لأن بيان أحدهما بيان للثاني ، ويجوز أن تكون " من " للتبعيض ، أي : من بعض الفجر .
وقوله - تعالى - : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } بيان لإنتهاء وقت الصيام بعد أن بينت الجملة السابقة بدايته . أي : ابدءوا صومكم من طلوع الفجر وانتهوا منه بدخول الليل عند غروب الشمس ، إذ الليل لبس بوقت الصيام .
قال الإِمام الرازي : كلمة { إِلَى } لإنتهاء الغاية ، فظاهر الآية : أن الصوم ينتهي عند دخول الليل ، وذلك لأن غاية الشيء مقطعه ومنتهاه وإنما يكون مقطعاً ومنتهى إذا لم يبق بعد ذلك وقد تجيء هذه الكلة لا للإِنتهاء كما في قوله - تعالى - : { إِلَى المرافق } إلا أن ذلك على خلاف الدليل ، والفرقب بين الصورتين أن الليل من جنس النهار فيكون الليل خارجاً عن حكم النهار ، والمرافق من جنس اليد فيكون داخلا فيه " .
وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أقبل الليل من هنا وأدبر النهار من هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " .
وكان من عادته صلى الله عليه وسلم تعجيل الفطر ، فقد روى الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " .
وقد أخذ العلماء من هذه الآية ومن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله ، أن من واصل الإِمساك عن المفطرات في الليل فلا ثواب له على هذا الإِمساك ، لأنه لم يقع في الوقت لالذي رسمه الشارع لعبادة الصوم ، بل يعد هذا المواصل فاعلا لمحظور ، فلا بد للصائم من تناول شي من المفطرات بعد غروب الشمس ولو قليلا من الماء . فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات فإن لم تكن رطبات فتميرات ، فإن لم تكن تميزات حسا حسوات من ماء ، والوصال - بمعى أن يصوم الشخص اليوم وما بعده من غير أن يتناول مفطراً في الليل الفاصل بينهما - وردت في النهي عنه أحاديث كثيرة ، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تواصلوا ، قالوا : إنك تواصل يا رسول الله . قال : لست كأحد منكم إني أطعم وأسقى . أو قال : إني أظل يطعمني ربي ويسقيني " .
وروى الإِمام أحمد عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت : أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعنى بشير وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال : " يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل ، فإذا كان الليل فأفطروا " .
وقوله : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ } كان هذا الإِطلاق مظنة لأن يؤخذ منه أن المعتكف كالصائم في أنه يجوز له أن يباشر زوجته ليلا لا نهاراً ، فبين - سبحانه - بهذه الجملة أن المعتكف يحرم عليه أن يباشر النساء فيي الليل والنهار .
قال القرطبي : والاعتكاف في اللغة : الملازمة ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه .
وظل بنات الليل حولي عكفا . . . عكوف البواكي بينهن صريع
ولما كان المعتكف ملازماً للعمل بطاعة الله مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم وهو في عرف الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في مو ضع مخصوص .
وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأزواجه ، ويلزمه إن ألزمه نفسه ، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه .
وأجمع العلماء على أنه لا يكون إلا في المسجد واختلفوا في المراد بالمساجد في قوله - تعالى - { فِي المساجد } فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد وهو ما بناه نبي كالمسجد الحرام والمسجد النبوي وبيت المقدس ، وقال آخرون لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة ، وقال آخرون الاعتكاف في كل مسجد جائز .
والمشار إليه في قوله - تعالى - : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } الأحكام التي سبق تقريرها من إيجاب وتحريم وإباحة .
والحدود جمع حد ، وهو في اللغة الحاجز بين الشيئين المتقابلين ليمنع من دخول أحدهما في الآخر . ومنه سمي الحديد حديداً لأنه يمنع وصول السلاح إلى البدن .
و سميت الأحكام التي شرعها الله حدوداً لأنها تحجز بين الحق والباطل .
أي : تلك الأحكام التي شرعناها لكم من إيجاب الصوم ، وتحريم الأكل والشرب والجماع في نهاره ، وإباحة ذلك في ليله ، هي حدود الله التي لا يحل لكم مخالفتها أو مجازتها .
وعبر - سبحانه - عن النهي عن مخالفة تلك الأحكام بقوله : { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } مبالغة في التحذير من مخالفتها ، لأن النهي عن القرب من الشيء نهى عن إتيانه بالأولى والآية ترشد بقولها { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } إلى اجتناب ما فيه شبهة كما ترشد إلى ترك الأشياء التي تقضى في غالب أمرها إلى الوقوع في حرام .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف قيل { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } مع قوله : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله } قلت : من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق فنهى أن يتعداه . لأن من تعداه وقع في حيز الباطل ، ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حييز الحق والباطل لئلا يداني الباطل ، وأن يكون في الواسطة متباعداً عن الطرف فضلا عن أن يتخطاه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لكل ملك حمى ، وحمى الله محارمه ، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه " فالرتع حول الحمى وقربان حيزه واحد . ويجوز أن يريد بحدود الله محارزه ومناهيه خصوصاً لقوله - تعالى - : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ } وهي حدود لا تقرب " .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآية الكريمة بقوله : { كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .
أي : مثل ذلك البيان الجامع الذي بين الله به حدوده التي أمركم بالتزامها ونهاكم عن مخالفتها ، يبين لكم آياته ، أي : أدلته وحججه لكي تصونوا أنفسكم عما يؤدي بكم إلى العقوبة ، وتكونوا ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد ختمت الحديث عن الصوم ، ببيان مظاهر رفق الله بعباده ، ورعايته لمصالحهم ومنافعهم بأسلوب بليغ جمع بين الترغيب والترهيب ، والإِباحة والتحريم ، وغير ذلك من أنواع الهداية والإِرشاد إلى ما يسعد الناس في دينهم ودنياهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرّفَثُ إِلَىَ نِسَآئِكُمْ هُنّ لِبَاسٌ لّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لّهُنّ عَلِمَ اللّهُ أَنّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالاَنَ بَاشِرُوهُنّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمّ أَتِمّواْ الصّيَامَ إِلَى الّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ }
يعني تعالى ذكره بقوله : أُحِلّ لَكُمْ أطلق لكم وأبيح . ويعني بقوله : لَيْلَةَ الصّيَامِ في ليلة الصيام . فأما الرفث فأنه كناية عن الجماع في هذا الموضع ، يقال : هو الرفث والرفّوث . وقد رُوي أنها في قراءة عبد الله : «أحل لكم ليلة الصيام الرفوث إلى نسائكم » . وبمثل الذي قلنا في تأويل الرفث قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، قال : حدثنا أيوب بن سويد ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن بكر عن عبد الله المزني ، عن ابن عباس قال : الرفث : الجماع ، ولكن الله كريم يكني
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن بكر ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : الرفث : النكاح .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : الرفث : غشيان
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلى نِسائِكُمْ }قال : الجماع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : الرفث : هو النكاح .
حدثني المثنى ، قال : قال : حدثنا إسحاق ، قال حدثنا عبد الكبير البصري ، قال : حدثنا الضحاك بن عثمان ، قال : سألت سالم بن عبد الله عن قوله : { أُحِلّ لَكُمْ لَيُلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلى نِسائِكُمْ }قال : هو الجماع .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلى نِسَائِكُمْ }يقول : الجماع . والرفث في غير هذا الموضع الإفحاش في المنطق كما قال العجاج :
القول في تأويل قوله تعالى : { هُنّ لِباسٌ لَكُمْ وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنّ . }
يعني تعالى ذكره بذلك : نساؤكم لباس لكم ، وأنتم لباس لهنّ .
فإن قال قائل : وكيف يكون نساؤنا لباسا لنا ونحن لهن لباسا واللباس إنما هو ما لبس ؟ قيل : لذلك وجهان من المعاني : أحدهما أن يكون كل واحد منهما جُعل لصاحبه لباسا ، لتخرجهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد وانضمام جسد كل واحد منهما لصاحبه بمنزلة ما يلبسه على جسده من ثيابه ، فقيل لكل واحد منهما هو لباس لصاحبه ، كما قال نابغة بني جعدة :
إذَا ما الضّجِيعُ ثَنَى عِطْفَها تَدَاعَتْ فَكانَتْ عَلَيْهِ لِباسا
ويروي «تثنت » فكنى عن اجتماعهما متجرّدين في فراش واحد باللباس كما يكنى بالثياب عن جسد الإنسان ، كما قالت ليلى وهي تصف إبلاً ركبها قوم :
رَمَوها بأثْوَابٍ خِفافٍ فَلا تَرَى لَهَا شَبَها إلاّ النّعامَ المُنَفّرَا
يعني رموها بأنفسهم فركبوها . وكما قال الهذلي :
تَبَرّأُ مِنْ دَمِ القَتِيلِ وَوَتْرِهِ وقَدْ عَلِقَتْ دَمَ القَتِيلِ إزَارُها
يعني بإزارها نفسها . وبذلك كان الربيع يقول :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعيد ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع : { هُنّ لِباسٌ لَكُمْ وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنّ } يقول : هنّ لحاف لكم ، وأنتم لحاف لهن .
والوجه الاَخر أن يكون جعل كل واحد منهما لصاحبه لباسا لأنه سَكَنٌ له ، كما قال جل ثناؤه : { جَعَلَ لَكُمُ اللّيْلَ لِباسا }يعني بذلك سكنا تسكنون فيه . وكذلك زوجة الرجل سكنه يسكن إليها ، كما قال تعالى ذكره : وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إلَيْهَا فيكون كل واحد منهما لباس لصاحبه ، بمعنى سكونه إليه ، وبذلك كان مجاهد وغيره يقولون في ذلك .
وقد يقال لما ستر الشيء وواراه عن أبصار الناظرين إليه هو لباسه وغشاؤه ، فجائز أن يكون قيل : هن لباس لكم ، وأنتم لباس لهنّ ، بمعنى أن كل واحد منكم ستر لصاحبه فيما يكون بينكم من الجماع عن أبصار سائر الناس .
وكان مجاهد وغيره يقولون في ذلك بما :
حدثنا به المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { هُنّ لِباسٌ لَكُمْ وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنّ } يقول : سكن لهن .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { هُنّ لِباسٌ لَكُمْ وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنّ }قال قتادة : هنّ سكن لكم ، وأنتم سكن لهنّ .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { هُنّ لِباسٌ لَكُمْ }يقول : سكن لكم ، وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنّ يقول : سكن لهن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد في قوله : { هُنّ لِباسٌ لَكُمْ وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنّ } قال : المواقعة .
حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إبراهيم ، عن يزيد ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قوله : { هُنّ لِباسٌ لَكُمْ وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنّ } قال : هنّ سكن لكم ، وأنتم سكن لهن .
القول في تأويل قوله تعالى : { عَلِمَ اللّهُ أنّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فالاَنَ باشِرُوهُنّ وابُتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ . }
إن قال لنا قائل : وما هذه الخيانة التي كان القوم يختانونها أنفسهم التي تاب الله منها عليهم فعفا عنهم ؟ قيل : كانت خيانتهم أنفسهم التي ذكرها الله في شيئين : أحدهما جماع النساء ، والاَخر : المطعم والمشرب في الوقت الذي كان حراما ذلك عليهم . كما :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال : حدثنا ابن أبي ليلى : أن الرجل كان إذا أفطر فنام لم يأتها ، وإذا نام لم يطعم ، حتى جاء عمر بن الخطاب يريد امرأته فقالت امرأته : قد كنت نمت فظن أنها تعتل فوقع بها قال : وجاء رجل من الأنصار فأراد أن يطعم فقالوا : نسخن لك شيئا ؟ قال : ثم نزلت هذه الآية : { أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلى نِسائِكُمْ } الآية .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر ، فلما دخل رمضان كانوا يصومون ، فإذا لم يأكل الرجل عند فطره حتى ينام لم يأكل إلى مثلها ، وإن نام أو نامت امرأته لم يكن له أن يأتيها إلى مثلها . فجاء شيخ من الأنصار يقال له صرمة بن مالك ، فقال لأهله : أطعموني فقالت : حتى أجعل لك شيئا سخنا ، قال : فغلبته عينه فنام . ثم جاء عمر فقالت له امرأته : إني قد نمت فلم يعذرها وظن أنها تعتلّ فواقعها . فبات هذا وهذا يتقلبان ليلتهما ظهرا وبطنا ، فأنزل الله في ذلك : { وكُلُوا واشْرَبُوا حتّى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنِ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْر } وقال : { فَالاَنَ باشِرُوهُنّ } فعفا الله عن ذلك . وكانت سنة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل ، قال : كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا ، فإذا ناموا تركوا الطعام والشراب وإتيان النساء ، فكان رجل من الأنصار يدعى أبا صرمة يعمل في أرض له ، قال : فلما كان عند فطره نام ، فأصبح صائما قد جهد ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ما لي أَرَى بِكَ جَهْدا » ؟ ، فأخبر بما كان من أمره . واختان رجل نفسه في شأن النساء ، فأنزل الله أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلى نِسائِكُمْ . . . إلى آخر الآية .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثني أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء نحو حديث ابن أبي ليلى الذي حدث به عمرو بن مرة ، عن الرحمن بن أبي ليلى قال : كانوا إذا صاموا ونام أحدهم لم يأكل شيئا حتى يكون من الغد ، فجاء رجل من الأنصار ، وقد عمل في أرض له وقد أعيا وكلّ ، فغلبته عينه ونام ، وأصبح من الغد مجهودا ، فنزلت هذه الآية : وكُلُوا وَاشْرَبُوا حتّى يَتَبَيّنَ لَكُمْ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن رجاء البصري ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها ، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما ، وكان توجه ذلك اليوم فعمل في أرضه ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندكم طعام ؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك . فغلبته عينه فنام ، وجاءت امرأته قالت : قد نمت فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت فيه هذه الآية : { أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلى نِسائِكُمْ }إلى : مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ ففرحوا بها فرحا شديدا .
حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره : { أُحِلّ لكُمْ لَيْلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلى نِسائكُم }وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلو العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة ، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء ، منهم عمر بن الخطاب ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { عَلِمَ اللّهُ أنّكُمْ كُنْتُمْ تخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالاَنَ باشِرُوهُنّ يعني انكحوهن وكُلُوا وَاشْرَبُوا حّتى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ . }
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، قال : حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدّث عن أبيه قال : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد . فرجع عمر بن الخطاب من عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده ، فوجد امرأته قد نامت فأرادها ، فقالت : إني قد نمت فقال : ما نمت ثم وقع بها ، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك . فغدا عمر بن الخطاب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأنزل الله تعالى ذكره : { عَلِمَ اللّهُ أنّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فالاَنَ باشِرُوهُنّ . . } . الآية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا ثابت : أن عمر بن الخطاب واقع أهله ليلة في رمضان ، فاشتدّ ذلك عليه ، فأنزل الله : { أحِلّ لَكُمْ لَيْلَةُ الصّيَامِ الرّفِثُ إلى نِسائِكُمْ . }
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلى نِسائِكُمْ هُنّ لِباسٌ لَكُمْ وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنّ }إلى : وعَفا عَنْكُمْ ، كان الناس أول ما أسلموا إذا صام أحدهم يصوم يومه ، حتى إذا أمسى طعم من الطعام فيما بينه وبين العتمة ، حتى إذا صليت حرم عليهم الطعام حتى يمسي من الليلة القابلة . وإن عمر بن الخطاب بينما هو نائم ، إذ سوّلت له نفسه ، فأتى أهله لبعض حاجته ، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه كأشدّ ما رأيت من الملامة . ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنى أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة ، فإنها زينت لي فواقعت أهلي ، هل تجد لي من رخصة يا رسول الله ؟ قال : «لم تَكُنْ حَقِيقا بذلك يا عُمَر » ، فلما بلغ بيته ، أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن ، وأمر الله رسوله أن يضعها في المائة الوسطى من سورة البقرة ، فقال : أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيّامِ الرّفَثُ إلى نِسائِكُمْ إلى عَلِمَ اللّهُ أنّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ يعني بذلك الذي فعل عمر بن الخطاب . فأنزل الله عفوه ، فقال : فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالاَنَ باشِرُوهُنّ إلى : مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ فأحلّ لهم المجامعة والأكل والشرب حتى يتبين لهم الصبح .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلى نِسائِكُمْ }قال : كان الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصوم الصيام بالنهار ، فإذا أمسى أكل وشرب وجامع النساء ، فإذا رقد حرم ذلك كله عليه إلى مثلها من القابلة . وكان منهم رجال يختانون أنفسهم في ذلك ، فعفا الله عنهم ، وأحلّ ذلك لهم بعد الرقاد وقبله في الليل كله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الصائم في رمضان ، فإذا أمسى ، ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو وزاد فيه : وكان منهم رجال يختانون أنفسهم ، وكان عمر بن الخطاب ممن اختان نفسه ، فعفا الله عنهم ، وأحلّ ذلك لهم بعد الرقاد وقبله ، وفي الليل كله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني إسماعيل بن شَرُوس ، عن عكرمة مولى ابن عباس : أن رجلاً قد سماه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار جاء ليلة وهو صائم ، فقالت له امرأته : لا تنم حتى نصنع لك طعاما فنام ، فجاءت فقالت : نمت والله فقال : لا والله قالت : بلى والله فلم يأكل تلك الليلة وأصبح صائما ، فغشي عليه فأنزلت الرخصة فيه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : عَلِمَ اللّهُ أنّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ وكان بدء الصيام أمروا بثلاثة أيام من كل شهر ركعتين غدوة ، وركعتين عشية ، فأحلّ الله لهم في صيامهم في ثلاثة أيام ، وفي أوّل ما افترض عليهم في رمضان إذا أفطروا وكان الطعام والشراب وغشيان النساء لهم حلالاً ما لم يرقدوا ، فإذا رقدوا حرم عليهم ذلك إلى مثلها من القابلة . وكانت خيانة القوم أنهم كانوا يصيبون أو ينالون من الطعام والشراب وغشيان النساء بعد الرقاد ، وكانت تلك خيانة القوم أنفسهم ، ثم أحلّ الله لهم ذلك الطعام والشراب وغشيان النساء إلى طلوع الفجر .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلى نِسائِكُمْ قال : كان الناس قبل هذه الآية إذا رقد أحدهم من الليل رقدة ، لم يحلّ له طعام ولا شراب ، ولا أن يأتي امرأته إلى الليلة المقبلة ، فوقع بذلك بعض المسلمين ، فمنهم من أكل بعد هجعته أو شرب ، ومنهم من وقع على امرأته فرخص الله ذلك لهم .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : كتب على النصارى رمضان ، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم ولا ينكحوا النساء شهر رمضان ، فكتب على المؤمنين كما كتب عليهم ، فلم يزل المسلمون على ذلك يصنعون كما تصنع النصارى ، حتى أقبل رجل من الأنصار يقال له أبو قيس بن صرمة ، وكان يعمل في حيطان المدينة بالأجر ، فأتى أهله بتمر ، فقال لامرأته : استبدلي بهذا التمر طحينا فاجعليه سخينة لعلي أن آكله ، فإن التمر قد أحرق جوفي ، فانطلقت فاستبدلت له ، ثم صنعت ، فأبطأت عليه فنام ، فأيقظته ، فكره أن يعصي الله ورسوله ، وأبى أن يأكل ، وأصبح صائما فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشي ، فقال : «ما لك يا أبا قَيْسِ أَمْسَيْتَ طَلِيحا » ، فقصّ عليه القصة . وكان عمر بن الخطاب وقع على جارية له في ناس من المؤمنين لم يملكوا أنفسهم فلما سمع عمر كلام أبي قيس رهب أن ينزل في أبي قيس شيء ، فتذكر هو ، فقام فاعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إني أعوذ بالله إني وقعت على جاريتي ، ولم أملك نفسي البارحة فلما تكلم عمر تكلم أولئك الناس ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ما كُنْتَ جَدِيرا بِذَلِكَ يَا ابْنَ الخَطّاب » ، فنسخ ذلك عنهم ، فقال : { أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيّامِ الرّفَثُ إلى نِسائِكُمْ هُنّ لِباسٌ لَكُمْ وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنّ ، عَلِمَ اللّهُ أنّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أنْفُسَكم } يقول : إنكم تقعون عليهن خيانة ، { فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالاَنَ باشرُوهُنّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ }يقول : جامعوهن ورجع إلى أبي قيس فقال : { وكُلُوا وَاشْرَبُوا حتى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : { أُحِل لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ }قال : كانوا في رمضان لا يمسّون النساء ولا يطعمون ولا يشربون بعد أن يناموا حتى الليل من القابلة ، فإن مسوهنّ قبل أن يناموا لم يروا بذلك بأسا . فأصاب رجل من الأنصار امرأته بعد أن نام ، فقال : قد اختنت نفسي فنزل القرآن ، فأحلّ لهم النساء والطعام والشراب حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر . قال : وقال مجاهد : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصوم الصائم منهم في رمضان ، فإذا أمسى أكل وشرب وجامع النساء ، فإذا رقد حرم عليه ذلك كله حتى كمثلها من القابلة ، وكان منهم رجال يختانون أنفسهم في ذلك . فعفا عنهم وأحلّ لهم بعد الرقاد وقبله في الليل ، فقال : أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيّامِ الرّفَثُ إلى نِسائِكُمْ . . . الآية .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية : { أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيام الرّفَثُ إلى نِسائِكُمْ } مثل قول مجاهد ، وزاد فيه : أن عمر بن الخطاب قال لامرأته : لا ترقدي حتى أرجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقدت قبل أن يرجع ، فقال لها : ما أنت براقدة ثم أصابها حتى جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فنزلت هذه الآية . قال عكرمة : نزلت وكُلُوا وَاشْرَبُوا الآية في أبي قيس بن صرمة من بني الخزرج أكل بعد الرقاد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حبان أن صرمة بن أنس أتى أهله ذات ليلة وهو شيخ كبير وهو صائم ، فلم يهيئوا له طعاما ، فوضع رأسه فأغفى ، وجاءته امرأته بطعامه ، فقالت له : كل فقال : إني قد نمت ، قالت : إنك لم تنم فأصبح جائعا مجهودا ، فأنزل الله : { وكُلُوا وَاشْرَبُوا حّتى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْودِ مِنَ الفَجْرِ . }
فأما المباشرة في كلام العرب : فإنه ملاقاة بشرة ببشرة ، وبشرة الرجل : جلدته الظاهرة . وإنما كنى الله بقوله : فالاَنَ باشِرُوهُنّ عن الجماع : يقول : فالاَن إذ أحللت لكم الرفث إلى نسائكم فجامعوهنّ في ليالي شهر رمضان حتى يطلع الفجر ، وهي تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وبالذي قلنا في المباشرة قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان . وحدثنا عبد الحميد بن سنان ، قال : حدثنا إسحاق ، عن سفيان . وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أيوب بن سويد ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن بكر بن عبد الله المزني ، عن ابن عباس ، قال : المباشرة : الجماع ، ولكن الله كريم يكني .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن بكر بن عبد الله المزني ، عن ابن عباس نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : فالاَنَ باشِرُوهُنّ : انكحوهن .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : المباشرة : النكاح .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء قوله : فالاَنَ باشِرُوهُنّ قال : الجماع ، وكل شيء في القرآن من ذكر المباشرة فهو الجماع نفسه ، وقالها عبد الله بن كثير مثل قول عطاء في الطعام والشراب والنساء .
حدثنا حميد بن مسعدة قال : وحدثنا ابن بشار ، وقال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : المباشرة الجماع ، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال أبو بشر : أخبرنا ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فالاَنَ باشِرُوهُن يقول : جامعوهن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : المباشرة : الجماع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، قال : حدثني عبدة بن أبي لبابة ، قال : سمعت مجاهدا يقول : المباشرة في كتاب الله : الجماع .
حدثنا ابن البرقي ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : قال الأوزاعي : حدثنا من سمع مجاهدا يقول : المباشرة في كتاب الله الجماع .
واختلفوا في تأويل قوله وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ فقال بعضهم : الولد . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبدة بن عبد الله الصفار البصري ، قال : حدثنا إسماعيل بن زياد الكاتب ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد : { وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ } قال : الولد .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا سهل بن يوسف وأبو داود ، عن شعبة قال : سمعت الحكم : { واَبْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ }قال : الولد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تميلة ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن عكرمة قوله : { وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ }قال : الولد .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا مؤمل ، حدثنا أبو مودود بحر بن موسى قال : سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول في هذه الآية : { وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ } قال : الولد .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ فهو الولد .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ يعني الولد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ قال : الولد ، فإن لم تلد هذه فهذه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عمن سمع الحسن في قوله : وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ قال : هو الولد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ قال : ما كتب لكم من الولد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ قال : الجماع .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : حدثنا الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سلمان ، قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم قوله : وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ قال : الولد .
وقال بعضهم : معنى ذلك ليلة القدر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس : وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ قال : ليلة القدر . قال أبو هشام : هكذا قرأها معاذ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا الحسن بن أبي جعفر ، قال : حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس في قوله : وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ قال : ليلة القدر .
وقال آخرون : بل معناه : ما أحلّه الله لكم ورخصه لكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ يقول : ما أحله الله لكم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال قتادة في ذلك : ابتغوا الرخصة التي كتبت لكم .
وقرأ ذلك بعضهم : واتبعوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : قلت لابن عباس : كيف تقرأ هذه الآية : وَابْتَغُوا أو «واتّبِعُوا » ؟ قال : أيتهما شئت . قال : عليك بالقراءة الأولى .
والصواب من القول في تأويل ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى ذكره قال : وَابْتَغُوا بمعنى : اطلبوا ما كتب الله لكم ، يعني الذي قضى الله تعالى لكم . وإنما يريد الله تعالى ذكره : اطلبوا الذي كتبت لكم في اللوح المحفوظ أنه يباح فيطلق لكم وطلب الولد إن طلبه الرجل بجماعه المرأة مما كتب الله له في اللوح المحفوظ ، وكذلك إن طلب ليلة القدر ، فهو مما كتب الله له ، وكذلك إن طلب ما أحلّ الله وأباحه ، فهو مما كتبه له في اللوح المحفوظ .
وقد يدخل في قوله : وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ جميع معاني الخير المطلوبة ، غير أن أشبه المعاني بظاهر الآية قول من قال معناه : وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد لأنه عقيب قوله : فالاَنَ باشِرُوهنّ بمعنى : جامعوهنّ فلأن يكون قوله : وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ بمعنى : وابتغوا ما كتب الله في مباشرتكم إياهنّ من الولد والنسل أشبه بالآية من غيره من التأويلات التي ليس على صحتها دلالة من ظاهر التنزيل ، ولا خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : وكُلُوا وَاشْرَبُوا حّتى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمّ أتِمّوا الصّيامَ إلى اللّيْلِ .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : حَتّى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ فقال بعضهم : يعني بقوله : الخيط الأبيض : ضوء النهار . وبقوله : الخيط الأسود : سواد الليل .
فتأويله على قول قائل هذه المقالة : وكلوا بالليل في شهر صومكم ، واشربوا ، وباشروا نساءكم ، مبتغين ما كتب الله لكم من الولد ، من أول الليل إلى أن يقع لكم ضوء النهار بطلوع الفجر من ظلمة الليل وسواده . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا أشعث ، عن الحسن في قول الله تعالى ذكره : حَتّى يَتَبَيّنَ لَكُمْ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ قال : الليل من النهار .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وكُلُوا واشْرَبُوا حّتى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَد مِنَ الفَجْر قال : حتى يتبين لكم النهار من الليل ، ثم أتموا الصيام إلى الليل .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وكُلُوا وَاشْرَبُوا حتّى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمّ أتمّوا الصّيَامَ إلى اللّيْلِ فهما علمان وحَدّان بيّنان فلا يمنعكم أذان مؤذّن مراء أو قليل العقل من سحوركم فإنهم يؤذنون بهجيع من الليل طويل . وقد يُرى بياضٌ مّا على السحر يقال له الصبح الكاذب كانت تسميه العرب ، فلا يمنعكم ذلك من سحوركم ، فإن الصبح لا خفاء به : طريقةٌ معترضة في الأفق ، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الصبح ، فإذا رأيتم ذلك فأمسكوا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وكُلُوا وَاشْرَبُوا حتّى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجْرِ يعني الليل من النهار . فأحلّ لكم المجامعة والأكل والشرب حتى يتبين لكم الصبح ، فإذا تبين الصبح حرم عليهم المجامعة والأكل والشرب حتى يتموا الصيام إلى الليل . فأمر بصوم النهار إلى الليل ، وأمر بالإفطار بالليل .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، وقيل له : أرأيت قول الله تعالى : الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجْرِ ؟ قال : «إنّكَ لعَرِيضُ القَفَا » ، قال : هذا ذهاب الليل ومجيء النهار . قيل له : الشعبي عن عديّ بن حاتم ؟ قال : نعم ، حدثنا حصين .
وعلة من قال هذه المقالة وتأوّل الآية هذا التأويل ما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن مجالد بن سعيد ، عن الشعبيّ ، عن عدي بن حاتم ، قال : قلت يا رسول الله ، قول الله : وكُلُوا وَاشْرَبُوا حتّى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجْرِ قال : «هُوَ بَيَاضُ النّهارِ وَسَوادُ اللّليْلِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن نمير وعبد الرحيم بن سليمان ، عن مجالد ، عن سعيد ، عن عامر ، عن عديّ بن حاتم ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمني الإسلام ، ونعت لي الصلوات ، كيف أصلي كل صلاة لوقتها ، ثم قال : «إذا جَاءَ رَمَضانُ فَكُلْ واشْرَبْ حتى يَتَبَيّنَ لك الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ، ثُمّ أتِمّ الصّيَامَ إلى الليلِ » ، ولم أدر ما هو ، ففتلت خيطين من أبيض وأسود ، فنظرت فيهما عند الفجر ، فرأيتهما سواء . فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله كل شيء أوصيتني قد حفظت ، غير الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، قال : «وَمَا مَنَعَكَ يا ابنَ حاتمٍ ؟ » وتبسم كأنه قد علم ما فعلت . قلت : فتلت خيطين من أبيض وأسود فنظرت فيهما من الليل فوجدتهما سواء . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رُئي نواجذه ، ثم قال : «ألَمْ أقُلْ لَكَ مِنَ الفَجْرِ ؟ إنمَا هُوَ ضَوْءُ النهَارِ وَظُلْمَةُ اللّيْلِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، قال : حدثنا داود وابن علية جميعا ، عن مطرف ، عن الشعبي ، عن عديّ بن حاتم ، قال : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، أهما خيطان أبيض وأسود ؟ فقال : «إنّكَ لَعرِيضُ القَفا إنْ أبْصَرْتَ الخَيْطَيْن » ، ثم قال : «لا وَلَكِنّهُ سَوَادُ اللّيْلِ وَبَياضُ النّهار » .
حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد ، قال : نزلت هذه الآية : وكُلُوا وَاشْرَبُوا حتّى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسوَدِ فلم ينزل مِنَ الفَجْرِ قال : فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له فأنزل الله بعد ذلك : مِنَ الفَجْرِ فعلموا إنما يعني بذلك : الليل والنهار .
وقال متأولو قول الله تعالى ذكره : حتّى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجْرِ أنه بياض النهار وسواد الليل ، صفة ذلك البياض أن يكون منتشرا مستفيضا في السماء يملأ بياضه وضوءه الطرق ، فأما الضوء الساطع في السماء فإن ذلك غير الذي عناه الله بقوله : الخَيْط الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران بن حدير ، عن أبي مجلز : الضوء الساطع في السماء ليس بالصبح ، ولكن ذاك الصبح الكذاب ، إنما الصبح إذا انفضح الأفق .
حدثني مسلم بن جنادة السوائي ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، قال : لم يكونوا يعدّون الفجر فجركم هذا ، كانوا يعدّون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام ، عن الأعمش ، عن مسلم : ما كانوا يرون إلا أن الفجر الذي يستفيض في السماء .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول : هما فجران ، فأما الذي يسطع في السماء فليس يحلّ ولا يحرّم شيئا ، ولكن الفجر الذي يستبين على رءوس الجبال هو الذي يحرّم الشراب .
حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن محمد بن أبي ذؤيب ، عن الحرث بن عبد الرحمن ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، قال : «الفَجْرُ فَجْرَانِ ، فالّذَي كأنه ذَنَبُ السّرْحَانِ لا يُحَرّمُ شَيْئا ، وأما المُسْتَطِيرُ الذي يَأْخُذُ الأُفُقَ فإنّه يُحِلّ الصّلاةَ ويُحَرّمُ الصّوْمَ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وإسماعيل بن صبيح وأبو أسامة ، عن أبي هلال ، عن سوادة بن حنظلة ، عن سمرة بن جندب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لاَ يَمْنَعْكُمْ مِنَ سُحْورِكُمْ أذَانُ بِلالٍ وَلا الفَجْرُ المُسْتَطِيلُ ، وَلَكِنِ الفَجْرُ المُسْتَطِيرُ فِي الأُفُقِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا معاوية بن هشام الأسدي ، قال : حدثنا شعبة ، عن سوادة قال : سمعت سمرة بن جندب يذكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سمعه وهو يقول : «لا يَغُرّنّكُمْ نِدَاءُ بِلالٍ وَلا هَذَا البَياضُ حتّى يَبْدُوَ الفَجْرُ وَيَنفَجِرَ .
وقال آخرون : الخيط الأبيض : هو ضوء الشمس ، والخيط الأسود : هو سواد الليل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هشام بن السري ، قال : حدثنا عبادة بن حميد ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، قال : سافر أبي مع حذيفة قال : فسار حتى إذا خشينا أن يفجأنا الفجر ، قال : هل منكم من أحد آكل أو شارب ؟ قال : قلت له : أما من يريد الصوم فلا . قال : بلى قال : ثم سار حتى إذا استبطأنا الصلاة نزل فتسحّر .
حدثنا هناد وأبو السائب ، قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، قال : خرجت مع حذيفة إلى المدائن في رمضان ، فلما طلع الفجر ، قال : هل منكم من أحد آكل أو شارب ؟ قلنا : أما رجل يريد أن يصوم فلا . قال : لكني قال : ثم سرنا حتى استبطأنا الصلاة ، قال : هل منكم أحد يريد أن يتسحر ؟ قال : قلنا أما من يريد الصوم فلا . قال : لكنّي ثم نزل فتسحّر ، ثم صلى .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : ربما شربت بعد قول المؤذّن يعني في رمضان قد قامت الصلاة . قال : وما رأيت أحدا كان أفعل له من الأعمش ، وذلك لما سمع ، قال : حدثنا إبراهيم التيمي عن أبيه قال : كنا مع حذيفة نسير ليلاً ، فقال : هل منكم متسحر الساعة ؟ قال : ثم سار ، ثم قال حذيفة : هل منكم متسحر الساعة ؟ قال : ثم سار حتى استبطأنا الصلاة ، قال : فنزل فتسحّر .
حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو إسحاق عن هبيرة ، عن عليّ ، أنه لما صلى الفجر ، قال : هذا حين يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن الصلت ، قال : حدثنا إسحاق بن حذيفة العطار ، عن أبيه ، عن البراء ، قال : تسحرت في شهر رمضان ، ثم خرجت ، فأتيت ابن مسعود ، فقال : اشرب فقلت : إني قد تسحرت . فقال : اشرب فشربنا ثم خرجنا والناس في الصلاة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الشيباني ، عن جبلة بن سحيم ، عن عامر بن مطر ، قال أتيت عبد الله بن مسعود في داره ، فأخرج فضلاً من سحوره ، فأكلنا معه ، ثم أقيمت الصلاة فخرجنا فصلينا .
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن معقل ، عن سالم مولى أبي حذيفة قال : كنت أنا وأبو بكر الصديق فوق سطح واحد في رمضان ، فأتيت ذات ليلة فقلت : ألا تأكل يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأومأ بيده أن كفّ ، ثم أتيته مرة أخرى ، فقلت له : ألا تأكل يا خليفة رسول الله ؟ فأومأ بيده أن كفّ . ثم أتيته مرة أخرى ، فقلت : ألا تأكل يا خليفة رسول الله ؟ فنظر إلى الفجر ثم أومأ بيده أن كفّ . ثم أتيته فقلت : ألا تأكل يا خليفة رسول الله ؟ قال : هات غداءك قال : فأتيته به فأكل ثم صلى ركعتين ، ثم قام إلى الصلاة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : الوتر بالليل والسحور بالنهار .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : السحور بليل ، والوتر بليل .
حدثنا حكام عن ابن أبي جعفر ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال : السحور والوتر ما بين التثويب والإقامة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن شبيب بن غرقدة ، عن عروة ، عن حبان ، قال : تسحرنا مع عليّ ثم خرجنا وقد أقيمت الصلاة فصلينا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن شبيب ، عن حبان بن الحرث ، قال : مررت بعليّ وهو في دار أبي موسى وهو يتسحر ، فلما انتهيت إلى المسجد أقيمت الصلاة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي إسحاق ، عن أبي السفر ، قال : صلى عليّ بن أبي طالب الفجر ، ثم قال : هذا حين يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر .
وعلة من قال هذا القول أن الوقت إنما هو النهار دون الليل . قالوا : وأول النهار طلوع الشمس ، كما أن آخره غروبها . قالوا : ولو كان أوله طلوع الفجر لوجب أن يكون آخره غروب الشفق . قالوا : وفي إجماع الحجة على أن آخر النهار غروب الشمس دليل واضح ، على أن أوله طلوعها . قالوا : وفي الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه تسحر بعد طلوع الفجر أوضح الدليل على صحة قولنا .
ذكر الأخبار التي رويت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر ، عن عاصم ، عن زر ، عن حذيفة ، قال : قلت : تسحرتَ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، قال : لو أشاء لأقول هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : ما كذب عاصم على زر ، ولا زر على حذيفة ، قال : قلت له : يا أبا عبد الله تسحرتَ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زر ، عن حذيفة قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتسحر وأنا أرى مواقع النبل . قال : قلت أبعد الصبح ؟ قال : هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس وخلاد الصفار ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حبيش ، قال : أصبحت ذات يوم فغدوت إلى المسجد ، فقلت : لو مررت على باب حذيفة ففتح لي فدخلت ، فإذا هو يُسخّن له طعام ، فقال : اجلس حتى تَطعَم فقلت : إني أريد الصوم . فقرب طعامه فأكل وأكلت معه ، ثم قام إلى لِقْحة في الدار ، فأخذ يحلب من جانب وأحلب أنا من جانب ، فناولني ، فقلت : ألا ترى الصبح ؟ فقال : اشرب فشربت ، ثم جئت إلى باب المسجد فأقيمت الصلاة ، فقلت له : أخبرني بآخر سحور تسحرته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمس .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا روح بن جنادة ، قال : حدثنا حماد ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إذَا سَمِعَ أحَدُكُمُ النّدَاءَ وَالإناءُ على يَدِهِ فَلا يَضَعْهُ حتّى يَقْضِيَ حاجَتَهُ مِنُهُ » .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا روح بن جنادة ، قال : حدثنا حماد ، عن عمار بن أبي عمار ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله ، وزاد فيه : وكان المؤذّن يؤذّن إذا بزغ الفجر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين . وحدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي قال : أخبرنا الحسين بن واقد قالا جميعا ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة قال : أقيمت الصلاة والإناء في يد عمر ، قال : أشربها يا رسول الله ؟ قال : «نَعَمْ » ، فشربها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا يونس ، عن أبيه ، عن عبد الله ، قال : قال بلال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم أؤذنه بالصلاة وهو يريد الصوم ، فدعا بإناء فشرب ، ثم ناولني فشربت ، ثم خرج إلى الصلاة .
حدثني محمد بن أحمد الطوسي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن مغفل ، عن بلال قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم أؤذنه بصلاة الفجر وهو يريد الصيام ، فدعا بإناء فشرب ، ثم ناولني فشربت ، ثم خرجنا إلى الصلاة .
وأولى التأويلين بالآية ، التأويل الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «الخَيْطُ الأبْيَضُ : بَياضُ النهارِ ، والخَيْطُ الأسْوَدُ : سَوَادُ اللّيْلِ » وهو المعروف في كلام العرب ، قال أبو دؤاد الإيادي :
فَلَمّا أضَاءَتْ لَنا سُدْفَةٌ ولاحَ منَ الصّبْحِ خَيْطٌ أنارَا
وأما الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شرب أو تسحر ثم خرج إلى الصلاة ، فإنه غير دافع صحة ما قلنا في ذلك لأنه غير مستنكر أن يكون صلى الله عليه وسلم شرب قبل الفجر ، ثم خرج إلى الصلاة ، إذ كانت الصلاة صلاة الفجر هي على عهده كانت تصلى بعد ما يطلع الفجر ويتبين طلوعه ويؤذن لها قبل طلوعه .
وأما الخبر الذي رُوي عن حذيفة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتسحر وأنا أرى مواقع النبل ، فإنه قد اسْتُثبت فيه ، فقيل له : أبعد الصبح ؟ فلم يجب في ذلك بأنه كان بعد الصبح ، ولكنه قال : هو الصبح . وذلك من قوله يحتمل أن يكون معناه هو الصبح لقربه منه وإن لم يكن هو بعينه ، كما تقول العرب : «هذا فلان شبها » ، وهي تشير إلى غير الذي سمته ، فتقول : «هو هو » تشبيها منها له به ، فكذلك قول حذيفة : هو الصبح ، معناه : هو الصبح شبها به وقربا منه .
وقال ابن زيد في معنى الخيط الأبيض والأسود ما :
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : حتّى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجْرِ قال : الخيط الأبيض الذي يكون من تحت الليل يكشف الليل ، والأسود : ما فوقه .
وأما قوله : مِنَ الفَجْر فإنه تعالى ذكره يعني : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود الذي هو من الفجر . وليس ذلك هو جميع الفجر ، ولكنه إذا تبين لكم أيها المؤمنون من الفجر ذلك الخيط الأبيض الذي يكون من تحت الليل الذي فوقه سواد الليل ، فمن حينئذٍ فصوموا ، ثم أتموا صيامكم من ذلك إلى الليل . وبمثل ما قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : مِنَ الفَجْر قال : ذلك الخيط الأبيض هو من الفجر نسبة إليه ، وليس الفجر كله ، فإذا جاء هذا الخيط وهو أوله فقد حلت الصلاة وحرم الطعام والشراب على الصائم .
وفي قوله تعالى ذكره : وكُلُوا وَاشْرَبُوا حتّى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمّ أتمّوا الصّيَامَ إلى اللّيْلِ ، أوضح الدلالة على خطأ قول من قال : حلال الأكل والشرب لمن أراد الصوم إلى طلوع الشمس لأن الخيط الأبيض من الفجر يتبين عند ابتداء طلوع أوائل الفجر ، وقد جعل الله تعالى ذكره ذلك حدّا لمن لزمه الصوم في الوقت الذي أباح إليه الأكل والشرب والمباشرة . فمن زعم أن له أن يتجاوز ذلك الحد ، قيل له : أرأيت إن أجاز له آخر ذلك ضحوة أو نصف النهار ؟ فإن قال : إن قائل ذلك مخالف للأمة قيل له : وأنت لما دلّ عليه كتاب الله ونقل الأمة مخالف ، فما الفرق بينك وبينه من أصل أو قياس ؟ فإن قال : الفرق بيني وبينه أن الله أمر بصوم النهار دون الليل ، والنهار من طلوع الشمس . قيل له : كذلك يقول مخالفوك : والنهار عندهم أوله طلوع الفجر ، وذلك هو ضوء الشمس وابتداء طلوعها دون أن يتتامّ طلوعها ، كما أن آخر النهار ابتداء غروبها دون أن يتتامّ غروبها . ويقال لقائلي ذلك : إن كان النهار عندكم كما وصفتم هو ارتفاع الشمس ، وتكامل طلوعها وذهاب جميع سدفة الليل وغبس سواده ، فكذلك عندكم الليل هو تتامّ غروب الشمس وذهاب ضيائها وتكامل سواد الليل وظلامه .
فإن قالوا : ذلك كذلك . قيل لهم : فقد يجب أن يكون الصوم إلى مغيب الشفق وذهاب ضوء الشمس وبياضها من أفق السماء .
فإن قالوا : ذلك كذلك ، أوجبوا الصوم إلى مغيب الشفق الذي هو بياض . وذلك قول إن قالوه مدفوع بنقل الحجة التي لا يجوز فيما نقلته مجمعة عليه الخطأ والسهو على تخطئته .
وإن قالوا : بل أول الليل ابتداء سُدْفته وظلامه ومغيب عين الشمس عنا . قيل لهم : وكذلك أول النهار : طلوع أول ضياء الشمس ومغيب أوائل سدفة الليل . ثم يعكس عليه القول في ذلك ، ويسئل الفرق بين ذلك ، فلن يقول في أحدهما قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله .
وأما الفجر ، فإنه مصدر من قول القائل : تفجر الماء يتفجر فجرا : إذا انبعث وجرى ، فقيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلع الشمس فجر ، لانبعاث ضوئه عليهم وتورّده عليهم بطرقهم ومحاجهم تفجر الماء المنفجر من منبعه .
وأما قوله : ثُمّ أتِمُوا الصيّامَ إلى اللّيْلِ فإنه تعالى ذكره حدّ الصوم بأن آخر وقته إقبال الليل ، كما حدّ الإفطار وإباحة الأكل والشرب والجماع وأول الصوم بمجيء أول النهار وأول إدبار آخر الليل ، فدل بذلك على أن لا صوم بالليل كما لا فطر بالنهار في أيام الصوم ، وعلى أن المواصل مجوّع نفسه في غير طاعة ربه . كما :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ووكيع وعبدة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عاصم بن عمر ، عن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا أقْبَلَ اللّيْلُ وأدْبَرَ النّهارُ وَغابَتِ الشّمْسُ فَقَدْ أفْطَرَ الصّائمُ » .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : حدثنا أبو إسحاق الشيباني ، وحدثنا هناد بن السري ، قال : حدثنا أبو عبيدة وأبو معاوية ، عن شيبان ، وحدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو معاوية ، وحدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن الشيباني قالوا جميعا في حديثهم عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في مسير وهو صائم ، فلما غربت الشمس قال لرجل : «انْزِلْ فاجْدَحْ لي » قالوا : لو أمسيت يا رسول الله فقال : «انْزِلْ فاجْدَحْ لي » فقال الرجل : يا رسول الله لو أمسيت قال : «انْزِلْ فاجْدَحْ لِي » قال : يا رسول الله إن علينا نهارا فقال له الثالثة ، فنزل فجدح له . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا أقْبَلَ اللّيْلُ مِنْ هَهُنا » وضرب بيده نحو المشرق «فَقَدْ أفْطَرَ الصّائمُ » .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن رفيع ، قال : فرض الله الصيام إلى الليل ، فإذا جاء الليل فأنت مفطر إن شئت فكل ، وإن شئت فلا تأكل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن أبي العالية أنه سئل عن الوصال في الصوم فقال : افترض الله على هذه الأمة صوم النهار ، فإذا جاء الليل فإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل .
حدثني يعقوب ، قال : حدثني ابن علية ، عن داود بن أبي هند ، قال : قال أبو العالية في الوصال في الصوم ، قال : قال الله : ثُمّ أتِموا الصّيامَ إلى اللّيْلِ فإذا جاء الليل فهو مفطر ، فإن شاء أكل ، وإن شاء لم يأكل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا ابن دكين ، عن مسعر ، عن قتادة ، قال : قالت عائشة : أتِمّوا الصّيامَ إلى اللّيْلِ يعني أنها كرهت الوصال .
فإن قال قائل : فما وجه وصال من واصل ؟ فقد علمت بما :
حدثكم به أبو السائب ، قال : حدثنا حفص ، عن هشام بن عروة ، قال : كان عبد الله بن الزبير يواصل سبعة أيام ، فلما كبر جعلها خمسا ، فلما كبر جدا جعلها ثلاثا .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا حفص ، عن عبد الملك ، قال : كان ابن أبي يعمر يفطر في كل شهر مرة .
حدثنا ابن أبي بكر المقدمي ، قال : حدثنا الفروي ، قال : سمعت مالكا يقول : كان عامر بن عبد الله بن الزبير يواصل ليلة ست عشرة وليلة سبع عشرة من رمضان لا يفطر بينهما ، فلقيته فقلت له : يا أبا الحرث ماذا تجده يقوّيك في وصالك ؟ قال : السمن أشربه أجده يبلّ عروقي ، فأما الماء فإنه يخرج من جسدي .
وما أشبه ذلك ممن فعل ذلك ، ممن يطول بذكرهم الكتاب ، قيل : وجه من فعل ذلك إن شاء الله تعالى على طلب الخموصة لنفسه والقوّة ، لا على طلب البرّ بفعله . وفعلهم ذلك نظير ما كان عمر بن الخطاب يأمرهم به بقوله : «اخشوشنوا وتمعددوا وانزوا على الخيل نزوا واقطعوا الرّكُب وامشوا حفاة » ، يأمرهم في ذلك بالتخشن في عيشهم لئلا يتنعموا فيركنوا إلى خفض العيش ويميلوا إلى الدعة فيجبنوا ويحتموا عن أعدائهم ، وقد رغب لمن واصل عن الوصال كثير من أهل الفضل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق : أن ابن أبي نعيم كان يواصل من الأيام حتى لا يستطيع أن يقوم ، فقال عمرو بن ميمون : لو أدرك هذا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رجموه .
ثم في الأخبار المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الوصال التي يطول بإحصائها الكتاب تركنا ذكر أكثرها استغناء بذكر بعضها ، إذ كان في ذكر ما ذكرنا مكتفى عن الاستشهاد على كراهة الوصال بغيره .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الله ، قال : أخبرني نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال ، قالوا : إنك تواصل يا رسول الله قال : «إنّي لَسْتُ كأحَدٍ مِنْكُمْ ، إنّي أبِيتُ أُطْعَمُ وأُسْقَى » .
وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الإذن بالوصال من السحر إلى السحر .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، قال : حدثنا أبو شعيب ، عن الليث ، عن يزيد بن الهاد عن عبد الله بن خباب ، عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لا تُوَاصِلُوا فأيّكُمْ أرَادَ أنْ يُواصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حتّى السّحَرِ » ، قالوا : يا رسول الله إنك تواصل ، قال : «إنّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنّي أبِيتُ لي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وَساقٍ يَسْقِيني » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا أبو إسرائيل العبسي ، عن أبي بكر بن حفص ، عن أم ولد حاطب بن أبي بلتعة أنها مرّت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر ، فدعاها إلى الطعام فقالت : إني صائمة ، قال : «وَكَيْفَ تَصُومِينَ » ؟ فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «أيْنَ أنْتِ من وِصَالِ آل مُحَمّدِ صلى الله عليه وسلم ، مِنَ السّحَرِ إلى السّحَرِ » ؟ .
فتأول الآية إذن : ثم أتموا الكفّ عما أمركم الله بالكفّ عنه ، من حين يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إلى الليل ، ثم حلّ لكم ذلك بعده إلى مثل ذلك الوقت . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ثُمّ أتِمّوا الصيّامَ إلى الليْلِ قال : من هذه الحدود الأربعة ، فقرأ : أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَة الصّيامِ الرّفَثُ إلى نِسائِكُم فقرأ حتى بلغ : ثُم أتمّوا الصيّامَ إلى اللّيْلِ وكان أبي وغيره من مشيختنا يقولون هذا ويتلونه علينا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تُباشِرُوهُنّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِد .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَلا تُباشِرُوهُنّ لا تجامعوا نساءكم ، وبقوله : وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ يقول : في حال عكوفكم في المساجد ، وتلك حال حبسهم أنفسهم على عبادة الله في مساجدهم . والعكوف أصله المقام ، وحبس النفس على الشيء ، كما قال الطرمّاح بن حكيم :
فباتَ بَناتُ اللّيْلِ حَوْلِيَ عُكّفا عُكُوفَ البَوَاكِي بَيْنَهُنّ صَريعُ
يعني بقوله عكفا : مقيمة . وكما قال الفرزدق :
تَرَى حَوْلهنّ المُعْتَفِينَ كأنّهُمْ عَلى صَنمٍ فِي الجاهِلَيّةِ عُكّفُ
وقد اختلف أهل التأويل في معنى المباشرة التي عنى الله بقوله : وَلا تُباشِرُوهُنّ فقال بعضهم : معنى ذلك الجماع دون غيره من معاني المباشرة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : وَلا تُباشِرُوهُنّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ في رمضان أو في غير رمضان ، فحرم الله أن ينكح النساء ليلاً ونهارا حتى يقضي اعتكافه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء : وَلا تُباشِرُوهُنّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ قال : الجماع .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن الضحاك ، قال : كانوا يجامعون وهم معتكفون ، حتى نزلت : وَلا تُباشِرُوهُنّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن الضحاك في قوله : وَلا تُباشِرُوهُنّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ قال : كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء ، فقال الله وَلا تُباشِرُوهُنّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ يقول : لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في مسجد أو غيره .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك عن جويبر عن الضحاك نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : كان أناس يصيبون نساءهم وهم عاكفون فيها فنهاهم الله عن ذلك .
وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَلا تُباشِرُوهُنّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ قال : كان الرجل إذا خرج من المسجد وهو معتكف ولقي امرأته باشرها إن شاء ، فنهاهم الله عزّ وجل عن ذلك ، وأخبرهم أن ذلك لا يصلح حتى يقضي اعتكافه .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَلا تُباشِرُوهُنّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ يقول : من اعتكف فإنه يصوم ولا يحلّ له النساء ما دام معتكفا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا تُباشِرُوهُنّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ قال : الجوار ، فإذا خرج أحدكم من بيته إلى بيت الله فلا يقرب النساء .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : كان ابن عباس يقول : من خرج من بيته إلى بيت الله فلا يقرب النساء .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَلا تُباشِرُوهُنّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ قال : كان الناس إذا اعتكفوا يخرج الرجل فيباشر أهله ثم يرجع إلى المسجد ، فنهاهم الله عن ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : كانوا إذا اعتكفوا فخرج الرجل إلى الغائط جامع امرأته ، ثم اغتسل ، ثم رجع إلى اعتكافه ، فنهوا عن ذلك .
قال ابن جريج : قال مجاهد ، نهوا عن جماع النساء في المساجد حيث كانت الأنصار تجامع ، فقال : وَلا تُباشِرُوهُنّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ قال : عاكفون الجوار . قال ابن جريج : فقلت لعطاء : الجماع المباشرة ؟ قال : الجماع نفسه ، فقلت له : فالقُبلة في المسجد والمسة ؟ فقال : أما ما حرم فالجماع ، وأنا أكره كل شيء من ذلك في المسجد .
حدثت عن حسين بن الفرج ، قال : حدثنا الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : وَلا تُبَاشِرُوهُنّ يعني الجماع .
وقال آخرون : معنى ذلك على جميع معاني المباشرة من لمس وقبلة وجماع . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال مالك بن أنس : لا يمسّ المعتكف امرأته ولا يباشرها ولا يتلذّذ منها بشيء ، قبلة ولا غيرها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلا تُباِشُروهُنّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِد قال : المباشرة : الجماع وغير الجماع كله محرّم عليه ، قال : المباشرة بغير جماع : إلصاق الجلد بالجلد .
وعلة من قال هذا القول ، أن الله تعالى ذكره عمّ بالنهي عن المباشرة ولم يخصص منها شيئا دون شيء فذلك على ما عمه حتى تأتي حجة يجب التسليم لها بأنه عنى به مباشرة دون مباشرة .
وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال : معنى ذلك الجماع أو ما قام مقام الجماع مما أوجب غسلاً إيجابه وذلك أنه لا قول في ذلك إلا أحد قولين : إما من جعل حكم الآية عاما ، أو جعل حكمها في خاصّ من معاني المباشرة . وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نساءه كن يرجلنه وهو معتكف ، فلما صحّ ذلك عنه ، علم أن الذي عنى به من معاني المباشرة البعض دون الجميع .
حدثنا عليّ بن شعيب ، قال : حدثنا معن بن عيسى القزاز ، قال : أخبرنا مالك ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عمرة ، عن عائشة : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف يدني إليّ رأسه فأرجّله » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير وعمرة أن عائشة قالت : «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ، وكان يُدخل عليّ رأسه وهو في المسجد فأرجّله » .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدني إليّ رأسه وهو مجاور في المسجد وأنا في حجرتي وأنا حائض ، فأغسله وأرجله » .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا ابن فضيل ، ويعلى بن عبيد ، عن الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عروة عن عائشة قالت : «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعتكف فيخرج إليّ رأسه من المسجد وهو عاكف فأغسله وأنا حائض » .
حدثني محمد بن معمر ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن الزهري وهشام بن عروة جميعا ، عن عروة ، عن عائشة : «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه فأرجله وهو معتكف » .
فإذا كان صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا من غسل عائشة رأسه وهو معتكف ، فمعلوم أن المراد بقوله : وَلا تُباشِروهُن وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ غير جميع ما لزمه اسم المباشرة وأنه معنيّ به البعض من معاني المباشرة دون الجميع . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان مجمعا على أن الجماع مما عنى به كان واجبا تحريم الجماع على المعتكف وما أشبهه ، وذلك كل ما قام في الالتذاذ مقامه من المباشرة .
القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَقْرَبُوها .
يعني تعالى ذكره بذلك هذه الأشياء التي بينتها من الأكل والشرب والجماع في شهر رمضان نهارا في غير عذر ، وجماع النساء في الاعتكاف في المساجد .
يقول : هذه الأشياء حددتها لكم ، وأمرتكم أن تجتنبوها في الأوقات التي أمرتكم أن تجتنبوها وحرّمتها فيها عليكم ، فلا تقربوها وابعدوا منها أن تركبوها ، فتستحقوا بها من العقوبة ما يستحقه من تعدى حدودي وخالف أمري وركب معاصيّ .
وكان بعض أهل التأويل يقول : حدود الله : شروطه . وذلك معنى قريب من المعنى الذي قلنا ، غير أن الذي قلنا في ذلك أشبه بتأويل الكلمة ، وذلك أن حدّ كل شيء ما حصره من المعاني وميز بينه وبين غيره ، فقوله : تِلْكَ حُدوُدُ اللّهِ من ذلك ، يعني به المحارم التي ميزها من الحلال المطلق فحددها بنعوتها وصفاتها وعرّفها عباده . ذكر من قال ذلك بمعنى الشروط :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : أما حدود الله فشروطه .
وقال بعضهم : حدود الله : معاصيه . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يقول : معصية الله ، يعني المباشرة في الاعتكاف .
القول في تأويل قوله تعالى : كَذِلَكَ يُبَيّنُ اللّهُ آياتِهِ للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتّقُون .
يعني تعالى ذكره بذلك : كما بينت لكم أيها الناس واجب فرائضي عليكم من الصوم ، وعرّفتكم حدوده وأوقاته ، وما عليكم منه في الحضر ، وما لكم فيه في السفر والمرض ، وما اللازم لكم تجنبه في حال اعتكافكم في مساجدكم ، فأوضحت جميع ذلك لكم ، فكذلك أبين أحكامي وحلالي وحرامي وحدودي ونهيي في كتابي وتنزيلي ، وعلى لسان رسولي وصلى الله عليه وسلم للناس .
ويعني بقوله : ولَعَلَهُمْ يَتَقُونَ يقول : أبين ذلك لهم ليتقوا محارمي ومعاصيّ ، ويتجنبوا سخطي وغضبي بتركهم ركوب ما أبين لهم في أياتي أني قد حرمته عليهم ، وأمرتهم بهجره وتركه .
انتقال في أحكام الصيام إلى بيان أعمال في بعض أزمنة رمضان قد يظن أنها تنافي عبادة الصيام ، ولأجل هذا الانتقال فُصلت الجملة عن الجمل السابقة .
وذكروا لسبب نزول هذه الآية كلاماً مضطرباً غير مُبيّن فروى أبو داود عن معاذ بن جبل كان المسلمون إذا نام أحدهم إذا صلى العِشاء وسهر بعدها لم يأكل ولم يباشر أهله بعد ذلك فجاء عُمر يريد امرأتْه فقالت : إني قد نمت فظن أنها تعْتَلُّ فباشرها ، وروى البخاري عن البراء بن عازب أن قيس بن صرمة جاء إلى منزله بعد الغروب يريد طعامه فقالت له امرأته : حتى نسخنَ لك شيئاً فنام فجاءت امرأته فوجدته نائماً فقالت : خيبةً لك ، فبقي كذلك فلما انتصف النهار أغمي عليه من الجوع ، وفي كتاب التفسير من صحيح البخاري { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فالئن باشروهن وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } عن حديث البراء بن عاوب قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله تعالى : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } الآية ، ووقع لكعب بن مالك مثل ما وقع لعمر ، فنزلت هذه الآية بسبب تلك الأحداث ، فقيل : كان ترك الأكل ومباشرة النساء من بعد النوم أو من بعد صلاة العشاء حكماً مشروعاً بالسُّنة ثم نسخ ، وهذا قول جمهور المفسرين ، وأنكر أبو مسلم الأصفهاني أن يكون هذا نسخاً لشيء تقرر في شرعنا وقال : هو نسخ لما كان في شريعة النصارى .
وما شرع الصوم إلاّ إمساكاً في النهار دون الليل فلا أحسب أن الآية إنشاء للإباحة ولكنها إخبار عن الإباحة المتقررة في أصل توقيت الصيام بالنهار ، والمقصود منها إبطال شيء توهمه بعض المسلمين وهو أن الأكل بين الليل لا يتجاوز وقتين وقت الإفطار ووقت السحور وجعلوا وقت الإفطار هو ما بين المغرب إلى العشاء ، لأنهم كانوا ينامون إثر صلاة العشاء وقيامها فإذا صلوا العشاء لم يأكلوا إلاّ أكلة السحور وأنهم كانوا في أمر الجماع كشأنهم في أمر الطعام وأنهم لما اعتادوا جعل النوم مبدأ وقت الإمساك الليلي ظنوا أن النوم إن حصل في غير إبانة المعتاد يكون أيضاً مانعاً من الأكل والجماعِ إلى وقت السحور وإن وقت السحور لا يباح فيه إلاّ الأكل دون الجماع ؛ إذ كانوا يتأثمون من الإصباح في رمضان على جنابة ، وقد جاء في « صحيح مسلم » أن أبا هريرة كان يرى ذلك يعني بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل هذا قد سرى إليْهم من أهل الكتاب كما يقتضيه ما رواه محمد بن جرير من طريق السدي ، ولعلهم التزموا ذلك ولم يسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعل ذلك لم يتجاوز بعض شهر رمضان من السنة التي شرع لهم فيها صيام رمضان فحدثت هذه الحوادث المختلفة المتقاربة ، وذكر ابن العربي في « العارضة » عن ابن القاسم عن مالك كان في أول الإسلام من رقد قبل أن يَطْعَم لم يَطعم من الليل شيئاً فأنزل الله : { فالئن باشروهن } فأكلوا بعد ذلك فقوله تعالى : { علم الله } دليل على أن القرآن نزل بهذا الحكم لزيادة البيان ؛ إذ علم الله ما ضيق به بعض المسلمين على أنفسهم وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا يشير إلى أن المسلمين لم يُفشوا ذلك ولا أخبروا به رسول الله ولذلك لا نجد في روايات البخاري والنسائي أن الناس ذكروا ذلك لرسول الله إلاّ في حديث قيْس بن صِرمة عند أبي داود ولعله من زيادات الراوي .
فأَما أن يكون ذلك قد شرع ثم نسخ فلا أحسبه ، إذ ليس من شأن الدين الذي شرع الصوم أولَ مرة يوماً في السنة ثم درَّجه فشرع الصوم شهراً على التخيير بينه وبين الإطعام تخفيفاً على المسلمين أن يفرضه بعد ذلك ليلاً ونهاراً فلا يبيح الفطر إلاّ ساعات قليلة من الليل .
ولَيْلةُ الصيام الليلةُ التي يعقبها صيام اليوم الموالي لها جرياً على استعمال العرب في إضافة الليلة لليوم الموالي لها إلاّ ليلةَ عرفة فإن المراد بها الليلة التي بعد يوم عرفة .
والرَّفث في « الأساس » و« اللسان » أن حقيقته الكلام مع النساء في شؤون الالتذاذ بهن ثم أطلق على الجماع كناية ، وقيل هو حقيقة فيهما وهو الظاهر ، وتعديته بإلى ليتعين المعنى المقصود وهو الإفضاء .
وقول : { هن لباس لكم } جملة مستأنفة كالعلة لما قبلها أي أحل لعُسر الاحتراز عن ذلك ، ذلك أن الصوم لو فرض على الناس في الليل وهو وقت الاضطجاع لكان الإمساك عن قربان النساء في ذلك الوقت عنتاً ومشقة شديدة ليست موجودة في الإمساك عن قربانهن في النهار ؛ لإمكان الاستعانة عليه في النهار بالبعد عن المرأة ، فقوله تعالى : { هن لباس لكم } استعارة بجامع شدة الاتصال حينئذٍ وهي استعارة أحياها القرآن ، لأن العرب كانت اعتبرتها في قوله : لابَسَ الشيءُ الشيءَ ، إذا اتصل به لكنهم صيروها في خصوص زنة المفاعلة حقيقةً عُرفية فجاء القرآن فأحياها وصيَّرها استعارة أَصلية جديدة بعد أن كانت تبعية منسية وقريبٌ منها قول امرىء القيس :
* فسُلِّي ثيابي من ثيابكِ تَنْسِلِ *
و { تختانون } قال الراغب : « الاختيان مراودة الخيانة » بمعنى أنه افتعال من الخون وأصله تَخْتَوِنُون فصارت الواو ألِفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وخيانة الأنفس تمثيل لتكليفها ما لم تكلف به كأنَّ ذلك تعزيرٌ بها ؛ إذ يوهمها أن المشقة مشروعة عليها وهي ليست بمشروعة ، وهو تمثيل لمغالطتها في الترخص بفعل ما ترونه محرماً عليكم فتُقْدِمُون تارة وتحجمون أخرى كمن يحاول خيانة فيكون كالتمثيل في قوله تعالى : { يخادعون } [ البقرة : 9 ] .
والمعنى هنا أنكم تلجئونها للخيانة أو تنسبونها لها ، وقيل : الاختيان أشد من الخيانة كالاكتساب والكَسب كما في « الكشاف » قلت : وهو استعمال كما قال تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } [ النساء : 107 ] .
وقوله تعالى : { فالئن باشروهن } الأمر للإباحة ، وليس معنى قوله { فالئن } إشارة إلى تشريع المباشرة حينئذٍ بل معناه فاللآن اتضح الحكم فباشروهن ولا تختانوا أنفسكم . والابتغاء الطلب ، وما كتبه الله : ما أباحه من مباشرة النساء في غير وقت الصيام أو اطلبوا ما قدر الله لكم من الولد تحريضاً للناس على مباشرة النساء عسى أن يتكون النسل من ذلك وذلك لتكثير الأمة وبقاء النوع في الأرض .
عطف على { باشروهن } ، والخيط سلك الكتان أو الصوف أو غيرهما يلفق به بين الثياب بشدة بإبرة أو مِخْيَطٍ ، يقال خاط الثوب وخَيَّطه . وفي خبر قبور بني أمية أنهم وجدوا معاوية رضي الله عنه في قبره كالخيط ، والخيط هنا يراد به الشعاع الممتد في الظلام والسوادُ الممتد بجانبه قال أبو دؤاد من شعراء الجاهلية :
فَلَمَّا أَضَاءَت لَنَا سَدْفَةٌ{[176]} *** ولاَحَ من الصُّبْح خَيْطٌ أَنَارَا .
وقوله : { من الفجر } منْ ابتدائية أي الشعاع الناشىء عن الفجر ، وقيل بيانية وقيل تبعيضية وكذلك قول أبي دُؤَاد « من الصبح » لأن الخيط شائع في السلك الذي يخاط به فهو قرينة إحدى المعنيين للمشترك ، وجعله في « الكشاف » تشبيهاً بليغاً ، فلعله لم يثبت عنده اشتهار إطلاقه على هذا المعنى في غير بعض الكلام ، كالآية وبيت أبي دُؤاد ، وعندي أن القرآن ما أطلقه إلاّ لكونه كالنص في المعنى المراد في اللغة الفصحى دون إرادة التشبيه لأنه ليس بتشبيه واضح .
وقد جيء في الغاية بحتى وبالتَّبَيُّن للدلالة على أن الإمساك يكون عند اتضاح الفجر للناظر وهو الفجر الصادق ، ثم قوله تعالى : { حتى يتبين } تحديد لنهاية وقت الإفطار بصريح المنطوق ؛ وقد علم منه لا محالة أنه ابتداء زمن الصوم ، إذ ليس في زمان رمضان إلاّ صوم وفطر وانتهاء أحدهما مبدأ الآخر فكان قوله : { أتموا الصيام إلى الليل } بياناً لنهاية وقت الصيام ولذلك قال تعالى : { ثم أتموا } ولم يقل ثم صوموا لأنهم صائمون من قبل .
و { إلى الليل } غاية اختير لها ( إلى ) للدلالة على تعجيل الفطر عند غروب الشمس لأن إلى لا تمتد معها الغاية بخلاف حتى ، فالمراد هنا مقارنة إتمام الصيام بالليل .
واعلم أن ثم في عطف الجمل للتراخي الرتبي وهو اهتمام بتعيين وقت الإفطار ، لأن ذلك كالبشارة لهم ، ولا التفات إلى ما ذهب إليه أبو جعفر الخباز السمرقندي من قدماء الحنفية من الاستدلال بثم في هاته الآية على صحة تأخير النية عن الفجر احتجاجاً لمذهب أبي حنيفة من جواز تأخير النية إلى الصحوة الكبرى .
بناء على أن ثم للتراخي وأن إتمام الصيام يستلزم ابتداءه ، فكأنه قال ثم بعد تبيين الخيطين من الفجر صوموا أو أتموا الصيام إلى الليل فينتج معنى صوموا بعد تراخ عن وقت الفجر وهو على ما فيه من التكلف والمصير إلى دلالة الإشارة الخفيفة غفلة عن معنى التراخي في عطف ( ثم ) للجمل .
هذا ، وقد رويت قصة في فهم بعض الصحابة لهذه الآية وفي نزولها مفرقة ، فروى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال : " لما نزلت { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } عمدت إلى عِقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي الأبيض من الأسود فغدوت على رسول الله فذكرتُ له ذلك فقال رسول الله : إن وِسادَك لعَرِيض ، وفي رواية : إنك لعَرِيض القفا ، إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " .
ورَوَيا عن سهل بن سعد قال نزلت : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } ولم ينزل { من الفجر } فكانَ رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأْكل حتى تتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعدُ { من الفجر } ، فيظهر من حديث سهل بن سعد أن مثل ما عمله عدي بن حاتم قد كان عمله غيره من قبلِه بمدة طويلة ، فإن عَدِياً أَسلَمَ سنة تسع أو سنة عشر ، وصيام رمضان فُرض سنة اثنتين ولا يُعقل أن يبقَى المسلمون سبع أو ثمانيَ سنين في مثل هذا الخطأ ، فمحل حديث سهل بن سعد على أن يكون ما فيه وقع في أول مُدة شرع الصيام ، ومحمل حديث عدي بن حاتم أن عدياً وقع في مثل الخطأ الذي وقع فيه مَن تقدموه ، فإن الذي عند مسلم عن عبد الله بن إدريس عن حصين عن الشعبي عن عدي أنه قال لما نزلت : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } الخ فهو قد ذكر الآية مستكملة ، فيتعين أن يكون محمل حديث سهل بن سعد على أن ذلك قد عمله بعض الناس في الصوم المفروض قبلَ فَرْض رمضان أي صومِ عاشوراء أو صومِ النَّذْر وفي صوم التَّطوع ، فلما نزلت آية فرض رمضان وفيها { من الفجر } علموا أن ما كانوا يعملونه خطأ ، ثم حَدث مثل ذلك لعدي بن حاتم .
وحديث سهل لا شبهة في صحة سنده إلاّ أنه يحتمل أن يكون قوله فيه ولم ينزل { من الفجر } وقوله فأنزل الله بعد ذلك { مِن الفجر } مروياً بالمعنى فجاء راويه بعبارات قلقة غير واضحة ، لأنه لم يقع في « الصحيحين » إلاّ من رواية سعيد بن أبي مريم عن أبي غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد فقال الراوي : « فأنزل بعد أو بعدَ ذلك من الفجر » وكان الأوضح أن يقول فأنزل الله بعدُ : { وكلوا واشربوا } إلى قوله { من الفجر } .
وأيّاً ما كان فليس في هذا شيء من تأخير البيان ، لأن معنى الخيط في الآية ظاهر للعرب ، فالتعبير به من قبيل الظاهر لا من قبيل المجمل ، وعدمُ فهم بعضهم المرادَ منه لا يقدح في ظهور الظاهر ، فالذين اشتبه عليهم معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فهموا أَشهر معاني الخيط وظَنوا أن قوله : { من الفجر } متعلق بفعل { يتبين } على أن تكون ( مِنْ ) تعليلية أي يكون تبينه بسبب ضوء الفجر ، فصنعوا ما صنعوا ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم « إنّ وسادك لعريض أو إنك لعريض القفا » كناية عن قلة الفِطنة وهي كناية موجهة من جوامع كلمه عليه السلام .
وقوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون } عطف على قوله { باشروهن } لقصد أن يكون المعتكف صالحاً . وأجمعوا على أنه لا يكون إلاّ في المسجد لهاته الآية ، واختلفوا في صفة المسجد فقيل لا بد من المسجد الجامع وقيل مطلق مسجد وهو التحْقيق وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله ، وأحكامه في كتب الفقه وليست من غرض هذا المفسر .
تذييل بالتحذير من مخالفة ما شرع إليه من أحكام الصيام . فالإشارة إلى ما تقدم ، والإخبار عنها بالحدود عيَّن أن المشار إليه هو التحديدات المشتمل عليها الكلام السابق وهي قوله : { حتى يتبين لكم الخيط } وقوله : { إلى الليل } { وأنتم عاكفون } من كل ما فيه تحديد يفضي تجاوزه إلى معصية ، فلا يخطر بالبال دخول أحكام الإباحة في الإشارة مثل : { أحل لكم } ومثل { فالئن باشروهن } .
والحدود الحواجز ونهايات الأشياء التي إذا تجاوزها المرء دخل في شيء آخر ، وشبهت الأحكام بالحدود لأن تجاوزها يخرج من حل إلى منع وفي الحديث " وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها " وستأتي زيادة بيان له في قوله تعالى : { تلك حدود الله فلا تقربوها } .
وقوله : { فلا تقربوها } نهى عن مقاربتها الموقعةِ في الخروج منها على طريق الكناية لأن القرب من الحد يستلزم قصد الخروج غالباً كما قال تعالى : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } [ الأنعام : 152 ] ، ولهذا قال تعالى في آيات أخرى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } [ البقرة : 229 ] . كما سيأتي هنالك وفي معنى الآية حديث " من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " .
والقول في : { كذلك يبين الله آياته للناس } تقدم نظيره في قوله : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] أي كما بين الله أحكام الصيام يبين آياته للناس أي جميع رياته لجميع الناس ، والمقصد أن هذا شأن الله في إيضاح أحكامه لئلا يلتبس شيء منها على الناس ، وقوله : { لعلهم يتقون } ، أي إرادةً لاتقائهم الوقوع في المخالفة ، لأنه لو لم يبين لهم الأحكام لما اهتدوا لطريق الامتثال ، أو لعلهم يلتبسون بغاية الامتثال والإتيان بالمأمورات على وجهها فتحصل لهم صفة التقوى الشرعية ، إذ لو لم يبين الله لهم لأتوا بعبادات غير مستكملة لما أراد الله منها ؛ وهم وإن كانوا معذورين عند عدم البيان وغير مؤاخذيم بإثم التقصير إلاّ أنهم لا يبلغون صفة التقوى أي كمال مصادفة مراد الله تعالى ، فلعل يتقون على هذا منزل منزلة اللازم لا يقدَّر له مفعول مثل { هل يستوى الذين يعلمون } [ الزمر : 9 ] ، وهو على الوجه الأول محذوف المفعول للقرينة .