تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذَآ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَةٗ مِّنۢ بَعۡدِ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُمۡ إِذَا لَهُم مَّكۡرٞ فِيٓ ءَايَاتِنَاۚ قُلِ ٱللَّهُ أَسۡرَعُ مَكۡرًاۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكۡتُبُونَ مَا تَمۡكُرُونَ} (21)

{ 21 ْ } { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ْ }

يقول تعالى : { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ ْ } كالصحة بعد المرض ، والغنى بعد الفقر ، والأمن بعد الخوف ، نسوا ما أصابهم من الضراء ، ولم يشكروا الله على الرخاء والرحمة ، بل استمروا في طغيانهم ومكرهم .

ولهذا قال : { إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ْ } أي يسعون بالباطل ، ليبطلوا به الحق .

{ قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ْ } فإن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله ، فمقصودهم منعكس عليهم ، ولم يسلموا من التبعة ، بل تكتب الملائكة عليهم ما يعملون ، ويحصيه الله عليهم ، ثم يجازيهم [ الله ] عليه أوفر الجزاء .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذَآ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَةٗ مِّنۢ بَعۡدِ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُمۡ إِذَا لَهُم مَّكۡرٞ فِيٓ ءَايَاتِنَاۚ قُلِ ٱللَّهُ أَسۡرَعُ مَكۡرًاۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكۡتُبُونَ مَا تَمۡكُرُونَ} (21)

وبعد أن ساقت السورة الكريمة جانبا من أقوال الذين لا يرجون لقاء الله ومن مقترحاتهم الباطلة ومن معتقداتهم الفاسدة ، أتبعت ذلك بتصوير بعض الطبائع البشرية تصويرا صادقا يكشف عن أحوال النفوس في حالتي السراء والضراء فقال - تعالى - :

{ وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ . . . } .

قوله { أَذَقْنَا } من الذوق وحقيقته إدراك الطعام ونحوه بالذوق باللسان واستعمل هنا على سبيل المجاز في إدراك ما يسر وما يؤلم من المعنويات كالرحمة والضراء .

قال الآلوسى " والمراد بالناس كفار مكة على ما قيل ، لما روى من أن الله - تعالى - سلط عليهم القحط سبع سنين ، حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه أن يدعو لهم بالخصب ، ووعدوه بالإِيمان ، فلما دعا لهم ورحمهم الله - تعالى - بالمطر ، طفقوا يطعنون وفى آياته - تعالى - ويعاندون نبيه - صلى الله عليه وسلم - .

وقيل : " إن الناس عام لجميع الكفار " .

والضراء من الضر ، وهو ما يصيب الإِنسان وفى نفسه من أمراض وأسقام .

والمكر : هو التدبير الخفي الذي يفضي بالممكور به إلى ما لا يتوقعه من مضرة وكيد .

والمعنى : وإذا أذقنا الناس منا رحمة كأن منحناهم الصحة والسعادة والغني من بعد ضراء أصابتهم وفى أنفسهم أو فيمن يحبون ، ما كان منهم إلا بالمبادرة إلى الطعن وفى آياتنا الدالة على قدرتنا ، والاستهزاء بها والتهوين من شأنها .

وأسند إذاقته الرحمة إلى ضمير الجلالة ، وأسند المساس إلى الضراء ، رعاية للأدب مع الله - تعالى - ، لأنه وإن كان كل شيء من عنده ، إلا أن الأدب معه - سبحانه - يقتضي إسناد الخير إليه والشر إلى غيره كما وفى قوله - تعالى - : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } وفى الحديث : " اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك " .

وإذا الأولى شرطية ، والثانية فجائية والجملة بعدها جواب الشرط .

وجاء التعبير بإذا الفجائية في الجواب ، للإِشارة إلى توغلهم وفى الجحود والكنود فهم بمجرد أن حلت النعمة بهم محل النقمة ، عادوا إلى عنادهم وجهلهم ، ونسبوا كل خير إلى غيره - تعالى - .

قال الرازي : " واعلم أنه - تعالى - ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة وفى قوله - تعالى - { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ . . . } إلا أنه - تعالى - زاد وفى هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها وفى تلك الآية ، وتلك الدقيقة هي أنهم يمكرون عند وجدان الرحمة .

وفى الآية المتقدمة ما كانت هذه الدقيقة مذكورة فثبت بما ذكرنا أن عادة هؤلاء الأقوام اللجاج والعناد والمكر .

وقوله : { قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } أمر من الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد عليهم بما يبطل مكرهم .

أى : قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين الذين يسرعون بالمكر وفى مقام الشكر ، إن الله - تعالى - أسرع مكراً منكم ؛ لأنه لا يخفى عليه بشيء من مكركم ، ولأن الحفظة من الملائكة يسجلون عليكم أقوالكم وأفعالكم ، التي ستحاسبون عليها وفى يوم القيامة حساباً عسيراً ، وسترون أن مكركم السيء لا يحيق إلا بكم .

وقوله : { أَسْرَعُ } أفعل تفضيل من الفعل الثلاثي سرع - كضخم وحسن - ، أو من الفعل الرباعي " أسرع " عند من يرى ذلك .

والجملة الكريمة تحقيق للانتقام منهم . وتنبيه على أن مكرهم الخفي غير خاف الحفظة من الملائكة فضلا عن الخالق - عز وجل - الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .

وسمى - سبحانه - إنكارهم لآياته واستهزاءهم بها مكراً ، لأنهم كانوا كثيراً ما يتجمعون سراً ، ليتشاوروا وفى المؤامرات التي يعرقولن بها سير الدعوة الإِسلامية ، وفى الشبهات التي يوجهونها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذَآ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَةٗ مِّنۢ بَعۡدِ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُمۡ إِذَا لَهُم مَّكۡرٞ فِيٓ ءَايَاتِنَاۚ قُلِ ٱللَّهُ أَسۡرَعُ مَكۡرًاۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكۡتُبُونَ مَا تَمۡكُرُونَ} (21)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَآ أَذَقْنَا النّاسَ رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرّآءَ مَسّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مّكْرٌ فِيَ آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } .

يقول تعالى ذكره : وإذا رزقنا المشركين بالله فرجا بعد كرب ورخاء بعد شدّة أصابتهم . وقيل : عنى به المطر بعد القحط ، والضرّاء : وهي الشدة ، والرحمة : هي الفرج . يقول : إذَا لَهُمْ مَكْرٌ في إياتِنا استهزاء وتكذيب . كما :

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قال : استهزاء وتكذيب .

قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

وقوله : قُلِ اللّهِ أسْرَعُ مَكْرا يقول تعالى ذكره : قل لهؤلاء المشركين المستهزئين من حججنا وأدلتنا يا محمد : الله أسرع مكرا ، أي أسرع مِحَالاً بكم واستدراجا لكم وعقوبة منكم من المكر في آيات الله . والعرب تكتفي ب «إذا » من «فعلت » و «فعلوا » ، فلذلك حف الفعل معها . وإنما معنى الكلام : وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضرّاء مستهم مكروا في آياتنا ، فاكتفى من «مكروا » ، ب «إذا لهم مكر » . إنّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ يقول : إن حفظتنا الذين نرسلهم إليكم أيها الناس يكتبون عليكم ما تمكرون في آياتنا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَآ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَةٗ مِّنۢ بَعۡدِ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُمۡ إِذَا لَهُم مَّكۡرٞ فِيٓ ءَايَاتِنَاۚ قُلِ ٱللَّهُ أَسۡرَعُ مَكۡرًاۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكۡتُبُونَ مَا تَمۡكُرُونَ} (21)

وقوله { وإذا أذقنا الناس } الآية ، المراد ب { الناس } في هذه الآية الكفار وهي بعد تتناول من العاصين من لا يؤدي شكر الله تعالى عند زوال المكروه عنه ولا يرتدع بذلك عن معاصيه ، وذلك في الناس كثير ، و «الرحمة » هنا بعد الضراء ، كالمطر بعد القحط والأمن بعد الخوف والصحة بعد المرض ونحو هذا مما لا ينحصر ، و «المكر » الاستهزاء والطعن عليها من الكفار واطراح الشكر والخوف من العصاة ، ووصف مكر الله بالسرعة وإن كان الاستدراج بمهلهم لأنه متيقن به واقع لا محالة ، وكل آت قريب ، قال أبو حاتم : قرأ الناس «أن رسُلنا » بضم السين ، وخفف السين الحسن وابن أبي إسحاق وأبو عمرو ، وقال أبو علي { اسرع } من سرع ولا يكون من أسرع يسرع ، قال ولو كان من أسرع لكان شاذاً .

قال القاضي أبو محمد : وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نار جهنم «لهي أسود من القار »{[6053]} وما حفظ للنبي صلى الله عليه وسلم فليس بشاذ{[6054]} . وقرأ الحسن والأعرج ونافع وقتادة ومجاهد «تمكرون » بتاء على المخاطبة وهي قراءة أهل مكة وشبل وأبي عمرو وعيسى وطلحة وعاصم والأعمش والجحدري وأيوب بن المتوكل [ وقرأ الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ]{[6055]} ، ورويت أيضر عن نافع والأعرج ، قال أبو حاتم : قال أيوب بن المتوكل : في مصحف أبيّ «يا أيها الناس إن الله أسرع مكراً وإن رسله لديكم يكتبون ما تمكرون »{[6056]} .


[6053]:- الحديث في الموطأ.
[6054]:-معنى كلام أبي علي أن (أسرع) اسم تفضيل لأنها من الثلاثي. وابن عطية يرى أنها مثل (أسود) التي وردت في حديث نبوي شريف. قال أبو حيان تعليقا على ذلك: "في بناء التعجب وأفعل التفضيل من (أفعل) ثلاثة مذاهب: المنع مطلقا وما ورد من ذلك فهو شاذ، والجواز مطلقا، والتفصيل بين أن تكون الهمزة فيه للنقل فيمنع، أو لغير النقل فيجوز نحو: أشكل الأمر، وأظلم الليل". ثم قال: "وما تنظير "أسود من القار" بأسرع ففاسد، لأن أسود فعله ثلاثي، ولم يمتنع التعجب والتفضيل من نحو سوِد وحمر وأدم إلا لكونه لونا، وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان مطلقا، وبعضهم في السواد والبياض فقط". (البحر: 5/ 136).
[6055]:- ما بين القوسين المعقوفين زيادة يقتضيها المعنى، وقد نقلناها عن البحر، وإلا لما كان هنا مبرر لأن يقول: "ورويت أيضا" عن نافع، والأعرج.
[6056]:-قال أبو حيان تعليقا على ذلك: "وينبغي أن يحمل هذا على التفسير لأنه مخالف لما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف، والمحفوظ عن أبي القراءة والإقراء بسواد المصحف". (البحر 5/ 137).