{ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } . أي : تدلي علي بهذه المنة لأنك سخرت بني إسرائيل ، وجعلتهم لك بمنزلة العبيد ، وأنا قد أسلمتني من تعبيدك وتسخيرك ، وجعلتها علي نعمة ، فعند التصور ، يتبين أن الحقيقة ، أنك ظلمت هذا الشعب الفاضل ، وعذبتهم وسخرتهم بأعمالك ، وأنا قد سلمني الله من أذاك ، مع وصول أذاك لقومي ، فما هذه المنة التي تبت بها وتدلي بها ؟ .
ثم أضاف موسى - عليه السلام - إلى هذا الرد الملزم فرعون ، ردا آخر أشد إلزاما وتوبيخا فقال : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } .
واسم الإشارة { تِلْكَ } يعود إلى التربية المفهومة من قوله - تعالى - قبل ذلك : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً . . . الخ } .
وقوله { تَمُنُّهَا } صفة للخير و { أَنْ عَبَّدتَّ } عطف بيان للمبتدأ موضح له .
وهذا الكلام من موسى - عليه السلام - يرى بعضهم أنه قال على وجهة الاعتراف له بالنعمة ، فكأنه يقول له : تلك التربية التى ربيتها لى نعمة منك على ، ولكن ذلك لا يمنع من أن أكون رسولا من الله - تعالى - إليك ، لكى تقلع عن كفرك ، ولكى ترسل معنا بنى إسرائيل .
ويرى آخرون أن هذا الكلام من موسى لفرعون ، إنما قاله على سبيل التهكم به ، والإنكار عليه فيما امتن به عليه ، فكأنه يقول له : إن ما تمنّ به على هو فى الحقيقة نقمة ، وإلا فأية منة لك علىّ فى استعبادك لقومى وأنا واحد منهم ، إن خوف أمى من قتلك لى هو الذى حملها على أن تلقى بى فى البحر ، وتربيتى فى بيتك كانت لأسباب خارجة عن قدرتك . .
ويبدو لنا أن هذا الرأى أقرب إلى الصواب ، لأنه هو المناسب لسياق القصة ، ولذا قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآية : " ثم كر موسى على امتنان فرعون عليه بالتربية فأبطله من أصله ، واستأصله من سِنْخِه - أى : من أساسه - ، وأبى أن يسمى نعمته إلا نقمة . حيث بين أن حقيقة إنعامه عليه تعبيد بنى إسرائيل ، لأن تعبيدهم وقصدهم بالذبح لأبنائهم هو السبب فى حصوله عنده وتربيته ، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه ، وتذليلهم واتخاذهم خدما له . . . " .
وبهذا الجواب التوبيخى أفحم موسى - عليه السلام - فرعون . وجعله يحول الحديث عن هذه المسألة التى تتعلق بتربيته لموسى إلى الحديث عن شىء آخر حكاه القرآن فى قوله : { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنّهَا عَلَيّ أَنْ عَبّدتّ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مّوقِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه موسى صلى الله عليه وسلم لفرعون وَتِلكَ نِعْمَةٌ تَمُنّها عَليّ يعني بقوله : وتلك تربية فرعون إياه ، يقول : وتربيتك إياي ، وتركك استعبادي ، كما استعبدت بني إسرائيل نعمة منك تمنها عليّ بحقّ . وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ذكر عليه عنه ، وهو : وتلك نعمة تمنها عليّ أن عبّدت بني إسرائيل وتركتني ، فلم تستعبدني ، فترك ذكر «وتركتني » لدلالة قوله أن عبّدتّ بني إسرائيل عليه ، والعرب تفعل ذلك اختصارا للكلام ، ونظير ذلك في الكلام أن يستحقّ رجلان من ذي سلطان عقوبة ، فيعاقب أحدهما ، ويعفو عن الاَخر ، فيقول المعفوّ عنه هذه نعمة عليّ من الأمير أن عاقب فلانا ، وتركني ، ثم حذف «وتركني » لدلالة الكلام عليه ، ولأن في قوله : أنْ عبّدتّ بَنِي إسْرائِيلَ وجهين : أحدهما النصب ، لتعلق «تمنها » بها ، وإذا كانت نصبا كان معنى الكلام : وتلك نعمة تمنها عليّ لتعبدك بني إسرائيل . والاَخر : الرفع على أنها ردّ على النعمة . وإذا كانت رفعا كان معنى الكلام : وتلك نعمة تمنها عليّ تعبيدك بني إسرائيل . ويعني بقوله : أنْ عَبّدتّ بَنِي إسْرَائِيلَ : أن اتخذتهم عبيدا لك . يقال منه : عبدت العبيد وأعبدتهم ، قال الشاعر :
عَلامَ يُعْبِدنِي قَوْمِي وقدْ كَثُرَتْ *** فِيها أباعِرُ ما شاءُوا وَعُبْدَانُ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد تمُنّها عَليّ أنْ عَبّدتّ بَنِي إسْرَائِيلَ قال : قهرتهم واستعملتهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : تمن عليّ أن عبّدت بني إسرائيل ، قال : قهرت وغلبت واستعملت بني إسرائيل .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنّها عَليّ أنْ عَبّدتّ بَنِي إسْرَائِيلَ وربيتني قبل وليدا .
وقال آخرون : هذا استفهام كان من موسى لفرعون ، كأنه قال : أتمنّ عليّ أن اتخذت بني إسرائيل عبيدا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنّها عَليّ قال : يقول موسى لفرعون : أتمنّ عليّ أن اتخذت أنت بني إسرائيل عبيدا .
واختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعض نحويي البصرة : وتلك نعمة تمنها عليّ ، فيقال : هذا استفهام كأنه قال : أتمنها عليّ ؟ ثم فسر فقال : أنْ عَبّدتّ بَنِي إسْرَائِيلَ وجعله بدلاً من النعمة . وكان بعض أهل العربية ينكر هذا القول ، ويقول : هو غلط من قائله لا يجوز أن يكون همز الاستفهام يلقي ، وهو يطلب ، فيكون الاستفهام كالخبر ، قال : وقد استقبح ومعه أم ، وهي دليل على الاستفهام واستقبحوا :
تَرُوحُ منَ الحَيّ أمْ تَبْتَكرْ *** وَماذاَ يَضُرّكَ لَوْ تَنْتَظرْ ؟
قال : وقال بعضهم : هو أتروح من الحيّ ، وحذف الاستفهام أوّلا اكتفاء بأم . وقال أكثرهم : بل الأوّل خبر ، والثاني استفهام ، وكأن «أم » إذا جاءت بعد الكلام فهي الألف ، فأما وليس معه أم ، فلم يقله إنسان . وقال بعض نحويي الكوفة في ذلك ما قلنا . وقال : معنى الكلام : وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين لنعمتي : أي لنعمة تربيتي لك ، فأجابه فقال : نعم هي نعمة عليّ أن عبّدت الناس ولم تستعبدني .
ثم كر على ما عد عليه من النعمة ولم يصرح برده لأنه كان صدقا غير قادح في دعواه ، بل نبه على أنه كان في الحقيقة نقمة لكونه مسببا عنها فقال : { وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل } أي وتلك التربية نعمة تمنها علي ظاهرا ، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل وقصدهم بذبح أبنائهم ، فإنه السبب في وقوعي إليك وحصولي في تربيتك . وقيل إنه مقدر بهمزة الإنكار أي أو تلك نعمة تمنها علي وهي { أن عبدت } ، ومحل { أن عبدت } الرفع على أنه خبر محذوف أو بدل { نعمة } أو الجر بإضمار الباء أو النصب بحذفها . وقيل تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة و { أن عبدت } عطف بيانها والمعنى : تعبيدك بني إسرائيل نعمة { تمنها } علي ، وإنما وحد الخطاب في تمنها وجمع فيما قبله لأن المنة كانت منه وحده ، والخوف والفرار منه ومن ملئه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.